وفي ما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها سماحة قائد الثورة الإسلامية خلال هذا اللقاء:

 

بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو الكلام عن استشهاد علماء الدين وطلبة العلوم الدينية ورجال الدين من الحوزات العلمية كلاماً مهماٌ وعمیق المغزى والمعاني من جوانب عدة؛ ومن ذلك أنه قضية رمزية، فأنْ تقدم الحوزة العلمية شهداءً وبهذا العدد الكبير، سواء من قم أو من باقي الحوزات العلمية في مختلف أنحاء البلاد. إذن، الخطوة خطوة رمزية ولها معناها، وذلك المعنى مهم جداً. وذلك المعنى هو أنَّ الذي يستشهد هو من يكون في ساحة الجهاد والكفاح. وإلّا فالذي لا يكون في ساحة الكفاح أو في ساحة الجهاد والمجاهدة ضد العدو ـ عدو الدين، وعدو الاستقلال، وعدو البلاد ـ إذا كان (جالساً) في زاوية بيته ولنفترض أن سارقاً دخل بيته وقتله طمعاً فيما عنده، فلن تكون له مرتبة الشهداء. الشهادة مقترنةٌ بالجهاد، والشهيد هو الذي يجاهد ويُقتل في سبيل المجاهدة والجهاد. حسنٌ، معنى ذلك أنَّ لرجال الدين تواجدهم الجاد الواسع في ساحات الكفاح، وهذا شيء على جانب كبير من الأهمية. من الآفات التي عانينا منها نحن مجاميع رجال الدين خلال فترات من الزمن هو ابتعادنا عن الكفاح ضد أعداء الدين وأعداء الاستقلال والأعداء الخارجيين والمستبدين والمستعمرين. لقد عانينا لفترات من الزمن معاناةً حقيقيةً من هذه المشكلة، وهذا ما أضرَّ بنا وأضرَّ برجال الدين. متى ما خاض رجال الدين غمار ساحات الكفاح ووقفوا وقاوموا وصمدوا بوجه عداء أعداء الدين والإسلام، وكافحوا كفاحاً حقيقياً في هذا السبيل، وجاهدوا وتضرروا وقتلوا، كانوا شامخين مرفوعي الرؤوس. لقد كان لنا رجال دينٍ من هذا القبيل خلال فترات مختلفة. أما الآن وفي هذه الفترة الأخيرة ـ وأعني بها فترتنا وزماننا وفترة الثورة ـ فقد كانت دائرة هذه الساحة دائرة واسعة والحمد لله. لقد خاض كثيرون في هذه الساحة، فقد نزل رجال الدين إلى ساحة الكفاح بشكل حقيقي بفضل الحركة العظيمة التي أطلقها إمامنا الخميني الجليل بتوفيقٍ وهدايةٍ من الله وبدعمٍ من هذا الشعب. 

لقد نزل رجال الدين إلى ساحة الكفاح بشكل حقيقي بفضل الحركة العظيمة التي أطلقها إمامنا الخميني الجليل بتوفيقٍ وهدايةٍ من الله وبدعمٍ من هذا الشعب.

وهناك مسألة يجب أن نأخذها أخذ المُسلَّمات، وهي أنَّه لو لم يدخل رجال الدين في ساحة الكفاح الأخير؛ أي الكفاح الذي أفضى إلى تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية والثورة، لما وقع هذا الحدث إطلاقاً. بمعنى أنَّه لم يكن بمقدور أي حزب أو جماعة أو مجموعة من المجاميع المستنيرة والمثقفة وصولاً إلى المجاميع السياسية وإلى المجاميع المسلحة الفدائية، لم تكن قادرة على إسقاط نظام الحكم الاستبدادي الملكي في هذا البلد والقضاء عليه وإنهاء السيطرة الاستعمارية القديمة على هذا البلد وتبديد أرضياته. لو لم يخض رجال الدين في هذه الساحة لما أمكن وقوع مثل هذا الحدث. الناس هم الذين قاموا بهذا العمل، بيد أنَّ تواجد الناس كان ناجماً عن تواجد رجال الدين. لو لم يكن رجال الدين لما شارك الناس بهذا العدد وبهذا الحجم وبهذا الجد. ولو لم يشارك رجال الدين لبقي الطابع الديني لهذا الكفاح والجهاد خافياً ولما كان مطروحاً. وإذا لم يُطرح الطابع الديني لما كان كلُّ هؤلاء الشهداء وكلُّ هؤلاء المخلصين في سبيل الله وكلُّ هؤلاء الأمهات والآباء المضحين الذي ربّوا أبناءهم كباقات الورود وأوصلوهم إلى سن الشباب وأرسلوهم لساحات الحرب وصبروا على شهادتهم، لما تحقق كل هذا. وعليه، فتواجد رجال الدين في ساحة الكفاح ظاهرةٌ تاريخيةٌ مهمة جداً، وهذه الشهادة علامةٌ على ذلك التواجد. إذن، الشهادة نفسها قيّمة، واقترانها برجال الدين والتواجد العلمي والديني وما إلى ذلك يعدّ قيمة مضاعفة. الإخلاص الذي تحلَّى به طلبة العلوم الدينية الشباب الذين ساروا إلى جبهات القتال كما هو الحال بالنسبة لإخلاص كثيرٍ من الشباب الآخرين، له قيمته وأهميته. هذا كلُّه محفوظٌ في محله، لكنَّ خصوصية مجموعة رجال الدين واستشهادهم هو هذا الطابع الرمزي والذي يدلُّ على تواجدهم في ميادين الجهاد والكفاح. وهذا التواجد على جانب كبير من الأهمية، فرحمة الله على العظماء الذين مهّدوا هذا الدرب. 

كان المرحوم العلامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) من رجال الدين المثقفين المستنيرين وله أفكاره الاجتماعية، وهذه الميزة واضحةٌ في كل ثنايا تفسيره المسمى بتفسير الميزان، لكنه لم يكن حاضراً ومتواجداً في ساحة الكفاح. ذات مرة كنت أتحدث معه ـ وكان حواراً ثنائياً في جلسة خاصة ـ كان يقول لا شكَّ أبداً في حصول تقصيرٍ كبيرٍ ـ أو ربما قال ذنبٍ كبير ـ في الماضي من قبلنا نحن رجال الدين. ولا أتذكر الآن تفاصيل كلامه ذاك على نحو الدقة، لكن المضمون هو هذا ولا أتذكر الألفاظ. كان يوافق هذا الأمر ويُصدّقه بأنَّه كان في الماضي مثل هذا الإشكال فينا، بينما لم يكن هذا الإشكال في فترتنا الراهنة. عندما يكون رجال الدين ثوريين وفي وسط ساحة الكفاح وفي حال مجاهدة، وعندما يعرفون العدو ويشخّصون أساليبه وحيله وأحابيله، وعندما يُعدِّون أنفسهم لمواجهة هذه الأساليب والحيل، عندئذٍ يقتربون حقاً مِن أو يصلون إلى مكانتهم الأصلية الواقعية. وفي هذه العملية طبعاً أخطارٌ وأضرارٌ مادية، ومن ذلك أن يقتل الإنسان في هذا السبيل ويراق دمه، وهذه هي أعلى المراتب عند الله تعالى، والله تعالى لا يمنح الشهادة لأيّ شخصٍ كان. على كل حال قيمة استشهاد هؤلاء الأعزاء قيمةٌ عالية، وتكريم مكانتهم تكريمٌ في محله وحسنٌ جداً. 
طبعاً لتنصبّ المحاولة على عدم الفصل بين الشهداء من رجال الدين وباقي الشهداء. جميعهم شهداءٌ في سبيل الله، سواء كانوا من طلبة العلوم الدينية ومعممين أو غير معممين، كلُّ هؤلاء شهداءٌ في سبيل الله وهم أحياءٌ عند الله تعالى "أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (1)، ويجب علينا أن ننظر بحسرة وغبطة لمقام الشهداء الرفيع ونتمناه. قيمتهم أرفع من هذا الكلام. ولكن على كل حال الشهداء من رجال الدين مجموعة يمكن العمل في خصوصهم. 

مسيرات الأربعين العظيمة، هي ظاهرةٌ حقاً؛ ظاهرةٌ إلهية، ظاهرةٌ معنوية، لا تقبل الوصف حقاً

الحمد لله على أنَّ فكرة الكفاح والمجاهدة تنامت وشاعت بهذه الشهادات والتضحيات، سواء في داخل بلادنا أو بين المسلمين. لاحظوا اليوم أنَّ روح الكفاح وروح المجاهدة وروح الاستعداد للشهادة منتشرة في كل العالم الإسلامي بشكل واسع، وهي أشدُّ في بعض المناطق وأقلُّ في مناطق أخرى. ومن النماذج على ذلك مسيرات الأربعين العظيمة، فهي ظاهرة حقاً، ظاهرة إلهية، ظاهرة معنوية. إنها لا تقبل الوصف حقاً، ككثير من هذه الظواهر الإلهية المهمة، فهي لا تقبل التفسير بشكل دقيق، أي لا يمكن تحليل هذا الحدث. أنْ تسير هذه الحشود المليونية العظيمة هكذا وتتحقق هذه الظاهرة وتتكون في غضون سنوات! نعم، كانت هناك مسيرات في الماضي، ولكن ليس بهذا الشكل. نحن نعلم أنه في مختلف الأيام والمناسبات، سواء في الأربعين أو في غير الأربعين ـ وخصوصاً في الأربعين أو بعض المناسبات الأخرى ـ كان الطلبة من النجف ومناطق العراق الأخرى يتحركون ويسيرون وكانوا بأعداد كبيرة، ولكن هذه الحشود المليونية الهائلة من مختلف أنحاء العالم ـ عدة ملايين من إيران والملايين من العراق نفسه ومن بلدان أخرى ـ هذا الحراك العظيم على الرغم من وجود تهديدات إرهابية كانت قائمة دوماً وهي قائمة اليوم أيضاً، فهذه ظاهرة عظيمة بشكل استثنائي فوق العادة، إنها ظاهرةٌ على جانب عظيم من الأهمية. وهي مؤشر ارتقاء هذه الفكرة إلى الذروة، فكرة الكفاح في سبيل الله وفي سبيل الإسلام والاستعداد العام الشامل في هذا السبيل. ونتمنى أن يبارك الله تعالى في هذه التحركات وفي الناس الذين يقومون بها. 
إننا هنا طبعاً بمناسبة ذكر مسيرة الأربعين، ندعو ونتمنى قبول هذا الحراك، ونتقدم بالشكر لكل الذين شاركوا هذا العام في هذه المسيرة. ونرى من اللازم أن نتقدم بالشكر للحكومة العراقية التي وفَّرت الوسائل والأسباب لتحقق هذا الشيء. ونرى لزاماً علينا أن نشكر حقاً وقلباً الشعب العراقي العزيز الذي وجد من واجبه في هذه الأيام ـ خلال هذا الأسبوع أو أكثر ـ أن يستقبل ويستضيف السائرين وزوار أبي عبد الله (عليه السلام) بهذا الشكل المخلص المبتهج، ونسأل الله تعالى لهم خير الجزاء. ونرى من الواجب أن نتقدم بالشكر للشباب العراقي المجاهد من الحشد الشعبي والآخرين ممن كان لهم دورهم في صيانة أمن هذه المراسم، واستطاعوا الحفاظ على أمن هؤلاء الزوار. ونجد لزاماً علينا أن نشكر مسؤولي العتبات في النجف وعتبة سيدنا أبي عبد الله (عليه السلام) في كربلاء وعتبة سيدنا أبي الفضل في كربلاء، الذين وفروا الوسائل والأسباب للناس. ونرجو من الله تعالى أن يبارك فيهم وفي هذه الحركة العظيمة وفي كل القائمين على هذا الحراك والعاملين فيه، وأن يلطف بهم ويحميهم ليستطيعوا النهوض بهذه المهمة على أفضل وجه إن شاء الله. ونتمنى أن يكون مؤتمركم هذا مؤتمراً عميق المعاني جمّ الفوائد وذا بركات، وأن يبارك الله أيضاً في مؤتمركم هذا إن شاء الله. 
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الهوامش: 
1 ـ سورة آل عمران، شطر من الآية 169.