كتب حسين شلوشي*

تجري عمليات تحرير الموصل العسكرية بوتيرة متصاعدة وتطورات خطط محسوبة نحو هدف واضح ومحدد في طرد براثن الإجرام والتكفير من المدينة وإعادة الأمن والاستقرار لأهلها العراقيين المتعايشين عبر مئات السنين , وبجوار جعجعة الحرب ودماء الشهداء يحتدم صراع سياسي محلي ووطني عراقي وعربي واقليمي ودولي , بعناوين ومسميات مختلفة ومتناقضة أحياناً وفي أحيان أخرى متقاطعة .

القيادات العسكرية والحشد الشعبي والحكومة بذلت جهداً كبيراً في إعداد مسرح العمليات العسكرية و(تجزئة الهدف الأكبر) إلى أهداف ومحاور حركة تقدم القطعات وأوامر الواجبات والتكليفات لكل التشكيلات المشاركة في هذه العملية ، وقد اعتمدت هذه القوات شكلين أو مرحلتين في حركتها نحو الهدف ، فكان الشكل الأول هو تشكيل نصف دائرة أو (حذوة فرس) ليمتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي للمدينة ، وبعد اتمام هذه المرحلة التي رافقها أسلوب تخطي بعض المدن والقصبات دون دخولها كما هو الحال في الانزال أمام بعشيقة في المحور الشرقي وتجاوز الشورة في قاطع الجنوب الغربي . ثم انتقلت القطعات إلى المرحلة الثانية باندفاع قوات الشمال الشرقي والتحامها مع محور الشمال وتندفع قوات الجنوب الغربي إلى الغرب من المدينة وهو الجانب الذي تكفل به الحشد الشعبي وباشر العمليات الفعلية لهذا المحور صباح السبت 29 تشرين الأول 2016 والذي يعد من أوسع المحاور مساحة وأهمها استراتيجياً (لمقاتلة داعش) لأنه يوصل العراق عبر الموصل بشرق سوريا ويقطع أوصال ما يسمى  (دولة داعش) ويتيح فرصة كبرى للعراق لاحقاً بحفظ الأمن القومي الحيوي للعراق على الحدود السورية وفي داخلها بالتنسيق مع الجيش السوري ويفتح آفاق التكامل الأمني مع سوريا لأهداف عسكرية أخرى تتجاوز معركة داعش لتشكل قيمة مضافة لمحور المقاومة في المنطقة. بعد اكتمال حركة الشمال والغرب يتحول شكل القطعات إلى الصندوق المغلق الذي يحاصر المدينة من جميع الجهات ويتحرك نحو الهدف باعتباره (ساقط عسكرياً) بعد ان سقط لوجستياً. إن هذا الأسلوب (الصندوق المغلق) هو الأسلوب الذي اعتاده الحشد الشعبي والقوات العراقية في معاركه السابقة لتحرير مدن عراقية كانت تسيطر عليها داعش الوهابية في صلاح الدين وبابل وديالى والأنبار ، لأنه يتيح للقوات أن تستثمر نقاط قوتها المتفوقة بالعدة والعدد لشل وتشتيت قوة العدو

يتيح أسلوب الصندوف المغلق الذي اعتادته القوات العراقية لها أن تستثمر نقاط قوتها المتفوقة بالعدة والعدد لشل وتشتيت قوة العدو

إن هذا الجهد العسكري الجهادي الذي يسطِّره العراقيون في هذه المعركة التاريخية يمثل رؤية واستراتيجية سياسية ، عسكرية ، ثقافية ، إسلامية كبرى ترتكز على مبدأي  (الوحدة) و (ثورية التحرر) ، لمواجهة مشاريع خبيثة كبرى أيضاً تحاك ضد بلدان المسلمين ومنطقة الشرق الأوسط وإقليم الخليج ودول المشرق العربي ، وترتكز هذه الاستراتيجية  (الخبيثة) على أوهام (صراع دول المنطقة) الذي زرعته الدول الاستعمارية الاستكبارية في عقول أدواتها بالمنطقة وغررت بآخرين لخلع ثيابهم ومن ثم تمزيق أجسادهم .

معركة الموصل وموقعية المدينة العراقية بين تركيا وسوريا ، ولظى النار الملتهبة في سوريا لم تترك زاوية مظلمة أو مجالاً للمناورة بالأهداف والأدوات المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف إلا وكشفته أمام شعوب هذه الدول وبينت لهم حجم الاستهداف الخبيث المستخدم ضدهم ، كذلك فإن هرولة بعض الدول نحو مصالحها الضيقة ، جعلتها تكشر عن أنيابها بشكل واضح ومكشوف وتسقط أقنعة الالتحاف الطائفي والديموقراطي والمدني الحضاري لتفضح نفسها وأتباعها ومريديها ومؤيديها، ولعل تخبطات ومهاترات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتصريحاته النارية غير المدروسة تقدم نموذجاً واقعياً لتساقط الأقنعة الوديعة.

الرئيس التركي طيب أردوغان في خطاباته المتناقضة كمن يحاول جمع الماء والنار في كف واحدة

الرئيس التركي طيب أردوغان في خطاباته المتناقضة كمن يحاول جمع الماء والنار في كف واحدة ، فهو في الوقت الذي يجمع داعش ويدربها ويعتبرها ذراعه اليمين لتخريب سوريا والعراق وانجاز أهداف أمنية تركية وابتزاز سياسي في البلدين يقدم نفسه داعماً للعراقيين في مقاتلة داعش ويحتل أراضيهم !! يدَّعي أنه يعمل لحماية العراقيين وهو يسرطنهم بالطائفية والعرقية ويثير الفتن والفرقة والتمزيق ، يرفع من خطابه القومي التركي ليمارس العنف والاضطهاد والاعتقال ضد الشعب التركي ، لقد عجز الرئيس التركي عن التوفيق بين العمق الاستراتيجي الذي وضعه داوود أوغلو وتصفير مشاكل تركيا وبين أحلام تركيا الكبرى في شمال سوريا والعراق، الأمر الذي أتاح لنا رؤية تركيا تتراجع أمام الدب الروسي وتمد يد العون لداعش وتسهل عمله فيما لا تزال تعلِّق الآمال لقبولها ضمن النادي الأوروبي.

السلوك السياسي للسيد أردوغان الذي يحاول أن يجعل من تركيا وحشاً غير مأمون يساهم في ضياع هذه الدولة (تركيا) ، وإن كان قراره وسلوكه هكذا فلا يمكن أن يُقبل منه رأي أو فكرة أو تصور أو سلوك حول الموصل وغير مسموح له أصلاً وغير قادر على تنفيذ مشروعه التقسيمي في العراق بدواعي الأمن التركي  ، إلا في حال أن تخلت تركيا عن نفسها كدولة وأمة وسايرت نظرية الغرب والكيان الصهيوني (تفكيك الدول) ومتابعة المحافظين الجدد بنظرية (الفوضى الخلاقة) وقبلت بنتائجها  (دول الأقليات والاثنيات) بحيث يصبح الشركس دولة والأرمن دولة والأكراد دولة والشيعة دولة والعلويون دولة ...الخ

تركيا ليست بمأمن من لعبة الحدود الإدارية وبدعة الحدود الداخلية المتنازع عليها وليست خارجها وليس لديها حصانة أو مناعة من هذه المشاريع

ما يجب على السيد أردوغان إداركه أيضاً هو أن لعبة (الحدود الإدارية) وكذلك بدعة مصطلح (الحدود الداخلية المتنازع عليها) هي واحدة من آليات تقسيم البلدان في المنطقة وأن تركيا ليست بمأمن منها وليست خارجها وليس لديها حصانة أو مناعة من هذه المشاريع.

تاسيساً على ما تقدم فعلى السيد أردوغان أن يراجع نفسه ويلتفت إلى قراءة الاستراتيجة الأولى؛ استراتيجية وحدة العراق وتحرير أراضيه بأيادي أبناء العراق ، ويمكنه أن يستفيد من رؤية واستراتيجية قائد الثورة الإسلامية السيد الخامنئي في المنطقة عموماً وفي العراق خصوصاً والتي ترتكز خطاباً وسلوكاً على (الوحدة) وخيار (التحرر الثوري) لإنجاز أهداف الشعوب والأوطان المتسقة مع الدين الإسلامي ورسالة السماء ، والمتفاعلة مع قضايا الشعوب وحقوقهم المادية والاعتبارية والروحية ، فتراه عندما يصف فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها آية الله العظمى السيد السيستاني في حزيران 2014 بالقول (إلهام إلهي) ومن هذا الخطاب ينتقل إلى الجانب العملي بدعم الشعب العراقي الذي لبَّى نداء المرجعية ، لتبدأ قوافل التمكين (سلاح ، ذخيرة ، أموال ، خبرات ، تدريب ، موقف سياسي ، إعلامي) ومنح الثقة المطلقة بقدرات الشعب العراقي كل الشعب العراقي دون النظر في مذاهب وقوميات وأديان لأن ثابت التمحور والوحدة هنا هو الإنسان في الدفاع عن حقه وأرضه وعرضه ، لينجح العراق في إنتاج قوة مضافة تمثل الآن حجر الزاوية في القدرات العراقية ، ألا وهو الحشد الشعبي الذي يواجه أشرس وأقذر عدو في العالم ، أيضاً السيد الخامنئي يصف هذه النتائج بالقول (لقد أفاق الشعب العراقي ولا يوجد أدنى شك في أنهم لن ينصاعوا لهيمنة أمريكا ،

رؤية السيد الخامنئي تستند إلى منح الثقة المطلقة بقدرات الشعب العراقي كل الشعب العراقي دون النظر في مذاهب وقوميات وأديان لأن ثابت التمحور والوحدة هنا هو الإنسان في الدفاع عن حقه وأرضه وعرضه

قوات الحشد الشعبي في العراق رمزٌ جليٌ وواضحٌ لصحوة الشباب العراقي) ، هذا الخطاب وهذا السلوك هو من محتوى مقارعة الظلم والاغتصاب والاحتلال الصهيوني في فلسطين ، وهو ذاته في البوسنة واليمن ، وضوح وثبات الهدف الأخلاقي (مع المظلوم) بأي ثمن لتعزيز ثقة الناس بأنفسهم عبر الثقة المطلقة بالله تعالى. هذا الخيار والثبات لا يتأثر بالاستفزاز والتشويه السياسي والإعلامي الذي تديره مؤسسات صهيونية ضخمة ضد الجمهورية الإسلامية ، بل يزيده إصراراً في نقد ورفض الظاهرة المنحرفة التي تحاول أن توهن وحدة المسلمين وإن كانت شيعية ، ولعل مصطلح  (التشيع البريطاني) الذي أطلقه السيد الخامنئي على رجال دين شيعة يستهدفون رموزاً سنية وجرى تسويقه إعلامياً بقوة خير دليل في تشديد التركيز على وحدة الأمة ووحدة أهدافها ومصالحها ، وأن خلق الصراعات والتصادم بين دول المسلمين هو وهمٌ وخبثٌ للإنفراد بهذه الدول .

والآن فإن معركة الموصل تعتبر منجزة عسكرياً وسيسقط الرهان على داعش الوهابية والإجرام لتحقيق غايات وأهداف سياسية ، وما زال في الوقت متسعٌ وبقية لتعديل بوصلة السياسة التركية في العراق وبكرامة .

 

  • إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir

*حسين حديد شلوشي الساعدي: كاتب وإعلامي ومحلل سياسي عراقي، حاصل على بكلوريوس إدارة واقتصاد، بكلوريوس أدب إنكليزي وبكلوريوس إعلام. أحد مؤسسي جريدة الشراع وقناة الاتجاه العراقيتين. باحث ومستشار سياسي في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية.