بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبيّنا أبـي القاسم المصطفى محمد و آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين سيّما بقية الله فـي الأرضين . قال الله الحكيم فـي كتابه : ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم ﴾ .
هذه جلسة جد مهمة و نادرة النظير . مسؤولو الطراز الأول فـي الجمهورية الإسلامية ، من نوابٍ و أعضاء فـي الحكومة و مدراء كبار مجتمعون كلهم هنا تقريباً . أساس الجلسة أيضاً قائم على الصميمية والتعاطف و استئناس مسؤولـي البلاد ببعضهم . ذكر حضرة السيد خاتمي اليوم نقاطاً جيدة جداً و سنذكر أيضاً بعض النقاط . المهم هو ننتفع إلى أقصى الحدود من أجواء شهر رمضان و تواشج القلوب مع بعضها ببركة الروح المعنوية التـي تسود هذا الشهر ، و نتزود بالقوة منه لمواصلة المسير إلى الأمام بعزم و إرادة و وعي .
من أجل أن نغترف من مناخ شهر رمضان ، أذكر الحديث التالـي و أتكلم عنه قليلاً . حديث صحيح معتبر عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول : «الصوم جُنّة من النار» ، الصوم درع يقي من النار. روى هذا المضمون نفسه عن طريق أهل السنة أيضاً بألفاظ مختلفة ، منها : « الصيام جُنّة العبد المؤمن يوم القيامة كما يقي أحدكم سلاحه فـي الدنيا » ، كما تدافعون عن أنفسكم فـي الدنيا بأسلحتكم و أدواتكم الدفاعية ، تدافعون عن أنفسكم فـي الآخرة أيضاً حيال نار جهنم بالصوم .
ما هي ميزة الصيام حتى يُعبّر عنه بأنه « جُنّة من النار » ؟ ميزة الصيام هي كفُّ النفس . الصيام مظهر كفِّ النفس ، « و نهى النفس عن الهوى » ، الصيام تبلور للصبر إزاء الذنب و غلبة الشهوات . لذلك ذكروا فـي تفسير الآية الكريمة ﴿ و استعينوا بالصبر و الصلاة ﴾ أن الصبر هو الصيام . الصيام رمز التجاوز عن الرغبات ، ومع إن فترة الصيام محدودة ـ عدة ساعات فـي اليوم ، و لأيام معدودة فـي السنة ـ إلاّ أنها ممارسة أساسية بالنسبة للإنسان على النحو الرمزي . لماذا ؟ لأن أهواء النفس و الرغبات و الشهوات و المطاليب النفسية هي الطريق الذي يفضي بالإنسان إلى الخطيئة . لا أنَّ مشتهيات النفس ملازمة للخطيئة و لا تنفصل عنها ، لا ، بعض المشتهيات النفسية حلال ، أما أن يرفع الإنسان لجام النفس و يتركها سائبة بلا لجام و لا زمام و يبقى أسيراً لشهواتها فهذا ما قال عنه أميرالمؤمنين (عليه الصلاة و السلام) فـي نهج البلاغة : « حمل عليها أهلها » ، وضعوه على فرس جموح و ليس الزمام فـي يده ، فيأخذه الفرس الجموح ليلقي به فـي هوة سحيقة . هوى النفس يجر الإنسان إلى المعاصي .
المعاصي هي الشكل المُلكي للعذاب الإلهي ، فالشكل الدنيوي للعذاب الإلهي هو هذه الذنوب . و هذا هو معنى الآية الكريمة : ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون فـي بطونهم ناراً ﴾. أي أنكم حينما تنظرون لشخص أكل مال يتيم سيكون ظاهر القضية انه استحوذ على مال و استولى على شىء حرام ، لكن باطن القضية هو أنه يُشعل النيران فـي داخله ، و هذه هي نار جهنم . الذي يجرِّب لذةً حراماً هنا ، ستكون هذه اللذة ظاهر القضية ، أما باطنها فيتجلّى فـي تلك الحياة الحقيقية ، هناك حيث تتساقط أستار الأوهام عن أعين الإنسان و تبرز الحقائق أمامه ، ﴿ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ﴾ . يومئذ تنقلب هذه اللذة الحالية الدنيوية عذاباً و ألماً جهنمياً . ذلك هو اليوم الذي تفصح فيه الوقائع و الحقائق عن نفسها ـ ﴿ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ﴾ ـ و تتجلى حقائق و بطون و ملكات ما فعله الإنسان . أرواحنا أيضاً ، و ملكاتنا ، و حقائق وجودنا تفصح عن نفسها يومذاك . يقول مولوي :
يا من مزّقت جلد يوسف و أمثال يوسف ، إصح من نومك العميق أيها الذئب .
القبضة المفترسة التـي تمزّق أمثال يوسف هنا و تسحق المظلومين تحت الأقدام باطنها ذئب و ليس إنساناً . هناك يفصح هذا الباطن عن نفسه و يظهر . يجب أن لا ننسى القيامة . القيامة واقعة عظيمة . علينا أن نتذكر القيامة دوماً و نخشاها .
تقول الآية الكريمة عن القيامة : ﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها و الذين آمنوا مشفقون منها و يعلمون أنها الحق ﴾ . كفار قريش كانوا يقولون للرسول أين هي القيامة و الجحيم الذان تخوّفنا منهما ؟ يقول القرآن : ﴿ و الذين آمنوا مشفقون منها ﴾ الذين آمنوا يخافون من يوم القيامة . هذه هي القيامة حقاً . يجب الإشفاق منها و عدم نسيانها . هذا ما يضمن لنا الحفظ و الصون . القيامة هي اليوم الذي نُعرض فيه على الله : ﴿ و عرضوا على ربك صفاً ﴾ ، يظهر الإنسان أمام الله تعالى بحقيقته ، و بباطن قلبه ، و بالملكات الراسخة فـي نفسه . هنا أيضاً يرى الله تعالى باطننا ، أما هناك فسترتفع كل الحجب ، و سنرى و نفهم نحن أيضاً ، و سندين أنفسنا . يوم الجزاء هو يوم الإجابة ، الإجابة بالمعنى الحقيقي للكلمة . إجابة من دون أي مجال لللف و الدوران ، لا يستطيع الإنسان نحت أعذار كاذبة فارغة . الإنسان واقف أمام الله تعالى ، و الله ممسك بتلابيبه . القيامة يوم حساب لا تسامح فيه . سنحاسب كلنا . القيامة يومٌ يخرس فيه لسان الإنسان . طلاوة اللسان التـي يمكن أن يجترحها هنا لن تتهيأ له هناك : ﴿ هذا يوم لا ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ ، يختم على اللسان و يتكلم باطن الإنسان و ملكاته و أعضاؤه و جوارحه .
إنْ كنا نُخفي فـي قلوبنا حقداً ، و حسداً ، و نظرة سلبية ، و نية سيئة ، و أمراضاً قلبية ، و ضغينة للصالحين ، و شوقاً و حباً للذنوب ، فسيتجلى كل هذا هناك . القيامة حدث عجيب : ﴿ اليوم نختم على أفواههم و تكلّمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾ .
الآيات الخاصة بالقيامة تهز الإنسان حقاً . أقترح أن يراجع كل واحد منا آيات القيامة لوحده ، لأننا بحاجة إليها . هذا ليس من الأمور التـي يمكن للإنسان تسجيلها و إعلان إحصاءات بشأنها . ثمة فـي القرآن مئات الآيات عن القيامة . هناك بشائر القيامة و هناك التحذيرات من القيامة . و كلاهما يهزّ الإنسان من الأعماق . بشائر القرآن مدوّية و جذابة و مشوِّقة ، و تهديداته أيضاً مدوية تذيب قلب الإنسان، ﴿ يبصّرونهم يودُّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته التـي تؤويه و من فـي الأرض جميعاً ثمَّ ينجيه ﴾ . يتمنى المجرم من شدة العذاب الإلهي أن يضحّي بابنه لينجو من العذاب ، يضحّي بأحبّته و كل البشر على وجه الأرض ليخلص من العذاب ، لكنه لا يستطيع . إنه العذاب الإلهي و ما هو بالهزل ، ﴿ كلاّ إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعو من أدبر و تولّى . و جمع فأوعى ﴾ .
يشرح الإمام السجاد (سلام الله عليه) فـي دعاء أبـي حمزة ـ و هو دعاء جد ممتع و جيد ـ الخوف من القيامة بقولة : « أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري » ، أبكي اليوم ليوم ٍ أخرج فيه من القبر عرياناً ذليلاً أحمل على عاتقي أعباء أعمالـي الثقيلة . « أنظر مرة عن يمينـي و أخرى عن شمالـي إذ الخلائق فـي شأن غير شأنـي لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة » ، البعض وجوههم ضاحكة راضية مسرورة مرفوعة الرأس . من هم هؤلاء ؟ إنهم الذين استطاعوا العبور فـي الدنيا على جسر الصراط الذي تظهر حقيقته و باطنه هناك و يكون مثاله هنا . جسر الصراط هذا هو جسر العبودية و التقوى و الورع ، ﴿ و أن اعبدونـي هذا صراط مستقيم ﴾ ، صراط هذه الدنيا هو نفسه الصراط فوق جهنم . ﴿ إنك لعلى صراط مستقيم ﴾ التـي يقولها الله للرسول ، أو ﴿ و أن اعبدونـي هذا صراط مستقيم ﴾ هو نفسه الصراط فوق جهنم . إذا استطعنا هنا عبور هذا الصراط بصورة صحيحة و بدقة و بدون زلاّت ، لكان عبور ذلك الصراط أسهل ما يمكن . كالمؤمنين الذين يمرون على الصراط كالبرق . ﴿ إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها ﴾ . لا يسمعون حتى همهمة جهنم ، ﴿ و هم فـي ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر ﴾ . الفزع الأكبر هو أصعب أنواع الخوف الذي يمكن أن يصيب الإنسان . المؤمنون بما لهم من أبعاد جسمانية و روحية و نفسية لا يحزنهم و لا يغمّهم الفزع العظيم الذي سيكون يومئذ ، ﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر ﴾ ، هؤلاء اجتازوا هذا الصراط .
أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء ، هذا الصراط حساس جداً بالنسبة لـي و لكم . نحن مسؤولون . نحن نختلف عن الناس العاديين فـي الأزقة و الأسواق . سواء كنا نواباً فـي المجلس ، أو أعضاءً فـي الحكومة ، أو مدراءً فـي القطاع العسكري الفلانـي ، أو فـي القطاع القضائي ، مجرد أن تكونوا أيها السادة و السيدات مسؤولين فـي القطاعات و المرافق المختلفة ، فهذا يزيد من صعوبة حالـي و حالكم . إذا تخطينا حدودنا و زللنا و كانت ثمة إشكالات فـي أعمالنا ، فلن تعود أضرار ذلك علينا فقط ، إنما تعود على جماعة كبيرة من الناس . إذا تقاعسنا و قصّرنا فـي أعمالنا سيلحق البلاد الضرر . أما إذا اتبعنا هوى النفس فـي قراراتنا لا سمح الله ، و جرينا وراء صداقاتنا و فئويّاتنا و إهمالنا للقيم الحقيقية ، فستتعرض البلاد لضربة خطيرة . مهمتنا صعبة . علينا التفكير بجهنم و عبور هذا الصراط العصيب أكثر من الآخرين . ليست هذه السنوات المعدودة من المسؤولية فترةً أبدية . إذا كنتم نواباً فـي المجلس ، أو أعضاء فـي الحكومة ، أو وزراء ، أو مدراء ، فستنقضي هذه السنوات الثلاث ، أو الأربع ، أو الخمس ، أو العشر . إذا صبرتم هذه السنوات المعدودات و لم تلهثوا وراء كسب المال و الإيرادات اللامشروعة ، و احتكار الفرص ، و استغلال إمكانات الدولة و التطاول على بيت المال ، و هذا ليس بالأمر الصعب جداً ، عندها ﴿ إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾ . ﴿ هذا يومكم الذي كنتم توعدون ﴾ . تأتي ملائكة الله للمتقين و المؤمنين و تقول لهم هذا هو يومكم ، اليوم الذي وعد و بشّر به الأنبياءُ المؤمنين على طول التاريخ ، فاستلذوا ﴿ إدخلوا الجنة ﴾ . علينا الحذر و الخوف من جهنم أكثر من الآخرين . نار جهنم تهدد أصحاب المسؤولية المضاعفة أكثر مما تهدد الناس العاديين الذين لا تتعدى مسؤوليتهم حدود دائرة صغيرة جداً . وضعنا أصعب .
النقطة الأخرى التـي أود أن أضيفها هنا هي قضية أولادنا . ارعوا أولادكم ، ﴿ قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة ﴾ . ليس من حقكم أن تتركوا أولادكم . لينصب سعيكم على حفظ إيمانهم . لا تفعلوا ما يضعضع إيمان شبابكم ، بنات و بنين ـ سواء كانوا طلاباً جامعيين ، أو كسبة ، أو مشغولين بأعمال أخرى ـ بمرتكزاتكم . أحياناً يجترح الإنسان بيديه و لسانه المنفلت الخارج عن السيطرة و بأعماله الخاطئة ما يبعد أولاده الشباب عن الدين و المبانـي الدينية و المعتقدات و الأصول ، و يجعلهم عديمي الإيمان . كان لدينا أمثال هؤلاء الأفراد . و هذا ممكن من الجهتين ، أحياناً يُنفِّرُ البعضُ أبناءهم بالتعامل الحاد المرير الشديد . و من جهة ثانية يتصرف فريق بعدم اكتراث ولا مبالاة باذلاً لأولاده إمكانات لا حدَّ لها ، و يغض الطرف عن إخطائهم مهما كانت ، فيطرد أولاده بيديه ، و النتيجة هي أن يفسد هؤلاء الأولاد و ينحرفوا . علينا التعامل مع الأبناء بالمنطق و التصرفات الصحيحة العطوفة . ﴿ قوا أنفسكم و أهليكم ﴾ . عليكم حفظ شبابكم و أزواجكم . هذا من واجباتكم . ولهذا طبعاً نتائج تشديدية ، بمعنى أن الشاب فـي العائلة إذا كانت لديه لا سمح الله نقطة ضعف ، و صار كالبقعة السوداء على الضرس ، و فسد ميناء الضرس فـي هذه النقطة ، فسوف يؤثر تدريجياً على أذهان مخاطبيه و والده و والدته ، و هكذا سيكون لوضعه آثار تشديدية ، و بالتالـي سَيفقُد تلك الحقيقة و الروح المعنوية .
لقد كانت هذه الآية الكريمة لافتة بالنسبة لـي دائماً : ﴿ الذين آمنوا و اتّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيتهم و ما التناهم من عملهم من شىء ﴾ . الذين قدروا أن يصونوا إيمان ذريتهم ـ حتى لو لم تكن أعمال الذرية مميزة جداً ـ سنلحق بهم ذريتهم إلى درجاتهم المعنوية الرفيعة . و فـي الروايات : « لتقرّ عيونهم » . إذا كنتم مؤمنين و استطعتم تربية أولادكم على الإيمان سيتلافى الله تعالى نواقص هؤلاء الأولاد فـي القيامة و الجنة و فـي المراحل العصيبة التـي تواجهكم ، و يلحقهم بكم حتى تقرّ أعينكم و قلوبكم . للمؤمن عند الله قيمة كبيرة .
كلامنا الأساسي هو هذا الذي قلناه . إذا أردنا أنا و أنتم أن نسلك طريقنا بصورة صائبة و أن ينتفع هذا البلد من وجودنا أنا و أنتم ، فالطريق إلى ذلك هو ما قلناه : علينا التفكير بقلوبنا ، و التفكير بقيامتنا ، و التفكير بغدنا و بالحساب الإلهي ، و أن لا نتساهل مع أنفسنا فـي هذا المجال .
أذكر أيضاً نقطتين أو ثلاثة حول قضايا البلاد الراهنة . ثمة أحداث كبيرة وصغيرة بشأن قضايا داخلية و خارجية ، و خلافات ، و معارضات ، و الطاقة الذرية و أمور أخرى تتفاعل حالياً . إذا تفطّنا أين نقف و ما هو واقعنا و حالنا ، سنحصل على جواب كل هذه الأسئلة . لماذا تقع هذه الأحداث ، و ما هي الحوافز و الأهداف من ورائها ؟ القضية هي أن الشعب الإيرانـي استطاع بثورته خرق سقف أفلاك الثقافة و السياسة فـي العالم و إرساء دعائم مشروع جديد . يوم كان العالم ثنائي الأقطاب ، و كانت القوتان العظميان تقفان بوجه بعضهما بتلك الصورة ، تعاونتا لمواجهة هذا المشروع الجديد ، ما يدل على أن المشروع الجديد للشعب الإيرانـي ، و الذي نزل به إلى الساحة عبر الثورة الإسلامية ، شىء استهدف و هدّد الاتجاه المشترك للقوتين العظميين . فما هو ذلك الاتجاه المشترك ؟ إنه نزعه التسلط و الهيمنة . نعم ، لقد واجهنا نظام الهيمنة . نظام الهيمنة معناه وجود امبراطورية هيمنة فـي العالم متشكلة من عدة أطراف . و فـي المقابل هناك مصادر الثروة التـي تمتلكها الشعوب . العلاقة بين هذين الطرفين هي علاقة هيمنة : مهيمن و خاضع للهيمنة . هذا يهيمن و يتسلّط ، و الشعوب التـي يحتاج مركز الهيمنة إما لأراضيها أو مياهها أو نفطها أو مصادرها أو موقعها الاستراتيجي يجب أن تخضع للهيمنة و تقدم له ما يحتاجه و يضمن مصالحه . إذا قدمت هذه البلدان مصادرها و ثروتها فبها ، كالكثير من بلدان العالم الثالث كما يصطلح عليها ، أي البلدان المتخلّفة . كانت هناك حكومات تقدم مصالح شعوبها للمهيمن بكل احترام ، نظير بلدنا فـي عهد النظام الطاغوتـي . كان هؤلاء مطيعين مستسلمين . وليس معنى الاستسلام أنهم كانوا يسمعون كلامهم فـي كل الأمور ، لا ، كان بينهم اختلاف فـي الآراء فـي جانب من الأمور، لكنهم كانوا يلبون مطاليبهم . أولئك يقولون يجب أن تتم معاهدة النفط بهذا الشكل ، و هؤلاء يوافقون . هكذا اتخذوا القرار فـي الأوبك ، و هؤلاء يقولون سمعاً و طاعة . تصرفوا بهذه الطريقة حيال إسرائيل و الصهيونية ، و هؤلاء يقولون سمعاً و طاعة . تعاملوا بهذا النحو مع بلدان المنطقة ، و هؤلاء يقولون سمعاً و طاعة . لتكن مواقفكم هكذا فـي منظمة الأمم المتحدة ، و هؤلاء يقولون سمعاً و طاعة . ثم يتدخلون تدريجياً فـي الشؤون الداخلية للبلدان فيقولون استعملوا حكومة تكون بهذه الصورة أو تلك ، و انتهجوا هذه السياسات ، اجترحوا هذه التغييرات فـي البلاد ، و هؤلاء يقولون سمعاً و طاعة .
النمط الآخر من القابلية للهيمنة هو أن حكومة ما قد تقف أحياناً بوجه مصلحة من مصالحهم ، فيعمدون فوراً إلى ضربها و تحطيم رأسها و استبعادها . ولأن هذه الحكومة لا تحظى برصيد جماهيري ـ لأن هؤلاء المهيمنون هم الذين يدعمونها ـ فستُقصى بسهولة ، و بالتالـي يأتون بحكومة أخرى مكانها . هذا ما لاحظنا نماذج له فـي بعض البلدان و لا أريد الآن ذكر أسماء هذه البلدان ، ولعلكم تلاحظون ذلك . ليست قليلة أمثلة ذلك بين البلدان الجارة . أسقطوا حكومة و جاءوا بحكومة ثانية . هذا هو نظام الهيمنة فـي العالم . الذين ينسحقون فـي نظام الهيمنة هم الشعوب ، تنسحق مصالحهم و هويتهم و شخصيتهم و ثقافتهم ، و يتعزز نظام الهيمنة يوماً بعد يوم . منذ أن ظهر الاستعمار نتيجة التواصل السهل بين أطراف العالم و تقدم العلوم ، ظهر نظام الهيمنة أيضاً . و كلما تقدم الاستعمار تعزز معه نظام الهيمنة . وبظهور الإمكانات الحديثة و وسائل الاتصال السريع والاستثنائية الموجودة حالياً و القدرات العسكرية و المالية و الدعائية و غيرها ، كلما ضَرَبَ نظام الهيمنة مساميره أعمق فـي أراضي الشعوب و البشر ، كلما حُكِم على الناس بالذلة والخضوع للهيمنة . جاء نظامنا ليقطع هذا المدار و قال كلا . مع أن الشيوعية كانت موجودة فـي العالم ، بيد أن مدار الهيمنة كان قائماً و قد قسّموا العالم ، لا عن رغبة و تطوّع طبعاً ، بل تقاسموه اضطراراً ، جزءٌ لهذا و جزء لذاك . إذن كان مدار الهيمنة قائماً هناك أيضاً . الاتحاد السوفيتـي الذي يدعي الاشتراكية و الشيوعية و العدالة الاجتماعية ارتكب فـي أوربا الشرقية فجائع مروعة لابد أن بعضكم يتذكرها ـ نحن نتذكرها طبعاً ـ و بعضكم ربما قرأها فـي الكتب و النصوص . بولندا بشكل ما و هنغاريا بشكل ما ، و تشكوسلوفاكيا بشكل ما . سفكوا الدماء ، و قتلوا البشر ، و حركوا الدبابات ، ذات الممارسة التـي يقوم بها الأمريكيون فـي العراق اليوم ، و التـي قاموا بها قبل فترة فـي أفغانستان . الهيمنة هيمنة . إذن كان ثمة مدار للتحرك السلطوي يعتمد على الهيمنة و يدور حول محور الهيمنة . جاءت إيران الإسلامية لتقطع هذا المدار و قالت نحن لا نوافق هذا . و لم يبق هذا المشروع دون استجابات فـي العالم . آمنت الشعوب بهذا المشروع إيماناً قوياً . و بوسع كل من ينظر أن يرى مؤشرات ذلك بوضوح . من الأمثلة فلسطين . كانت فلسطين تحت الاحتلال عشرات السنين من دون أن ينهض الشعب الفلسطينـي ، ولكن تلاحظون أين وصل الشعب الفلسطينـي و كيف وقفوا صامدين رغم كل الضغوط . التصريحات التـي تصدر عن بعض البلدان بشأننا فيما يتصل بالنزعة الشعبية و النزعة الإسلامية و الميل إلى العوامل الجماهيرية تعود كلها لهذا السبب . ترون وقفة الشعب العراقي اليوم . هؤلاء العراقيون هم أنفسهم الذين لم يكونوا ليتحركوا سنوات طويلة بفعل ضغوط الحكومة البريطانية و من ثم الأطراف اليسارية ، إنما هي موجة الصحوة الإسلامية التـي أيقظت العراقيين بهذه الصورة . لقد فعل هذا المشروع الجديد فعله . رسم للإنسانية فكراً جديداً ، و مساراً جديداً . حالات الغضب و المشكلات تعود لهذا السبب . يشيعون فـي العالم أموراً عن القنبلة الذرية و التبعات الوهمية لأنشطة عسكرية نووية . كل هذه ليست إلاّ ذرائع و كلام ، و القضية شىء آخر . حتى الإسلام كمجرد إسلام و شعار لا يعارضونه . تنبّهوا إلى أن الشعارات الدينية أو الحكومات التـي ادعت الدين أو قادها رجال الدين ليست قليلة فـي التاريخ ، إنما هي كثيرة . أيام كنا شباباً كانت هناك حكومة رجال الدين المسيحيين فـي بعض أنحاء العالم . و فـي القرون الماضية حكمت الكنيسة فـي العديد من البلدان الغربية و بعض المناطق الأخرى . و فـي التاريخ الإسلامي أيضاً نلاحظ حكومة أدعياء الدين و ولاية الدين . هذه الظواهر ليست نادرة فـي التاريخ . و الآن أيضاً ثمة فـي العالم حكومات تتذرع بشعار الدين . النادر فـي العالم ـ و الذي يثير ضده كل هذا العِداء ـ هو حكومة القيم الدينية ، انه ظهور الدين للعيان ، أي الإصرار على تحقيق العدالة الاجتماعية . ما نقوله نحن ليس مجرد شعار ، إنه حقيقتنا و هويتنا . إذا لم ننشد العدالة الاجتماعية لكان وجودنا عبثياً فارغاً و لما كان للجمهورية الإسلامية من معنى . علينا تحقيق العدالة الاجتماعية . يجب أن نطبق القيم الإسلامية فـي المجتمع . ينبغي أن نجعل المجتمع مجتمعاً دينياً إسلامياً .
ذكرتُ قبل سنتين أو ثلاثة فـي إحدى هذه الاجتماعات إنه كانت لنا ثورة إسلامية ، ثم أسسنا نظاماً إسلامياً . و المرحلة التالية هي تشكيل دولة إسلامية ، و الطور اللاحق تشكيل بلد إسلامي ، و المحطة التالية تأسيس حضارة إسلامية عالمية . نحن اليوم فـي مرحلة الدولة الإسلامية و البلد الإسلامي . علينا إيجاد الدولة الإسلامية . إن دولتنا الراهنة ـ أي مسؤولـي السلطة التنفيذية ، و السلطة القضائية ، و السلطة التشريعية التـي تشكل بمجموعها الدولة الإسلامية ـ تتمتع بنصيب وافر من الحقائق و القيم الإسلامية ، بيد أن هذا لا يكفي ، و أنا أول واحد . يجب أن نتحرك أكثر باتجاه الإسلام و الأسلمة و العيش حياةً إيمانية إسلامية . علينا التحرك باتجاه الحياة العلوية . ليس معنى السير باتجاه الحياة العلوية أنهم إذا كانوا يشدون المآزر و يمشون نشد نحن أيضاً اليوم المآزر و نمشي ، لا ، لقد تقدم العالم اليوم . علينا إحياء روح الحياة العلوية فـي أنفسنا ، أي العدالة ، و التقوى ، و الورع ، و العفة ، والشجاعة فـي سبيل الله ، و الميل و الشوق للجهاد فـي سبيله . علينا السير باتجاه هذه القيم . هذا هو أساس مشروعنا . و أقول لكم إن كفاءة الجمهورية الإسلامية فـي هذه الحالة ستتضاعف . فالمشكلة الرئيسة التـي قد تعرض للجمهورية الإسلامية هي الكفاءة فـي النظرة العالمية ، فيقولون مثلاً : هل استطاعوا إنجاز هذا العمل و هل استطاعوا إنجاز ذاك العمل ؟ إذا أخذنا تحولنا الداخلي بعين الجد خطوةً خطوةً و تقدمنا إلى الأمام و اثبتنا التزامنا بالقيم و المبادئ عملياً ، فستزداد كفاءتنا و نجاحاتنا . الأعداء طبعاً لا يريدون هذا ، يثيرون الضجيج و الصخب ، و هذا غير مهم .
أعتقد أن أوربا و أمريكا ليسوا قلقين من قضية الطاقة النووية كما يتظاهرون و يوحوون . هم أيضاً يعلمون أننا لا نطمح للسلاح الذري . نحن نكرر و نصر دائماً ، و هم يقولون «لا» و يهزون رؤوسهم ! و الحال أنهم يعلمون أننا لا نروم الحصول على السلاح النووي . القضية هي إشغال النظام الإسلامي . من أهدافهم الرئيسية أن يشغلوا النظام الإسلامي . يريدون صرف أذهان المدراء ، و المسؤولين ، و المجلس ، و الحكومة ، و شتى العاملين عن القضايا الراهنة و العملية فـي البلاد فـي مختلف المرافق القضائية ، و التنفيذية ، و التشريعية . و إذا عولجت هذه القضية سيفتعلون قضية أخرى !
طبعاً لو أردنا ذكر نقطة عن هذه القضية لقلنا إن المفاوضين والموظفين فـي حكومة الجمهورية الإسلامية يتابعون هذه القضية ، فهم يتحدثون و يعملون و يراعون فـي مفاوضاتهم ذات الخطوط الحمراء التـي يذكرها مسؤولو البلاد فـي تصريحاتهم العلنية . بيد أن ما ينبغي ذكره بجد للأطراف المتفاوضة هو أن لا يفكروا و لا يتحدثوا بطريقة غير صائبة و غير منطقية تقنع الشعب الإيرانـي أن هذه الأطراف لا تؤمن بالمنطق . إذا اقتنع الشعب الإيرانـي أن أطراف الحوار لا تلتزم المنطق فسوف يترك الحوار معهم . فما الذي يمكن أن تقوله و تتحدث به لشخص غير منطقي ؟! لقد أثبتنا خلال العام الماضي أننا منطقيون و لدينا منطق . قالوا نريد أن تكونوا شفافين قلنا لابأس ، إنها الضوابط العالمية ، ليأتي ممثلو الوكالة الدولية للطاقة الذرية و يطّلعوا حتى يرتفع قلقهم إن كانوا قلقين . نظام الجمهورية الإسلامية جعل المنطق معياراً لأدائه . حين وافق على شىء معين كان ذلك عن منطق ، و حين رفض شيئاً ما رفضه عن منطق . و حيثما أرادوا استخدام منطق القوة وقفت الجمهورية الإسلامية و لم ترضخ . منطق القوة لدى الأطراف المقابلة دليل عدم منطقهم ، ليس لديهم منطق . « عليكم تعليق التخصيب لمدة طويلة ». لماذا و ما هو السبب ؟ ما علاقة الشفافية بالتعليق أو إيقاف التخصيب ؟ ليس بينهما أية صلة . هل يمكن بهذا الهراء و الأدبيات العائدة لعهد الاستعمار حرمان شعب من حقوقه و مطاليبه و تصوراته ، و خصوصاً الشعب الإيرانـي ، هذا الشعب الحي ؟ ليعلم أطراف التفاوض أن الشعب الإيرانـي حي . موجود حي يتحلى بالمنطق و بالحيوية و الحركية أيضاً ، و هو من أهل التعامل و التعاطي ، و من أهل الدفاع ، و أيضاً من أهل توجيه اللكمات إذا اقتضي الأمر .
ما نقوله على هذا الصعيد هو أن التحرك من دون منطق مما لا توافق عليه أو تتقبله الجمهورية الإسلامية و الشعب الإيرانـي الكبير ، و إذا حصل أي شكل من أشكال التهديد فـي المفاوضات فسيكون ذلك دليل على عدم التحلي بالمنطق. إنْ كان ثمة منطق فلن يكون هناك تهديد. و إذا كان التهديد فهو مؤشر الافتقار للمنطق ، واللامنطق يصدّنا عن أساس الحوار و مواصلة التعاون مع الأطراف المرتبطة بالوكالة و سواها .
ما نحتاج إليه نحن المسؤولين هو مضاعفة كفاءتنا و كفاءة النظام . و ينبغي أن تكون الكفاءة باتجاه تحقيق المطاليب و الأهداف الإسلامية ، و باتجاه تطبيق و تجسيد القيم فـي المجتمع . قطّاعاتنا الثقافية و الاقتصادية و السياسية و الأمنية مسؤولة ، الكل مسؤولون . الجميع يجب أن يتنبّهوا لمسؤولياتهم و يعدّوا أنفسهم لتقديم الإجابات حيال هذه المسؤوليات . هذا واجبنا جميعاً . لنعلم أننا إذا أدينا واجبنا فسيكون انتصار الجمهورية الإسلامية و انتصار الحق على الباطل فـي هذا الميدان حتمياً بالنظر للإمكانات التـي منحها الله تعالى و له الحمد بوفرةٍ لهذا البلد و لهذا الشعب ، و بتجربة التقدم التـي اكتسبناها .
حققنا فـي غضون هذه الأعوام تقدماً جيداً . على امتداد اثنين و عشرين عاماً منذ أن سنحت الفرص أمام الجمهورية الإسلامية و دخلت ميادين البناء المختلفة ـ منذ السنة الثانية أو الثالثة للثورة و إلى اليوم ـ كان تقدمنا جيداً . نحن نفس ذلك البلد الذي كان يجب أن يستورد الأسلاك الشائكة ، و نستطيع الآن تصدير حتى صواريخنا . كنّا يومها فـي طرق مسدودة على مختلف الصعد العلمية و فـي كل مكان ، أما اليوم فنلاحظ الطريق مفتوحاً و الساحة واسعة و السائرون متوثبون فـي معظم الحقول العلمية . المسيرة العلمية فـي البلاد تتحرك ، و قد كانت هناك تطورات كثيرة أشار السيد رئيس الجمهورية اليوم إلى قسم منها فـي الإحصاءات ، و الكثير منها تطورات النظام الإسلامي . هذه هي تجربة الشعب الإيرانـي ، تجربة التقدم ، تجربة النجاح ، والتوكل على الله ، والعزم على تحقيق القيم الإلهية و الإسلامية و عدم التنازل فـي هذا الميدان ـ إذ لا مجال للتنازل ـ و البرمجة لتطبيق هذه القيم و هذه الأهداف فـي شتى مرافق النظام الإسلامي . هذه من واجباتنا الحتمية الأكيدة ، و نتمنى أن يكون الله تعالى قد قدّر لمسؤولـي البلاد و السلطات الثلاث أن يقطعوا خطوات ناجحة على هذا الصعيد و ينجزوا مهمات أساسية . لتتنبّه السلطة التنفيذية ، و السلطة التشريعية ، و السلطة القضائية إلى أن البلد متعطِّش اليوم للعمل . ينبغي العمل و السعي و الارتفاع بقدرات البلاد و كفاءته .
ربنا بمحمد و آل محمد ، إجعل ما قلناه حسنة و ثواباً عندك . ربنا ، مُنَّ علينا ـ قائلين و مستمعين ـ بالتوفيق للعمل بما قيل . إجعل الشعب الإيرانـي مرفوع الرأس و انصره على أعدائه . وفّق كافة المسؤولين فـي البلاد للتقوى و الورع ، إحشر الروح الطاهرة لإمامنا الكبير مع أوليائه ، و احشر شهداءنا الأعزاء مع محمد و آل محمد .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .