بسم الله الرحمن الرحيم
إنه مجلس أُنس قد أقيم ، وسوف تستئنس القلوب ببعصها أكثر فأكثر إن شاء الله ، و لا تستوحش أو تنفر من بعضها . عسى أن لا تكون قلوبنا إن شاء الله مستوحشة من الحقائق القريبة منا دائماً ـ لا سيما فـي أيام العشرة الأخيرة الزاخرة بالبركة من هذا الشهر ـ بل آنسةً بها .
فـي السنوات الماضية ، سواء فـي الحكومة السابقة أو الحكومة الحالية ، كان الدارج عندنا فـي شهر رمضان أن نقرأ عبارة من نهج البلاغة و نشرحها باختصار . وكذا الحال فـي هذه السنة ، وقد اخترت عبارات من مواضع مختلفة من نهج البلاغة حول الإيمان سأقرأها الآن . طبعاً ، ثمة فـي كل كتاب (نهج البلاغة) الشريف عبارات أكثر عن الإيمان ، ولكن حيث أن النسخة التـي استخدمها دوماً مكونة من أربعة مجلدات ، إثنان منها مصحّفان ، و أنا استخدمها منذ نحو ثلاثين أو أربعين سنة ، لذا كان يجب أن أختار أحد المجلدات وآتي به ، لذلك جئت بالمجلد الثانـي الذي يشمل الجزئين الثالث و الرابع بهوامش المرحوم عبده .
يقول الإمام : « سبيل أبلج المنهاج أنور السراج » الإيمان طريق واضح المعالم جداً . الإيمان أكثر المصابيح إشعاعاً و نوراً . المراد من الإيمان فـي عبارة أميرالمؤمنين (عليه الصلاة و السلام) هذه هو الإيمان الدينـي . أي الإيمان بالله و يوم الجزاء و الرسول ، و هذا الإيمان الذي تدعو الأديانُ الناس إليه . طبعاً ، أهمية الإيمان على نحو الإطلاق أمر واضح ، فالإيمان دعامة عمل الإنسان و تحركه . ما لم ينجذب الإنسان إلى شىء و ينشدّ إليه قلبه فلن يتحرك فـي سبيله . الإيمان يختلف عن العلم . أحياناً يعلم الإنسان حقيقةً ما لكنه لا ينجذب إليها . أي أن العلم و الاطلاع على صدق الفكرة لا يكفي لحصول الإيمان . ثمة شىء لابد منه إضافة إلى هذا العلم . و طبعاً ، الإيمان بدوره غير متاح من دون العلم ـ لا معنى للإيمان إلى جانب الشك و الارتياب ـ غير أن العلم لوحده أيضاً لا يكفي للإيمان . تلاحظون أن القرآن يقول حول قضايا موسى و فرعون : ﴿ و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ﴾ . أي أن موسى حين أطلق دعوته ادرك الملأ الفرعونـي أنه صادق و أن كلامه الحق ، ولكن بعد أن جاء موسى بهذه المعجزة العجيبة ، و بعد أن اعترف السحرة و المشعوذون أنفسهم ـ و الذين جرى التصور أن عمل موسى هو أيضاً من قبيل أعمالهم ـ أن هذا ليس من سنخ أعمالهم و سجدوا رغم تهديدات فرعون ، و آمنوا بموسى و تقبلوا الموت ، اتضح للملأ أن موسى ينطق بالحق ، لكنهم مع ذلك أنكروا .لماذا ؟ السبب هو ﴿ ظلماً و علواً ﴾ . لأن استكبارهم و أهواءهم النفسية و الظلم الذي أرادوا ممارسته لم يسمح لهم بالتسليم . الإيمان و الانجذاب ضرب من التسليم . التسليم لحقيقة من الحقائق . أحياناً يفهم الإنسان الحقيقة لكنه لا يُسلِّم قلبه لها بل يقف بوجهها . لذلك تلاحظون أن ما يقابل العلم هو الجهل و الشك . أما فـي مقابل الإيمان فلا يأتون بالجهل ، يأتون مقابله بالكفر ، أي التغطية و التعتيم . أحياناً يقتنع الإنسان بحقيقة ما لكنه يخفيها و يسترها . الموقف المضاد للإخفاء هو الإيمان ، أي الهيام و الانجذاب و الخضوع ، و تقبل الحقيقة بكل الوجود و التسليم حيالها . كل ما تتصورونه حقيقة ، إذا آمنتم به فسيكون هذا أساس عملكم . ترون اليوم أن فريقاً يدافعون بكل حماس عن الركن الاقتصادي أو الاجتماعي الفلانـي و يراهنون عليه . المثال الأوضح لذلك وجود الميول الماركسية إبّان فترة شبابنا و قد أدرك بعضكم تلك الفترة . طائفة من الناس كانوا مستعدين فعلاً للتضحية بأنفسهم من أجل تلك المفاهيم الماركسية . كان هؤلاء عاشقين و مؤمنين . هذا الإيمان يؤدي إلى العمل ، عملٍ بهذه الجسامة ، الكفاح و التواجد فـي الساحة و قتل الآخرين و التعرض للقتل . إذا توفر الإيمان بمبدأ معين سيتحول الإنسان إلى عامل باتجاه أهداف هذا الإيمان . ليس من الضروري ان يذكّروه دائماً . الإيمان يستتبع وراءه العمل ، و سأشير إلى هذا بعد قليل .
قلنا إن مراد أميرالمؤمنين هنا هو الإيمان الدينـي . ليس الإيمان بشىء باطل أو الإيمان بالأصنام و عبادتها . إنه الإيمان بالله الذي لا شريك له و الإيمان بالنبوات و الحقائق و يوم القيامة . يقول : «سبيل أبلج المنهاج» أي أنه طريق ناصع نيّر جداً . إذا دخل إنسان هذا المضمار بعقله و فطرته فسيرى الطريق مشرقاً لا ترديد فيه و لا شبهة . إنه طريق «أنور السراج» . و تتمة العبارة : «فبالإيمان يستدل على الصالحات» عن طريق الإيمان يصل الإنسان إلى الأعمال الصالحة . الإيمان هو ما يجتذب الإنسان و يدله على العمل الصالح . ثم يقول مباشرةً : « و بالصالحات يستدل على الإيمان » . العمل الصالح أيضاً يدل الإنسان على الإيمان . أي أن ثمة تأثيراً و تأثراً متقابلين . أعتقد أن هذه نقطة على جانب كبير من الأهمية . علينا تمتين إيماننا بالعمل الصالح ، كما ينبغي لنا معرفة العمل الصالح عن طريق الإيمان .
تنبّهوا إلى الحدث الذي وقع فـي معركة أحد . أولئك الخمسون رجلاً الذين حلت بهم لعنات جميع المسلمين وعتابهم على مدى أربعة عشر قرناً كانوا مسلمين ومن أصحاب الرسول . الكثيرون منهم شاركوا فـي معركة بدر . لم يكونوا أناساً أشراراً . لكنهم أنفسهم ابتلوا بتلك الآفة ، فتركوا المضيق من أجل الغنائم ، و فسحوا الساحة للعدو و تسببوا فـي سفك كثير من الدماء الطاهرة على الأرض . أريق دمٌ كدم حمزة سيدالشهداء ، و جرح الرسول و تزعزعت الحكومة و النظام الإسلامي الفتـي بسبب تقصير هؤلاء الخمسين شخصاً . يقول القرآن حول هؤلاء الخمسين : ﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ ، أي أن فعلهم هذا حصيلة أخطائهم و زلاتهم التـي وقعوا فيها من قبل . كل زلة تفرض على الإنسان زلاّت أخرى ، أي أنها تضعضع أساس الإيمان ، وتضعضع الإيمان يترك تأثيره السيئ فـي أعمالنا اللاحقة . حينما نزلّ يؤثر زللنا هذا على إيماننا و إنْ بشكل غير محسوس . ﴿ انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ . عمل خاطئ يأتيه الإنسان فـي السابق يترك بصمات سلبية على إيمانه من دون أن يشعر الإنسان نفسه ، ككثير من الأحيان عندما ينتقل الإنسان من حال إلى حال لكنه لا يتفطن إلى تغيّر حاله .
رحم الله المرحوم السيد خاتمي (رضوان الله عليه) الوالد الجليل لرئيس جمهوريتنا المحترم . فـي سنة 57 كنت عائداً من المنفى و زرته فـي أردكان . كان فـي حدود السبعين من عمره حينذاك ، و قد قال حينها أنا لا أشعر بنفسي أبداً . أقول بلسانـي إننـي شيخ كبير السن ، لكنـي لا أشعر أنـي شيخ كبير. أرى نفسي كما كنتُ فـي الثلاثين أو الخامسة والثلاثين . بعد سنوات قلتُ له انك قلتَ لـي يوماً كذا و كذا ، فهل أنت كذلك الآن ؟ قال نعم لا أزال كذلك . و نحن الآن أيضاً كذلك . الصورة التـي فـي أذهاننا نحن الشيوخ المسنين هي صورتنا فـي الثلاثين من أعمارنا . إننا لا نشعر بمضي العمر و التحول العجيب الذي يطرأ رغم كل آثاره الجسدية المحسوسة . و كذا الحال بالنسبة لتحول الإيمان ، بمعنى أن الإنسان لا يشعر بضمور الإيمان ، إذ ليس له حتى تلك العلامات الجسدية المحسوسة حتى يتفطن له الإنسان و يدركه . إذن ، تَرَكَ ذلك الزلل و الخطأ تأثيره على الإيمان . ضآلة الإيمان تترك بصماتها على أعمالنا التالية . مثلاً حين نصادف ميدان جهاد أو ساحة امتحان ، تسفر شحّة إيماننا هناك عن نفسها . نحن الذين استطعنا بإيماننا الوافر أن نقفز فـي موضع من المواضع و نتحرك و ننجز عملاً كبيراً ، حين نقف حيال نفس ذلك العمل ترتعد أطرافنا . تماماً كما لو أن شخصاً كان يستطيع القفز فوق ساقية عرضها متران ، لكنه لا يستطيع ذلك حين يصادفها الآن . التأثير السلبـي للعمل على الإيمان و الإيمان على العمل نتيجته الهزيمة فـي معركة أحد . نتيجته حالات التراجع و النكوص . نتيجته أن يقف سبط الرسول ـ و هو أعز إنسان عند الرسول ، أي الإمام الحسين عليه السلام ـ بوجه الحكومة التـي خلفت الرسول و يستشهد بتلك الحال المفجعة بعد خمسين عاماً فقط من هجرة الرسول و أربعين عاماً من وفاته . لقد قلتُ فـي وقتٍ ما إن هذه عبر التاريخ ، و هي أرقى من الدروس .
جاء فـي الحكمة الثلاثين من نهج البلاغة : «سُئل عن الإيمان» ، طلبوا من الإمام أن يتحدث لهم عن الإيمان ، فقال : « الإيمان على أربع دعائم » ، يرتكز الإيمان على أربع ركائز . المراد من الدعائم الأربع أنها إذا كانت متينة فستحمل الإيمان ، أما إذا تحلحلت أو انهارت ، فسينهار الإيمان بنفس النسبة . قد لا يسقط نهائياً ، لكنه ينهار بنفس النسبة و الدرجة . ذكر الإمام هذه الدعائم الأربع فقال : « على الصبر ، و اليقين ، و العدل ، و الجهاد » . الدعامة الأولى هي الصبر و الاستقامة فـي كافة الصعد .
إذا أردتم متابعة خطّة ما فعليكم التصدي لها إلى نهايتها . تريدون القيام بعمل ما ، إذن أتمّوا ذلك العمل . و إذا حلّت مصيبة فلا تنهزموا نفسياً حيالها . إذا حُدّد لكم واجب اصبروا على أدائه و لا تتبرموا و تتثاقلوا إلى الأرض . إذا عرضت لكم معصية تماسكوا و لا تستسلموا لها . للثبات شكله فـي كل موضع من المواضع . لكن معنى الثبات واحد طبعاً فـي كل مكان ، و هو القوة الإنسانية و الاستقامة و الصمود ، لكنه يفصح عن نفسه فـي كل مكان بشكل معين . الصبر على الطاعة ، و الصبر على المعصية ، و الصبر على المصيبة .
الدعامة الأخرى للإيمان هي اليقين . اليقين هو العلم كما سبق أن ألمحنا . ينبغي عدم ضعضعة أركان اليقين . يجب عدم إطلاق العنان للشك ليقضِم عماد اليقين كالأرضة . يتوجب تعزيز اليقين و تمتينه . إذا عنَّ سؤال لذهن الإنسان بشكل طبيعي فعليه متابعة ذلك السؤال حتى يزول الشك و الترديد . ولكن يجب أن لا يوسوِس الإنسان لنفسه ، ولا يحطّم اليقين فـي روحه أو لدى الآخرين ، و لا يتردد فـي اليقينيات و يحولها إلى أمور مشكوكة .
الدعامة الثالثة للإيمان هي العدل . معنى العدل وضع كل شىء فـي موضعه . و المعنى اللغوي للعدل هو التوسط ، و الاعتدال الذي يذكرونه مشتق من هذه المفردة . أي فـي الموضع المناسب بلا افراط و لا تفريط . بدون جنوح إلى يسار أو يمين . لهذا يقال أن العدل وضع كل شىء موضعه . أي إذا استقر كل شىء فـي موضعه عندها ينبثق ذلك التعادل السائد فـي نظام الطبيعة على أساس العدل و الحق . العدل ضروري فـي سلوك الإنسان . وهو ضروري للحاكم . و ضروري فـي اتخاذ المواقف . ولازم فـي إبداء المحبة و الكراهية . يقول القرآن : ﴿ و لا يجرمنكم شنئآن قوم على ألاّ تعدلوا ﴾ لا تفضي بكم عداوة أحد من الناس إلى الحياد عن العدالة و عدم مراعاتها فيما يرتبط به ﴿ اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾ . إذن ، العدل أيضاً من أركان الإيمان . إذا كان العدل ثبت الإيمان .
الدعامة الأخيرة هي الجهاد . و الجهاد معناه الكفاح . الحرب و الصراع لا يعنـي فـي اللغة الفارسية الكفاح . تقول إننـي أكافح ، أكافح كفاحاً علمياً ، كفاحاً اجتماعياً ، كفاحاً سياسياً ، كفاحاً مسلحاً ، كل هذا كفاح و له معناه . الكفاح معناه السعي الحثيث مقابل عقبة أو عدو . إنْ لم يكن ثمة مانع حيال الإنسان فلن يكون هناك كفاح . فـي الطريق المبلّط يضع الإنسان قدمه على البنزين و يسافر بخزان وقود ممتلئ ، هذا لا يسمى كفاحاً . الكفاح يحصل حين يواجه الإنسان عقبة تكون فـي الجبهات البشرية عدواً ، و تظهر فـي الجبهات الطبيعية على شكل موانع طبيعية . إذا اشتبك الإنسان بهذه العقبات و حاول إزاحتها فسيكون ذلك كفاحاً . الجهاد فـي اللغة العربية بهذا المعنى تماماً . معناه الكفاح . الجهاد فـي القرآن و فـي الحديث أيضاً بنفس المعنى . ليس بمعنى الحرب المسلحة دائماً . طبعاً قد يتطابق أحياناً مع الحرب المسلحة ، و أحياناً مع الحرب غير المسلحة .
بعد ذلك يشرح أميرالمؤمنين هذه الكلمات ـ و لن أخوض فيها طبعاً ـ يشرح الصبر ، و اليقين ، و العدل ، و الجهاد . يقول مثلاً إن الجهاد على أربع شُعب : الأمر بالمعروف ، و النهي عن عن المنكر، و صدق الحديث ، و صدق المواقف . تماماً بالمعنى الذي نتوخاه اليوم فـي اتخاذ المواقف . أي أنْ يكون الإنسان صادقاً فـي مواقفه السياسية و الاجتماعية . إذن الصدق فـي المواقف هو بحد ذاته جهاد . وبهذا المعنى قوله ﴿ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴾ .
من شعب الجهاد الأخرى « شنئان الفاسقين » أي الانفصال عن تيار الفسق و الكفر . أقول لكم هذا على وجه الخصوص، ويجب أن تتنبهوا له جميعاً . ينبغي أن تفصلوا وضعكم عن هذا التيار و لا تخلطوه به . أنتم تعرفوننـي و قد كنّا معكم نحو ثمانية أعوام ، و مع البعض أكثر بكثير . أنا لا أعتقد إطلاقاً أنه يجب قطع العلاقات مع الكفار ، لا ، يجب تشخيص الحدود بينكم و بين الكفار . يجب تشخيص الحدود بينكم و بين الفسّاق . ينبغي تشخيص الحدود بينكم و بين من يرفضون الجمهورية الإسلامية . و أحياناً يكون من الضروري أن يتعامل الإنسان مع نفس هذا الشخص الذي يرفض الجمهورية الإسلامية ، ولكن من الواضح أنه هو و أنتم أنتم . لا تمتزجوا به . كُنتُ عاتباً دوماً على البعض فـي هذا النظام و فـي منظومتنا لأنهم مسحوا الحدود . كنت أقول لهم أحياناً حينما تمسحون الحدود فالمشكلة التـي ستطرأ هي أن الكثيرين سينتقلون بسبب غياب الحدود من هذا الجانب إلى ذاك ، و من ذاك الجانب إلى هذا . سيتنقلون بين الجانبين باستمرار . أي أن الحدود ستُنسي . البلد إذا لم تكن حدوده معلومة ، فلن تكون له هوية و وحدة اجتماعية . لتكن الحدود واضحة . ليكن من المعلوم أين أنتم و أين هم . « و من شنئ الفاسقين و غضب لله غضب الله له ». إغضبوا لله و سيغضب الله لكم ، « و أرضاه يوم القيامة » .
« من كلام له عليه السلام فـي الإيمان : فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقراً فـي القلوب و منه ما يكون عواري بين القلوب و الصدور إلى أجل معلوم » . لدينا نوعان من الإيمان : إيمان ثابت مستقر ، و إيمان مستودع مستعار . الإيمان المستعار هو أيضاً إيمان ، لا أن صاحبه منافق ، لكن إيمانه ليس راسخاً ، لذلك يزول بسرعة . الإيمان الثابت المستقر أي الراسخ فـي القلب يستند إلى براهين و بصيرة عميقة و يدعمه العمل الصالح . النوع الآخر من الإيمان هو الذي تصنعه العواطف دون المنطق ، و لم يرصد له الإنسان عملاً صالحاً . يرفع شعاراً إيمانياً كيفما اتفق و يكون متحمساً جداً فـي شعاراته أحياناً . لكنه لم يبذل لإيمانه هذا عملاً صالحاً يجاهد و يكافح نفسه من أجله . أي أنه لم يسقِ إيمانه هذا بالعمل الصالح ، فيكون إيمانه مستعاراً . يقول الإمام : « ومنه ما يكون عواري بين القلوب و الصدور إلى أجل معلوم » . متى هذا الأجل و الوقت المعلوم ؟ طالما كان هذا الإيمان مستعاراً ، و إلى حين يزول عن صاحبه . إلى أن يُحلِّق العصفور الذي حبسه فـي صدره و يذهب لحاله . لأن الإيمان لم يغدُ جزءاً من وجوده . متى يزول هذا النوع من الإيمان ؟ فـي أوقات الامتحان و لحظات هوى النفس . إذا كان الإنسان محباً للمال مثلاً ، حينما يقف على مفترق طريقين بين المال و حفظ الإيمان ، سيطير الإيمان و ينتهي . البعض مبتلون بالوساوس النفسية و الشهوات الجنسية ، و البعض مبتلون بعبادة المناصب ، كل إنسان بشكل معين . لكل واحد منّا مواطن زلل . لدينا على حد تعبير الأجانب كعبُ آشيل و عين إسفنديار . هنا مقتلنا و مكسر عصانا . نعوذ بالله من أن توجّه ضربة لمقاتلنا . السبيل إلى ذلك التقوى . التقوى التـي تحدثت عنها كراراً فـي هذه الجلسة و جلسات اخرى ، هي مراقبة النفس على الدوام . هنا يدرك الإنسان أسرار بعض التحولات ذات المائة و ثمانين درجة منذ مطلع الثورة و إلى الآن . مرت على بداية الثورة إلى الآن خمس و عشرون سنة . ترون أن البعض تغيروا أحياناً مائة و ثمانين درجة . أي أنه تحولَ من مؤمن مخلص صادق نشيط متوثب يهتف بالشعارات إلى معاند معارض عدو لجوج عنود متذرّع ! لدينا عدة أنماط من الأعداء : بعض الأعداء أعداء لكنهم لا يريدون أن ينشبوا أظافرهم دوماً فـي وجه الثورة . و البعض لا ، يريدون غرس أصابعهم و إنشاب أظافرهم فـي عيون الثورة و النظام الإسلامي دائماً . حينما تنظر ترى أن بعضهم أشخاص كانوا يرفضون الكثيرين بكل حدة و حماس ، كالشعلة التـي ترتفع عن التبن و الأشواك . طبعاً قد تتصاعد الشعلة القوية أحياناً عن الخشبة المتينة ، لكن شعلة النار المرتفعة من التبن و الأعواد التـي ليس لها أية قيمة ، سرعان ما تخبو . يكون لدينا أحياناً مثل هؤلاء الأشخاص . إيمان هؤلاء غير مستقر . إنه مستودع و زائل و لا يرتكز إلى براهين راسخة . و كما قلنا فإن هذا الإيمان الزائل حين يريد الزوال لا يقرع أجراساً أو يخبّر و يقول ها قد ذهبت وأصبحت منذ الساعة كافراً لا أصلي . إنها عملية تدريجية لا يفهم معها الإنسان و لا يتفطن كيف زال عنه هذا الإيمان . ينبغي المراقبة بدقة و اللجوء إلى الله .
العبارة الرابعة و الاخيرة مستقاة من عهد الإمام لمالك الأشتر . رسالة الإمام لمالك الأشتر عجيبة جداً . الحِكم التـي فـي هذه الرسالة لا تعد و لا تحصي حقاً . يقول الشاعر :
كلّما شرحتُ العشق و بيّنته ، خجلتُ مما قلته حين صرتُ عاشقاً .
حين يعود الإنسان لأعماق هذه الرسالة ، يشعر بالتفاهة حقاً حيال العظمة المودعة فـي كل جزء و جملة منها . يقول : « و إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها » . خراب الأرض يسببه فقر أهل الأرض . أي أن الناس إذا كانوا فقراء ستخرب الأرض . لا يقول الإمام هذا كلمحة فلسفية ، إنما يذكره كواقع . و « الأرض » التـي يتحدث عنها هنا هي أرض مصر التـي سار مالك الأشتر إليها . طبعاً كان بالإمكان فـي ذلك الحين مقارنة الشام و العراق و إيران و المدينة و أية منطقة أخرى فـي الدنيا لها من يحكمها بأرض مصر . يقول إن الأرض التـي تسير إليها إذا استطعت أن تجعل أهلها أثرياءً فسوف تعمُر . أما إذا أبقيت الناس فقراءً أو صيّرتهم فقراءً فإن أرضهم لن تعمر و تزدهر . ستبقى خربة . الناس هم الذين يجب أن يعمّروا بلادهم بحيويتهم و قدراتهم التـي يكتسبونها . إبداعات الأفراد فـي كل مكان هي التـي تعمّر الأرض . ثم يقول : « و إنما يعوز أهلها » الإعواز من باب إفعال ، لكنه لازم بمعنى أنْ يغدو الناس فقراء معوزين . يقول الإمام بلام التعليل « لإشراف أنفس الولاة على الجمع » فقر الناس سببه الولاة و الأمراء ، فهم الذين يسببون فقر الناس لأنهم يريدون الاستحواذ على ما يُستحصل من ثروة و خيرات ، و هذا يفضي إلى عوز الناس . طبعاً قد يكون الحكام كالمستبدين قديماً من قبيل رضاخان الذي يريد كل شىء لنفسه و لا يقنع بحد معين . و البعض ممن بجواره ينتفعون و يحصلون على شىء أيضاً . نصيب الملك يأتي فـي المرتبة الأولى ، يليه تدريجياً من هم فـي حاشيته ، يأخذ كل واحد منهم على قدره . هكذا كانت أنماط الاستبداد القديمة . و طبعاً ، كان هناك نمط أحدث فـي الحكومة البهلوية . قرأنا الشكل الأقدم فـي الكتب عن القاجاريين و عهد ناصرالدين شاه و غيرهم . و ثمة شكل و أسلوب حديث هو أسلوب الحكومات التـي تظهر الديمقراطية و تضمر الاستبداد . إن زمام هذه الحكومات اليوم بيد الشركات الاقتصادية . هذه الشركات هي التـي ترسم السياسات ، و هي ليست ذات شأن أو تأثير فـي ظاهر الأمر ، لكنها هي التـي تبعث النواب للمجلس فـي الحقيقة . و هي التـي تعين رئيس الجمهورية . لرئيس الجمهورية أعوان و أنصار ، و سفراء ، و وزراء ، و مدراء على شتى المستويات ، هذه الجماعة هي التـي تحكم فـي الواقع . و نوعية فرض الاستبداد ليست كالسابق حيث يقول : أحكم كذا و كذا . حينما كان يريد رضاخان ممارسة استبداده كان ينشر بياناً فـي طهران يقول فيه أربع أو خمس مرات « أحكم » . الحاكم اليوم لا يقول : أحكم . لا يتخلى عن لياقات الديمقراطية أبداً . بل هو لا يحكم أصلاً ، غير أن مسيرة الأمور تفضي إلى نفس تلك الـ « أحكم » . بمعنى أن القانون الذي تحتاجه هذه الشركة يُصادق عليه بالتأكيد . الخطوة التـي تحتاجها هذه الشركة لحياتها تُتخذ يقيناً ، حتى لو كانت خطوةً بمستوى الهجوم على بلد كالعراق . من هم الذين ينتفعون من إعمار العراق و نفطه ؟ الحكومات الأمريكية أو البريطانية ليست حكومات محورية تعود لها الشركات و النفط و كل شىء حتى نقول انها هي المستفيدة ، لا ، الجهاز المالـي الاقتصادي المهيمن على هذه البلدان هو الذي ينتفع من كل شىء جديد . طبعاً أولئك أيضاً لهم تنافسهم فيما بينهم ، ولهم عداواتهم و سوابقهم فيما بينهم ، بيد أن ذلك الجهاز المالـي هو الذي يستفيد من نفط الشرق الأوسط ، و من الهيمنة على الشرق الأوسط ، و من شىء اسمه الشرق الأوسط الكبير . هو المنتفع النهائي . الحكومة و رئيس الجمهورية و وزير الخارجية و وزير الدفاع و سواهم ـ و هم طبعاً فـي كثير من الأحيان جزء من مجموعة المدراء الماليين و الصناعيين الأساسيين فـي البلاد ـ هم الجبهة الأمامية و الخط المتقدم . إنهم يدعمون و يُسنِدون ، و هم الذين يتخذون الخطوات ، و الناس يتحركون فـي طريقهم . قد تقولون مثلاً إنه لا يوجد فـي أمريكا أو بريطانيا فقراء بالنظر لسكان هذه البلدان . يجب أن لا ننظر لهذا ، يجب أن ننظر كم من الناس أفقرتهم الحكومة البريطانية فـي شبه القارة الهندية ، و الدولة الفلانية التـي استعمرت أفريقيا أو أمريكا اللاتينية كم خلقت من الفقراء . أو أمريكا اليوم بكل ما لها من نفوذ اقتصادي واسع فـي كل العالم كم أوجدت من الفقر و الجوع و الحرمان فـي الأرض . هذا هو الملاك . طبعاً ثمة فـي هذه البلدان ذاتها فقر و فقراء و اختلافات طبقية جد كبيرة . بل هي مذهلة أصلاً . أحياناً ترد فـي إحصاءاتنا للأسف أشياء فارغة و ساذجة و قصيرة النظر كأن يقال مثلاً إن البون الاقتصادي لبلادنا أكثر من أمريكا أو البلد الفلانـي . هذا كلام ناجم عن الجهل بالحقائق و الواقع . إنهم غير مطلعين على الواقع أساساً . كلا ، الهوة الاقتصادية فـي البلدان الرأسمالية مفزعة و فوق حد التصور و أكبر من أي مكان فـي العالم . بالإضافة إلى هذا ، ينبغي عدم مقارنتهم داخل بلدانهم ، بل يجب حسبانهم إلى العالم كله ، لأن مديات نفوذهم و اقتدارهم و تحركهم تستغرق العالم برمته . لا نريد الآن الخوض فـي القضايا العالمية و الدولية . لننظر إلى أنفسنا . إذا أردنا أن تتعمر الأرض فعلينا السيطرة على أنفسنا . أنا و أنتم بوصفنا الرؤساء و المدراء الذين نتولى إدارة الشؤون المالية و الصناعية و الزراعية للبلد ـ أي أن المنافذ المؤثرة للبلاد بأيدينا أنا و أنتم ـ يجب أن نتمالك أنفسنا . ليس شخوصنا و حسب ، فنحن نمثل منظومة . أنتم تعنـي أنتم و معاونيكم و مدراءكم و مسؤوليكم المؤثرين . طبعاً قد يرتكب شخص ما فـي ناحية بعيدة و على مستوى جد بسيط ، خطأ ًلا يمكن السيطرة عليه أو التوقّي منه ، هذا موضوع آخر . بيد أن المنظومة التـي تتولون إدارتها و رئاستها و وزارتها يجب أن تتوفر فيها هذه الخصائص . « لإشراف أنفس الولاة على الجمع » . إنهم يريدون أن يجمعوا . « و سوء ظنهم بالبقاء و قلة انتفاعهم بالعبر » . معنى « سوء ظنهم بالبقاء » هو أنهم سيئوا الظن بما تبقى من أعمارهم ، فهم قلقون مما سيحدث لاحقاً . يتوجب عدم إساءة الظن . ينبغي إحسان الظن بالله تعالى و بالنفس . وقال أيضاً : « قلة انتفاعهم بالعبر » أي أنهم قليلاً ما ينتفعون من العبر .
نتمني أن يكون لما قلناه تأثيره فـي أنا أولاً : الحق أننـي أحوج من الجميع . من أسباب أننا نختار هذه الكلمات و نذكرها هو أنها قد تؤثر فينا أنفسنا إن شاء الله ، فتكون حركتنا فـي اتجاه السبيل الإلهي و الطريق القويم أكثر واقعية و جدية بمقدار ما . نقرأ فـي دعاء كميل « وهب لـي الجدَّ فـي خشيتك » . على الإنسان أن يكون جاداً فـي خشية الله . يجب أن لا يأخذ ذلك مأخذ المزاح ، إذ لا مزاح فـي هذه الأمور . إذا كنا نُعدُّ ضمن عقلاء العالم لما أخذنا القضايا الواقعية فـي الحياة مأخذ المزاح أبداً . بل نأخذها بجد . و الأكثر جداً من قضايا هذه الحياة قضية الموت و القبر و السؤال الإلهي ، و قضية البرزخ و القيامة . يجب أن لا نتعاطى مع هذه الأمور بالهزل . يجب أن نتعامل معها بجد ، فهذه أمور مهمة .
أتمنّى أن يجعلنا الله نحن و أياكم متأثرين بالكلمات الحكمية لأميرالمؤمنين ( صلوات الله و سلامه عليه ) .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .