الكاتب: هادي قبيسي

 

توقفت الدولة الإستعمارية الإمبراطورية الأكبر في زماننا، الولايات المتحدة الأمريكية، وشركائها وحلفائها الغربيين عن دفع المال مقابل مساعي عملائها لحماية نفوذها وتوسعة ميدان سلطانها، إلا في بعض المواضع، أو فلنقل أن ميزانية شراء العملاء قد تقلصت بشكل كبير، خصوصاً في مجال النخب الثقافية، واستبدل التعامل المباشر بعملية تجنيد وتوظيف تستند إلى عالم الأفكار، اصطلحنا عليها "التجنيد الفكري"، وهي عملية إقناع واحتضان في نظام فكري دخيل، لغرض استتباع المثقف-الهدف للمعسكر الذي يتحرك ويتبنى ذلك النظام الدخيل متخلياً عن أجزاء من النظام الأصيل الذي كان يشكل هويته، بما يؤدي إلى عكوفه على خدمة النظام الجديد والإنضواء في شبكة مصالحه بشكل تلقائي. يشبه المثقف الإسلامي المجنَّد فكرياً من قبل المنظومة الغربية بعض العملاء المجندين في المجال الأمني والذين عملوا لصالح عدو بلادهم بناءً على قناعة تامة، ولم يتلقوا دولاراً واحداً مقابل سنين طويلة من الجهد والمخاطر، ومن أهم الأمثلة المعروفة عن تلك الظاهرة، السيدة الأمريكية آنا مونت التي عملت لستة عشر عاماً في وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية لصالح الاستخبارات الكوبية، بدافع القناعة السياسية الذاتية ولم تتقاضَ أي شيء مقابل خدماتها[1].

 

الهدف

لا يهدف هذا الشكل من التجنيد بالطبع إلى تكليف المستهدف بجمع المعلومات السرية، بل نشر الأفكار المؤدية إلى تفكيك بنية الخصم، أي تلك الهويات الثقافية التي لا تزال عصية على العولمة الأمريكية وتقبل روحية العدمية الميكانيكية السائدة في الغرب ما بعد الحداثوي. بعد زرع الأفكار في عقل المستهدف، وتنميتها عبر الدعم والإحتضان، يتم دفعه نحو نشر تلك الأفكار الدخيلة وذلك بهدف : خلق انقسامات في البيئة الاجتماعية، وتحويل الإنقسامات إلى خصومات وصراعات، تشكيل فئة تحتضن هذه الأفكار وتتمايز عبرها، نشر الافكار المشككة في النظام الفكري القائم.

 

عملية التجنيد

نقطة البدء الأساسية في العملية هي النظام التعليمي والثقافي الذي يكفل ويفرض تبني المتعلم أو المتلقي للنظام الفكري الدخيل، الذي يتبنى الفكرة النقيضة الوافدة بقدر هشاشة بنيته الفكرية وغموض معالم النظام الفكري الأصيل الذي يشكل هويته، خصوصاً وأن النظام الفكري الإسلامي حساس ويتشكل من كل متكامل، عقلاني سلوكي وروحاني، ويتعرض حامله لضغوط حياتية وفكرية وروحية في زمن طغيان البعد الواحد[2] المادي.

 

المعلم الثاني في مسار التجنيد هو تشكيل القناعة بوجود قيمة مضافة في النظام الفكري الدخيل، ومن ثم تشكيل القناعة بواقعية أو صدقية المعطيات المعرفية والنظرية والعملية لذاك النظام، على حساب النظام الإسلامي النقيض للمادية، بالإستفادة من مشكلات وثغرات العالم الإسلامي في تاريخه وحاضره الذي يرزح تحت ثقل التخريب والتغريب الغربيين، وكذلك تحت أعباء المشكلات الداخلية والفساد السلطاني التاريخي فيه، لكي يحقق عملية تبديل الهوية والإنتماء الفكري، وتجنيد الهدف لصالح استمرارية السيطرة الغربية. المؤشر الثالث هو حصول تغير في الحسابات الاستراتيجية[3] بالنسبة لأرجحية النظام الدخيل على النظام الأصيل، لناحية التفوق الحضاري أو موازين الصراع ومستقبله، وذلك على الرغم من تحقيق الثورة الإسلامية المتحفزة منذ السبعينات لمجموعة انتصارات كبرى غير مسبوقة، والمقارنة في الحجم على صعيد الديموغرافيا، الجغرافيا، تاريخ الخبرة الإستعمارية، البنى والمؤسسات الهجومية، الإقتصاد والتمويل، التحالفات الدولية والإقليمية، تاريخ الإختراق الأمني والسياسي والثقافي، الإنتاج التعليمي والمعرفي، الجيوش والإنتشار العسكري، بعد هذه المقارنة نجد أن الثورة الإسلامية من حيث الحجم لا تساوي أكثر من واحد بالمائة من حجم التحالف الغربي، لكنها لا تزال صامدة رغم عشرات الحروب من كل الأشكال والأنواع، وهذا ما يؤكد تفوقها النوعي الكبير والهائل مقابل التفوق الظاهري الكمي للغرب، وهذا ما يعكس ضعف الحضارة والفكرة الغربية في مقابل تفوق كاسح للفكر الإسلامي.

 

المحطة الثالثة بعد تغير الحسابات والتقديرات فيما يخص الصراع، وإبداء موقف مشكك أو محايد أو رمادي أو متقلب، أو تفادي إظهار الموقف الواضح والمتحيز إلى جانب المستضعفين في العالم، بحجة الموضوعية والعلمية الوصفية، تبدأ عملية إبداء الإعجاب[4] بالميول الانعزالية والهامشية التي تكون لدى الهدف تجاه المجتمع، وكذلك إبداء الإعجاب بالأفكار البسيطة التي يعبر عنها الهدف والتي تشكل تمايزاً أو اقتراباً من النظام الدخيل. بذلك يبدأ الهدف بالإنحياز تدريجياً نحو الطرف الذي يتواصل معه فكرياً ويعجب بطروحاته، والتي تكون في البداية طفيفة وهامشية، لكنها تبدأ بالنمو نتيجة إبداء الإعجاب والإهتمام، بحيث يصبح هذا النوع من الأفكار سبباً لشعور الهدف بالقيمة لدى الطرف المتفوق حضارياً في نظره، فيصبح ملزماً بزيادة جرعة "الموضوعية الوصفية" والإنحياز إلى جانب الطرف المتفوق ظاهرياً رغم عجزه أمام التفوق النوعي، فالموضوعية الإختزالية[5] التي تلقاها على مقاعد الدراسة الصارمة والإلزامية، هي موضوعية ظاهرية، عمياء عن مشاهدة حقيقة التفوق النوعي المعنوي للفكر الإسلامي.

المرحلة الرابعة تنفتح فيها العلاقات[6] مع المثقفين الآخرين المنضوين في الإطار الفكري الغربي على تفاوت في استيعابهم وانخراطهم في حماية نفوذ المستعمر، ومن خلال تلك العلاقات يحصل المستهدف على 1)التشجيع : إقناع الهدف أن ما يقوم به من نشر أفكار واستقطاب هو لمصلحته الشخصية ومصلحة مجتمعه في آن. 2)الإثارة : استخدام مقولات المعارضة، الثورة، التقدم، التغيير، التحرر، التمايز، حق الإختلاف. 3)التحريض : استخدام لغة استفزازية تتبنى موقفاً عنيفاً من قبل أتباع النظام الأصيل، عبر شخصيات اختراقية تدفع المثقف المجند فكرياً نحو تصعيد موقفه بالتدريج. 4)التثقيف : إرسال المقالات والكتب والأفلام والموسيقى والصور والوثائق والإشارة إلى الشخصيات الرمزية والمؤثرة[7]. 5)الاحترام : إبداء الاحترام والتقدير للمستهدف وتبيين أن النظام الدخيل يقدم له قيمة معنوية اجتماعية غير مسبوقة، ما يحول الإحترام الشخصي إلى احترام للنظام الدخيل.

 

بيئة التجنيد

تساعد مجموعة من الظروف والحيثيات المنظومة الغربية على استقطاب وتجنيد النخب الإسلامية، بحيث استطاعت اختراق البنى الداخلية للحركات والمؤسسات الدولتية الإسلامية واستدراج بعض الكوادر نحو تبني الأفكار المادية النقيضة للوحي الإلهي، وأهم هذه الظروف هي : 1)العولمة : وانتشار الأفكار التي تنقض الانتماء والهويات وتستبيح كل الحدود لصالح من يمتلك قدرة الوصول[8] والتفوق الظاهري، 2) داعش : الحركة السلفية الوهابية أعطت دفعاً هائلاً للتيار الليبرالي ومقولة "الدين هو المشكلة" وترك ذلك تأثيراً بالغاً إذ دفع الإسلاميين نحو منطقة الدفاع الفكري والثقافي، 3) الفساد الاجتماعي والسياسي : لا يخلو مجتمع في العالم حاضراً وتاريخاً من الفساد والأخطاء والخطايا وهذا ما تستغله المنظومة المعادية لتلقن المثقف المستهدف فكرة أن الدين مقولات مثالية لا يطبقها أحد ولا تفيد في تغيير الواقع أو في أنه هو بحد ذاته سبب للفساد واستمراريته، 4) الثقافة الفردانية :  التي تنتشر في نواحي الحياة بفعل انتشار المنتج الغربي المادي والتي يتشربها الجميع عبر قنوات التعليم والإعلام، 5) حساسية المثقف وعزلته : تتميز شخصية المثقف بقابلية العزلة الاجتماعية والنفسية والحساسية تجاه التقدير الاجتماعي بشكل مفرط لدى البعض، ما يجعله عرضة للعزل الاجتماعي والتحول إلى ضحايا للتجنيد الفكري، 6) نرجسية التواصل الاجتماعي : ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في العزلة النفسية والمعنوية وكذلك في الفردانية والذاتية، كما شكلت مسرح صيد لمن يقوم بالتجنيد الفكري، 7) الانحلال المادي : وفقدان الحاجة للفكرة في النظام الغربي ما يتيح له تقديم نفسه على أنه "لا أيديولوجيا" وهو في الحقيقة كتلة مصالح تنشر ثقافة عبثية ما بعد حداثية تفيد في تفكيك أي حلقة انتماء يمكن أن تواجهها.

 

المستهدف

يتعرض المثقف الإسلامي لعملية التجنيد الفكري في حال وجود نقاط ضعف أساسية تسمح بوقوعه ضحية البيئة ومن ثم تجنيده ضمن جماعة المثقفين الذين يخدمون الإمبراطورية في بلادهم كلٌ من موقعه، وكل بحسب انخراطه في منظومتها الفكرية والسلوكية، وتتمحور نقاط الضعف تلك حول خمسة مجالات يمكن أن تجتمع في شخص المثقف المستهدف وقد تكفي واحدة منها للانزلاق. 1) البنية الفكرية: التشبع العميق بالأفكار المادية المترافق مع فقر وإهمال للتشبع بالفكر الإسلامي وخصوصاً في أبعاده الروحانية والأخلاقية يعرض الإسلامي للانسياق نحو التزام المنهاج المادي بنسبة أو بأخرى، 2) ضعف الشخصية : الشعور بالدونية تجاه الآخر الحضاري وضعف الانتماء الاجتماعي والثقافي يسهل عملية التجنيد إذ يكون اندفاع المستهدف كافياً لتحضيره، 3) الصراعات والتنافس : بين المثقفين يدفع البعض إلى الشعور بالانفصال عن بيئته الاجتماعية خصوصاً في حالات التنافس السلبي الحاد، 4) العزلة الاجتماعية : التي يقع فيها المثقف مستدرجاً نحو الغرق في المكتبة الغربية بحيث يعجز عن الاستفادة المتوازنة من الفكر الآخر والمحتكمة إلى معايير الثقافة الذاتية، 5) الميول المادية : ضعف الروحانية والانحياز نحو نمط حياة مادي واقعي أو متخيل يفتح المجال أمام تقبل منظومة فكرية مادية وسطحية.

 

مستويات التجنيد

تطال عملية تطويع الأفكار وتجنيد المثقف المستويات المختلفة للنظام الفكري، وكلما حصل انقياد نحو النظام الذي تطرحه الإمبراطورية وتروج له لخدمة مصالحها في أحد المستويات، يصبح ممكناً انتقال التأثير إلى مستويات أخرى، وفي المقابل تتقطع الأوصال بين أبعاد النظام الفكري الإسلامي ويحصل التداخل بين النظامين إلى حد الإنفصام في شخصية المثقف على المستوى الفكري، على أن هذا الإشكال يبقى لوقت طويل في العمق ولا يلتفت إليه المستهدف إلا عند نضج عملية التجنيد. وهذه المستويات هي : 1)الرؤية الكونية : تغيير النظرة إلى العالم وفلسفته، وبالتالي قيم الأشياء ومراتبها وتفضيلاتها، وفي الحالة الغربية يتم ترويج الأفكار الإختزالية التي تحصر العالم في النطاق المادي المباشر. 2) الهوية : مع الخروج من الرؤية الكونية، وتبني الأفكار الاختزالية، يبدأ التمايز عن المحيط الإجتماعي والثقافي، في بعض المجالات والقضايا، وتنتقل الحالة لتشمل سلسلة من الأفكار المترابطة والمتصلة، ويبدأ بالشعور بالعزلة الإجتماعية وتغير الإنتماء ويبحث بالتالي عن الفئات التي تم تجنيدها سابقاً لينتمي إليها، ويدور في فلكها. 3) القيم الأخلاقية : مع الفكرة المادية والعزلة الإجتماعية، يتحول إلى حالة فردانية بالكامل، وينعزل عملياً عن بيئته إلا ما يناله من مصالح شخصية فيها، ويفقد اتصاله بقيم التضحية والإيثار الجماعي، مستنداً من الناحية النفسية إلى حالات الفساد وكذلك حالات ضحايا التجنيد الثقافي. 4)السلوك الإجتماعي : بعد التشرنق في الحياة الفردانية، والإلتحاق بالفئة التي تعمل وفق آليات السوق والمصلحة الشخصية، يبدأ العمل على التطهر السلبي من المحمولات الثقافية والقيمية من خلال استهدافها والتحلل منها والترويج للأفكار الإختزالية المادية. 5) الموقف السياسي : التموضع الإجتماعي والفكري والثقافي والقيمي الجديد، يحتم طرح موقف سياسي بديل، يقدم من خلاله الحل السلمي للصراع، مع عدو لم يعد عدواً، بل هو يمثل حضارة تقدم الخيارات الأفضل لـ "الإنسان"، وهي في الحقيقة تقدم له خيارات شخصية أفضل.

 

خطورة التجنيد الفكري

تتمثل أهمية وتأثير وخطورة عمليات التجنيد الفكري في أنها تعمل على استهداف النخب التي تدير الدول والحركات السياسية والمجتمعات وتوجهها فكرياً وعملياً وسياسياً، وخصوصاً النخب التي انخرطت في النظام الجامعي بشكل جاد ومثابر ومتعمق في المدرسة المادية، بما يؤدي إلى السيطرة المستقبلية على الجماعات والمجتمعات المستهدفة. وكذلك في الاستهداف الجماعي للمثقفين بشكل علني ومشروع بدلاً من عمليات التجنيد الفردي السرية التي تأخذ وقتاً طويلاً وعملاً متواصلاً. ومن أهم المخاطر عدم وجود اتصال تشغيلي وإنما اتصال فكري، ما يسهل على الضحية تقبل عملية التجنيد، ويمنع المؤسسات السياسية والقانونية المحلية من وقف عملية الاتصال، وكذلك سهولة الاتصال الفكري من خلال الجامعة والإعلام والثقافة والفن، وخصوصاً مع توفر وسائل التواصل الإجتماعي، المكتبات الإلكترونية، التعليم عن بعد، المقالات والمواقع الثقافية، انتشار الترويج للمنتج الاختزالي الغربي. والنقطة الأخيرة والتي تتصف بشيء من الطرافة وهي تحميل العميل أعباء وتكاليف عملية التجنيد، فهو الذي يتكفل بأقساط الجامعة وشراء الكتب والمشاركة في الأنشطة الفكرية والثقافية والسياسية، والبحث عن الموضوعات والمصادر.

من ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى صعوبة معالجة مشكلة المجند الفكري وذلك لعدة ملابسات حساسة، ما يزيد من خطورة تلك الظاهرة وقدرتها على النفاذ والاستمرار، فهي تنشأ وتمتد زمنياً لعدة أسباب :  عدم وجود آثار أو عوارض لبدء عملية التجنيد، جهل المجند بأنه يتعرض لعملية تطويع وتجنيد، التأخر في اكتشاف المجند من قبل الجهات الساهرة على أمن القوى الإسلامية المعارضة للإمبراطورية، وعدم توفر إمكانية قانونية للقبض على المجند أو محاكمته لعزله عن جهة التجنيد، فهو لا يتحول فكرياً بشكل كامل وإنما يمارس حركة نقدية تدريجية تتصاعد نحو العداء إذا توفرت ظروف سلبية، فهو بالأساس لا يتحرك وفق مشاعر العداوة لبيئته وإنما يتبنى أفكاراً تخدم مصلحة عدوه، ويقدمها على أنها الأفضل لمجتمعه.

 

كيفية المعالجة

من النافل القول بأن الوقاية خير من العلاج، التحصين الثقافي الإسلامي أساس وخصوصاً ما يوفر المعايير الفكرية التي تسهل للمثقف الاستفادة من الفكر الآخر دون الانجراف نحو تبني نظام دخيل، وكذلك تطهير جسم الحركة الإسلامية من أدران الفساد التي تعطي الفرصة للجهات الخارجية للقيام بعمليات تجنيد بسلاسة وسهولة. ويمكن تحري وقوع المثقف في فخ التجنيد الفكري من خلال عوارض عديدة منها: إهمال الثقافة الذاتية والانفصال التدريجي عنها، التقييم السلبي للثقافة و/أو التجربة الاجتماعية والسياسية الذاتية، التشكيك في مرجعية الثقافة والفكر الإسلاميين، الإعجاب العميق والصريح بالعدو، دون الالتفات إلى مشكلاته وخطاياه، الدعوة إلى الاقتداء بالعدو، الدعوة إلى الإنضواء في المجال الثقافي للعدو، الدعوة إلى الكف عن العداء من طرف واحد، والتصالح والتسليم للعدو.

يقع كثيرون في إشكالية تحديد السبيل الأنجع في التعامل مع ضحايا التجنيد الفكري، ذلك أن صدمة التغير الفكري التي يتسبب بها الضحية للمحيط الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه تترك آثاراً عميقة نفسياً وفكرياً، قد تولد رداً فعل سلبية تزيد في عزل الضحية وتهميشه، بما يؤدي إلى دفعه خارج النظام الاجتماعي والثقافي، وحتى إلى قيامه بالتنسيق مع جهات ثقافية وأكاديمية خارجية. ومما يزيد في أزمة الضحية الدخول معه في مساجلات وجدالات حادة وانفعالية في القضايا العقائدية والسياسية، ونصل إلى ذروة التأزم عند ارتكاب خطأ الاتهام المباشر للضحية بالتعامل مع العدو دون دليل وإثبات، مما قد يؤدي إلى صدمة نفسية عميقة وشرخ في اتصاله بالبيئة الاجتماعية، وكل هذا يقع قبل وصول الضحية إلى حالة عداء عملي، بحيث يتحول إلى مشروع هادف ومتصلب في انخراطه في حالة التجنيد، وحينذاك تصبح الحالة كثيرة التعقيد والانفصام شديدة الحدة، مع شعور الضحية بالاستعلاء تجاه مجتمعه "المتخلف" و "المتطرف".

عملية استعادة الضحية تبدأ بالدمج النفسي والاجتماعي والسياسي، والتثقيف غير المباشر ولفت النظر، الإيقاظ عبر الإشارات اللطيفة، الحفاظ على الصداقات الحميمة والشخصية المختلطة بالنقاش الفكري الهادئ، الإشارة إلى النماذج المشرقة والمضحية في التجربة المحلية، الإشارة إلى محطات النصر والإنجاز المحلي، الإشارة إلى أن الضحية أفضل وأميز من المخترق الأجنبي، وفي كل ذلك ينبغي الاحتراز من المديح والتشجيع الأعمى الذي قد يرجعه الضحية إلى انخراطه في المنظومة الثقافية الغربية.

 

  • إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir

 


[1]  Scott W. Carmichael, True Believer: Inside the Investigation and capture of Ana Montes, Cuba’s Master Spy, Naval Institute Press, 2007.

[2] هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، 1988.

[3] كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقائه بمسؤولي الدولة في اليوم التاسع من شهر رمضان المبارك 1435، 07/07/2014.

[4]  Randy Burkett, An Alternative Framework for Agent Recruitment, Studies in Intelligence, Vol. 57, No. 1, p 16.

[5] هادي قبيسي، المعايير القرآنية للعلوم الإنسانية، معهد المعارف الحكمية، بيروت، 2017.

[6] آنجل راباسا، بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، ترجمة : دار التنوير، المصدر : مؤسسة راند، 2007.

[7] لويل هـ. شوارتز، العقبات أمام النشر الواسع للأعمال الإبداعية في العالم العربي، ترجمة : موقع العهد الإخباري، المصدر : مؤسسة راند، 2009.

[8] جيريمي ريفكين، عصر الوصول : الثقافة الجديدة للرأسمالية المفرطة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.