بسم الله الرحمن الرحيم

كنت أود أن نبتدئ هذه الجلسة بأسئلة الطلبة الجامعيين الأعزاء، لأن أطيب الأشياء عند الإنسان أن يطرح الشباب - و هم مظهر طلب المعرفة و الاستفهام و تحري العلم و الاطلاع - أسئلتهم و يستطيع هو الإجابة عنها ضمن حدود معلوماته، فيساعد في الوقت ذاته و بنفس المقدارعلی تبديد الغموض و الملابسات في أذهانهم باعتبارهم رمز الحيوية و النشاط و التطلع إلی التقدم، خصوصاً و أن بث الغموض والالتباس من السياسات الرئيسة للمراكز المعادية للجمهورية الإسلامية. خلق الغموض و إيجاد مساحات معتمة في الأذهان هو بحد ذاته سياسية. لذلك سأخصص الجزء الأكبر من الوقت للأجابة عن الأسئلة إن شاءالله، وليس لدي أية حدود و قيود في الوقت ، فأنا علی استعداد لمواصلة هذا الاجتماع ما دامت هناك طاقة فينا، و ما دمنا لم نتعب أنا و أنتم كثيراً. و لكن ثمة مسألة أو مسألتين من المسائل الأساسية التي أعتقد أنكم تهتمون بها أيضاً، لذلك سأتحدث عنها أولاً ثم أجيب عن الأسئلة التي تصلني هنا.
أقول بدايةً أن مناخ الجامعة هو بطبيعته مناخ بهجة، و تجديد، ‌و إبداع، وإنتاج. الجامعة مناخ ترعرع الشخصيات و تفجر المواهب و تفتح القابليات المتألقة الخافية ‌في شخصية الأنسان. و الجامعة إلی ذلك بيئة تتسم بالنقاء و الخلوص و طلب الحقيقة، فهي تضم فئات شبابية. و الجامعة في الوقت ذاته مؤشر لرفض الظواهر السلبية و غير الأيجابية. فالشيء السلبي في النظرة القيمية المثالية ‌للشباب، يتبدی‌ رفضُهُ والتحسس منه في البيئة الجامعية قبل أي مكان آخر،‌ وقد يترافق هذا التحسس مع سرعة في التبرم أحياناً. و إذا توفرت الأرضية اللازمة كانت البيئة الجامعية بيئة الميول الدينية و المعنوية الرقيقة،‌ رغم أن البعض يظن خلاف ذلك أو يحاول الإيحاء بخلاف ذلك. هذه سمات متوفرة بصورة طبيعية في كل البيئات الجامعية في بلادنا.
بخصوص الشطر الأخير، أي الميول المعنوية، لأن أجواء جلستكم هذه محببة لي جداً حيث تمور فيها معاني النقاء و المعنوية و إشراق الأنوار الشبابية، أود القول قبل الخوض في المسائل الرئيسية التي سأتحدث عنها إنني شاهدت أحياناً أتقی و أنقی الشباب بين الطلبة الجامعيين. لا أنسی ذكری شاب في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره اطلعت علی وصيته بعد استشهاده. كان حفيد أحد مراجع التقليد و العلماء المعروفين في وقتها،‌ و كان ذلك المرجع و العالم المعروف من أهل السلوك و المعرفة و التوحيد. حين قرأت وصية الشاب أدركت أن ذلك الطالب الجامعي ذا التاسعة عشرة أو العشرين من عمره إن لم يكن متقدماً في مراتب الخشوع و الكشف و العروج الروحي و المعنوي - الشيء الذي يتمناه كل سالك و عارف و طالب حقيقة - علی جده المجتهد العارف الذي أنفق ربما ستين أو سبعين عاماً في الجهد و العمل في ذلك السبيل،‌ إن لم يكن متقدماً‌ عليه في تلك المراتب فهو ليس بمتأخر عنه بالتأكيد. هذه حال لا تتوفر دائماً و لكل أنسان. يجب أن يجاهد الإنسان بالمعنی الحقيقي للكلمة‌ و يسحق بقدميه الأنا السلبية التي تعرقل عروجه و حركته إلی الأعالي،‌ و يغض الطرف عن شهواته و غرائزه و حيوانيته، فيحصل عندئذ مثل هذا العروج الذي حصل لذلك الشاب. علي كل حال شاهدنا مثل هذه النماذج بين الشباب الجامعي وكان هذا نموذجاً ذكرته لكم،‌ و قد لاحظت حالات أخری من بعيد أو قريب.
أريد أن أقول: كما أن قدراتكم الشبابية و حيويتكم في ميدان التنافس الرياضي أكبر من الشيوخ و كبار السن، كذلك هي قواكم في ميدان التنافس و السباق نحو المعنويات. فكما أنكم تسبقونني يقيناً‌ في الركض لو تسابقنا،‌ كذلك لو سرنا من موضع واحد للعروج إلی المراتب المعنوية لتقدمتم عليَّ بالتأكيد. إذن، قوی الشاب و حيويته تمتاز بالشباب و الرجحان سواء في المجال المادي أو المجال المعنوي. كما أنكم أقوی و أنشط و أكثر قابلية في الرياضات الجسمية من الشيوخ، كذلك أنتم في المجالات المعنوية، و بوسعكم أن تتقدموا و تتفوقوا، فاعرفوا قدر ذلك.
حين يقال اعرفوا قدر الشباب تنصرف الأذهان أحياناً إلی مساحات معينة دون غيرها. أهم مظهر لتثمين الشباب هو أن تستثمروا هذا النقاء، والنور، و عدم التلوث، و الطهر الطبيعي لدی الإنسان الشاب، و تطوروا أنفسكم في ميادين التزكية و الأخلاق. هذا ما سيكون ذخراً و رصيداً لحياتكم كلها إن شاء الله، و السبيل إلی ذلك في مراعاة نقطين: الذكر و التوبة. الذكر هو الموقف المقابل للغفلة. و الغفلة هي الغفلة عن الله و عن الواجب و المسؤولية و عن الموعد الحساس الذي سنواجه فيه المأمورين الإلهيين في عالم الملكوت - عالم ما بعد الجسم - و نقف أمام الله يوم القيامة لمواجهة الحساب الأكبر. إنها أذكار مصيرية. لم يقولوا لنا آمنوا بالآخرة و حسب، و يكفي أن يكون اعتقادكم بالآخرة كباقي اعتقاداتكم العلمية، لا، من أجل أن تترك هذه العقيدة تأثيرها في حياتنا و تحركنا و قراراتنا، عليكم المحافظة علی هذا الذكر في نفوسكم. (( إنما تنذر من اتبع الذكر2)). الإنذار النبوي و الإنذار الإلهي ينفع الذين يرومون الذكر و ينأون بأنفسهم عن الغفلة.
النقطة الثانية هي التوبة. قد يقول قائل إننا ما نزال شباباً لم تمض أعمارنا مثلكم و لم نرتكب ذنوباً كثيرة فنكون بحاجة إلی التوبة، ‌لا، ‌هذا غير الصحيح. التوبة واجب دائم علی الإنسان . حتی أطهر البشر يجب أن يتوب.
التوبة ‌تعني العودة إلی الله، العودة عن الطريق الخطأ، و توجيه القلب و الوجه نحو الخالق تماماً. من ياتری أطهر من الإمام السجاد عليه السلام؟ انظروا للصحيفة السجادية من أولها إلی آخرها و لاحظوا أية أحوال و أية أشواق حارة و أية توبة تزخر بها: « هذا مقام من استحيی لنفسه منك و سخط عليها و رضي عنك ». يقول الإمام السجاد عليه السلام لله تعالی: يا إلهي، أنا غاضب من نفسي لأنها تحيد عن أوامرك أحياناً. أنا راضٍ عنك و مستحٍ منك بسبب عصيان نفسي. هذه مناجاة الإمام السجاد عليه السلام و أشواقه و تحرقاته و حاجاته.
يا أعزائي، أيها الشباب، اعرفوا قدر الشباب و حافظوا علی هذه القلوب الطاهرة،‌ و هذا النور، وهذا الصفاء‌ المبثوث فيكم. حتی لو صدر خطأ عن الشاب،‌ سيبقی هذا النور مشعاً وهاجاً طالما لم تتراكم الذنوب. طبعاً متی ما أطفأ ذنب من الذنوب شيئاً من هذا النور فستكون التوبة هي العلاج. إنابتنا و توبتنا ستعطف المحبة الإلهية علينا إن شاء الله. ذكرت هذا لكي تتوجه قلوبكم.
أری من المناسب الإشارة إلی مسألتين: طبعاً سأحاول أن أخصص وقتاً قليلاً لتناول هاتين المسألتين حتی يتوفر وقت أكثر للإجابة عن أسئلتكم.
إحدی المسألتين هي القضية ‌الحالية بين أمريكا و الجمهورية‌ الإسلامية. القضية التي اقتطعت مساحة كبيرة من الأذهان و القلوب و التحليلات. سأشير لهذه المسألة علی وجه الإجمال ثم أتطرق للمسألة الثانية المتعلقة بكم أنتم الشباب أكثر،‌ ألا و هي الشعارات الأساسية التي رفعت خلال هذه الأعوام، و ما يتعلق منها بالجامعات أكثر هو نهضة إنتاج العلوم و النهضة الرقائقية ( البرمجية ) أو نهضة العدالة التي كانت خطاباً ‌موجهاً للشباب أساساً،‌ أو حركة مكافحة الفساد. رفعت عدة شعارات من هذا القبيل طوال هذه السنوات و أود أن أتحدث عنها بعض الشيء.
فيما يتصل بالمسألة الأولی يجب القول إن الحديث عن أمريكا و موقف الجمهورية الإسلامية منها بحاجة إلی نقاش تفصيلي موسع باعتباره استراتيجية طويلة الأمد. أتمنی أن أجد هذه الفرصة و استطيع طرح هذا المبحث ثانية علی مجموعة من الشباب أفضّل أن يكونوا جامعيين،‌ ولدي الكثير مما يقال في تلك الفرصة القادمة،‌ لكن ما أروم قوله في هذا اللقاء هو قضية الواقع الحالي الذي تعيشه أمريكا و التحدي الذي يواجهها علی المسرح الدولي لا سيما بعد قضية العراق، و كذلك التهديدات التي قد يطلقونها بشكل مباشر ضد بعض الشعوب و ضدنا بعض الأحيان و تجد لها انعكاساتها بين فئات مختلفه من أبناء شعبنا.

تعد أمريكا القوة العظمی الوحيدة في العالم منذ نحو عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً. أَصر الأمريكيون علی تكريس هذه الفكرة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، و أنهم القوة العظمی الوحيدة في العالم و أن العالم قد غدا ذا قطب واحد. وقد ساروا في منحی يتطابق و هذا المنطق. خلاصة المنحی هي أن يستغلوا امتيازات كونهم القوة‌ العظمی الوحيدة في العالم. لهذا الفكر سابقته و ماضيه طبعاً فهو ليس بالنمط الجديد في التفكير. ما يمكن استنتاجه من مجموعة التصريحات و الوثائق السياسية المتوفرة و حتی بعض البحوث الصادرة عن المراكز السياسية في أمريكا يدل علی‌ أن لهذا الفكر جذوره و سوابقه، لكن مثل هذه المغامرات تحتاج في كل نقطة من العالم إلی شخصيات مناسبة. حينما يريدون استخدام بلدوزر لهدم بناية لابد من سائق جريء و أرعن يقود هذا البلدوزر. فوجود هذا السائق ضروري رغم أنه لا يهدم البناية بنفسه بل يهدمها بالبلدوزر. أو في انتاج الفيلم السينمائي لابد من وجود بدل جريء تستخفه الإثارة. وقد تحقق هذا الشرط بعد انتخاب رئيس الجمهورية الحالي في أمريكا. إنه شخص تتلائم أخلاقه بصورة طبيعية مع روح العدوان و المغامرة. إنهم يرومون إفهام هذه الروح لجميع الناس في العالم - أعدائهم و أصدقائهم - و أن سلوكهم علی ‌المستوی‌ الدولي سلوك قوة عظمی متفردة لها حقوقها و مطاليبها و تريد تحقيق هذه المطاليب بأي شكل متاح.
جزء من هذا المنحی‌ يتعلق بإيران طبعاً. فنحن من البلدان التي تتسمر عليها هذه النظرة التوسعية الطامعة، ذلك أن النظرة الأمريكية في هذا المنحی السياسي تتركز علی الشرق الأوسط في الغالب، و الشرق الأوسط كما تعلمون مركز ثروة و موقع جغرافي مهم. و بلدنا يقع في هذه المنطقة‌ و يتميّز بسمات جد مهمة و بارزة. لماذا كانت إيران في غمرة هذا التحدي موضع اهتمام القوة المعتدية و بؤرة العدوان، و أعني بها أمريكا؟ السبب كما قلنا هو أن إيران أولاً بلد كبير و ثري و له مصادر جوفية غنية جداً. بلدنا يملك ثاني احتياطي للغاز في العالم و له احتياطي نفطي عظيم القيمة مضافاً إلی‌ كثير من المصادر الجوفية الأخری. بلد له عدد كبير من السكان و موقع جغرافي حساس، و حدود طويلة علی‌ الخليج الفارسي و بحر عمان. هذه كلها امتيازات للبلد. الطريق الوحيد تقريباً بين الغرب و آسيا الوسطی يمر من هنا أيضاً. و لهذا السبب الطبيعي لابد أن يكون بلدنا موضع اهتمام أمريكا و تحدياتها. السبب الآخر هوية الجمهورية الإسلامية، فمن المهم جداً أن يقوم في منطقة من العالم نظام يؤمن برفض الظلم و الاستبداد و التبعية الاقتصادية و الثقافية و السياسية للأقطاب العالمية، ويعتمد و يؤمن بحكومة الشعب - أي الانبثاق عن الجماهير و الشعب - ويستمد كل هذه المفاهيم من مرتكزاته الدينية و العقيدية و الإيمانية لا من التعاقدات الاجتماعية، و هذا هو الفرق بين الديمقراطية الغربية و حكومة الشعب عندنا، و هو موضوع يستحق الكثير من النقاش و البحث المفصل. حكومة الشعب الدينية لا تقبل النقض لأنها تقوم علی أساس عقيدة دينية، فإذا استطاع شخص التزييف في الانتخابات أو استقطاب أنظار الشعب بطريقة معينة، حيث تتوجه أنظارهم إليه بغير حق - كأن يتظاهر بتحلّيه بقيمة معينة هي ليست فيه، لكن الناس تقبل عليه بسبب تظاهره هذا و تمنحه أصواتها - فلن يكون له حق في منطق حكومة الشعب الدينية. إنه أسلوب مقبول تماماً في المنطق الليبرالي الذي يمثل أساس الليبرالية الغربية، لكنه ليس كذلك في منطق حكومة الشعب الدينية. فالتصعّب هنا أكبر بسبب الارتكاز علی المباني الدينية و الإيمانية. إذن رفض الظلم، و الهيمنة،‌ و الاستبداد، و التبعية، و الفساد، منبعث و نابع كله من العقيدة الدينية. حينما يتأسس نظام بهذه الخصائص فمن البديهي أن يكون موضع عداءٍ و مواجهة، و منافساً لا يحتمل لأية منظومة في أي مكان من العالم تؤمن بالظلم الدولي، و الاستبداد الدولي، وغمط حقوق الشعوب و البلدان، و عدم الاكتراث لحدود البلدان المستقلة. هذا ما سيحصل بصورة طبيعية. إذن، حينما تبني سلطة دولية و قوة عظمی كأمريكا سياستها و استراتيجيتها علی أساس تأمين مصالحها، فلن يكون من المهم بالنسبة لها تهديد مصادر البلدان الأخری. حينما يكون هناك نظام بهذه الخصائص الإيجابية في العالم- خصوصاً في منطقة تركز عليها أمريكا جل اهتمامها المصلحي- فمن البديهي و المحتم أن يقع التضاد و التحدي بين هذا الطرف و ذاك.
لم تكن الثورة الإسلامية تغييراً يحدث في داخل البلد و حسب، فقد خلقت بالإضافة إلی ذلك ثقافة تركت تأثيراتها علی الأذهان في كافة البلدان الإسلامية بدرجات مختلفة - بدرجة عالية جداً في بعض البلدان و بدرجات أدنی في بلدان أخری - خصوصاً أذهان الشباب و المثقفين و الجامعيين. لا مراء أنكم سمعتم عن ميول طبقة الشباب في البلدان الإسلامية نحو الثورة، و الإمام، و قيم الشعب الإيراني و صموده، بيد أن ما سمعتموه أقل بكثير من الموجود علی أرض الواقع، فقد أضحی التفكير الإسلامي و فكرة الصحوة الإسلامية و العودة إلی الإسلام و التمسك به فكرةً راسخة في الأذهان علی امتداد هذه العشرين سنة أو تزيد.
قبل أشهر قال خبير استراتيجي أمريكي في توصياته للحكومة الأمريكية: ينبغي عدم الاستعجال بتاتاً في زرع الديمقراطية في البلدان الإسلامية، فلو أقيمت اليوم انتخابات حرة في أي من البلدان الإسلامية لتولت السلطة حكومات و تيارات إسلامية، لأن الجماهير تريد هذه الحكومات. إنه اعتراف عجيب جداً و كلام علی جانب كبير من الأهمية. يقول إن الديمقراطية مبكرة علی البلدان الإسلامية. كلام يدل علی أن فكرة الصحوة الإسلامية و العودة للإسلام - التي تبدّی مركزها في الجمهورية الإسلامية و بينكم أيتها الجماهير - قد انتشرت و بلغت كل أصقاع العالم. ليس هذا اعتبار أو قيمة ضئيلة. لقد نُثرت هذه البذور الآن، فما السبيل الذي تتبعه مراكز القوی و بؤر الاستكبار العالمي إذا أرادت لهذه البذور أن لا تنمو؟ الطريق الأكثر طبيعيةً هو مواجهة الينابيع الدفّاقة التي تروي هذه البذور. هذا أيضاً من أسباب عداء الاستكبار للجمهورية الإسلامية لا مجال لشرحه باعتبار أن حديثنا الآن حول أمريكا.
لا يظنن أحد أن مواجهة أمريكا لإيران شيء جديد و غير مسبوق، لا، لقد بدأت هذه المواجهة مع بداية الثورة. ربما لم يكن قد مضی علی انتصار الثورة ثلاثة أو أربعة أشهر حينما أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً شديد اللهجة ضد الثورة. و قد تجمعت الجماهير هنا و تظاهرت و نددت بتدخلهم. القصد هو أن هذه المواجهة كانت قائمة منذ مطلع الثورة، بيد أن مواجهة أمريكا للجمهورية الإسلامية كانت مواجهة عمليةً خلال فترة طويلة نسبياً. مواجهة عملية في مقابل المواجهة النظرية و هذا ما سأوضحه.
المواجهة العملية تعني المبادرة‌ لتوجيه ضربة للجمهورية الإسلامية بشتی الطرق. بدأت المواجهة العملية من قرار مجلس الشيوخ الأمريكي الذي أشرنا إليه. و قد بادروا هنا لتدبير انقلاب عسكري هو انقلاب معسكر الشهيد « نوجه » المعروف و الذي سمعتم عنه بلا شك و قد تكون لكم معلوماتكم عنه. كنّا علی اطلاع بتفاصيل القضية ، و كان انقلاباً عسكرياً خطيراً جداً أعدوا مقدماته لكنهم لم ينجحوا في تكريسه و التقدم به إلی الأمام. تجميد حساباتنا المصرفية في كل مكان يستطيعون التدخل فيه كان هو الآخر من مصاديق المواجهة العملية. كانت هناك أموال كثيرة في المصارف الأمريكية تعود للشعب الإيراني - منها أموال الحكومة الإيرانية في المعاملات و الصفقات التي تجريها - لكنهم جمدوا كل تلك الحسابات. أثاروا الجماعات المعادية للثورة بمختلف الأساليب، ليس أعداء الثورة اليمينيين فحسب - أي الملكيين - بل أثاروا أيضاً و بشكل غير مباشر أعداء الثورة و الجماعات المحسوبه علی التيار اليساري آنذاك، و ثمة وثائق و أدلة‌ علی ذلك. و من الخطوات العملية الأخری لأمريكا هجومها العسكري علی طبس، و الحظر الاقتصادي، و قطع العلاقات، و حظر شراء النفط، و تشجيع العراق علی الحرب. في حينٍ ما، كنا نقول في تحليلاتنا إن الأمريكيين أشعلوا الضوء الأخضر للعراقيين دون شك، ثم ساعدوهم و قالوا لهم اهجموا. و بعد مضي سنوات توفرت وثائق و أسناد دلت علی أن تحليلاتنا كانت صحيحة و مطابقة للواقع تماماً و ها هي الوثائق ناصعة تماماً! الخطوة العملية الأخری لأمريكا استهداف طائرتنا المدنية في الخليج الفارسي حيث قتل نحو ثلاثمائة من مواطنينا في تلك الحادثة. و قد أوقفوا سفينتنا « إيران أجر » في البحر بكل غطرسة. هذه هي المواجهات الأمريكية العملية في تلك الظروف الحساسة. حين كنتُ رئيساً للجمهورية توجهت لمنظمة الأمم المتحدة و ألقيت كلمة حماسية جداً في الهيئة العامة بثتها عدة قنوات تلفزيونية أوربية بثاً مباشراً. و لما كان من الممكن أن تترك هذه الكلمة تأثيرات كبيرة جداً ، أوقفوا سفينة « إيران أجر » في الخليج الفارسي في نفس ذلك اليوم أو اليوم التالي!‌ كنت في نيويورك و شاهدنا كيف غطت جميع قنوات التلفزة مجريات سفينة «إيران أجر» و تلغيمها في الخليج الفارسي، و كيف استغرق هذا الحدث كل الأجواء الإعلامية في أمريكا بل العالم. السبب في خطوتهم تلك هو التعتيم علی الكلمة. و الهجوم علی الأرصفة النفطية و غيرها نموذج آخر من المواجهة العملية الأمريكية. تركيزهم الأكبر طوال هذه الأعوام كان علی المواجهة العملية المتمثلة في خطوات سياسية و اقتصادية و نصف عسكرية أو حتي عسكرية.
بعد أن أمضت أمريكا سنوات في مواجهة الجمهورية الإسلامية و الشعب الإيراني بهذا الأسلوب العملي توصلت إلی نتيجة فحواها أن المواجهة العملية غير كافية و لابد من البدء إلی جانب ذلك بمواجهة و خصام و مجابهة نظرية. فما هو المراد من المواجهة النظرية ؟ المراد منها محاربة الجمهورية الإسلامية علی مستوی العقيدة و في المجال الثقافي و الأخلاقي. طبعاً كانت محاربتهم جادة من قبل أيضاً، لكنهم شعروا أن هذا يجب أن يكون حجر الزاوية. تصوروا أن الحرب العقيدية بوسعها شل جزء هائل و رفع عقبة كبيرة. ظنوا أن الحرب في الصعد الأخلاقية‌ بمقدورها سلب الجمهورية الإسلامية قسماً كبيراً من إمكاناتها و أسلحتها.
أن نستطيع معرفة الخطة العامة للأعداء ضدنا فهذا بحد ذاته جزء‌ من قدراتنا الدفاعية، لذا يجب أن تلتفتوا إلی هذه النقطة. عدم معرفة ما يدور في رؤوس الأعداء و ما يريدون أن يفعلوه غفلة قد تحرمنا من إمكانية المجابهة و الدفاع. علينا معرفة هذا تماماً. منذ سنة73 و 74 2 بدأت حربهم العقيدية - الأخلاقية علی نحو تدريجي و متصاعد. و قد شعرتُ ببدء هذه الحرب في ذلك الحين، و كان طرحنا قضية الغزو الثقافي وليد هذا الجانب من القضية. إلی‌ جانب التحركات العملية السياسية و الاقتصادية و غير ذلك،‌ انطلق فعلاً غزو علی الصعيد الثقافي و بأدوات ثقافية.
الهدف من هذه المواجهة النظرية و الهجوم العقيدي واضح و معلوم. نظام الجمهورية الإسلامية معتمد علی الجماهير، و الجماهير تحب هذا النظام و تدافع عنه انطلاقاً من إيمانها و روحها المعنوية و عقيدتها. هذه حقيقة أصبحت واضحة و مفهومة طوال هذه السنوات. إذا سلبت هذه الأدوات من النظام الإسلامي فمن البديهي أن يكون ذاك مهماً‌ جداً بالنسبة لمن تخامر ذهنه المؤامرات علی هذا البلد و النظام. لذلك لاحظنا أن هذه المواجهة اشتدت يوماً‌ بعد يوم منذ سنة 73 و 74، و بدأ التغلغل و الاختراق لمرتكزات نظامنا العقيدية و القيمية علی كافة المستويات. و انطلق التشكيك و بث الشبهات بشكل عميق و شامل حتی في أصل الثورة و جذورها الأعمق - كالإسلام، و عاشوراء، و التشيع، و عدم الفصل بين الدين و السياسة - و هي من المباني الفكرية الراسخة لدی رجال الثورة و مثقفي البلاد و رواد هذه الحركة العظيمة. أقاموا ندوات و مؤتمرات و أصدروا مجلات تخصصية خارج البلاد، و استخدموا المواقع المتوفرة لديهم داخل البلاد بمقدار ما استطاعوا. البعض منهم طبعاً لم يكونوا يفهمون ما يفعلون و البعض كانوا يفهمون و يتعمدون. فريق من العناصر الداخلية كانوا يدركون أية مساعدة كبری يقدمونها للأعداء، المساعدة التي ما تزال مستمرة إلی اليوم للأسف، و ستستمر كأسلوب اختاره العدو.
لا يمكن التوقع من العدو أن يترك السبيل الذي اختاره لمواجهة الجبهة المقابلة إلاّ إذا يئس و طاشت سهامه و أدرك أن لا فائدة من هذه الممارسات. يبث العدو الشبهات في كل القضايا، و منها القضايا السياسية و العقيدية، ‌و قضية فلسطين، أو قضية حزب الله، أو المسائل العلمية. ما هو المخطط الرئيس للأعداء ؟ مواجهة الجمهورية الإسلامية للاستيلاء و الهيمنة علی إيران التي تتميز بتلك الخصائص التي نعلمها و قد ذكرت قبل قليل مدی أهمية إيران بالنسبة لمعسكر الاستكبار و أمريكا.
من جهة ثانية يحاولون تمهيد الأرضية في الداخل عن طريق فصم العری بين النظام و الجماهير. أساس سياستهم هو أنِ يستطيعوا فصم الأواصر بين نظام الجمهورية الإسلامية و الشعب. و يأتي الدور بعد ذلك لإعداد الرأي العالم علی المستوی الدولي. لماذا يحتاجون لهذه التمهيدات ؟ لأن أمريكا تدري أنها لن تنتصر علی الجمهورية الإسلامية من دون هذه التمهيدات رغم تفوقها العسكري. هذه حقيقة. التفوق العسكري ليس حاسماً علی الدوام و هذا ما سوف أوضحه أكثر إن شاء الله. أمريكا بحاجة إلی هذا التمهيد الداخلي لتتحقق لها الهيمنة العسكرية.
منحی أمريكا في تكريس نفسها كقوة عظمی و استغلال امتياز القوة العظمی‌الوحيدة في العالم، يمثل استراتيجية بالنسبة لأمريكا. و لا ريب أن هذه الاستراتيجية تقتضي فيما تقتضي أن يغامروا - و ترون أنهم يفعلون ذلك في العالم - غير أن المغامرة و خلق الأزمات لها شرط أساسي من وجهة نظر هؤلاء المغامرين و خالقي الأزمات إذا لم يتحقق فلن يتمكنوا من خلق الأزمات. الشرط هو أن يستطيعوا الخروج من الأزمة موفقين ناجحين. حيثما لا يكونوا واثقين من الخروج من مغامرتهم فلن يبادروا لها، لأنها ستنتهي بضررهم و خسارتهم.
من أهدافهم تكريس أقتدارهم. و المغامرة الفاشلة ستحطم هذا الاقتدار. في قضية العراق مثلاً لو تقرر أن تستمر الحرب ستة أشهر أو أكثر لما حصل الهجوم علی العراق بالتأكيد. فمن غير المجدي للأمريكيين بالمرة أن ينفقوا ستة أشهر لاحتلال العراق و الانتصار عليه لأنهم سيتكبدون خسائر فادحة في المعدات و الأفراد. شرط الخوض في هذه العملية هو أن يستطيعوا الفراغ منها خلال مدة قصيرة،‌ و هذا ما كان ميسوراً لهم في العراق. أولاً‌ كانت العلاقات سيئة جداً‌ بين الشعب و النظام في العراق و لم تكن الجماهير مستعدة للدفاع عن ذلك النظام، و هي لا تنحاز للأمريكيين أيضاً. لقد أخطأ الأمريكيون في حساباتهم. كانوا يظنون أن الجماهير ستهتف لصالحهم إذا دخلوا العراق و هذا ما لم يحصل. ثم إنهم اتفقوا مع قادة النظام العراقي - في الفترة الأخيرة علی الأقل - لتسليم بغداد من دون مقاومة. هذا ما تؤكده كل المعلومات و الأخبار الموثوقة التي وصلتنا لحد الآن من مصادر مختلفة في العالم. إذن، شرط خلق الأزمات من وجهة نظرهم هو أن يكون احتمال النجاح فيه عالياً. فإذا كان احتمال النجاح ضئيلأ لم يبادروا. الذي ساعد الأمريكان في أفغانستان هو جبهة الشمال. كانت هناك فئة في شمال أفغانستان مسلحة بقوة و لها إمكاناتها و تصلها مساعدات و تعارض نظام طالبان. و في العراق - كما ذكرت - ساعدت الأمريكان معارضة الناس للنظام العراقي و عداؤهم له. أي مكان آخر يروم الأمريكان المغامرة فيه سيحتاجون إلی هذه العناصر، إما أن يكون الشعب عدواً للنظام هناك، أو تكون لهم في داخل ذلك البلد فئة منظمة يمكنهم الاعتماد عليها. و قد يحتاجون للأمرين معاً. إذا كان الأمر كذلك سيكون من المجدي لهم الدخول في الأزمة، و إلاّ قد لا يمكنهم تحقيق النصر.
من هذا المنظار، لاحظوا كم من المهم لهم دور الأنشطة الإعلامية و المواجهة النظرية بين أمريكا و الجمهورية الإسلامية. إنهم بحاجة إلی‌ الدعاية و المواجهة النظرية، و إلی نزع إيمان الجماهير بأسس النظام. كما أنهم بحاجة إلی‌ سلخ إيمان الناس بالفضائل و الالتزامات الخلقية. هذه أحوال تفصل الجماهير عن النظام الإسلامي و تفصم العری‌ الوثيقة بين النظام و الشعب. يصب أعداؤنا اليوم كل طاقتهم علی هذه المهمة. و هي ليست عملية سهلة بالنسبة لإيران طبعاً، و هذا ما يعلمه الأمريكيون أنفسهم. إنهم يدرون أن إيران ليست العراق و لا أفغانستان و لا حتی ‌كبعض البلدان العربية الصديقة لأمريكا و المعرضة للتهديد هي أيضاً. لا يمكن مقارنة إيران بتلك البلدان علی الإطلاق. لم تتأسس الجمهورية الإسلامية نتيجة انقلاب عسكري و لا هي حصيلة نظام الحزب الواحد. الجماهير هي التي صنعت الجمهورية الإسلامية و هي التي صانتها و دافعت عنها. أغلب أنصار الجمهورية الإسلامية من الشباب الذين يشكلون أكثرية عظمی في البلاد. هؤلاء هم الذين سيدافعون عن الجمهورية الإسلامية و يقفون إلی جانبها. هذه حقائق يعلمها أعداؤنا و يشعرون بها و لها تأثيراتها في تحليلاتهم.
الجمهورية الإسلامية نظام شعبي يعتمد علی الجماهير بالمعنی الحقيقي للكلمة. بلد بستين أو سبعين نسمة تجری فيه انتخابات في كل عام لمختلف الشؤون من انتخاب قائد النظام إلی رئيس الجمهورية إلی‌ أعضاء و ممثلي المجالس كلهم يتولون مسؤولياتهم بانتخاب الشعب. العدو محبط أمام هذه الظاهرة. نظام شعبي ديمقراطي يتوكأ علی إيمان الشعب و ينبثق من صميم الجماهير. ليس من اليسير طبعاً إيجاد فصام بين الشعب و مثل هذا النظام و أجهزته الحكومية. الجماهير تثق بإخلاص المسؤولين و تدري أن مسؤولي النظام الكبار يعملون بإخلاص، لكنهم طبعا ً‌قد ينجحون في مكان و قد لا ينجحون في مكان آخر. إذن، شرط نجاح الأعداء في تحديهم الشعب الإيراني هو خلقهم صورة مغلوطة لنظام الجمهورية الإسلامية عبر وسائلهم الإعلامية المختلفة. هنا يتجلی دور الإعلام، و الصحف، ‌و الكتب، والأمواج الإذاعية و التلفزيونية التي توجه في العالم ضد إيران و تبث برامجها باللغة الفارسية. ها هنا تتجلی أهمية الإعلام بالنسبة لهم. عليهم رسم صورة لإيران كبلد مستبد رجعي و إقناع الرأي العام أن نظامنا معادٍ للتحضر. يخطب رئيس جمهورية أمريكا فيقول: إننا ندافع عن العالم المتحضر! ما هو معنی التحضر لديهم؟ يسمون الهجوم علی العراق من أجل النفط، و ارتكاب كل تلك الفجائع دفاعاً عن التحضر! أي يسمون أنفسهم العالم المتحضر و من سواهم - مهما كانوا - غير متحضرين! يحاولون أن يرسموا مثل هذه الصورة للبلدان الإسلامية و منها بلادنا، و إقناع الرأي العالم العالمي بذلك قدر المستطاع مضافاً إلی الرأي العالم في هذه البلدان نفسها.
من القضايا التي يتابعونها بقوة تحطيم ثقة الناس بكفاءة النظام. بعض الكلمات التي تسمعونها ليست تصادفية. ليس من الصدفة أن يتحدث البعض عن النظام الإسلامي و عن أزمة الشرعية فيه. يشككون في نظام تأسس بأصوات الشعب و إرادته و جهاده و بكل هذه العواطف و المشاعر، و عانی كل تلك المشكلات و واجه كل هذه العداوات و التحديات و خرج منها مرفوع الرأس، و كان كل هذا بمساعدة الناس أنفسهم، يشككون في مثل هذا النظام و يثيرون أزمة الشرعية! هذه ليست صدفة. بعض الكلام الذي ترونه يبث من بعض المنابر الإعلامية يصب كله باتجاه تكوين مثل هذه الصورة السلبية عن النظام الإسلامي في أذهان الشعب كي يسلبوه ثقته و يتحقق هدفهم في نهاية المطاف، ألا و هو فصم الوشائج بين الشعب و النظام.
التشكيك في القيم الأساسية، و تضخيم المشكلات و إنكار النجاحات، كلها من الحاجات الأمريكية الماسة. أمريكا بحاجة لهذه العوامل و الظروف لتستطيع ضمان نجاحها حيال الجمهورية الإسلامية. كل من يعمل لصالح أمريكا في هذا المجال إنما يمهد الأرضية - في حقيقة الأمر - لتستطيع أمريكا تنفيذ غاياتها ضد الشعب الإيراني بأساليب عسكرية أو شبه عسكرية. أحياناً يلاحظ المرء أنهم يضخمون هذه الصورة و التصورات بشكل كبير جداً ليطرحوا أمريكا كقوة ناجحة جداً و سائرة قدماً في طريق التقدم و الإنتصار، و يطرحوا الجبهة المقابلة باعتبارها الطرف المنفعل و المحبط. هذا شيء مغلوط و غير واقعي مائة بالمائة و هو ثمرة العمل الدعائي لوسائل الإعلام الأمريكية. الواقع ليس كذلك أبداً. قضية العراق أهم بكثير طبعاً من قضية أفغانستان. و ستكون مشكلات أمريكا في العراق أكبر بكثير من مشكلاتها في أفغانستان. يريدون الإيحاء بأن الأمر قد انتهی و توصلت أمريكا إلی كل أهدافها، و الحال أن القضية ليست كذلك أبداً. فالمهمة لم تنته بعد و ثمة مشكلات عديدة لا تزال تعتور طريقهم.
ما هو العلاج حيال أمريكا المغامرة المعتدية؟ البعض يوصي بوصفة الاستسلام، لكنها ليست وصفة نافعة. و أنتم تعلمون أيها الشباب أن كل من يتحلی بهوية إنسانية مستقلة يعلم أن التأشير للعدو بالاستسلام غير مجد بالمرة. إشارات الاستسلام و الخضوع و الفزع تقوّي العدو و ترفع معنوياته و تعينه علی مواصلة طريق العدوان. إذن، ينبغي عدم الاستسلام بتاتاً.
تسمعون البعض يقولون إننا يجب أن لا نفوت الفرص. لست أدري ما الذي يقصدونه من الفرص. ما هي الفرصة التي تُفوّت في هذا الظرف الزمني؟ هل هي فرصة الاستسلام أمام أمريكا؟ هل هذه فرصة؟ هل هي فرصة بالنسبة لشعبنا أن يستسلم و يتراجع أمام عدو يريد فرض هيمنته علينا بالقوة و الغطرسة و التهديد ؟! هل هذه فرصة يفترض أن لا يفوتها الإنسان؟ أحيانا ً‌يكون الأنسان لوحده و لا يتحمل سوی مسؤولية نفسه فإما أن يصمد و إما أن يستسلم. إذا استسلم حل به البؤس و الخزي لوحده و لم يلحق غيره أي ضرر أو خسارة. لكن حين يكون الإنسان مسؤولاً عن منظومة - حتی المنظومات التي لا تتصف بأهمية كبری، لكن الخطوات الفردية فيها تؤثر عليها بالكامل - سيكون الاستسلام بمعنی تسليم البلاد و الشعب كله و تسليط العدو علی مصير الشعب. فهل يحق هذا لأحد؟ قلت في مناسبة أخری إنه لو كان الشاه سلطان حسين قد اعتمد علی من في إصفهان من رجال غيورين - سواء من القوات المسلحة أو الناس العاديين - و لم يرض بالاستسلام أمام الأعداء، لو كان قد فعل هذا بدل أن يتذرع بأن عدداً من الناس سيقتلون إذا لم نستسلم و لم نفتح بوابات إصفهان أمام هجوم الأعداء، لكان قد قتل عدد أقل - يقيناً - من الشعب الإيراني و من أهالي إصفهان و من الناس الذين أزهقت أرواحهم في هجوم الأفغانيين، و لما تحمل الشعب الإيراني ذلك الذل و العار. الظروف اليوم مختلفة طبعاً و العدو عدو آخر، بيد أن مبدأ عدم الاستسلام أمام طمع الأعداء و أن أي لين و استسلام سيشجعه علی مزيد من العدوان، مبدأ قائم و دائم.
الأمريكيون طبعاً يبدلون شعاراتهم كاذبين، و حقيقة الأمر هي أنهم يرومون الهيمنة علی بلدان المنطقة. ألا ترونهم يقولون إننا نريد تغيير الخارطة السياسية للشرق الأوسط؟ قال أحد الشخصيات السياسة العربية أمس - و قد بث التلفزيون كلامه - إنهم يريدون حل الجامعة العربية و تشكيل جامعة أخری بعضوية الكيان الصهيوني! فيكون عميلهم في المنطقة أداة ضغط دائمية علی حكومات المنطقة! و لن يقنعوا بأقل من هذا، و هم لا يعرفون صديقاً أو عدواً. بعض بلدان المنطقة من أصدقاء أمريكا التقليديين، و لو أتيحت الفرصة لهذا الحيوان المفترس المعتدي - الكيان الصهيوني - و تفتحت الطرق أمامه فسيحين دورهم بالتأكيد، و هم يعلمون ذلك. بل إن بعض بلدان المنطقة أبدوا تخوفهم لنا! إنهم يخافون من مستقبلهم الغامض، لأنهم لا يعتمدون علی شعوبهم. إذن، وصفة الاستسلام وصفة غير صحيحة. العلاج الصائب حيال العدوان الأمريكي هو تقوية البنية الداخلية للنظام. النظام المرتكز علی الجماهير حقاً و الذي تدافع عنه الجماهير، نظام متماسك في داخله. الثغرات المختلفة التي يمكن أن تضره مغلقة و ما من قوة بوسعها القضاء عليه. بمستطاعنا تعزيز البنية الداخلية، و هي اليوم بنية قوية و الحمدلله. الأمريكان يعلمون ذلك، ‌و بمقدور الإنسان معرفة ذلك في كلامهم بشكل تام. إنهم يعلمون حقيقة الوحدة بين هذا الشعب، و ارتباطه بالإسلام، و متانة الصلة بين النظام و الشعب علی أساس المباني الدينية و دور القيم الدينية في هذا الخصوص. لذلك يريدون القضاء علی هذه الإيجابيات. فهل نقعد و نتفرج عليهم يأتون و يدمرون هذه العری الوثيقة واحدةً واحدةً ؟ أي يدمرون في الحقيقة خنادق الشعب الإيراني و خنادق النظام الإسلامي واحداً تلو الآخر و يهجمون بكل سهولة. من واجب كل واحد من أبناء الشعب الإيراني المحافظة علی‌التماسك الداخلي للنظام المنوط بتضامن الشعب و تضامن القلوب و تضامن الشعب مع مسؤولي النظام و وحدة الكلمة بين أركان النظام.
هنا سأطرح القضية التالية التي سأختصرها لأن الحديث عن القضية السابقة قد طال. الشعارات التي رفعناها خلال العامين أو الثلاثة الماضية صبت كلها باتجاه مكافحة الفساد، فالفساد يمكنه أن يفتح ثغرات في جسد المجتمع. و الشعارات الأخری هي نهضة العدالة - علی المدی البعيد - و النهضة البرمجية ( الرقائقية ) و أنتاج العلوم. نهضة أنتاج العلوم غير متاحة من دون تطور العلوم. إذ لا يتسنی التنافس و التقدم في هذا العالم المتنوع من دون تطوير العلم. لابد من تطوير العلوم. و هذا ما يضاعف كثيراً من واجبات الجامعات و الطلبة الجامعيين و الأساتذة. نهضة التحرر الفكري التي طرحت قبل أشهر، و التشديد علی أيجاد فرص للعمل - و قد بذلت جهود كبيرة في هذا الميدان خلال العامين أو الثلاثة الماضية - و التأكيد علی تقوية العملة الوطنية، كانت أيضاً من الشعارات التي شددنا عليها خلال هذه الأعوام و افتتحنا لكل واحد منها ملفاً خاصاً و انطلق تحرك خاص بكل واحد منها في الأجهزة و المؤسسات المعنية. حينما يدرك الإنسان ما الذي يريد أن يفعله الأعداء، سيدرك ما الذي يجب أن يفعله هو في الداخل. طبعاً أثيرت الكثير من هذه الأفكار قبل عامين أو ثلاثة في أطار مكافحة الفقر و الفساد و التمييز. و في السياسات العامة للنظام التي يجب أن توجهها القيادة للحكومة و يسن المجلس القوانين علی أساسها - سواء في سياسات الخطة الثالثة أو سياسات الخطة الثانية التي تعود لسبعة أو ثمانية أعوام مضت - أخذت جميع هذه الملاحظات العامة بنظر الاعتبار، بيد أن تعبئة الرأي العام و خصوصاً الشباب، و إلفاته إلی أهمية بعض هذه العناوين العامة يفرض الاهتمام بكل واحد منها و متابعته علی نحو مستقل. حين طرح كل واحد من هذه الشعارات قوبل بعدم اهتمام من قبل بعض قطاعات المجتمع، غير أن الضمائر الطاهرة، و لا سيما ضمائر الشباب، شعرت أن هذه الشعارات تمثل طموحها و رغباتها. ثمة في البيئة الجامعية نزوع إلی العلم و العدالة و الحرية. هذه هي النزعات الرئيسية في المناخات العلمية. كنت أود تقديم إيضاحات موجزة عن كل واحد من هذه المحاور، لكن المجال لا يسمح.
و أقول داخل قوسين أن أقوالاً تسمع أحياناً من جهتين متقابلتين نعتقد أنها ليست صائبة. حينما تثار قضية مكافحة الفساد مثلاً، يقول البعض من جهة: لماذا تطرحون الفساد كقضية في المجتمع؟ نعتقد أ‌ن هذا ليس رأياً صائباً، فالفساد موجود علی كل حال. طبعاً ليس الفساد هنا واسعاً و منظماً كما هو في المافيات الموجودة في بعض الدول و الأنظمة. إذ ليس هناك بفضل الله فساد منظم في نظام الجمهورية الإسلامية أو في الأجهزة الحكومية المسؤولة علی الأقل. غير أن الفساد موجود بدرجة معينة و من الممكن ظهوره في كل مكان و كل زمان، و تنبغي مكافحته علی كل حال. ثمة مؤسسات في العالم لا تؤمن أساساً بمكافحة الفساد و التمييز و الإجحاف، بل لا تذكر هذه الأشياء أصلاً. و بعض البلدان قد تبادر لهذه الممارسات علی نحو استعراضي. لكن الأمر ليس استعراضياً في أماكن أخری، بل هو حقيقي و نابع من ضرورة، أي إنهم يمارسونه هناك كصمام أمان. و هذا التحرك و التفكير في بلادنا ناجم عن عقيدتنا و إيماننا، بل إنه يمثل فلسفة وجودنا. كل ما لا نفعله فهو وليد عدم استطاعتنا. هذا هو طريقنا و هذه هي حركتنا. إذن، حين يعترض شخص علی إثارة موضوع مكافحة الفساد لن يكون اعتراضه هذا في محله. ينبغي عدم التنكر للفساد بل الاعتراف به، و لكن يجب أيضاً عدم المبالغة فيه.
في الجهة المقابلة، يتصور البعض أن الجميع فاسدون و لصوص و غير نزيهين، و يفرحون إذا وجدوا من يحمل هذه التصورات مثلهم. العدو بحاجة إلی تشويش الرأي العام و بث الغموض، و هو يستثمر كلا التيارين المتعارضين. من جهة يستغل ذلك الكلام كدليل علی وجود الفساد فيبالغ في وجوده. و من جهة أخری سيقول إن هذه العملية استعراضية. إذن، فهو يحاصرنا دعائياً من جميع الجهات. واجبنا هو معرفة الصراط المستقيم و السير في الطريق الصحيح. كذلك الحال بالنسبة لنهضة العدالة التي طرحتها مخاطباً الطلبة الجامعيين. و أدري طبعاً أن الرغبة في مثل هذه التحركات و النهضات الإجتماعية كبيرة جداً عند الطلبة الجامعيين و الشباب عموماً، و أن لديهم الكثير من الأسئلة في هذا الخصوص.
سألني أحد الطلبة الجامعيين قبل أسبوعين أو ثلاثة: لماذا لا تنزل أنت بنفسك إلی الساحة فيما يتعلق بقضية العدالة؟ هذا ليس توقعاً صحيحاً. إدارة الثورة غير إدارة البلد تنفيذياً. دخول القيادة إلی الساحة يجب أولاً أن يكون علی شكل طرح القضية و تعبئة الرأي العام. و ثانياً علی شكل طلب من الأجهزة التنفيذية. بعض الأجهزة التنفيذية مختصة بهذه الأعمال. و السلطة التنفيذية و السلطة القضائية تعملان في مجال مكافحة الفساد. لقد طلبت من كلا السلطتين بكل جد و هما تعملان حالياً. هذا هو موضع تدخل القيادة. نعم، إذا تبين يوماً أن مؤسسات السلطتين القضائية ليست علی استعداد للعمل، فلن تجد القيادة من سبيل سوی أن تنزل للساحة بنفسها، فتعيّن شخصاً لمتابعة هذه المهمة. لكن الأمر ليس كذلك و الحمدلله. مؤسسات السلطة التنفيذية علی أتم الاستعداد، و الجزء المتعلق بها هو إغلاق مسارب الفساد. ثمة في القطاعات المالية و التجارية و الكمركية مسارب للفساد المالي، و عدم الاهتمام بها يؤدي إلی الفساد. حينما تضاعف الأجهزة من دقتها في الإشراف و المراقبة سوف تحول دون وقوع الفساد، و ستكون هذه عملية وقائية. أما القطاع القضائي فيتصدی للحالات التي استطاعت تجاوز تلك العملية الوقائية و ارتكبت مخالفة قانونية. و قد تابعوا لحد الآن أكثر من مائة حالة من المخالفات الكبری و لكن يجب أن لا يثيروا الضجيج. و قد أوصيت بهذا في رسالتي ذات المواد الثمانية و قلت يجب العمل من دون ضجيج. نريد مكافحة الفساد حقاً و لا حاجة للضجة. نعم، إعلام الناس شيء جيد. حينما تكون المهمة قد تمت فلا بأس بالإعلان عنها بالمقدار اللازم. و العمل يجري حالياً.
علی كل حال يا اعزائي، العامل الذي يمكنه حماية بلدنا حيال كل حالات التوسع و الطمع و الاحتكار و التعدي و المغامرة و خلق الأزمات هو تمتين البنية الداخلية للنظام، و كذلك التواصل بين أفراد الشعب و طبقاته و بين مسؤولي النظام و مدرائه، و بث الأمل بالمستقبل لدی الشباب و ردم الثغرات التي تؤدي لتضعيف النظام تدريجياً. و كما ذكرت فإن إنجاز هذه المهام بحاجة لمساع حثيثة و عليكم الاهتمام الجاد بقضايا العلم و البحث العلمي في البيئة الجامعية. يسرني جداً أن يشير أحد الطلبة الجامعيين الأعزاء في كلامه إلی ميزانية البحث العلمي و يقول إنها قليلة و يطرح زيادتها كمطلب من مطاليب الطلبة الجامعيين و في اجتماع الأساتذة طرحوا الأمر ذاته. جيد جداً أن يهتم الشاب بالبحث العلمي و العمل العلمي و تطور العلوم. لا يمكن تطوير البلاد من دون تطوير العلوم. حتی أعداء الإنسانية يستخدمون العلم اليوم. و لا مندوحة أمامنا من استخدام العلم و الشرف العلمي الذاتي في سبيل المبادئ العليا و القيم الحقيقية و الفضائل الإنسانية و نشرها. يجب حفظ الوحدة و التواصل.و ينبغي التقدم بالمشاريع الأساسية التي بدأناها.
إعلموا أن حسابات قوی الهيمنة العالمية حول الشعب الإيراني لا تنصحهم بالمغامرة و اختلاق الأزمات في إيران. يعلمون جيداً أن العملية لا تتم بالصواريخ و القنابل، و ما الصواريخ و القنابل إلّا جزء من القضية. حين يكون الشعب صامداً، و حين تكون غالبية المجتمع دون الخامسة و الثلاثين - بمعنی وجود شريحة شبابية كبيرة - و حين يكون الشعب ملتزماً بالقيم الدينية، فسيأخذون في حساباتهم أن مجابهة مثل هذا الشعب و محاربته غير ممكنة. نعم، يمكن إثارة الضجيج و استغلال خوف هذا الشعب إذا أبدی بعض الخوف. يمكن تهديده، و يمكن حث بعض الأشخاص في داخله علی الخيانة. فإذا خاف و استجاب للتهديد و الخيانة و إذا استعد للاستسلام عندئذ سينتصر العدو و يدب الأمل في نفسه. لكن حين يكون الشعب واقفاً، شبابه واقف، و مسؤولوه واقفون لا يأخذهم الفزع و الارتباك حيال التهديد و الإرهاب، و لا يفهمون الأمر بصورة مغلوطة، و يثبتون أنهم ملتزمون بعزتهم و مهتمون لعزة بلدهم و شعبهم و مستعدون لحماية بلادهم و الدفاع عنها - و هو ما يفهم من المشاركات و التواجد الشعبي العام - سيأخذ العدو هذا بنظر الاعتبار في حساباته و سيعلم أن الانتصار علی هذا البلد ليس بالأمر اليسير.

- يس / 11.
2 - الصحيفة السجادية، الدعاء 32 (بعد الصلاة).