الخطابات

كلمته في أسبوع الحكومة والنصف من شعبان

بسم الله الرحمن الرحيم أولاً أبارك أعياد شهر شعبان وقمة هذه الأعياد أي النصف من شعبان، أباركها لكم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء العاملين لأجل أهداف وآمال النصف من شعبان. إنها مصادفة ملفتة أن تقترن هذه الأيام مع النصف من شعبان وولادة الإمام الحجة (سلام الله عليه وعجل الله تعالى له الفرج)، لأن خصوصية النصف من شعبان وعيد ولادة سيدنا بقية الله (أرواحنا فداه) هي الأمل والعدالة. هاتان سمتان بارزتان في انتظارنا واحتفالاتنا في النصف من شعبان، إحداهما بث الأمل الذي تبشر به هذه الولادة والذي تتوقعه الإنسانية في المستقبل الناجم عن هذه الولادة. والثانية هي أن العالم الذي سيتحقق بعد ظهور هذا الإنسان العظيم ستغلب عليه العدالة قبل أي شيء آخر. حينما تنظرون في كافة الروايات والأحاديث الواردة عن هذا الإمام وعصر ظهوره تلاحظون أنها لا تشدد على أن الناس سيكونون متدينين في ذلك العصر - مع أنهم سيكونون متدينين - إنما تشدد على أن الناس سيتمتعون يومئذ بالعدالة أي إنه عصر سيشهد إقامة القسط والعدل. هذه فكرة يمكن ملاحظتها أيضاً في الأدعية والزيارات الخاصة بالإمام المهدي. أي إن السمة الأبرز في ذلك المستقبل الواعد هي العدالة، والبشرية متعطشة للعدالة.أنتم حكومة جعلتم هاتين السمتين ضمن شعاراتكم وبرامجكم العملية. تبثون الأمل في نفوس الناس وتعدونهم بالعدالة. وما ذلك الأمل إلا لأنكم ترفعون راية العدالة وتنادون بها. والحق أن الفراغ الذي يعاني منه العالم اليوم هو فراغ العدالة قبل كل شيء. وفي بلادنا ومجتمعنا يتعطش الناس أكثر ما يتعطشون للعدالة. حينما ننظر للمشكلات، والنواقص، وتوقعات الجماهير، والطموحات الكبرى التي تراودنا ونرنو إلى تحقيقها للناس، نرى أن جميعها تقريباً تدور حول محور تأمين العدالة، فلو تم تأمين العدالة لتم علاج كافة الأمور والمشكلات. لقد طرحتم شعار العدالة وهذا شيء جيد جداً. طبعاً قد تستطيعون إنجاز بعض الخطوات في هذا الطريق الطويل المحفوف بالمخاطر والصعاب، وقد لا تكفي أعمارنا أو فرص الخدمة لقطع هذا الطريق حتى نهايته، إلا أن هذه الخطوات التي قطعتموها وهذا الاتجاه الذي اخترتموه يعد بحد ذاته شيئاً ذا قيمة كبيرة جداً بوسعه إحياء هذا الشعار وتفعيله. إذن، مصادفة اقتران أسبوع الحكومة المبارك مع النصف من شعبان في هذا العام مصادفة طيبة جداً تثير معانٍ طيبة في ذهن الإنسان.الشهيد رجائي والشهيد باهنر كانا بحق من الذين يعدون بالنسبة لنا مشاعل تشع بهذه المفاهيم السامية القيمة. فالشيء الذي كان يحضّهم فعلاً على التحرك والعمل - وكنا نرى ذلك عن كثب - هو حب العدالة وقيم الثورة. من المناسب أن تحيوا أسبوع الحكومة إحتفاءً بذكراهما وتعدّوا أنفسكم ممن ينتسب إليهما. ستبقى ذكراهما حية عزيزة إن شاء الله.هذه هي المرة الثالثة التي نلتقيكم فيها بمناسبة أسبوع الحكومة منذ أن توليتم المسؤولية. أي إن أسبوع الحكومة مر ثلاث مرات عليكم. لاحظوا انقضاء العمر سريعاً كم هو مفزع وخطير! كأنه الأمس حينما حضرتم في أسبوع الحكومة لأول مرة وجلستم هنا وكانت حكومتكم جديدة العهد بالمسؤولية. وقد قلت لكم حينها أيضاً أن فرص الخدمة تمر مر السحاب. أنظروا كم هي سريعة المرور فرص الخدمة! هذه عبر ودروس بالنسبة لنا. ينبغي عدم الغفلة عن أية لحظة ويجب عدم تفويت أية فرصة. غالبيتكم والحمد لله شباب تتمتعون بالحيوية والطاقات الشبابية. استثمروا هذه الفرصة إلى أقصى حد. وظّفوا طاقات الشباب، وصبر الشباب، وروح الابتكار والجرأة والطموح لدى الشباب، وظّفوها لخدمة هذه الأهداف السامية، ولا تكلّوا من العمل.أنتم تعملون في هذا الموقع منذ سنتين تقريباً. ما فهمته من أداء الدولة خلال هاتين السنتين سأعرضه الآن واعتقد أن المراقبين المنصفين - وهم الغالبية الساحقة من الشعب الإيراني - يحملون أيضاً مثل هذه التصورات والآراء عنكم:أولاً: قضية الالتزام بالمبادئ والقيم وهي سمة مهمة للغاية. لقد أثبتت الحكومة في قولها وشعاراتها - وهي مهمة جداً - وفي أدائها العملي أيضاً أنها ملتزمة بمبادئ الثورة وقيمها. لاحظوا أننا حينما ننظر لكافة الثورات الكبرى في العالم - التطورات السياسية الكبرى التي شهدها العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين للميلاد والثورة الفرنسية من قبل ذلك - نرى أن تلك الثورات تنكرت لمبادئها وأصولها خلال مدة قصيرة، والواقع أنها خانت هذه المبادئ ولم تف لها! هذا ما يقوله لنا التاريخ من دون أي تحليلات أو تعليقات. أحياناً كانوا يلهجون بتلك المبادئ ويدعون العمل بها، لكن الجميع يدري أن تلك المبادئ قد تغيرت. هذا ما حدث في فرنسا وفي الثورة السوفيتية أيضاً خلال مدة وجيزة، فتغيرت الأسس والمرتكزات قولاً وفعلاً في غضون فترة قصيرة. وفي الثورات الصغيرة التي حدثت في أنحاء العالم خلال هذه الفترة، تغيرت المبادئ بلا استثناء، أي إننا لا نجد لهذه القاعدة حتى استثناءً واحداً في حدود معلوماتي.وهذه بالنسبة لثورتنا ظاهرة معجزة لا نظير لها أن نرفع اليوم ذات الشعارات ونعمل بنفس المبادئ والأسس التي أعلنت في فجر الثورة، بمعنى أنه لم يحدث أي تجاوز للمبادئ في تخطيطاتنا وفي إرادتنا. هذه مسألة مهمة جداً. قد تتغير الأساليب لكن الركائز والمبادئ تبقى ثابتة. وقد بقيت تلك المبادئ السياسية ثابتة. وهذا هو سبب كل ألوان العداء والخصام الذي تواجهه ثورتنا. ربما علا الغبار هذه المبادئ بمرور الزمن وفي فترات معينة، بيد أن الإنسان يلاحظ أنها اليوم أنصع وأوضح وأكثر حيوية من أي وقت مضى. إنها مبادئ تطرح على ألسنتكم وفي شعاراتكم وخططكم التي تعلنونها، ولأنكم مسؤولون فإن ما تقولونه لا يبقى مجرد كلام إنما يترك آثاره العميقة في المجتمع. هذه هي طبيعة المسؤولية. ونقول بين قوسين إن هذا بحد ذاته سبب يجعل مسؤولية ما تقولونه عالية جداً، فما نقوله لا يزول تأثيره بسرعة كما لو كنا نرسم خطاً على الماء، لا، حين تتحدثون يترك كلامكم تأثيرات راسخة في الواقع والأذهان. إذن، شعاراتكم كرست في المجتمع مناخ النـزعة المبدأية والقيم الثورية والوفاء لمرتكزات الإمام والثورة. هذا شيء له قيمته الكبيرة جداً. هذه هي أولى وأهم سمات حكومتكم.ثانياً: في إطار هذه العدالة التي نتحدث عنها، ربما لم تستطيعوا - وقد لا تستطيعون حتى نهاية المطاف - إنجاز كل ماكان ينبغي إنجازه مما تستدعيه العدالة. إلا أن تركيزكم على العدالة هو بحد ذاته شيء له قيمة كبيرة جداً، وعليكم السعي في هذا السبيل بأقصى الجهود:السير في البيداء خيرٌ من الجلوس دون طائل، لأني سأكون قد بذلت جهدي بمقدار طاقتي حتى لو لم أنل غايتي.هذا أفضل من أن لا يتحدث الإنسان إطلاقاً عن العدالة، وينسى العدالة ويضيعها في زحمة مفاهيم أخرى ويقصيها عن الأذهان والعيون. هذه ممارسات غير جائزة. حينما تظهر العدالة إلى السطح وتغدو معياراً رئيسياً فإنها ستدرج وستأخذ بنظر الاعتبار في الخطط والبرامج تلقائياً.والالتزام بالعدالة هي السمة التالية.الالتزام بتقديم الخدمة هو أيضاً من سمات هذه الحكومة، ويجدر بكل ثناء وتقدير.العمل الدؤوب لهذه الحكومة أيضاً من الأمور المميزة حقاً. حتى بعض المعارضين لا يستطيعون إنكار ذلك. وبعض الأحكام غير المنصفة مهما ازدادت فإنها لن تستطيع التغطية على حقيقة أن حكومتكم تعمل عملاً دؤوباً وتمتاز بمثابرة عالية في السعي والعمل والنشاط. هذه حقيقة تدعو إلى السرور جداً.الصفة الأخرى شجاعة هذه الحكومة وحسمها. العمل الكبير الذي انجزتموه لتقنين الوقود خطوة أولى على طريق توجيه الدعم الحكومي وإيصاله إلى مظانه المناسبة، وألاحظ طبعاً أن البعض من المنتسبين للحكومة نفسها قد لا يتفطنون أحياناً لأهمية هذا الإنجاز. إنه عمل كبير جداً تم إنجازه، وسأوضح إذا لم يغب عن بالي إن شاء الله أن هذا العمل يجب أن يستمر إلى محطته الأخيرة وينبغي أن لا يتوقف أو يتلكأ أبداً. هذا الإنجاز وغيره من الخطوات المتخذة تدل على شجاعة هذه الحكومة وحسمها.من السمات الأخرى التي سجلتها لأذكرها هنا ظاهرة النـزعة للتغيير والتجديد والإصلاح. كما ذكر السيد رئيس الجمهورية في تقريره الآن فإن التغييرات التي تدخل على الهيكلية العامة لأجهزة الحكومة تعد عملاً أساسياً بالاتجاه الإيجابي. وهذا هو الإصلاح الحقيقي أن ينظر الإنسان من زاوية إصلاحية للقطاعات المختلفة فيغيّر البنى تغييراً جذرياً.سمة أخرى حرية بالذكر هي أن هذه الحكومة لا تتخذ مواقف منفعلة حيال أطماع الاستكبار. هذه برأيي قضية مهمة جداً أن يعرف الإنسان موقعه في تعامله مع العالم، ويعرف كذلك ما يريده، ويعرف مدى قوته وقدراته، ويعلم ما الذي ينبغي عليه أن يفعله. ليس العالم اليوم ساحة سائغة هادئة لا تنافس فيها حتى يقول الإنسان: حسناً، نحن أيضاً لنا مصالحنا، ويمكن أن نسير صوبها على مهل! لا، ليس العالم على هذه الشاكلة. ولم يكن هكذا في أي وقتٍ من الأوقات، لكن وضعه تفاقم اليوم بسبب الإتصالات المكثفة القريبة بين البشر. العالم ساحة للتعارضات والاختلافات وتطاول الأقوياء على الضعفاء. والواقع أن قانون الغابة هو الذي يسود المناخ السياسي في العالم. الممارسات التي تصدر اليوم عن الدول المستكبرة وعلى رأسها أمريكا لا ترتكز إلى منطق عقلاني وسياسي ودولي مقبول، بل تستند إلى منطق القوة. يقولون: لأننا نقدر إذن نفعل. منطقهم منطق القوة. إذا استسلم الإنسان في مثل هذا العالم وأبدى عن نفسه بعض الضعف والخور ولم يثبت على مواقفه، ولم يستخدم قدراته في مواطن المواجهة والتحدي، فسوف يخسر دون شك. لا أحد يرحم أحداً في مثل هذا العالم! الثبات إزاء أطماع الاستكبار، والشعور بالعزة في هذا الميدان هو باعتقادي من سمات هذه الحكومة. هذه سمات متوفرة في حكومتنا والحمد لله.أعتقد أن زيارات المحافظات هذه حالة مهمة جداً من أجل خدمة المحرومين وتحقيق العدالة. هذه المهمة التي تحملتموها على عواتقكم وذهبتم وزرتم كل أنحاء البلاد واتصلتم بالناس واستمعتم لهمومهم عن قرب - الهموم التي تطرح على لسان مسؤوليهم وأئمة الجمعة في مدنهم وشخصياتهم المعروفة - أعتقد أنها حالة إيجابية جداً. كنت أعمل سنوات في المهام التنفيذية وغير التنفيذية في هذا البلد، لكني حين أسافر إلى منطقة معينة ثم أعود، تزداد معلوماتي عنها أضعاف ما يمكن أن أحصل عليه من معلومات عن طريق قراءة التقارير والأساليب الأخرى. السفر إلى المناطق المختلفة ومواجهة الواقع الحياتي للناس أمر على جانب كبير من الأهمية. كيف يمكن لإنسان إنكار ذلك أو التشكيك فيه وفي فوائده؟! هذا عمل مهم جداً. وأنتم تقومون به. هو عمل صعب بالطبع وقد تقبلتم صعوبته.لقد أحرزتم هذه النجاحات والحمد لله، فما هو واجبكم الآن حيال هذه النجاحات؟ واجبكم هو الشكر، إعلان الشكر لله تعالى. حذارِ أن يتصور أحد منكم - سواء السيد رئيس الجمهورية أو غيره من السادة - أنكم أنتم الذين فعلتم هذا. لا، الله تعالى هو الذي وفقكم لهذا. كل ما فعلتموه فعلتموه بالتوفيق الإلهي، وبالقوة التي منحكم الله إياها، وبالشوق الذي زرعه الله في قلوبكم، وبالفرصة التي وهبكم الله إياها لتقديم الخدمة للناس. حذار أن يصيبنا الغرور فهو من أخطر المزالق. أن يقول الإنسان أنا الذي فعلت هذه الأفعال وأنا الذي خطرت ببالي هذه الأفكار. حينما ينظر الإنسان لأدائه وتجاربه وزلاته على مر الزمان، ويلاحظ أخطاءه وتصوراته السطحية الساذجة، عندئذ يفهم من الذي قام بهذا الإنجاز أو ذاك الإنجاز إذا كانت ثمة إنجازات. وإلا لو تركنا لأنفسنا لما كان منا سوى هذه الزلات والإخفاقات! الإنسان طبعاً لا يتنبه إلى زلاته وأخطائه سريعاً، إنما يتنبه لذلك بمرور الوقت. حينما أنظر اليوم إلى أدائي قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أرى فيه إشكالات لم أكن متفطناً إليها في حينها على الإطلاق. اليوم أستطيع أن أراها وأفهمها. يدرك الإنسان أخطاءه تدريجياً ولا يدركها بسرعة. الأخطاء تعطينا الدروس وتقول لنا: حتى لو حققنا بعض النجاحات وصدرت عنا أعمال إيجابية صحيحة فإن ذلك لم يكن إلا بالتوفيق والعون الإلهي. إذن، حذار أن تقعوا في هوّة الغرور لأن الخروج منها صعب جداً ولابد له من العون الإلهي. ولا تقنعوا بما حققتموه. هناك طبعاً توصيات سوف أذكرها:توصيتي الأولى تتعلق بـ »ميثاق الأفق«. وردت في تقرير السيد رئيس الجمهورية جملة قصيرة ذكر فيها »ميثاق الأفق«، لكن هذا لا يكفي. ميثاق الأفق قضية أوسع من الحكومة ولا ترتبط بهذه الحكومة أو تلك، وهذه السياسة أو تلك، وهذا التيار أو ذاك. إنه حصيلة عمل مكثف ومتظافر. بذلت جهود تخصصية لأجله وكانت في محلها. هذا الميثاق في الحقيقة خطتنا العامة لعشرين عاماً، وهو وثيقة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ما ورد في هذا الميثاق لم يكن على سبيل المجاملة. يجب أن تأخذوا ميثاق الأفق بعين الاعتبار في كل تخطيطاتكم، سواء في عملية التقنين التي يتولاها المسؤولون التشريعيون، أو في العملية التنفيذية والقرارات التنفيذية التي تتولون أنتم مسؤوليتها. دققوا ولاحظوا ما هي المواطن التي لا تنسجم مع ميثاق الأفق، صحّحوها ولا تدعوا المسار ينحرف عن الميثاق. هذه ليست مسؤولية رئيس الجمهورية فقط - مع أنه يتحمل المسؤولية الأكبر في هذا المجال - إنما هي مسؤولية كل واحد من السادة القائمين على رأس الأجهزة التنفيذية. عليكم اتخاذ ميثاق الأفق كميثاق حقيقي وجعله أساساً لنشاطكم ومهماتكم. هذه توصية أكيدة مني لكم.توصيتي الثانية تتعلق بتعزيز الخبرة والكفاءة في العمل. أنا لا أنظر بعين الجد للكلام الذي يقوله معارضوكم ومنتقدوكم المنصفين وغير المنصفين فيما يخص عدم وجود خلفية تخصصية لأعمال الحكومة، ولا أتخذها معياراً لإصدار الأحكام، لأني أرى مرتكزات تخصصية جيدة جداً في بعض المواطن. لكني أريد التأكيد مع ذلك على أن تأخذوا الخلفية التخصصية للأعمال مأخذ الجد بشكل حقيقي، خصوصاً في المشاريع التأسيسية كمشاريع التخطيط والميزانية، أو قضية المجالس البلدية وما شاكل. هذه مشاريع تأسيسية ثابتة يجب أن تبقى لفترات طويلة. وإذا ارتكزت إلى أرضية تخصصية عميقة ودقيقة وشاملة فسوف يكتب لها البقاء، وإلا إذا كان الجانب التخصصي والخبروي ضعيفاً في جزء من أجزاء العمل ستذهب جهودكم وأتعابكم أدراج الرياح. أولاً قد تتنبهون بأنفسكم في المستقبل إلى الأخطاء التي تحصل، وبعض الأخطاء لا يمكن تلافيها. ثم إن الذين يأتون من بعدكم لن ينظروا إليها بعين الجد. أنتم لا تقومون بهذه الأعمال لدورتكم هذه فقط، بل تريدون لها أن تبقى في البنية العامة لأجهزة البلاد. أما إذا كانت أعمالكم مرتكزة إلى أساس رصين من الخبرة والتخصص فسوف يُنظر إليها بجد من بعدكم. الخطأ في الحسابات مهما كان صغيراً سيفضي إلى مخاطر كبرى إذا كان الأمر يتعلق بالأسس والمرتكزات. أساس البناية يختلف عن جدار يُرفع بين غرفتين. في الأساس يجب أن تكون الحسابات دقيقة وتخصصية للغاية حتى يبقى البناء ولا يواجه مشكلة في المستقبل.في إطار قضية الخبرة والتخصص، تطرح مسألة التواصل مع النخبة التي ذكرتها لكم مراراً وتحدثت بشأنها كراراً مع السيد رئيس الجمهورية. يجب أن تستفيدوا من النخبة وتستعينوا بهم. النخبة في البلد كثار ولا ينحصرون في هذه المجموعة أو المجاميع المرتبطة بهذه المجموعة. الواقع أن الشخصيات النخبوية في بلادنا ليست قليلة. يتواجدون في الجامعات، وفي مراكز العمل والبحث. أحياناً حين يلتقي الإنسان هؤلاء النخبة يرى أنهم جميعاً مستعدون ومتشوقون للعمل وتقديم المساعدة. إبحثوا عنهم واطلبوهم، وهذا ما يجب أن يظهر إلى السطح عملياً حتى يحضر النخبة ويشاركوا ويقدموا الاقتراحات. هذه مسألة مهمة.توصيتي الأخرى هي التواصل مع باقي السلطات. من حسن الحظ أن علاقات السلطة التنفيذية اليوم جيدة مع السلطة التشريعية والسلطة القضائية. ولكن ينبغي تعزيز هذا التواصل على مستوى الأجهزة الفرعية أيضاً، أي ينبغي السعي لتحقيق تواصل منطقي وسليم. أنا لا أعتقد أبداً أن يغض المجلس الطرف عن واجباته حيال الحكومة. لا، يجب على المجلس في إطار واجباته حيال الحكومة أن يتصرف بشدة ولكن من منطلق النصح والنية الحسنة. والحكومة بدورها يجب أن لا تعدل عن صلاحياتها مطلقاً، بل يجب أن تستثمر صلاحياتها التي منحها لها القانون والدستور إلى أقصى الحدود في تعاملها مع السلطات الأخرى. إلا أن روح التواصل والوفاق والانسجام يجب أن تسود بين السلطات الثلاث.النقطة الأخرى التي أريد أن أوصي بها هي قضية الإعلام والتوعية التي أشرتُ إليها قبل مدة في اللقاء بمدراء الحكومة. عززوا العملية الإعلامية تعزيزاً حقيقياً، وموّنوا وسائل الإعلام المناسبة. وعلى وسيلة الإعلام الوطنية (الإذاعة والتلفزيون) أن تمارس دوراً فاعلاً فيما يتصل بإنجازات الحكومة. عملية الإعلام عملية دقيقة طبعاً. ليست مجرد أن يجلس شخص أمام الكاميرا ويقول للناس إننا فعلنا كذا وكذا فيصدقه الناس. الإعلام ليس هكذا أبداً. الإعلام عمل فني. موّنوا الإذاعة والتلفزيون بعصارته الرئيسية، ولتعمل الإذاعة والتلفزيون على بثها. مارسوا الإعلام بطريقة فنية حتى يقتنع الناس من أعماقهم. الآن أيضاً لا يعلم الناس بالكثير من أعمالكم، أي إنهم لا يُخبرون بأعمالكم الكبرى ومشاريعكم الوطنية، ناهيك عن الأعمال القطاعية والمحافظاتية، فما بالك إذن بالأعمال الخاصة بالبنى التحتية! هذه الأعمال التأسيسية وهي من خدماتكم المهمة التي تفخرون بها بحق، لا يعلم بها الناس ولا يتنبهون إليها أصلاً. لذا يجب عرضها على الناس وتوعيتهم بها. إنها عملية تبث الأمل في النفوس وتنور العقول وتستدعي مساعدة الناس ودعمهم لكم، وتسلح الرأي العام بالوعي اللازم حيال النقود الموجهة لكم.وأقول لكم طبعاً: يجب أن لا تغيضكم النقود إطلاقاً. بعض الذين يوجهون النقود للحكومة هدفهم أن يغضبوكم ويتعبوكم ويخرجوكم عن الطريق السليم. بل إن النقد يُمارس لهذا الهدف أساساً. وهناك أيضاً التركيز الباطل على العيوب. تلاحظون أنهم أحياناً يجعلون خبراً من الأخبار عنواناً كبيراً ويتضح بعد يوم أو يومين أنه كان كذباً ولا أساس له من الصحة! هذه ممارسات يبادر إليها البعض، ويجب أن لا يعتريكم حيالها الغضب والانفعال أبداً. رحبوا بهذا النقد حتى لو كان مغرضاً لأن النقود المغرضة والعدوانية أيضاً قد تنطوي أحياناً على بعض الحقائق لا يذكرها الناقد بدافع النصح، لكنها أمور واقعية. فما بالك بالذي ينقدكم بنية حسنة ولغرض التسديد الحقيقي. لا تنـزعجوا أبداً ورحبوا بالنقد.النقطة الأخرى التي أروم التوصية بها هي أن تنهوا الظلم الذي يعاني منه القطاع الثقافي. القطاع الثقافي مظلوم فعلاً. في تقرير السيد رئيس الجمهورية هذا لم يرد اسم الثقافة إطلاقاً، أو ربما أقصيت الثقافة قبال أولويات أخرى بسبب ضيق الوقت! هذا ضرب من المظلومية على كل حال. لا تستهينوا بالمسألة الثقافية أبداً. الكثير من مشكلات مجتمعنا تُعالج بالعمل الثقافي وبصناعة الثقافة. لاحظوا أن جل القوى المعادية لنا تعمل اليوم في الجبهة الثقافية. هذه الحروب النفسية، وهذه الأنشطة الثقافية، وهذه الميزانيات الخفية والعلنية التي يخصصونها لحرف الأذهان تتصل كلها بالمسألة الثقافية. الثقافة كالهواء الذي إذا استنشقه الإنسان سيستطيع بفضله أن يقطع بعض الخطوات إلى الأمام. الأعمال الأخرى نابعة كلها من الشيء الذي تستنشقونه. إذا بث هواءٌ مسموم في مكان معين فستظهر نتائج ذلك على أعضاء الجسم طبعاً. إذا لوثوا الهواء بدخان أو مادة مخدرة واستنشقتم ذلك الهواء فسوف يتناسب سلوككم مع ذلك الشيء الذي استنشقتموه. هذا هو حال الثقافة. لا تستهينوا بالثقافة فهي مهمة جداً. خصصوا لها الوقت اللازم والأموال اللازمة في الميزانية كي تمنحوا الثقافة اتجاهاً قيمياً. من جملة المهام التي ينبغي أن يركز عليها المسؤولون الثقافيون في الحكومة بكل دقة ولا يضيعوا حتى دقيقة واحدة بخصوصها هي أن يمنحوا لثقافة المجتمع العامة وللأدوات والوسائل الثقافية الدارجة اتجاهاً قيمياً. لقد بذلت جهود كبيرة لأجل توجيه التيارات والعوامل الثقافية - الفن والأدب والشعر والسينما وغير ذلك - باتجاه غير قيمي. واجبكم هو السعي الدؤوب لإضفاء طابع قيمي على العملية الثقافية في البلاد.وبهذه المناسبة وبالاتجاه نفسه أريد أن أتطرق لقضية العلوم والبحث العلمي. يجب الاهتمام كثيراً بقضية النهضة العلمية في البلاد، والنظر إليها بجد. أقول لكم: ما من بلد - وبلدنا أيضاً - يستطيع بلوغ طموحاته الوطنية الكبرى إلا حينما يستطيع تحقيق فوز ومرتبة معينة في السباق العلمي. التخلف العلمي لابد وأن يستتبع تخلفاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً. المتوحشون الذين يسيطرون اليوم على العالم ولا يعرفون أي معنى للإنسانية والمعنوية، إنما يسيطرون عليه بفضل العلم وبفضل تمكّنهم من العلم. ذكرت كراراً أنهم أشبه بشخص شقي مجرم يستخدم السكاكين والسيوف لتهديد الآخرين وقتلهم. وبما أنه عاقل لذا يذهب ويتقن علماً من دون أن يترك طبعه الوحشي ونـزعته العدوانية الشقية! هذا هو حالهم. يلاحظ الإنسان أنهم أشقياء العالم فعلاً. هؤلاء المستكبرون هم سيّافو العالم وشقاته، لكنهم يتسلحون بالعلم. أنتم أناس جد نجباء، وجد أخيار، وجد متدينين، وجد شرفاء، وجد أصلاء، وهو عديم الأصل والنسب، وبلا جذور ولا عائلة، لكنه متسلح وأنتم غير متسلحين، أنتم أمّيون وهو متعلم، لذلك سوف يهيمن عليكم دون أدنى شك.يجب أن تتحلوا بالعلم. تقدموا ببلدكم وشعبكم إلى الأمام في قافلة العلم. نحن نعاني من التخلف في هذا الميدان. لعنة الله على أولئك الذين لم يفهموا في زمانهم أولوية العلم والبحث العلمي في البلد وأبقوه متخلفاً. ولم تُلاحَظ تلك الهممُ العاليةُ التي تستطيع تلافي التخلف في البلاد. وها قد قامت الثورة الآن فقلبت صفحة جديدة تماماً وغيرت المسار تغييراً جذرياً. بوسعنا تلافي هذا التخلف وتعويضه. طبعاً لو أردنا السير على نفس الخط الذي سار عليه الآخرون فسنبقى متخلفين عنهم إلى أبد الدهر. هناك طرق اختزالية. في الخلقة الإلهية طرق متداخلة عجيبة وغريبة ينبغي اكتشافها. جميع هذا التقدم العلمي إنما هو اكتشاف للطرق الاختزالية القصيرة. ثمة كمٌ هائل من الطرق الاختزالية إذا اكتشفتموها وسرتم فيها تستطيعون أن تجدوا أنفسكم فجأة في مقدمة السباق. طبعاً لا يتاح اكتشاف الطرق الاختزالية من دون التوفر على المقدمات العلمية. ينبغي اجتياز المقدمات العلمية وبث الروح العلمية بين الناس. ويجب التعامل مع قضية البحث العلمي بمنتهى الجد. إذن، قضية النهضة العلمية والقفزة المنشودة في العلوم قضية على جانب كبير من الأهمية.ميزانية البحث العلمي هي أيضاً من نقاط ضعفنا الحقيقية. أحياناً حين ألتقي بالجامعيين والأساتذة والمسؤولين في القطاعات العلمية في البلاد، يثيرون مسألة الميزانية المخصصة للبحث العلمي. منذ ثلاث أو أربع سنوات يقولون لنا من المقرر رفع ميزانية البحث العلمي إلى ثلاثة بالمائة من ميزانية البلاد، ونحن نعمل الآن بستة أعشار أو سبعة أعشار الواحد بالمائة! الحق أن هذا الرقم قليل جداً. هناك وعود فقط بتحسين الوضع ولكن لا يلاحظ أي أثر للتحسن. زيدوا ميزانية البحث العلمي زيادة حقيقية. إضغطوا على قطاعات أخرى ولكن حسّنوا الحال في هذا القطّاع. معاونية العلوم والبحث العلمي التي تشكلت أخيراً في رئاسة الجمهورية والحمد لله تعد من المشاريع المهمة جداً - هذا أحد المشاريع التأسيسية - ويجب أن يفسح لهم المجال وتمد لهم يد العون ويطالبوا بتحقيق إنجازات معينة. بوسعهم التقدم بهذه المهمات إلى الأمام.كانت هذه إحدى القضايا والقضية الأخرى هي سياسات المادة 44 والتي سأذكرها على سبيل الحالة الخاصة. سياسات المادة 44 مهمة جداً. اللائحة التي قدمت للمجلس اكتنفت بعض النواقص وقد عولجت بعض نواقصها في المجلس. أريد أن أوصي بأن يجري العمل بطريقة تتطابق فيها هذه اللائحة مع الأهداف المذكورة في تلك السياسات. أي يجب فعلاً التحرك في المسار الصائب وتغيير المسار الخاطئ الذي رُسم للاقتصاد خلال سنوات معينة من بداية الثورة واستمر الحال على ذلك المنوال دون وجه حق! وهذا لا يتعارض إطلاقاً مع طلب العدالة والأمور التي ذكرناها في سياسات المادة 44. يجب أن تلاحظوا قضية العدالة بكل تأكيد، ولكن ينبغي لاقتصاد البلاد أن يزدهر، ويجب أن تنـزل الطاقات الشعبية إلى ساحة الاقتصاد وتعمل. وهذا ما لا يتحقق عملياً بمجرد الكلام، بل لابد من العمل والسعي لتحويل الأمر إلى واقع ملموس.هنا تثار قضية الاستثمار. ذات مرة - قبل عدة سنوات - عقد هنا اجتماع تفصيلي لمسؤولي القطاعات الاقتصادية المختلفة. قال أحد السادة شيئاً جيداً، قال: نحن نطلب من الأجانب ان يأتوا هنا ويستثمروا، والأجانب سينظرون طبعاً إلى المستثمرين الداخليين هل يستثمرون داخل البلاد أم لا؟! هذه هي واجهتنا الخارجية. إذا شاهدوا الذين لهم القدرة على الاستثمار في الداخل يستثمرون في الداخل ببال مطمئن، عندها سيتشجعون ويستثمرون هم أيضاً. أما حين يرون أنهم لا يستثمرون فمن الصعب جداً إقناع المستثمر الأجنبي بالاستثمار هنا لننتفع نحن من استثماره! هذه الأمور لوحظت جميعاً في سياسات المادة 44.وقضية أخرى ترتبط أيضاً بحالة خاصة أود الإشارة إليها هي قضية الغلاء. هذا ما يجب أن تعالجوه حقاً. هناك غلاء حقيقي خصوصاً في السكن وبعض البضائع، وهذا الغلاء يضغط على الناس. معالجة مشكلة الغلاء هي بالطبع عملية جذرية. من البديهي أن احتواء التضخم عملية علمية وجذرية وأساسية لها مقدماتها وأصولها، وسيبقى الغلاء طالما لم تتحقق تلك المقدمات والأصول. ولكن ينبغي أيضاً القيام بخطوات حاسمة. لا يمكن القعود إلى أن تؤتي تلك الأعمال التأسيسية ثمارها يوماً ما. لا، يجب التفكير والعمل بصورة حقيقية. لا أريد أن أقترح شيئاً بخصوص ما يجب أن تفعلوه. ولابد من القول طبعاً إن هناك عوامل حقيقية وعوامل كاذبة ونفسية تتدخل في ظاهرة الغلاء. أحياناً قد تؤدي كلمة واحدة أو قرار واحد خاطئ وغير مدروس إلى إثارة أمواج الغلاء بصورة مفاجئة ورفع مستوى التضخم في القطاعات المختلفة واختلاق توقعات جديدة. نتمنى أن يستطيع السادة إن شاء الله متابعة هذا الموضوع أيضاً.توكلوا على الله واطلبوا منه التوفيق، وعززوا صلتكم بالله تعالى وبالروح المعنوية دائماً. حذار أن تشغلكم الأعمال عن الذكر والإعداد الروحي والمعنوي! فمن الأخطار التي تحدق بنا الغرق في العمل والحالة العملانية والغفلة عن أواصرنا القلبية. العون الإلهي هو دعامة نشاطنا وشوقنا واندفاعنا وتحركنا وتوفيقنا. ينبغي طلب العون الإلهي من الله تعالى بالمعنى الحقيقي للكلمة. يجب من ناحية شكر النعمة الإلهية - نعمة هذه المسؤولية وتوفيق خدمة الناس الذي مَنَّ به عليكم - ويجب من ناحية ثانية أن تسألوا الله تعالى ازدياد هذه النعمة ودوامها واستمرارها. وهذا ما يستلزم التوجه والانقطاع إلى الله، لذا أوصيكم باغتنام أيام شهر شعبان هذه. تقرأون في الدعاء بعد صلوات الظهر: »الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيامه، بخوعاً لك في إكرامه وإعظامه، إلى محل حمامه« أي إن الرسول كان يحيي أيام شهر شعبان ولياليه إلى حين وفاته. هكذا كانت جميع أشهر شعبان في حياة ذلك الإنسان الكبير. ثم نقرأ في نفس الدعاء: »اللهم فأعنا على الاستنان بسنّته فيه ونيل الشفاعه لديه«. إعملوا في هذا الشهر بسنة الرسول (ص) من توجه ودعاء وذكر واستعداد للدخول في شهر رمضان المبارك.أرجو أن يمن الله تعالى عليكم بالتوفيق، ويزيد من أجر إمامنا الكبير من هذه الخدمات والجهود التي تبذلونها وهي مأجورة عند الله تعالى، وأن يرضى عنكم وعنّا أرواحَ شهدائنا الأبرار.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

100 يوم من الطوفان