جاء النص الكامل لكلمة قائد الثورة الإسلامية كما يلي:

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما بقية الله في الأرضين.

مرحباً بكم كثيراً أيها الشباب الأعزاء، أبنائي الأعزاء، ويا من مستقبل البلاد ملكٌ لهم. إنكم بالمعنى الحقيقي للكلمة أصحاب مستقبل هذا البلد ومدراؤه ومدبروه. كلٌّ إدراكٍ من إدراكاتكم، وكلٌّ قرار من قراراتكم، وكلُّ مبادرة من مبادراتكم تؤثر في تكوين شخصياتكم حالياً، فإنها تؤثر على مستقبل هذا البلد، وهذه نقطة على جانب كبير من الأهمية.

فيما يتعلق بقوافل «السائرون إلى النور» نقول إنَّ هذا الحراك الناجح والحمد لله ـ والذي انطلق في البلاد منذ عدة سنين وراح ينمو ويتطور يوماً بعد يوم ـ هو من تجليات تكريم وتثمين فترة الدفاع المقدس. ينبغي تكريم فترة الدفاع المقدس حقاً وإحيائها وتعظيمها وتعزيزها، لأن تلك الأعوام الثمانية ـ ثمانية أعوام من الدفاع المقدس ـ أضحت ضمانة لحيثية البلاد وهوية الشعب والأمن الحالي وعزة الشعب الإيراني. طالعوا واقرأوا في هذا المجال ما استطعتم ودققوا وتابعوا وسوف تصلون بالتأكيد إلى نتيجة مفادها أنّه لو لم تكن تلك الأعوام الثمانية من الدفاع المقدس - بتلك الخصوصيات - في هذا المقطع من تاريخ بلادنا، لما كان لبلادنا ولشعبنا اليوم بكل تأكيد لا عزة ولا أمن ولا سلامة ولا استقلال ولا حرية. لقد كانت تلك الأعوام الثمانية ـ ثمانية أعوام هي في ظاهرها حرب وضغوط وخوف وأهوال ومشكلات كثيرة ـ في باطنها نعمة إلهية. لقد كانت من الألطاف الإلهية الخفية التي مُنحت لهذا البلد ولهذا الشعب. هذه أمور يجب أن تذهبوا أنتم وتتابعوها بأنفسكم وتحققوا وتبحثوا فيها. ولا مراء في أنَّ كل من يبحث ويحقق تحقيقاً صحيحاً كاملاً في هذا المجال سوف يصل إلى هذه النتيجة نفسها. حسناً، يجب أن نُكرّم هذه الفترة ونُعززها ونُجلّها. هذا الاقتدار الذي يتمتع به شعبنا وبلدنا في الوقت الحاضر هو نتيجة ذلك الدفاع المقدس وتلك الأعوام الثمانية الذهبية في تاريخ بلادنا في المقطع والحقبة الخاصة لتحققها وحدوثها. علينا إحياء هذا المقطع النوراني.

لو لم تكن تلك الأعوام الثمانية من الدفاع المقدس بخصوصياتها في تاريخ بلادنا، لما كان لبلادنا ولشعبنا اليوم لا عزة ولا أمن ولا سلامة ولا استقلال ولا حرية.

ثمة اليوم دوافع ومحفزات لدى أعداء هذا الشعب للدفع بفترة الدفاع المقدس نحو النسيان. يحاولون القيام بهذا الشيء، ويريدون إما إنساءه أو التشكيك فيه أو تشويه سمعته. الأقوياء من أعداء إيران ينفقون الأموال حالياً لأجل هذا الشيء ومن أجل تضييع فترة الدفاع المقدس في غياهب النسيان. العمل الذي تقومون به هو كفاح شعبي عظيم مقابل النشاط الذي يقوم به العدو. تاريخ الدفاع المقدس وفترته ذخرٌ يجب الاستفادة منه لتقدم البلاد وللنمو الوطني وللجاهزية في ساحات كثيرة يواجهها كل شعبٍ أمامه.

حسناً، الكلام عن الدفاع المقدس كثير جداً. وأقولها لكم: لقد كتبوا حتى اليوم [الكثير من] الكتب والمذكرات والخواطر، وأنتجوا الأفلام، وقد كانت الكثير من هذه الإنتاجات جيدة جداً وقيمة حقاً، ولكن لا تزال هناك أبعاد متنوعة في قضية الدفاع المقدس لم تُطرح بعد ولم يجر التحقيق والعمل عليها بعد، ولا تزال بِكراً لم يتطرق إليها أحد. وأشير اليوم إلى بُعدين اثنين من هذه الأبعاد المتنوعة لكم أيها الشباب الأعزاء: البُعد الأول يتعلق بسبب هذه الحرب والعِلة التي أدت إلى تعرض إيران لذلك الهجوم. والبُعد الثاني كيفية دفاع الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني في هذه الحرب التي فُرضت عليها. وقد ذكرت أننا عندما ننظر للمسألة بمجموعها وندقق في هذه الحرب المفروضة وهذا الدفاع وتلك النوايا السيئة والخبث الذي مارسه العدو، وفي المقابل تلك الحالات من الشجاعة والمظلومية التي كانت من جانب الشعب الإيراني، نجد أنها كلها بالمجموع كانت لطفاً إلهياً، ولكن ينبغي بالتالي تحليل هذه الأمور ومعرفتها. أذكر اليوم لكم أيها الشباب الأعزاء هاتين النقطتين باختصار.

النقطة الأولى هي ما العامل أو السبب في إيجاد هذه الحرب؟ ماذا حصل حتى تعرّض الشعب الإيراني فجأة للهجوم من قبل جاره الغربي الذي لم يكن له شأن به ولم يعتد عليه، واستمر هذا الهجوم ثمانية أعوام؟ ماذا كان السبب؟ السبب هو عظمة الثورة وأبّهتها وهيبتها. عندما وقعت الثورة الإسلامية أخافت عظمتها وأبهتها وهيبتها الأعداء العالميين الأقوياء وأرعبتهم. هذا واقع. المتربعون على عرش القوة المهيمنة على العالم كله والذين يُهدِّدون العالم كله ولا يخشون أحداً، وهم أقوياء الرأسمالية الغربية وعلى رأسهم أمريكا، ومن ثم أوروبا ـ في الحقيقة كانت البلدان الأوروبية ترى نفسها في ذروة القوة والاقتدار ـ وطبعاً في الطرف الآخر الاتحاد السوفيتي ـ وسوف أشير إلى هذا الجانب أيضاً ـ هؤلاء هم الأقوياء الذين كانوا يشاهدون أنفسهم في ذروة القوة، تزلزل عرش قوتهم بانطلاق الثورة الإسلامية في إيران. لقد تزلزل العالم بالنسبة لهم، وأصابهم الرعب حقاً، ولم يكونوا قادرين على التحليل بصورة صحيحة لمعرفة ما هي هذه الظاهرة التي وقعت في إيران. في عالم المادية، في عالم اللادين، في عالم عدم الاكتراث للفضائل، في عالم عدم الاكتراث للإسلام خصوصاً، وفي بلد يُنفِّذ حكامه كل إرادات الغرب بحذافيرها وتفاصيلها، فجأة تحدث ثورة على الضد تماماً من إرادتهم وعلى الضد تماماً من أهدافهم المادية والشهوانية اللاهثة وراء الدنيا، وتكون هذه الثورة قائمة على أساس الإسلام، وعلى أساس الدين، وعلى أساس الفضيلة. هذا الشيء لم يكن مفهوماً بالنسبة لهم إطلاقاً؛ أن يأتي شبابٌ بلا سلاح وينزلوا إلى الساحة ليواجهوا السلاح، أن يأتي الطالب الجامعي، وتلميذ المدرسة ـ وتعلمون أنَّ من الفصول المهمة للكفاح الدامي في هذا البلد هو مشاركة طلبة المدارس حيث جاء طلبة المدارس في الثالث عشر من آبان [4 تشرين الثاني 1987م]، ولم تكن القضية قضية طلبة جامعات أو رجال كبار السن وما إلى ذلك، بل كانوا ناشئة من الثانويات، بل إنَّ بعضهم أصغر سناً حتى من ذلك ـ إلى الشيوخ كبار السن ومختلف الشرائح والطبقات وفي كل المدن وفي كل القرى، جاؤوا ونزلوا للمشاركة في الساحة.

لقد أثار هذا الحدث تعجب أولئك وراحوا يتساءلون "أية ظاهرة هذه التي حدثت؟"، لذلك أصيبوا بالرعب. وكلما مرّ الوقت تحولت هذه الحيرة التي انتابتهم إلى مزيد من الرعب؛ أي كلما مرّ الزمن أكثر وبالإضافة إلى عدم إحساسهم بالطمأنينة والراحة كانت مشكلاتهم وقلقهم وهمومهم تزداد أكثر فأكثر، لماذا؟ لأنهم وجدوا أنَّ هذه الثورة واجهت استقبالاً وترحيباً بين الشعوب المسلمة في كل العالم، في البلدان التي كان رؤساؤها تابعين لأمريكا رفعت الشعوب الشعارات لصالح الثورة الإسلامية. في سنة 58 و 59 [1979 و 1980 م] في بداية الثورة، تكلمت [الشعوب] في كل البلدان الإسلامية تقريباً لصالح الثورة الإسلامية ورفعوا الشعارات وألقوا الخطابات وكتبوا المقالات. وهذا ما أثار رعب [دول الاستكبار] وفزعهم، ووجدوا أنَّ إيران قد أفلتت من أيديهم ـ وقد كانوا في السابق مسلَّطين مهيمنين على إيران ـ وكانوا يخشون أن تؤدي سيطرة ثقافة الثورة على الشعوب وانتشارها بين الشعوب المسلمة إلى خروج سائر البلدان الإسلامية وسائر الحكومات الإسلامية من أيديهم، لذلك فكروا في القضاء على هذه الثورة مهما كان الثمن، ومن هنا بدأت حرب نظام صدام البعثي ضد إيران. 

كانت دول الاستكبار تخشى أن تؤدي سيطرة ثقافة الثورة على الشعوب وانتشارها بين الشعوب المسلمة إلى خروج سائر البلدان الإسلامية من أيديهم، لذلك فكّروا في القضاء على هذه الثورة مهما كان الثمن.

لقد كان صدام شخصاً كانوا يعلمون أنَّه تتوفر فيه أرضية حركة أنانية متكبرة ظالمة؛ فلقد كان بطبعه معتدياً وغاشماً، كانوا يعرفونه، فهم يعرفون الشخصيات السياسية. ولم يكن صدام رئيساً للعراق عندما حدثت الثورة، بل كان رئيس العراق شخصاً آخر ـ كان أحمد حسن البكر ـ لكنهم رتبوا الأمور بحيث يذهب ذاك ويصبح هذا رئيساً لجمهورية العراق ليحضُّوه ويشجعوه ويرغبوه ويثيروه ليشن هجوماً عسكرياً على إيران. وقد كان الهجوم العسكري على إيران في البداية بذريعة ـ وهذا ما قالوه ورفعوا شعاراته ـ أنهم يريدون فصل المناطق النفطية من إيران وإلحاقها بالعراق. كان هذا هو الكلام فقط، ولم تكن القضية قضية مناطق نفطية، إنما كانت القضية أصل الدولة وأصل الثورة. لقد أرادوا القضاء على الثورة. وقد وقفت أمريكا وأوروبا القوية ـ ولم تكن هناك أهمية للدول الأوروبية ذات الدرجة الثانية والثالثة، لكن أوروبا الأصلية أي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا؛ البلدان التي لها مكانتها وقوتها وقدرتها في أوروبا ـ وقفت كلُّها مع صدام وساعدته ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ساعدوه بقدر ما استطاعوا المساعدة!

وقد كانت فِرق [جيش] نظام صدام معدودة في بداية الحرب، وإمكاناته وقدراته أيضاً كانت بالحدود المألوفة الطبيعية، ولكن مع مرور الوقت ـ كلما مضى الوقت، ستة أشهر، وسنة، وسنتان ـ ازدادت هذه الإمكانيات يوماً بعد يوم. الحرب تُبدد الإمكانيات والقدرات، فقد كان لنا نحن مثلاً في بداية الحرب عدداً من الدبابات، ثم دُمِّرت بعضها، وافترضوا مثلاً أنّه كان لنا عدداً من المدفعية فتدمر واستُهلك بعضها، وكان لنا عتادنا فنفِد واستُهلك الكثير منه، فهذه الأشياء تُستهلك حتماً في الحرب، والحرب تُقلل الإمكانيات والقدرات. كلما امتدت الحرب واستمرت كانت إمكانيات النظام البعثي تزداد، فمن كان يعطيه [هذه الإمكانيات]؟ إنها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأمريكا، والاتحاد السوفيتي الذي كان ضدَّ أمريكا نزل إلى الساحة في هذه القضية إلى جانب أمريكا، ولسبب خاص به: لأن الاتحاد السوفيتي كان يضمُّ عدداً كبيراً نسبياً من الجمهوريات المسلمة، وقد أدت الحركة الإسلامية والثورة الإسلامية في إيران إلى أن تفكر تلك الجمهوريات بهويتها الإسلامية، ولم تكن حكومة الاتحاد السوفيتي على استعداد لذلك، ولهذا فقد اصطفت في هذه القضية ـ قضية الحرب والعمل ضدنا ـ إلى جانب أمريكا عدوهم القديم. إذن، كانت أمريكا والاتحاد السوفيتي والناتو ـ أعضاء حلف الناتو وهم أوروبا وأمريكا وما شاكل ـ وكل القوى المهيمنة في العالم التي اصطفت وراء صدام وأسندته ضدَّ الجمهورية الإسلامية، كانت تريد القضاء على الجمهورية الإسلامية، هذا كان الهدف. لم يكن الهدف احتلال خُرَّمشهر أو قصر شيرين أو ما شاكل، بل كان الهدف أن يأتوا، وقد قال صدام في بداية الأمر إننا نتحدث الآن هنا وسوف نتحدث بعد أسبوع في طهران، هكذا كانوا قد خططوا. كان هذا هو سبب الحرب؛ أي إنَّ الحرب المفروضة كانت مؤامرة دولية عظيمة لأقوى القوى في العالم ضد الجمهورية الإسلامية الفتية. نظير أن تهجم كل الحيوانات المتوحشة على إنسانٍ وحيدٍ أعزل بلا سلاح. هكذا كان الأمر في الواقع.

أمريكا والاتحاد السوفيتي والناتو وكل القوى المهيمنة في العالم التي اصطفت وراء صدام وأسندته ضدَّ الجمهورية الإسلامية، كانت جميعها تريد القضاء على الجمهورية الإسلامية.

لم يكن للجمهورية الإسلامية في ذلك الحين لا قوات مسلحة منظمة ولا جهاز استخباراتي منظم [ومهيأ]ـ كانت الثورة في بدايتها حينها وكان كلُّ شيء مبعثر غير منتظم بعد ـ الشيء الوحيد الذي كانت الجمهورية الإسلامية تمتلكه هو شعبٌ مؤمنٌ وقيادةٌ مقتدرةٌ مثل الإمام الخميني الجليل، هذا هو الشيء الوحيد الذي كان الشعب يمتلكه. خلال الحرب منحت فرنسا العراق أكثر طائراتها ومروحياتها تطوراً. وألمانيا قامت بتزويد نظام صدام بالمواد الكيميائية والسامة ليستطيع استخدامها في جبهات الحرب.

هؤلاء الذين يهاجمون اليوم الجماعة الفلانية والبلد الفلاني بتهمة استخدام المواد الكيميائية زودوا صدام رسمياً وعلناً بالمواد الكيميائية ليصنع قنابل وأسلحة كيميائية ويستخدمها في الجبهات، وقد استخدمها، ولا نزال بعد مضي ثلاثين سنة على نهاية الحرب ـ 29 سنة تقريباً مضت على نهاية الحرب ـ لا يزال لدينا أشخاص بين المقاتلين، وليسوا قلائل، مصابون ويعانون بسبب التلوث بالمواد الكيميائية، والكثيرون استشهدوا بهذه الطريقة. وقد ساعده [صدام] البريطانيون أيضاً، وساعده الأمريكيون أيضاً، ساعدوه بخرائطهم العسكرية وأقمارهم الصناعية. كلُّ الأجهزة الشيطانية في العالم ساعدت هذا الشيطان البائس المتكبر المغرور الأناني ـ أي صدام ـ ضدَّ الجمهورية الإسلامية لتحدث هذه الحرب وتستمر وتنتهي بانتصاره حسب ما أرادوا. وبالطبع فإنَّ كلَّ هذه المساعي كانت مثل سهم طائش لم يصب هدفه بل ذهب هباءً واصطدم بالحجارة. وعلى الرغم من كل هذا، فقد بذلوا قصارى جهودهم طوال ثمانية أعوام ليسيطروا على شبرٍ واحدٍ من تراب الجمهورية الإسلامية لكنهم لم يستطيعوا. فقد انتصر الشعب الإيراني طوال ثمانية أعوام على كل هذه القوى. هذه هي النقطة الأولى المتعلقة بسبب الحرب.

أما عن كيفية الحرب ونوع الدفاع الذي دافعه مقاتلونا في ساحة الحرب. لا يتذكر أحدٌ منكم أيها الأعزة فترة الحرب ـ وبالطبع فإنكم تعرفون بعض الشخصيات وقد قرأتم كتبهم وأوصيكم بأن تقرأوا هذه الكتب التي كُتبت حول هذه الشخصيات العزيزة العظيمة الخالدة والاستثنائية في الواقع، اقرأوا هذه الكتب ـ لقد كان دفاعنا دفاعاً استثنائياً مميزاً مصحوباً بالعزيمة والإرادة الصلبة. لقد كانت الإرادة والعزيمة والتصميم الحاسم يموج في جبهاتنا القتالية. كان دفاعاً مصحوباً بالإيمان، بمعنى الاعتقاد بحقانية الذات وبطلان العدو. وهذا شيء على جانب كبير من الأهمية. الشخص الذي يكافح ويحارب في الساحة إذا كان صاحب إيمان؛ أي إذا كان مؤمناً بحقانيته وبأحقية دربه فسوف يساعده ذلك على التقدم إلى الأمام. وإذا كان هذا الإيمان إيماناً بالله وإيماناً بالغيب فسيكون ذلك نوراً على نور وشيئاً استثنائياً. وقد كان هذا هو العامل الذي حقق للمسلمين تلك الانتصارات في صدر الإسلام. وقد حدث الشيء نفسه في زماننا. كانت هناك عزيمة، وكان هناك إيمان وكانت هناك تضحية. وقد كانت التضحية نتيجة ذلك الإيمان. بمعنى أنَّ بذل الأرواح لم يكن بالنسبة لهم قضية مهمة؛ أي إنهم كانوا حقاً على استعداد لبذل نفوسهم في سبيل الله وللجهاد في سبيل الله؛ التضحية. هذه الذكريات التي تُكتب زاخرة بالتضحيات التي تُعدُّ حقاً دروساً لنا جميعاً. إنني كلما قرأت أحد هذه الكتب ـ وأنا أُكثر من قراءتها ـ أشعر حقاً بالصغر في نفسي أمام تلك العظمة الكامنة في هذه الأعمال وفي هذه التضحيات.

والابتكار، من الخصوصيات الأخرى للدفاع المقدس روح الابتكار والأعمال الإبداعية الجديدة وتجاوز التقاليد المألوفة لكثيرٍ من جيوش العالم التي تتمتع بتجارب واختبارات، وإيجاد سبل جديدة واكتشافها. لقد كان الأمر هكذا حقاً. ويمكن لكم أن تلاحظوا [الابداع والابتكار في الدفاع المقدس] إذا كنتم من المتابعين. لقد كان الإبداع والابتكار من أهم القضايا التي تحلّى بها جنودنا. ومن ثم التوسلات والتوجهات المعنوية. لقد كانت الجبهات مكاناً حينما يقصده الأفراد العاديون يدخلون بحق في وادي النقاء والصفاء ونورانية العرفان، وبشكل تلقائي حتمي. لقد كانت هذه خصائص جنودنا. لذا فقد كانت هذه الحرب نفسها صانعة للإنسان. بمعنى أنَّ الدفاع المقدس أدى إلى ارتقاء كل واحد من شبابنا العاديين ـ الذين إما أنهم كانوا طلبة مدارس أو طلبة جامعات أو كسبة أو قرويين أو عُمالاً أو مزارعين، متعلمين أو غير متعلمين ـ إلى مراتب إنسانية راقية في بوتقة الاختبار هذه بحسب تحركهم وتقدمهم فيها.

الدفاع المقدس أدى إلى ارتقاء كل واحد من شبابنا العاديين إلى مراتب إنسانية راقية.

هذه الشخصيات البارزة المهمة من أمثال الشهيد هِمَّت والشهيد خرَّازي كيف تظنون أنهم كانوا؟ لقد كان الشهيد هِمَّت بحق أسطورة والشهيد خرازي كان كذلك أسطورة، لكنهم كانوا شباباً عاديين، والحرب هي التي صنعت منهم هذه الشخصيات البارزة الكبيرة الخالدة حقاً. أو أشخاص من قبيل الشهيد باكري أو برونسي. الأسطة عبد الحسين البنا الذي لم يدرس ولم يتعلم عندما كان يقف بين المقاتلين في ساحة الحرب ويتكلم ـ ويعلم ذلك الذين كانوا يقفون أمام كلماته ويسمعونها ـ كان يتكلم كحكيم وعالم عاقل ويقنع الطرف المقابل. الحرب صانعة إنسان. هذا الدفاع المقدس بهذه الخصوصيات التي ذكرتها ربّى وأنشأ مثل هؤلاء الأفراد. لقد كان تشيت سازيان ولداً في السابعة عشرة من عمره حينما دخل ساحة الحرب، وإذا به يتحول إلى رمز خالد ونجم متألق يجب عليّ وعلى أمثالي وعليكم وعلى الجميع أن ننتفع ونستفيد من كلماته. لقد صُنِعَ آلافُ الشباب من هذا القبيل في ساحات الحرب.

لقد كانوا يتحلون بالتعقل والتدبير. أن نتصور أنهم كانوا يهجمون على قوات العدو بلا تفكير ولا تدبّر فهذا ليس بصحيح، بل كانوا يعملون بتدبير وتعقل. لقد كان حراك شبابنا في ساحات الحرب حراكاً عقلانياً مدبراً. كانوا يمتازون بالتعقل والتدبير والشجاعة والبسالة والتضحية والعبادة. كانوا خلال النهار أسوداً زائرة وفي الليل زهاداً عُبّاداً متضرعين بالمعنى الحقيقي للكلمة، أسود النهار عُبّاد الليل. هكذا كانوا.

لذلك قال الإمام الخميني في إحدى كلماته عميقة [المعنى] جداً بعد أحد الفتوحات التي حصلت في بداية الأمر (2) ـ في سنة 60 [1981 م] حصل فتح، وقد كان فتح مدينة بستان مهماً جداً، بعد فترة من التراجع والانكسارات المتنوعة كان فتح بستان انتصاراً كبيراً، وهذا بالطبع مضمون كلامه، وعبارته موجودة في الكتب ـ قال إن فتح الفتوح ليس فتح المدينة الفلانية، إنما فتح الفتوح هو تربية وإعداد مثل هؤلاء الشباب. هذا هو فتح الفتوح. وهذا هو الواقع. فتح الفتوح بالنسبة لبلد من البلدان هو أن يكون شباب ذلك البلد متعقلين مدبرين وأيضاً متدينين مؤمنين ورعين ومن أهل التضرع والبكاء والعبادة، وأيضاً من أهل الصمود والثبات أمام العدو، وأن يكونوا كذلك أصحاب بصيرة فلا ينخدعون رغم كل هذا الإعلام الذي يبثُّه العدو وأذنابه في كل الأزمنة واليوم أيضاً. عندما يكون في البلد مثل هؤلاء الشباب فسيكون ذلك البلد منيعاً مصوناً.

وكما قلتُ فأنتم غد البلاد وأنتم مستقبلها. إذا ربّيتم وأعددتم أنفسكم بهذه السمات والخصوصيات فسوف يصل البلد قريباً ـ وليس في المستقبل البعيد بل في المستقبل القريب ـ إلى ذروة السمو والتكامل من كل النواحي، سواء من الناحية العلمية أو من الناحية المادية أو من الناحية السياسية أو من الناحية الاقتصادية، سوف يصل إلى الذرى. هكذا هم الشباب.

هوية الدفاع المقدس [تتلخص في أنَّ]: عداء الأعداء العالميين الأقوياء هو من أوجد هذه الحرب، وعظمة وتضحيات شبابنا أنهت هذه الحرب لصالحنا. لقد بدأوا الحرب بنية القضاء على الثورة الإسلامية تماماً، ونزل هؤلاء [الشباب] إلى الساحة بهذه الروح وعملوا ما من شأنه أن تزداد الثورة الإسلامية ونظام الجمهورية الإسلامية قوة وتجذراً يوماً بعد يوم. هذه هي هوية الدفاع المقدس. ينبغي الحفاظ على هذه الهوية وصيانتها وحراستها. عملكم وحركة السائرين إلى النور في كل أنحاء البلاد، هذه الملايين من الأفراد الذين يسيرون كل عام شيباً وشباناً ويذهبون بهذا الاتجاه، هو في الواقع أحد تجليات حراسة تلك الفترة النيّرة وهذه الحقيقة الساطعة بالنور، أي حقيقة الدفاع المقدس.

فتح الفتوح بالنسبة لبلدٍ من البلدان هو أن يكون شباب ذلك البلد متعقلين مدبرين وأيضاً متدينين مؤمنين ورعين ومن أهل التضرع والبكاء والعبادة، وأيضاً من أهل الصمود والثبات أمام العدو.

حسناً، مضى على انتصار الثورة أربعون عاماً، وليس لكم من الأعمار أكثر من 18 أو 20 أو 25 سنة. لقد كان أولئك يتوقعون ويريدون عندما يشبّ هذا الجيل أي جيلكم ويتولى الأمور ويأتي دوركم أنْ لا يكون هنالك أي أثر للإسلام والثورة في هذا البلد، وأن يكون الأمريكيون وأقوياء العالم والرأسماليون الصهاينة متسلطين على سياسة هذا البلد وهوية هذا الشعب وعلى كل شيء في هذه البلاد. هذا كان توقعهم، وقد بدأوا عملهم بهذه النية، وأشعلوا الحرب بهذه النية، وبهذه النية واصلوا هجماتهم الناعمة والصلدة بعد الحرب إلى هذا اليوم. فماذا كانت النتيجة اليوم؟ كانت النتيجة أنه يوجد بين هذا الجيل أفرادٌ مقدرتهم على الرشد والازدهار أكبر من الجيل الأول، واقتدارهم مقابل العدو الخبيث المعتدي المهاجم أكبر. ولا شكَّ في أنه إذا كان شبابنا قد استطاعوا يومذاك أن يفرضوا التراجع على العدو، فإنَّ شبابنا اليوم على استعداد لفرض التراجع على العدو أكثر بأضعاف. لقد مكروا وخططوا، لكنَّ الإسلام والجمهورية الإسلامية والإرادة الإلهية أبطلت مخططاتهم، وسوف تبطلها إن شاء الله أكثر فأكثر يوماً بعد يوم. أعدوا أنفسكم وكونوا جاهزين أيها الشباب الصالحون.

فيما يتعلق بقوافل السائرين إلى النور أوصي عدة توصيات: أولاً لتقدم كل الأجهزة المساعدة لهذه الحركة. كل أجهزة البلاد المختلفة التي تستطيع مساعدة هذا الحراك لتقدم المساعدة. طبعاً كما أوضحوا في هذا التقرير فإنَّ بعض الأجهزة والمؤسسات تساعد بشكل جيد جداً لكن الاعتقاد هو أن هذا العمل ينبغي أن يحظى باهتمام كل أجهزة ومؤسسات البلاد. والشيء الآخر هو أن تعززوا الأبعاد الثقافية والاجتماعية للسائرين إلى النور ما استطعتم. لاحظوا فعلاً كيف يمكن تأمين العمق الثقافي لهذه الحركة الشعبية العظيمة فتابعوا ذلك. والتوصية الأخرى تتعلق بالرواة، الذين يروون الأحداث للمسافرين والقاصدين في مناطق السائرين إلى النور، يجب أن يراعوا الأمانة تماماً في رواياتهم. إنني أعارض المبالغة والغلو وما شاكل. لا داعي أبداً لأن نبالغ فما حدث فعلاً يحظى بالشرف بالقدر الكافي ويمتاز بالتحفيز والجاذبية بما فيه الكفاية، ولا ضرورة لأن نضيف إليه شيئاً. أحياناً يُسمع أنهم يزيدون دور الإمدادات الغيبية بشكل عامّي. لقد كانت هناك إمدادات غيبية يقيناً، وقد شهدنا ونعلم أنه كانت هناك إمدادات غيبية، ولكن لم تكن هناك إمدادات غيبية بالأشكال العامّيّة التي يصورونها أحياناً. الله تعالى يُعين ويُساعد بالتأكيد، وقد أمر الله تعالى ملائكته في معركة بدر أن اذهبوا واحموا وأعينوا المجاهدين في سبيل الله، وهذا ما يفعله الله تعالى للمخلصين في كل مكان، لكننا يجب أن لا نقع في المبالغة والإكثار والإمعان وما شاكل في بيان هذه الأمور.

يجب أن تروى الأحداث المهمة لفترة الدفاع المقدس في الكتب المدرسية. الأحداث البارزة والأكيدة التي وقعت يجب أن تنقل إلى الكتب المدرسية ليطلع عليها شبابنا. كُتبت الكثير من الكتب، وبعض الكتب ضخمة وتفصيلية وقد لا يقرؤها كثيرون، لذا يمكن اقتطاع أجزاء منها وإدراجها في الكتب المدرسية في المواضع المناسبة.

ومراعاة أمان المسافرين الأعزاء في هذه القوافل هي أيضاً من الأمور الضرورة التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام. فعلى الإخوة المسؤولين العناية بهذه القضية.

اعلموا أنه بحركة السائرين إلى النور هذه وبهذه الدوافع التي يشاهدها المرء لدى شباب هذا البلد في ميادين شتَّى، فإنَّ العدو كما لم يستطع فعل شيء مقابل الشعب الإيراني طوال هذه الأربعين عاماً سوف لن يستطيع بعد الآن أيضاً وبتوفيق من الله ارتكاب أية حماقة. نعم، يمارسون بعض الإيذاء في قضايا من قبيل الحظر والشؤون الاقتصادية والإعلام، توجد مثل هذه الأمور، وهي ممارسات تؤذي الشعب لكنها لا تجعله يتوقف. عندما تكون الإرادة قوية وعندما يكون التصميم جدياً على الحركة والتقدم، وعندما يتحلى الشباب بالبصيرة اللازمة ويعرفون العدو الذي يقف أمامهم ولا يخطئون في معرفة العدو ولا يضعّفون التصميم والقرار في أنفسهم لمواجهة العدو، فلن يستطيع العدو القيام بأي شيء ولن يستطيع ضرب وإيقاف هذه الحركة العظيمة.

نتمنى أن تستطيعوا أنتم أيها الشباب الأعزاء في المستقبل حين تكون مفاتيح البلاد بأيديكم أن تبلغوا بهذا البلد ذروة العزة والاقتدار إن شاء الله.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

الهوامش:

1 ـ في بداية هذا اللقاء ألقى اللواء بهمن كارغر (رئيس مؤسسة حفظ آثار الدفاع المقدس ونشر قيمه) كلمة بالمناسبة.

2 ـ صحيفة الإمام الخميني، ج 15، ص 395.