بسم الله الرحمن الرحيم
أرحب أولاً بجميع الإخوة و الأخوات الأعزاء ـ المعلمين و العمال و العاملين فـي هذين القطاعين المهمين ـ و أعربُ عن تقديري العميق للجهود المبذولة فـي هذين الميدانين المصيريين .
إنها أيام مفعمة بذكرى عظماء عالم الخلقة النبـي المكرم ، و سبطه المعظم ، و سيدنا علي بن موسى الرضا عليهم الصلاة و السلام . فـي الأيام ذات الصلة بذكرى التربية و التعليم و العمل و الإنتاج ، لابد من ذكر اسم الرسول الأكرم ، فقد كان معلم الإنسانية و رافع لواء التعليم و التربية و تكريم العمل والسعي . لقد رفع ذلك العظيم نداء العدالة و تكريم الإنسان و إلغاء التمييز فـي المجتمع و الاهتمام بالمعنوية و الفضائل الروحية فـي العالم . و اليوم أيضاً تسمع أصداء ذلك النداء فـي فضاءات التاريخ و العالم المعاصر . هذا ما ينبغي أن يجري على ألسنة المداحين المحترمين كمدح للرسول و الأئمة حتى نتعرف على هؤلاء العظماء فـي تاريخ الإنسانية و المصطفين من عالم الخلقة .
إجتماعكم اليوم و هو تركيب من شريحتـي المعلمين و العمال ، اجتماع مغتنم بالنسبة لـي فـي كل سنة . و التركيب فيه تركيب متلائم قد لا يبدو للناظر فـي الوهلة الأولى ، بيد أن هاتين الفئتين مرتبطتان تمام الارتباط . صرح الحضارة و الحياة الإنسانية يقوم على أساس استخدام المصادر الطبيعية و البشرية . لو توفرت المصادر الطبيعية و لم تتوفر المصادر البشرية أو لم تكن نامية ناضجة ، لما كان فـي أيدينا شىء . أنظروا إلى البلدان المتخلفة فـي آسيا و أفريقيا إبان عهد السيطرة الاستعمارية ، كانت لديهم مصادر طبيعية ، لكنهم لم يجدوا فرصة إعداد المصادر البشرية . فجاءهم من خارج حدودهم و من مناطق بعيدة عنهم أناس انتهازيون محتالون غير منصفين نهبوا مصادرهم الطبيعية واستخدموها لإدارة شؤونهم الحياتية فزادوا من قوتهم واقتدارهم يوماً بعد يوم . و إذا توفرت المصادر البشرية من دون توفر المصادر الطبيعية فستبقى القضية ناقصة أيضاً . البلد الذي لا ينتج لن يكون له ما يصنعه و يطوره ، أي إنه لن يستهلك أتعاب يديه ، و سيعتمد على الآخرين و يتبعهم دوماً ، و بالتالـي سيكون مطيعاً لهم . و هذه بليّة أخرى أنزلها المستبدون و حماتهم الدوليون بالبلدان الخاضعة للاستبداد فـي بعض أنحاء العالم خلال العهود الماضية و الراهنة . كانوا يسمّرون أعينهم على أبواب بلادهم ليأتيهم المستعمرون عبرها بكل شىء ، و يفخرون أنهم يعطون المال فيعمل لهم الأجانب و يصدرون لهم بضائعهم ! لقد سمعت مثل هذا التفاخر من أحد المتنفذين فـي النظام الطاغوتي . لاحظوا منطقهم كم هو صبيانـي و أحمق ! هذا هو ما يجعل البلد بحاجة للمنتجين الأجانب فـي خبزه و لحمه و أوليات حياته و ثيابه و مستهلكات حياته ، لأنه لم يهتم لإعداد طاقات بشرية ماهرة ، و لم يكلف جسمه عناء الجد و العمل و لم يعرف قدر العامل و المعلم .
إذن ، المصادر الطبيعية و المصادر البشرية هما الرصيدان الأصليان للإنسان . العامل يستخدم المصادر الطبيعية و يستثمرها ، و المعلم يستخرج المصادر البشرية و ينمّيها و يمكِّن المجتمع من استثمارها . هذان هما ركنا المجتمع الأساسيان ، و المهم هو أن تعرف شريحتا المعلمين و العمال ، و كذلك مسؤولو الحكومة و كل واحد من أبناء الشعب هذه القيمة العالية ، و ينظروا إليها بعين التكريم ، و يفهموا ما معنى العامل و المنتج ، و يدركوا ما هي قيمة الإنسان الذي يحوِّل قطع الحديد إلى بضائع جميلة و مفيدة . المهم أن يعرفوا المعلم ، و يعلموا أجر و قرب الإنسان الذي يحوِّل طفلاً بسيطاً لا يعلم شيئاً إلى إنسان واعٍ و ينبوع متدفق بالإبداع والموهبة والتخطيط لكل شؤون الحياة ، و ينقل تلك المادة الخام إلى هذه النتائج الباهرة . المهم أن يفهم الجميع هذه الحقيقة .
حينما ننظر لاحتياجات و نواقص المجتمع العمالـي و التعليمي ، تلفت أنظارنا نواقصهم المادية قبل أي شىء آخر ـ و ثمة طبعاً نواقص معيشية و مشكلات مادية ـ أما المشكلة المعنوية لهاتين الشريحتين فنادراً ما تُلاحظ ، أي إنهم قلما يلتفتون إلى تثمين قدر العامل و المعلم فـي المجتمع و معرفة منزلته و مكانته . ثمة فرق بين موظف إداري عادي ـ يعمل و يخدم بدوره و له قيمته و مكانته طبعاً ـ و بين شخص يبذل من نفسه و قلبه فـي الفصل حتى يرفع هذه المادة الخام و هذا الطفل الذي لا يعلم شيئاً إلى تلك المرتبة السامقة من المعرفة .
أنجزت أعمال جيدة لمعالجة المشكلات المعيشية و المادية كما ذكر السادة هنا فـي تقريرهم ، لكنها غير كافية. لماذا غير كافية ؟ لأن معالجة المشكلات المعيشية لشريحتـي العمال و المعلمين و باقي الشرائح منوطة بإصلاح الأسس الاقتصادية فـي البلاد . لنفترض أننا زدنا راتب هذا الإنسان المكافح عشرين بالمائة أو أربعين بالمائة ، لكننا إن لم نحتو التضخم و لم نضمن قيمة العملة الوطنية ، فإن ما يستلمه من زيادة منا هذا العام لن تجده شيئاً إذا كانت أدنى من التضخم المنفلت فـي الأسعار . و بهذا لن نكون قد فعلنا شيئاً فـي الحقيقة . هاهنا يكمن أساس القضية .
وصيتـي للوزراء المحترمين الحاضرين هنا و غيرهم من المسؤولين الحكوميين اليوم و فـي السابق هي السعي الدؤوب لتعزيز العملة الوطنية و تنظيم إنفاقات الدولة و تكاليفها و الحؤول دون التبذير و الإنفاقات الزائدة المسرفة ، و أن تراعي الوزارة ـ ضمن دائرة أضيق ـ معايير العدالة القصوى و تقضي على التمييز غير المبرر . هذه أعمال يمكنها إبهاج القلوب و إرضاء الناس و بث الأمل فيهم و تحسين أوضاع حياتهم من دون زيادات نقدية . إذا تمت هذه الأعمال فستكتسب الحياة سياقها الطبيعي المنشود حتى لو لم تكن هناك زيادات نقدية ملحوظة .
ينبغي كذلك التشديد على القيمة و الكرامة المعنوية . ليلتفت العمال و المعلمون إلى الشعارات التـي يرفعونها و الكلمات التـي يطلقونها فلا تكون بالشكل الذي يسقط الشرف المعنوي و الكرامة الحقيقية للمعلمين و العمال فـي أعين الشعب . الحاجات مادية و معنوية كما ذكرت ، غير أن ما يقنع الإنسان ويرضيه و يبث فيه الأمل هو التكريم المعنوي . الكثيرون مستعدون لحفظ ماء وجههم و كرامتهم على أن لا يمدوا أيديهم إلى أحد و يأخذوا منه مالاً . الإنسان الشريف يهتم بالكرامة المعنوية . لذا يجب أن نعرف الكرامة التـي يتمتع بها المعلمون و العمال ، و هم ذوو كرامة حقيقية عند الله و العقل و فـي الحسابات الاجتماعية و الإنسانية . ينبغي أن نرفع هذه الكرامة عالياً و نعرضها على الجميع . من منا لم ينحنِ عاتقه لحد الآن تحت أعباء منّة المعلم ؟ أي منا لم يقبّل يد معلمه لحد الآن ؟ هذه هي قيمة المعلم . و قيمة العامل رفيعة إلى درجة أن الرسول قبّل يده . فما يفعل أناس عاجزون مثلي كي يحلوا محل تقبيل الرسول يد العامل؟ يجب أن لا ننسى هذه القيم المعنوية .
البعض فـي المجتمع يتحدثون و يتصرفون بطريقة توحي للناس أن هناك تسابق و تكالب على الماديات ، وكل من يحصل على مال أكثر و يستفيد أكثر فهو الفائز ، و كل من يستفيد أقل فهو الخاسر و المتأخر و المسكين ! ليست هذه هي القضية . هذه حالة خاصة بقانون الغابة و الحيوانات العصرية ! نعم ، الأمر كذلك فـي الأنظمة الرأسمالية حيث النزاع على المال و الماديات ، إذ لا توجد معنوية هناك . أما فـي المجتمع الإنسانـي فالأولوية للفضيلة و الشرف و السمعة و الكرامة الإنسانية و القيمة المعنوية . طبعاً لا يتخذ هذا ذريعةً لعدم التفكير فـي الماديات و تحسين المعاش . ينبغي التفكير فـي هذا و طريقته هي ما ذكرت : تمتين أسس الاقتصاد .
و حول القضايا البالغة الأهمية التـي تقع إلى جوارنا فـي العراق و تلفت إليها كل القلوب و الأنظار فـي العالم أقول شيئاً واحداً فقط : لقد أضحى العراق ساحة للعبر و لكشف كثير من الحقائق للشعوب . الذين يرفعون راية الديمقراطية فـي العالم يعلنون بصراحة أن من حق الشعب العراقي انتخاب حكومة نريدها نحن ، فهل هذه حكومة شعبية ؟! هل هذه ديمقراطية ؟! يعلنون صراحةً أنه إذا أراد الشعب العراقي بأسره تسويد حكومة إسلامية فلن نوافق نحن ! لقد تبين معنى الديمقراطية لدى هؤلاء السادة . هكذا هي الديمقراطية الأمريكية فـي كل مكان . و هي كذلك فـي أمريكا نفسها . قبل سنوات أنفق شخصية أمريكية لم يكن من الحزبين الحاكمين فـي أمريكا مالاً كثيراً و أطلق ضجة صاخبة ليشارك فـي انتخابات رئاسة الجمهورية ، و سار إلى أواسط الطريق لكنهم أسقطوه أرضاً بطريقة لا يفكر معها غيره بالتحرك خارج النطاق التنظيمي للحزبين المعروفين فـي أمريكا . إذن الحال كذلك فـي أمريكا نفسها . هذه هي ديمقراطيتهم .
رفعوا راية محاربة الإرهاب و لا يزالون يكررون مزاعمهم دون خجل ، لكنهم يتعاونون مع المنافقين الملطخة أيديهم بدماء الشعب الإيرانـي و أكراد العراق و شيعته ، حيث قاتل المنافقون إلى جانب الصداميين ضد الشيعة فـي انتفاضة عام 1369 فـي العراق حينما أرتكب صدام مجازر ضد الشيعة فـي جنوب العراق و مناطق كثيرة أخرى من ذلك البلد ! الإرهاب مهنتهم . يعترفون و يفخرون بذلك ، و العالم يعرفهم بوصفهم إرهابيين ، لكن أمريكا احتضنتهم ! النتيجة إذن هي أن الإرهاب شىء سلبـي حينما لا يكون عميلاً و خادماً لأمريكا . أما إذا كان عميلاً و خادماً لأمريكا فإنه حسن جداً و لا إشكال فيه ! هذا موطن اختبار يبين لنا ما معنى محاربة الإرهاب و ما معنى الديمقراطية .
أشاع الإنجليز عن أنفسهم فـي العالم أنهم متسامحون متساهلون . و طائفة من نخبنا الثقافية و الفكرية يفخرون أنهم متسامحون متساهلون مثلهم . و قد شاهدنا تسامح الإنجليز فـي العراق ! دخول بيوت الناس بالبنادق ، و إفساد حياتهم الآمنة ، و إرعاب الأطفال الصغار و إبكائهم ، و الرد على تظاهرات الجماهير ـ سواء فـي بغداد أو الموصل أو فـي مدن أخرى لم تصلنا أخبارها ـ بالرصاص الحي . هل هذه ديمقراطية و تسامح و إنسانية و التزام بحقوق الإنسان ؟! إنها ساحة للاعتبار . هذه أمور يجب أن تفهم .
هم مخطئون طبعاً و سيسقطون كما سقط صدام . لو كانت قلوب الشعب العراقي مع صدام لما استطاعت القوة العسكرية الأمريكية إسقاطه . لم تكن قلوب الشعب العراقي مع صدام الذي لم يسمع صوت هذا الشعب . و هؤلاء أيضاً لا يسمعون هتافات الشعب العراقي و لا يرون مظاهراتهم و تجمعاتهم . يتظاهر الناس فيقول أولئك إنها الحرية التـي منحناها للناس فراحوا يتظاهرون و يهتفون ! هم يهتفون و أنتم لا تسمعون ، و تفتحون عليهم النار من رشاشاتكم متى ما اقتضت الضرورة . يالها من نزعة إنسانية ! و لإنهم لا يسمعون أصوات الناس سيحل بهم نفس البلاء ، طبعاً لا بعد تلك المدة الطويلة التـي بقي فيها صدام ، بل أسرع من ذلك بكثير ، و السبب هو أن هؤلاء محتلون .
يجب أن لا يعلّقوا إخفاقاتهم على مشجب هذا و ذاك ، و لا يقول المسيطرون على النظام الأمريكي و البريطانـي خلف مكبرات الصوت إن إيران هي التـي تحركهم ، لا ، إيران لا تحرك أحداً . الشاب العراقي الذي يرى دبابات و أحذية الجنود الأجانب فـي شارعه و بيته لا يحتاج إلى تثوير . فـي أي مكان من العالم صبر الشباب و الرجال الغيورون و النساء الشجاعات فـي مجتمع ما على تواجد المحتلين حتى يصبر هؤلاء أيضاً ؟ لم يصبر الناس على هذا فـي أي مكان و لن يصبر هؤلاء أيضاً . إذن هم ليسوا بحاجة إلى من يثورهم . السبب الرئيس هو الصحوة الإسلامية ، و هذا ما فهموه جيداً هم أيضاً . و هي حالة لا تختص بالعراق . فـي أي موقع من العالم الإسلامي يتواجد فيه الأمريكان و الإنجليز و سواهم و يواجهون الجماهير ، سيلمسون موجة النهضة و الصحوة الإسلامية الهائلة . لقد شعرت الأمة الإسلامية بنسائم الصحوة و تشمّمت أريج العودة إلى المعارف الإسلامية . و كل هذا ينبع من تلك النهضة الكبرى التـي أطلقتموها أنتم و إمامنا الراحل العظيم ذلك الرجل السماوي الكبير الذي استطاع تهييج هذا المحيط و توعية هذه القلوب . و قد فهموا هم أيضاً هذه الحقيقة . عداؤهم لكم و للإمام و للثورة الإسلامية و النظام الإسلامي سببه علمهم أن ينبوعاً قد تفجر هنا و جرت مياهه فـي كل العالم الإسلامي . قالوا لا تصدروا الثورة ، قلنا و هل الثورة بضاعة يصدرها الإنسان ؟! الثورة كأريج الزهور الزكي يسيح و ينتشر لوحده . الثورة كرياح الربيع يغير الفضاءات العفنة المكبوتة من تلقاء نفسه . الثورة لا يصدرها أحد ، إنها تُصدَّر من تلقاء نفسها .
أعزائي ، إخوتي و أخواتي ، أبنائي ؛ عيون العالم الإسلامي اليوم عليكم . إذا عشتم حياةً سليمة منضبطة و مسؤولة ، و عملتم و بذلتم مساعيكم بنحو جيد فـي أي موقع كنتم فيه ـ سواء كنتم مسؤولين حكوميين أو أنتم المتصدين المباشرين للأعمال و المهمات ـ ستستطيعون الرقي ببلدكم إلى ذروة العز و الفخار و السعادة و الرفاه و العلم و التحضر ، بالإضافة إلى تشجيع كافة الشعوب الإسلامية على السير فـي طريق المفاخر هذا و تحطيم القيود و التقدم فـي درب الرفاه و المعنوية و الحياة المادية و الإنسانية إن شاء الله .
نسأل الله تعالى أن يوفقنا و إياكم لمعرفة واجباتنا و ما يرضي الله ، و يجعلنا بيض الوجوه أمام الإمام المهدي المنتظر أرواحنا فداه، وأن يعرّفنا ديوننا حيال دماء الشهداء الطاهرة إن شاء الله ، و أن نفهم هذه الديون و الواجبات على نحو عميق و نعمل بها على أحسن وجه .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

1 انتفاضة شعبان ، آذار 1991 م .