بسم الله الرحمن الرحيم
إنه اجتماع طيب ومحبب وجميل جداً. فهو في أجواء جامعية، وفي شيراز.. شيراز التي كانت داراً للعلم على مر التاريخ وإلى اليوم. الجامعة في شيراز تعني داراً للعلم داخل دار العلم. مقر داخل مقر. إضافة إلى ذلك فإن المجموعة المتنوعة من الطلبة الجامعيين الموجودين هنا وجماعة الأستاذة المحترمين الحاضرين في هذا الاجتماع حولوه إلى محفل علمي واجتماعي وسياسي بالمعنى الصحيح والجيد للكلمة. أنا أيضاً أشعر بالشباب حين أحضر اجتماعات الشباب لا سيما الشباب الجامعي وفي هذا المناخ المفعم بمشاعر الشباب. كل الشيوخ هكذا. يشعرون بالشباب والحيوية عند حضورهم بين الشباب. لذا فأنا لا أتعب ولا أمل أبداً من سماع كلام الطلبة الجامعيين الأعزاء سواء النخبة منهم أو ممثلو التنظيمات، ولا أتعب كذلك من التحدث إليكم. النقص الوحيد في هذا الاجتماع هو أن الأجواء مفتوحة ومن الصعب بعض الشيء تحمل الشمس الحارة في شيراز أواسط أرديبهشت. رغم أني جالس في الظل لكني أشعربحرارة الجو. أما أنتم فتجلسون تحت الشمس وخصوصاً السيدات العزيزات بعباءاتهن يشعرن بالحر وهذا ما يؤذيني.
أولاً لنلق نظرة على الأفكار التي طرحها هؤلاء الأصدقاء الأعزاء من الطلبة الجامعيين ورئيس الجامعة المحترم. يجب ان أتطرق لبعض النقاط. مع أن كثيراً من هذه الأفكار هي نفسها أفكاري التي أود أن أطرحها على الجامعيين من طلبة وأساتذة ومدراء، لكن من الضروري التعليق على بعض ما قاله الأعزاء. قيل إن الخطوات المتخذة لدعم النخب ناقصة وقليلة. ينبغي الالتفات إلى أن للوضع الإداري دوراً مهماً في جميع الأمور ومنها هذه الأمور الجامعية. هذا لا يعني الضياع في دهاليز البيروقراطية، إنما يعني وجود هيكلية إدارية ومسؤولين ومركز للتفكير والتخطيط. وهذا ما تم في العام أو العامين المنصرمين بأفضل الصور حسب رأيي. أي إنهم عيّنوا شخصاً جامعياً بارزاً على مستوى نائب رئيس الجمهورية، وطبقاً للتقارير التي تصلني - وأنا على اطلاع واسع بالموضوع - تجري الآن أعمال وإنجازات جيدة. لكنني أسمع في ثنايا كلامكم أيها الشباب - كما كنا في عهد شبابنا - توصيات بالإسراع في هذه المهمة. هذا الإسراع ليس توصية صحيحة دائماً. طبيعة بعض المهمات لا تنسجم والسرعة. إذا تم الإسراع فيها فستنتابها بعض الإشكالات والإرباك. يجب أن نسمح للمهمة بأن تأخذ مجراها التنفيذي بنحو طبيعي. ذكر ممثل التعبئة الجامعية نقطة تمثل في الواقع مطالباتي أنا أيضاً. يسأل: إلى أي حد تمّ العمل بنموذج التقدم الإسلامي - الإيراني الذي طرحناه وكرّرناه طوال السنة أو السنتين الماضيتين؟ هذا صحيح والسؤال في محله.
مركز أبحاث الطلبة الجامعيين الذي تمّ اقتراحه أعتقد أنه اقتراح جيد. من المناسب أن يدرسه ويتابعه المسؤولون في وزارة التعليم العالي؛ إنها فكرة جيدة. لنسمح للطلبة الجامعيين إذا كان لديهم الوقت والقدرة الكافية بالعمل والنشاط في مركز باسم مركز أبحاث أو ما شاكل. هذه فكرة لافتة ويمكن متابعتها.
جرى الحديث عن القدرة على صناعة القرار واتخاذ القرار. هنا يجب أن أتطرق لهذه المسألة. القدرة على صناعة القرار جيدة جداً. لكن القدرة على اتخاذ القرار من المشكلات التي إذا دخلت المناخ الجامعي فستربك الكثير من القيم الإيجابية الصحيحة. هذه هي تجربتنا. لندع الطالب الجامعي يساهم في صناعة القرار بفكره ولغته المنفتحة، وقيوده القليلة، وأقواله وأفعاله. ولنترك اتخاذ القرار للشخص الذي يمكن مساءلته ويمكن أن يتحمل المسؤولية. إذن يجب أن لا نطمح لأن تكون أجواء الطلبة الجامعيين أجواء اتخاذ القرار من أجل العمل والمبادرة. هذا ليس في صالح الطالب الجامعي ولا في صالح العمل. يجب أن نطمح لأن تساهم الأجواء الجامعية في صناعة القرار، أي في صناعة الخطاب. لاحظوا أنني حينما أردت طرح قضية النهضة البرمجية، طرحتها أولاً على الطلبة في الجامعات قبل حوالي عشرة أعوام. لم أطرحها على الوزارات، ولا على رئيس الجمهورية آنذاك، ولا حتى على الأساتذة. تحدثت عن هذه الفكرة لأول مرة في جامعة أمير كبير. وتلاحظون اليوم أنها أصبحت خطاباً ومطالبة عامة.. شيئاً تطالب به كل جامعات البلاد؛ وأنا أسمع المطالبة بها على ألسنة الطلبة الجامعيين أينما ذهبت؛ وعلى ألسنة الأساتذة والمدراء. وأسمع في طور آخر أشياء حول تنفيذها. وهي في طور التنفيذ. هذه الإبداعات العلمية الكثيرة استمدت بعض محفزاتها وقدراتها من هذا الشعار: اصنعوا القرار ، اصنعوا الخطاب. هذا ما يجر المنفذين والمسؤولين نحو ذلك القرار فيتخذون القرار المناسب ويعملون به.
النقطة التي لفتت انتباهي في كلمة الطالبة الجامعية في مرحلة الدكتوراه هي دفاع طالبة طب عن طلبة العلوم الأم. وهذا هو الصحيح. الاهتمام بالعلوم الأم من توصياتي الأكيدة التي طرحتها مراراً على المسؤولين طوال الأعوام الماضية. قلنا دوماً إن العلوم الأم كالكنز؛ والعلوم التطبيقية كالمال الذي نضعه في جيوبنا وننفقه. لولا العلوم الأم لما توفرت لدينا الأرصدة لهذه الإنفاقات. هذه نقطة في محلها تماماً، واعتبر أن هذا درس يجب أن يستفاد من هذه الطالبة وهو أن الطلبة الجامعيين يجب أن لا ينظروا للأمور بطريقة صنفية وجامعية وفرعية. لينظروا نظرة حقيقية لحاجة البلاد. طالبة الطب هذه تدافع عن طلبة العلوم الأم. هذا وعي جيد برأينا.
في كلمة ممثل الاتحادات الإسلامية في جامعة شيراز طرحت أفكار جيدة جداً تعبر عمّا يختلج في قلبي. هنا أيضاً أروم التعليق على أقواله. أنتم تقولون إننا نرفع شعار العدالة فيلقون القبض علينا لكن الذي ينال من العدالة ويمسها لا يلقون القبض عليه.. السلطة القضائية كذا..! والجهاز الفلاني كذا..! هنا يجب أن تكونوا نبهين لبقين ولا تتراجعوا ولا للحظة واحدة عن المطالبة بالعدالة.. هذا هو شأنكم. شأن الشاب والطالب الجامعي والإنسان المؤمن أن ينشد العدالة. وأنا أدعم هذا الفكر بكل كياني، وكذلك النظام اليوم والحمد لله. طبعاً قد تقع بعض المخالفات. كونوا نبهين في هذا، وارفعوا خطاب العدالة، ولكن لا توجهوا نقوداً شخصية ومصداقية. حينما تركزون على مصداق معين فقد تكونوا مخطئين. أنا ألاحظ على كل حال.. ألاحظ بعض الحالات - لا في الجامعة؛ في الفئات الاجتماعية المختلفة - يشددون على مصداق معين إما باعتباره حالة فساد، أو انحرافاً سياسياً، أو فئويات خاطئة. أعرف مثلاً تياراً معيناً وأرى أنه ليس كذلك، والذي قال ذلك لم يكن مطلعاً على الأمور. إذن، حينما تركزون على شخص أو مصداق معين فقد يقع الخطأ، وقد يكون هذا ذريعةً بيد شاطر عارف بالقانون خارق له - وقد قلت أن العارفين بالقانون الخارقين له خطرون - يستخدمها ضدكم. ما العتاب الذي يمكن أن توجهوه للمدعي العام؟ إذا قدّم شخص شخصاً آخر بوصفه مفتر وقال إن هذا الشخص افترى عليَّ كذا وكذا، فلن يكون من شأن القاضي البحث في ماهية القضية جذرياً. إذا صحَّ هذا الافتراء وصدر فعلاً فالمادة القانونية تلزم القاضي بفعل شيء. لذلك لا نستطيع لومه وعتابه. كونوا شاطرين نبهين، ولا تذكروا الأسماء، ولا تعتمدوا المصاديق. ارفعوا الراية. حينما ترفعون الراية فسيحسب المنفذون حساباتهم. والذي يهتف بمضامين تلك الراية سيشعر بالطمأنينة والأمل، وتتقدم الأمور إلى الأمام. وبالتالي، لا أرى مشكلة في مهمتكم. أنتم شباب مؤمنون وهذا هو المتوقع منكم. في كل شعار إيجابي يرفع يكون الاعتماد عليكم والأمل بكم أيها الشباب بعد الاتكال على الله العظيم الذي بيده كل القلوب والألسنة والإرادات.

أعلموا هذا؛ على كل حال يقول ابن بلدتكم الذي قرأتم بعض أشعاره: »ننتهج الوفاء، ونتجرع الملامة، و نبقى مسرورين مغتبطين، فالتبرم والتذمر كفرٌ في طريقتنا«(1). لا تتبرموا؛ اطلبوا العمل والجد. أقول هذا بالضبط للأخ العزيز الذي تحدث بكل رصانة وجزالة كممثل للتجمع الإسلامي. هذا هو كلام قلوبنا. لكن الفرق بيننا وبينكم هو أننا أدركنا وبفضل تجارب الزمن أن على الإنسان أن يصبر ويتحمل قليلاً، وأنتم شباب وجُدد ومتحمسون ولا صبر عندكم. كل هذه أمور إيجابية ما عدا إنعدام الصبر. طبعاً لا علاج لهذا، ولا أقول إن له علاج ناجع؛ لا، لقد أمضينا فترتكم هذه ونعلم ما هي. لكني أريد بالتالي أن أقول لكم إن كل هذه الأمور التي ذكرتموها ورفعت شعاراتها في هذا البلد ستتحقق بحول الله وقوته وبإذن منه تعالى. وحول جامعة (بيام نور) أبدت هذه الفتاة الجامعية العزيزة شكوى من المناسب أن يلتفت إليها المسؤولون. إذا كان ثمة مواطن ينبغي مساعدتها حقاً فلتجري مساعدتها. وأثار الأخ العزيز الطالب الجامعي النخبة من جامعة (آزاد) نقطة صحيحة فحواها أن تطرح النظريات التنفيذية للحكومة قبل دخولها طور (التجربة والخطأ) في الجامعات ومراكز الأبحاث. هذا جيد جداً. وأقول لكم طبعاً إن مسؤولي الحكومة ورئيس الجمهورية المحترم غالباً ما يدّعون القيام بهذا، ولا يمكن القول إنهم لا يفعلونه على الإطلاق. ذكرت هذا الموضوع مراراً للمسؤولين ومنهم رئيس الجمهورية الدؤوب الكدود الحميم، وهم يقولون إننا نطرحها في الجامعات أو على الجماعة البحثية الفلانية. لكنها فكرة جيدة على كل حال. وذكر شيئاً عن قضية التمييز وما شاكل بخصوص جامعة (آزاد). والشاب الجامعي الذي لم تتوفر له الفرصة للتحدث بمكبرة الصوت، جاء إلى هنا وتحدث إلي بصوت عالٍ وسمعته وكان يرى عكس هذه الفكرة. أي إن لطالبين جامعيين في جامعة (آزاد) رأيان متعارضان بخصوص قضايا جامعتهم. اشتكى قليلاً من الواقع الثقافي في جامعة (آزاد). ما أريد أن أقوله لكم هنا أيها الأعزاء هو إلى حد ما تفصيل للموضوع الذي ذكرته في اليوم الأول لعموم الناس، وهو النظرة الشاملة المستوعبة للثورة. نحن على أعتاب العقد الرابع، وقد مضى ثلاثون عاماً، وعادة ما تكون النظرة في مثل هذه الفترة لحدث مثل حدث الثورة العظيم نظرة مصحوبة بإصدار الأحكام والتقييمات حول الأداء. مع أن الثورة في الثلاثين من عمرها لا تزال في عنفوان الشباب، ولا شك في هذا - طاقات الثورة كبيرة جداً والحمد لله، خصوصاً هذه الثورة - ولكن حينما ينظر الإنسان إلى فترة تتألف من ثلاثين عاماً تعن له أحكام حول الأداء والتوفيق والكفاءة. ينبغي أن لا نخطئ في هذا التقييم، وهذا غير ممكن إلا عبر نظرة مستوعبة. أود أن أطرح بعض الأمور في هذا الشأن. طبعاً كنت أرغب أن أطرحها بتفاصيل أكثر، لكن وضع الجو والشمس يؤذيني إلى حد ما لو أردت طرحها بالتفصيل. وأنتم أيها الشباب الأعزاء تعرفون ما أريد أن أقوله.. أنتم تعرفونني.. قلت مراراً إن ما نقوله لا يعني تنـزيل آيات. لا تظنوا طبعاً أن ما نقوله وحي منـزل؛ لا، أنا أطرح وجهة نظري وأرغب أن تناقش في الأجواء الجامعية. أساس وجهة نظري هو ما سأقوله وقد لا أبلوره على شكل خلاصة في نهاية هذا اللقاء، على أمل أن تبلوروه أنتم في التنظيمات، أو في المجاميع الخاصة بالطلبة الجامعيين، أو مع أنفسكم.
لو ألقينا نظرة شاملة مستوعبة للثورة وحدث ظهور الجمهورية الإسلامية فلن تستطيع النظرات الجزئية تضليلنا. النظرة الجزئية وعدم النظر للمسار العام من بدايته لنهايته تعمل أحياناً على تضليل الإنسان. بل قد يضيع الإنسان الطريق والأهداف أحياناً. البرمجة والنظر للجزئيات والتفاصيل معناه البرمجة؛ هذا ما لا ننكره. البرمجة والنظر للأقسام والقطاعات المختلفة معناه النظرة الجزئية. نروم القول إن هذه النظرة للأقسام والأجزاء ينبغي أن لا تصرفنا عن النظر للكل، لأن النظر للكل فيه دروس لنا. سجّلت عدة نقاط في هذا الخصوص. النقطة الأولى تتمثل بالسؤال: ما هو هدف الثورة؟ لقد كان هدف الثورة بناء إيران بالسمات التي سأذكرها: مستقلة، حرة، تتمتع بالثروة والأمن، متدينة وتتحلى بالمعنوية والأخلاق، متقدمة في سباق المجتمع البشري الكبير في العلم وسائر المجالات - وقد قام بين أبناء البشر منذ البداية والأزل سباق في المكتسبات الإنسانية في العلم وسائر الأمور والقضايا - وتتمتع بالحرية بكل معاني الحرية. ليست الحرية الحرية الاجتماعية فقط، مع أن الحرية الاجتماعية من مصاديق الحرية المهمة - فالمقصود هو الحرية الاجتماعية، والحرية بمعنى راحة البلد وعدم خضوعه للأجانب واستيلائهم - وقد يكون البلد مستقلاً في ظاهره أحياناً لكنه خاضع للنفوذ - والحرية المعنوية المتمثلة بفلاح الإنسان وتساميه الأخلاقي وعروجه المعنوي الذي يعد هدفه الأعلى. كل الأمور والأعمال مقدمة لتكامل الإنسان وعروجه. هذا ما ينبغي أن يفصح عن نفسه في المجتمع الإسلامي. إيران بهذه السمات هي التي أرادتها الثورة. اسألوا: من أي أبعاد الثورة تُستل هذه السمات؟ أين دونت؟ وأقول لكم في كلمة (الإسلامية). الإسلام هو أساساً هذه الأشياء. من تصور عن الإسلام غير ذلك فإنه لم يعرف الإسلام. من يخال أن الإسلام يُعنى بالجوانب المعنوية فقط، وبتصورات خاصة للجوانب المعنوية - العبادة والصيام والزهد والذكر وما إلى ذلك - ولا يهتم لدنيا الإنسان، ولذائذه، ومطالباته، فإنه لم يعرف الإسلام بنحو صائب. ليس الإسلام كذلك. كل تلك الأمور التي ذكرناها سواء أمور المجتمع الدنيوية - كالعدالة، والأمن، والرفاه، والثروة، والحرية، والاستقلال - أو أمور الآخرة - كالفلاح، والتقوى، والورع، والتسامي الأخلاقي، والتكامل المعنوي للإنسان - تندرج كلها في كلمة »الإسلامية«. تقول لنا الآية القرآنية: »ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض«.. إذا كان ثمة إيمان وتقوى جرت على الإنسان بركات السماء والأرض. بركات السماء هي الفتوحات المعنوية والرحمة الإلهية والقرب إلى الله، واستغفار ملائكة السماء وحملة العرش لعباد الله على الأرض. وبركات الأرض هي كل ما يرتبط بحياة الإنسان على الأرض؛ أي الحرية، والرفاه، والاستقلال، والأمن، وسعة الرزق، وسلامة البدن وما إلى ذلك. إذا كان الإيمان والتقوى تحققت للبشر تلك البركات وهذه. هذا هو الإسلام. إذن، حينما نقول الثورة الإسلامية فمعناه هو ما ذكرناه. هذا هو الشيء الذي كانته الثورة. أردنا أن نبني إيراناً بهذه السمات. ولهذه الفكرة تتمة هي أن القضية لا تختص بإيران. إيران مطلوبة كنموذج للمجتمعات الإسلامية بالدرجة الأولى، وكافة المجتمعات الإنسانية بالدرجة الثانية. أردنا نحن بناء هذا المجتمع بهذه الخصائص - نحن معناها الشعب الإيراني، وثورة إيران، والثوريون الإيرانيون، وليس المراد أنا وعدة أشخاص آخرين - ووضعه أمام كل أبناء البشر والأمة الإسلامية والقول لهم: هذا هو الشيء الذي يطمح إليه الإسلام ويقدر عليه الناس في هذا الزمن. لا يخال البعض أن هذا شيء منشود لكنه غير ميسور. يقال إن بعض ذوي النوايا الحسنة حتى، كانوا خلال فترة كفاح النهضة الإسلامية يقولون: لِمَ كل هذه الجهود التي لا طائل من ورائها؛ نعم، كلامكم صحيح لكنه غير ممكن. وأرادت الثورة أن تثبت للجميع أينما كانوا من العالم الإسلامي أن هذا النموذج ممكن التحقيق، وهذا هو المثال. كان هذا هدف الثورة. كان هذا الهدف مطروحاً منذ البداية وأقول لكم إنه لا يزال قائماً اليوم أيضاً، وسيبقى في المستقبل. إنه هدف ثابت. هذه هي النقطة الأولى من حديثنا.
النقطة الثانية هي أن الثورة الإسلامية طمحت إلى هذا الهدف؛ ونحن لا نعيش في الفراغ بل نعيش في واقع معين له سماته. إلى أي حد ساعدت هذه السمات على بلوغ ذلك الهدف أو عرقلت الوصول إليه؟ لو لم تكن العراقيل التي سأذكرها الآن، لكان من المتيقن أن لا يستغرق بلوغ الهدف وقتاً طويلاً. ربما استطاعت جماعة منظمة قوية تحقيق تلك الأهداف على مدة خمسة أعوام أو عشرة أعوام. ولكن تعترض طريق الإنسان بعض العراقيل. بل إن وجود هذه العراقيل هو الذي يسبغ المعنى والحقيقة المعنوية على مساعي الإنسان فتسمى جهاداً. وإلا لو لم تكن ثمة موانع وعراقيل لما كان للجهاد من معنى. الجهاد معناه الجد والجهد المصحوب بالعناء وتحدي العقبات. فما هي تلك العقبات؟ واجهنا نوعين من العقبات؛ العقبات الداخلية، والعقبات الخارجية. ما هي العقبات الداخلية؟ إنها الأشياء الموجودة في داخلنا نحن البشر - سواء أصحاب القرار، أو كل واحد من أبناء الشعب، أو الذين يشهدون وينظرون ساحة الكفاح والثورة من خارجها - هذه هي الموانع والعقبات الداخلية. إنها حالات الضعف؛ الضعف الفكري، والضعف العقلاني، والركون إلى الراحة والسهولة، وتصوّر أن الأمور سهلة بسيطة. هذه الحالات تمثل أحياناً عقبات تحول دون تحقيق الهدف. ينبغي أن يكون تقييم العمل ومشكلاته بنحو يتطابق مع الواقع أو يقترب من الواقع على الأقل. توّهم السهولة يشبه حالة التساهل واللاأبالية. هو أيضاً من عقبات الطريق. والتهرب من التحدي أيضاً أحد حالات الضعف الداخلية عندنا. التهرب من التحدي يسمى خطأً طلباً للعافية. طلب العافية شيء جيد. العافية من أعظم النعم الإلهية: »يا ولي العافية، نسألك العافية، عافية الدنيا والآخرة«. ليست العافية بمعنى عدم الخوض في المشكلات، بل معناها التصرف بشكل صحيح واتخاذ الخطوات الصائبة، والهجوم في الوقت الصحيح والإنسحاب في الظرف المناسب. العافية من البلاء كما لو قلنا العافية من المعصية. إذن طلب العافية والسلامة ليس شيئاً سيئاً، لكنهم يسمون التهرب من التحدي طلباً للعافية خطأً. إنه في الحقيقة طلب الراحة وتقبيح مواجهة المشكلات، وعدم الاستعداد لمواجهتها. هذه من حالات ضعفنا الداخلي. ومن الحالات الأخرى أنواع التربية الاجتماعية والتقاليد التاريخية التي كانت لدى شعبنا في بداية الثورة. أنتم الشباب قد لا تكون لديكم صورة واضحة عن أحوالنا النفسية وتربيتنا التاريخية حينما انتصرت الثورة. نرى اليوم أن الجميع يرفعون شعار عبارة »نحن قادرون«. وفعلاً، لو قيل لكم: هل تستطيعون التفوّق على أصحاب أدق وأظرف الصناعات في العالم؟ لقلتم: نعم، إذا عقدنا الهمم وبذلنا الجهود فسنقدر. العالم الشاب المسلم في الجمهورية الإسلامية يعتبر نفسه فعلاً قادراً على أي شيء. هذه الروح لم تكن هكذا في بداية الثورة. التربية السابقة كانت على الضد منها تماماً. كلما أثيرت قضية أو مشروع معين قالوا: لكننا لا نستطيع. يقال لهم اصنعوا الشيء الفلاني فيقولون: لكننا لا نستطيع. أو: واجهوا الشعار الخاطئ الفلاني في العالم، ويقولون: نحن لا نستطيع، قوانا لا تسمح! لكننا اليوم »نستطيع«، يومها كان يقال: » نحن لا نستطيع« بوحي من تلك التربية الأخلاقية والتاريخية الموروثة عن العهد الماضي. الخضوع للجور، والإصغاء للكلام الظالم، ومشاهدة الفسق من الذين يتوقع المجتمع منهم العدالة والانصاف والطهارة والنـزاهة، أصبحت كلها عادات. بمعنى أن الناس لا يستغربون لو قيل لهم في عهد ما قبل الثورة إن المسؤول الكبير الفلاني في البلد، إما الرجل الأول أي الشاه نفسه، أو الوزراء، أو المسؤولين فعلوا الفعل المشين الفلاني، أو الفسق الفلاني، أو العمل القبيح الفلاني. كانوا يقولون: هم كذلك طبعاً، وهذا معروف عنهم! أي إنهم تعودوا على مشاهدة المسؤولين الذين يجب أن يكونوا نزيهين طاهرين، ملوثين قذرين. بالنسبة لصدر الإسلام نستغرب كيف صلّى خليفة ثمل بالناس صلاة الصبح! ورد هذا عن الخليفة، وعن أحد الأمراء المنصوبين من قبل أحد الخلفاء. هذا موجود ومعروف وثابت في تاريخ الإسلام. صلاة الصبح ركعتان لكنه صلاها ست ركعات لأنه كان في حال نشوة وسكر. قالوا له صلّيت الصبح أكثر مما هي، فقال: نعم، أنا في حالة طيبة وإذا شئتم زدتكم! هذا وارد في التاريخ. في ذلك الزمن كان الناس يرون الخليفة يمارس مثل هذا الفسق فيتحملون ويمرون على القضية دون اكتراث. وكذا كان الحال في زماننا. كان الحال كذلك في عهد الطاغوت الذي عشناه إلى ما قبل انتصار الثورة. لم يكن الناس يستغربون من ملك البلد الإسلامي حين يفسق ويفجر ويشرب الخمر ويأتي المنكرات. ربما سبق أن ذكرت أن أحد علماء تبريز الكبار وكان رجلاً عالماً فاضلاً جداً، وقد التقيته - كان أستاذ والدي - لكنه بسيط جداً! ذهبت ذات مرة إلى تبريز، وروى لي تلاميذه وأصدقاؤه ومحبوه أن محمد رضا جاء في عهد شبابه إلى تبريز وذهب إلى هذا الشخص واحترمه وزار المدرسة التي يدرس فيها. وبعد ذلك حينما غادر محمد رضا، أعجب هذا العالم - وكان عالماً متقياً فاضلاً لكنه إنسان بسيط طيب - بالشاه وراح يمدحه. فقال له الأصدقاء إنك تمدح شخصاً وهو يفعل كل هذه الأعمال المحرمة - الأعمال التي كانت تعد كبيرة جداً في نظر ذلك العالم، كشرب الخمر مثلاً - فقال لهم: إنه ملك على كل حال، وهل تتوقعون أن لا يشرب الخمر؟! فقالوا له: يا سيدي إنه يلعب القمار، فقال لهم: هو ملك على كل حال، وهل تتوقعون أن لا يلعب القمار؟! كان العرف أن هذا الشخص لأنه شاه أو وزير، إذن يستطيع أن يفسق ويفجر ولا يكون نزيهاً. هذه من العادات التي كانت في مجتمعنا. هذه هي العقبات الداخلية التي تحول دون الوصول إلى الهدف والغاية السامية. الغضب، والشهوات المنفلتة غير المروضة، والانشداد للتقاليد والعقائد الخرافية الموروثة، وإساءة فهم دساتير الدين كانت من نقاط ضعفنا. البعض لم يكن يفهم الكثير من الأمور. كنا نكافح، فيستشهد البعض بروايات تقول إن كل راية ترفع قبل راية الإمام المهدي (أرواحنا فداه) في النار، وبهذا يعارضون الكفاح. يقولون: هل تريدون بدء الكفاح والجهاد قبل جهاد الإمام المنتظر (عجل الله فرجه)؟ راية الجهاد التي ترفعونها هذه في النار. لم يكونوا يفهمون معنى الحديث. البعض سمعوا في صدر الإسلام وفي زمن الأئمة (عليهم السلام) أن المهدي سيظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فراحوا يدعون المهدوية، والبعض اشتبه الأمر حتى على نفسه. اعلموا أنه كان هناك ادعاء للمهدوية حتى في بني أمية وبني العباس أو لدى أشخاص آخرين في الزمن العباسي وما تلاه. نعم، راية المهدوية هذه إذا رفعها أحد فإنها في النار. ليس معنى هذا أن لا يقارع الناس الظلم، ولا يثوروا ولا يكافحوا من أجل تشكيل المجتمع الإلهي الإسلامي العلوي. هذه إساءة فهم للدين. تلاحظون أن هذه كلها عقبات داخلية، وقد حاول الشعب الإيراني بعد انتصار الثورة أن يتغلب عليها ويسير بالبلد نحو تلك الأهداف. كان كل واحد من هذه الأمور عقبة. وكان بالإمكان إزاحتها طبعاً، لا أنها كانت مستعصية. وقد أزيح الكثير منها بالإيضاح والتبيين. لذا يحتل الإيضاح والتبيين دوراً كبيراً في الكفاح والعمل الإسلامي. أقولها لكم بين قوسين أيها الشباب الشاعرون بالمسؤولية إن الإيضاح مهم جداً. الإيضاح والبيان في العمل الإسلامي وفي كل الأحوال - بيان الواقع ونقله والتبليغ - مهم جداً وينبغي عدم التفريط به خلافاً لما ذهب إليه الفكر الماركسي الذي شاع يومذاك ولم يكن الماركسيون يؤمنون بالتبيين والإيضاح، بل يقولون إن الكفاح سنّة ستتحقق شئتم أم أبيتم، ذكرتم ذلك أم لم تذكروا. بمعنى أن الديالكتيك الذي فسروه يقتضي أن لا يحتاج الكفاح إلى تبيين. في سنة 49(2) ألتقاني شاب مشهدي كنتُ أعرفه، وكان ينتمي لإحدى الجماعات الشيوعية التي تشكلت حديثاً يومذاك - جماعة الغابة أو غيرها - إلتقاني في مكان ما وشرح لي أنهم يريدون القيام بهذه الأعمال. فقلت له هذا غير ممكن في مثل هذه الأرضية الاجتماعية؛ تحدثوا مع الناس قليلاً واشرحوا لهم وبيّنوا وأفهموهم ما الذي تريدون فعله. فقال بمنتهى اللاأبالية: هذا هو الأسلوب الإسلامي! نعم، هذا هو الأسلوب الإسلامي. إنه أسلوب التبيين، وهذا الشرح والتبيين هو الذي جعل الثورة الإسلامية تتغلب على كثير من الخلفيات التاريخية وحالات التربية المغلوطة. طبعاً لم نستطع التغلب على بعضها لحد الآن، وتلك لها محفزات أخرى - كهذه النـزعة الاستهلاكية والإسراف وما شاكل - هذه من موروثاتنا عن الماضي ولا زلنا نحتفظ بها للأسف. علينا نحن الشعب الإيراني أن نخلع هذا الرداء النشاز القبيح عن أجسادنا. نحن استهلاكيون جداً. وهذه مشكلة يجب حلها. على الجميع أن يتعاضدوا ويعالجوا هذه القضية. طبعاً للإذاعة والتلفزيون دورها في هذا بلا شك.
هذه هي العوامل الداخلية. أما العوامل الخارجية فكثيرة إلى ما شاء الله. كل الذين تضرروا من الثورة أو أهداف الثورة وقفوا بوجهها. البعض يضرهم الأمن، والبعض تضرهم العدالة، والبعض يضرهم رفض سيادة الطاغوت، والبعض يضرهم رفض سيادة الأجانب، والبعض يضرهم رفض الاستبداد، هؤلاء تعرفونهم ولا حاجة للإيضاح والقول من الذين يضرهم الاستقلال أو الحرية؟ كل هؤلاء اصطفوا بوجه الثورة، ولا يزال هذا الاصطفاف إلى اليوم. أنتم الشباب لا تتذكرون أوائل الثورة. في السنة الأولى من الثورة رفعت شعارات القومية في كثير من أنحاء البلاد التي تحولت بسبب ذلك إلى بؤر قتال وصراع. في بلوشستان، وكردستان، وتركمن صحرا، ومناطق مختلفة أخرى، وبذريعة قومية. وكانت الأمور تتابع فيرى المعنيون أنه ليس لأي من هذه الأقوام مشكلة مع الإسلام والثورة الإسلامية. أنا نفسي عشت في بلوشستان. نُفيت إلى هناك وتعرفت على البلوش. أدري إنهم لا يعيشون أية مشكلة مع الثورة، لكن مجموعة معينة اشتبكت ببعض الحيل والذرائع مع الثورة باسم البلوش. ومثل هذه الحالة تماماً تكررت في كردستان، وتركمن صحرا، بعد ذلك أتضحت مصادر التحريض وصار معلوماً من أين يجري تحريكهم. هذه كانت عقبات تعترض طريق الثورة؛ لم يكن بوسع هذه السيارة السير بنحو طبيعي في طريق مبلط. وبعد قضية القوميات كانت هناك حالة التنافس الداخلي بيننا ولها قصة سيئة مريرة مملّة. ثم كانت الحرب المفروضة لثمانية أعوام.
لاحظوا أن هذه الطاقة المتراكمة التي أنفقها شعبنا لمواجهة العدو واستطاع دحره - لا صدام فقط، بل الذين وقفوا وراءه دحروا أيضاً أمام الثورة الإسلامية - لو قُدِّر لها أن تخصص للأهداف العمرانية وبناء الجمهورية الإسلامية، فكم كانت الأمور ستتقدم إلى الأمام؟ ولقد استفدنا من فرض الحرب علينا طبعاً. استفدنا من هذا التهديد كأفضل فرصة. بدّل الشعب الإيراني هذا التهديد إلى فرصة كبيرة بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ فكان مختبراً هائلاً، وساحة عظيمة للتجارب عادت علينا بالكثير من البركات. بيد أن الحقيقة إلى جانب ذلك هي أن فرض الحرب على بلد يخلق له مشكلات. إذن، اجتمع الاحتكاريون العالميون من جهة، والأشرار الداخليون من جهة، ومؤامرات القوى الكبرى من جهة، وأيادي الخداع الدعائي والسياسي والاقتصادي للقوة الكبرى التي قصرت يدها عن إيران بفضل الثورة الإسلامية - أي أمريكا التي لا تزال مستمرة في عدائها إلى اليوم - من جهة أخرى، اجتمع كل هؤلاء ضد حركة الشعب الإيراني العظيمة. ورغم وجود كل هذه العقبات، لكم أن يقيّموا حركة الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية نحو الأهداف. إذا أردت أن أقيم لقلت إني أعتقد أن الأداء كان جيداً جداً. أداء الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية أحرز درجة جيدة جداً. هل بوسع الآخرين الصمود مقابل كل هذه المشكلات؟ حصلت في زماننا أحداث نقل للسلطة في أفريقيا وآسيا وأماكن أخرى كثيرة؛ لم يصمد أي منها. والثورات الكبرى في العالم خلال العهود السابقة - كالثورة الفرنسية الكبرى، وثورة اكتوبر السوفيتية - لم تصمد أي منها حيال هذه الأحداث، أي إنها انحرفت منذ البداية. السمة الجماهيرية، وسمة الإسلامية، وسمة المبدئية هي التي تجعل الشاب الثوري اليوم وبعد ثلاثين عاماً يطرح مبادئ الثورة بصوت عالٍ باعتبارها مطامحه ومطالباته. هذا توفيق كبير جداً للثورة. لم يكن الحال كذلك أبداً في الثورات الأخرى.
أنظروا في الأعمال الأدبية الفرنسية خلال القرن التاسع عشر، وقد وقعت الثورة الفرنسية الكبرى في أواخر القرن الثامن عشر. في مطلع القرن التاسع عشر تولى نابليون زمام الأمور. ولكم أن تنظروا في الآثار الأدبية أواسط القرن أي 1830 أو 1840 مثلاً وهي كثيرة من شعر، ورواية، وسترون الحال التي كانوا عليها بعد مضي ثلاثين سنة على انتصار ثورتهم؛ ساد آنذاك استبداد مطلق، وفساد مطلق، وتمييز طبقي مفزع، رغم أنهم رفعوا هناك أيضاً شعار العدالة، والمساواة، ورفض الاستبداد. توفيق الثورة الإسلامية توفيق لا نظير له. والأسوء منها ثورة اكتوبر السوفيتية. والأحداث التي وقعت في زماننا - تسمى ثورة طبعاً، لكنها كانت في الغالب انقلابات أو جماعات مسلحة تولت السلطة كما حصل في كوبا ومواطن أخرى - أصيبت غالباً بهذه الحالة التي ذكرتها؛ أي إنها لم تصمد ولم تستطع الوقوف بوجه العقبات.
والآن لاحظوا أن كل هذه الموانع إنما هي من السنن الإلهية. ليس وجودها من باب الصدفة... إنها سنن إلهية. بمعنى أن المساعي والحركة تواجه العقبات دوماً. وإلا لما كان للجهاد معنى: »وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً«. كل دعوات الأنبياء كان لها أعداؤها - عقباتها - من الجن والأنس. وتقول آية أخرى: »وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم«. وجود الجماعات المفسدة الماكرة في المجتمعات من السنن الدارجة. بمعنى أن الأنبياء لم يقولوا إطلاقاً إننا نخوض الساحة حينما يكون الطريق معبداً؛ لا، خاضوا غمار الساحة والأجواء متأزمة وصعبة؛ كالجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية. ولكن في المقابل، تقضي السنة الإلهية بأن الحركة النبوية والحركة الإلهية ومصداقها الثورة الإسلامية إذا تواصلت واستمرت فسوف تنتصر على كل هذه العقبات. هذه هي السنة الإلهية. جاء في سورة الفتح المباركة: »ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً«. إذا وقفتم وصبرتم ولم تضيّعوا الهدف ولم تتركوا العمل والجد، فلا شك أن الغلبة ستكون لكم في هذا الميدان. هذه هي محصلة كلامي لكم أيها الشباب الأعزاء. الاصطفافات التي قامت ضد الثورة في أيامها الأولى موجودة اليوم أيضاً دون مراء. البعض منها غيّر شكله، والبعض منها تفاقم واشتد بمرور الزمن. مثلما قال هؤلاء الشباب فإن النـزعة الاستهلاكية وسباق الترف والبهرجة والحصول على المال وتحويل الأشياء إلى مال، أوجد للأسف طبقة جديدة. النظام الإسلامي لا يعارض إنتاج الثروة، بل يشجعه. لولا الإنتاج وإيجاد الثروة لتعرضت حياة المجتمع وبقاؤه للخطر، ولما اكتسب الاقتدار اللازم. هذا مبدأ إسلامي. أما أن تذوب قلوب الناس لسباق النـزعة الارستقراطية والبهرجة، فهذا شيء غير محبذ. هذا شيء موجود في داخلنا للأسف. إنه الإسراف والنـزعة الاستهلاكية المفرطة كما سبق أن أوضحت. وهنالك ذلك الاصطفاف الخارجي أيضاً. ترون الآن أن أمريكا تقف بكل قدراتها ضد الشعب الإيراني. هذه هي كل طاقة أمريكا: طاقتها الدعائية، والسياسية، والاقتصادية، ونفوذها الدولي. يتصور البعض أن الحكومات الأمريكية تحتاج في الداخل إلى أن يكون لها عدو في الخارج، لذلك يضخّمون النظام الإسلامي دوماً ويطرحون الجمهورية الإسلامية كخطر كبير. هذا صحيح طبعاً. إحدى سياسات القادة الأمريكان هي أنهم يحتاجون دوماً لعدو خارجي من أجل صرف أذهان الناس عن مشكلاتهم الداخلية، والتمييز الذي لديهم، والتباين الطبقي العجيب هناك، والمعضلات الكثيرة التي يعانيها الناس في أمريكا. هذا شيء أدركناه ونعلمه، بيد أن قضية تضخيم إيران قضية أساسية في تفكير الساسة السلطويين في أمريكا؛ هي كذلك فعلاً. عماد وجودهم هو الاعتداء والهيمنة والتوسع هنا وهناك. أقنعوا الحكومات وأسكتوا الشعوب. الراية الوحيدة التي تخفق ضدهم هي الحكومة والشعب المتحدان في أي مكان؟ في الجمهورية الإسلامية. كل أبناء الشعب، ومعهم الحكومة، ومعهم رئيس الجمهورية ومسؤولو البلاد يرفضون الظلم والتمييز والتطاول بدون تقية. هذا خطر كبير على القوة التي لا تقيد نفسها داخل أسوارها الوطنية. لأن هتاف هذا الشعب ونهضته سيوقظ الشعوب الأخرى ويحذرهم، كما حصل لحد الآن؛ وقد تحققت هذه اليقظة فعلاً. هؤلاء يشعرون بالخطر على كل حال، وقد بذلوا كل سعيهم، ولكن مع كل ذلك، بوسعكم أيها الشعب الإيراني، وأنتم الشباب، والطلبة الجامعيين الوقوف أمامهم والانتصار عليهم جميعاً. لكن لهذا شروطاً. نحن الآن متقدمون كثيراً على ما كناه قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة. تجربتنا أكبر. وإدارتنا أمتن، وقدراتنا العلمية أفضل بكثير، وإمكانيات تحركنا الاقتصادي أكبر بكثير عما كانت يومذاك، وتصوراتنا عن التقدم أفضل بكثير عما كانت عليه في تلك الآونة. في العقد الأول كان كثير من الثوريين يرى التقدم في النموذج اليساري - يسار عقد الستينات(3) - أي النموذج الميّال للاشتراكية. وكل من يعارض ذلك يقذفونه بتهمة أو وصمة أو شيء من الأشياء. عدد من المسؤولين، والعاملين، والناشطين في الجمهورية الإسلامية كانت نظرتهم مركّزة على سيادة الدولة وملكية الحكومة؛ هذه النظرة نظرة خاطئة، وتعد نظرة لتقدم البلاد من زاوية التفكير الشرقي الاشتراكي اليساري . كانت نظرة خاطئة. وطبعاً، سرعان من جرى التنبه إلى كونها خاطئة. حتى الذين روّجوا لهذه الرؤية يومذاك، عادوا عنها فجأة بمائة وثمانين درجة. تحول ذلك الإفراط إلى تفريط. خلال فترة معينة كانت النظرة للتقدم نظرةً غربية، أي السبيل الذي سار عليه البلد الفلاني - مثلاً كوريا الجنوبية التي قلّدت أمريكا واتبعتها أو اتبعت المعسكر الغربي - وعليهم هم أيضاً أن يسيروا فيه؛ هكذا كان تصورهم. لم يكونوا يروا أنفسهم حتى بمستوى بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا. كانوا يرون أنفسهم بمستوى بلدان مثل كوريا الجنوبية. هذه رُفضت أيضاً. خارطة التقدم الغربي للبلاد مرفوضة حالياً في ذهنية المسؤولين وأفكارهم وعلى شكل خطاب عام في ذهنية النخبة والمثقفين. بدا أنها خاطئة. والشاهد هو أن نقد خارطة التقدم بالأسلوب الغربي لا يقتصر اليوم على شعوب الشرق؛ إنه ليس شيئاً خاصاً بنا؛ المفكرون والمثقفون الغربيون أنفسهم راحوا ينقدونها سواء على الصعد الاقتصادية أو الأخلاقية، أو السياسية. الشيء الذي كانوا يفخرون به تحت عنوان الليبرالية الديمقراطية توجه له النقود اليوم؛ إذن، هذه أيضاً ليست خارطة للتقدم. نحن نعلم هذه الأمور اليوم. فما هي خارطة التقدم الإسلامي - الإيراني إذن؟ هذا ما يجب أن يدوّن ويتضح وتتجلى أبعاده وزواياه. هذه مهمة لم تنجز بشكل كامل وينبغي أن تنجز، ولكن مجرد علمنا بضرورة العودة إلى الخارطة الإسلامية - الإيرانية يعد نجاحاً كبيراً. لقد حققنا هذا النجاح راهناً.
طيب، هذا هو مسار التقدم. إنه ليس بالمسار الغربي، ولا المسار المنسوخ المنهار للمعسكر الشرقي القديم. الأزمات التي وقعت في الغرب كلها أمامنا، ونعلم أنها قد تصيب أي بلد يسير في ذلك النهج. وعليه، ينبغي أن نتبع طريقنا الإيراني - الإسلامي الواضح، ونتقدم فيه بسرعة؛ بسرعة مناسبة. سبيل الحل الموجود على أساس هذه المقدمات يجب أن تجدوه أنتم. أنتم من يجب أن يصل إلى النتيجة، وما استطيع أن أقوله لكم كتوجيه واستراتيجية عامة هو السعي والجد الشبابي الدؤوب. أنتم الذين في الجامعات؛ نشاطكم نشاط جامعي، ويجب عليكم أن تدرسوا وتبحثوا وتفكروا في طرح النظريات. الاستلهام غير المشروط للنموذج من التنظيرات الغربية ونزعة الترجمة حالة مغلوطة وخطيرة. نحن بحاجة للتنظير في مضمار العلوم الإنسانية. العديد من الأحداث في العالم حتى على الصعد الاقتصادية والسياسية وسواها تابعة لآراء المفكرين في مجال العلوم الإنسانية؛ علم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة. هذه هي العلوم التي ترسم المؤشرات العامة. يجب أن تكون لنا تنظيراتنا ومشاريعنا الخاصة في هذه المجالات؛ علينا أن نبذل جهودنا؛ على الطالب الجامعي أن يبذل جهوده؛ على الطالب الجامعي والمناخ الجامعي أن تكون له نظرته العامة لأهداف الثورة. واحذروا من أن يستطيع العدو توظيف البيئة الجامعة وطلبتها وأساتذتها. هذا هو الشيء الذي أؤكد عليه. تلاحظون أن حدثاً صغيراً قد يقع؛ في جامعتكم هذه قد يكون للبعض اعتراضهم وعتابهم بخصوص قضية معينة، وإذا بهم يفسرونهها ويحللونها في العالم لا بالاتجاه الذي قصده الطالب الجامعي حينما بادر وتحرك، بل بالاتجاه المعاكس تماماً. أي إنهم عن هذا الطريق يشككون في السيادة، والنظام، والإسلام. ينبغي التحلي باليقظة، وهذه اليقظة ضرورية أكثر في البيئة الجامعية.
القضية الأخرى التي ينبغي طرحها على الشباب هي قضية التدين. أيها الشباب الأعزاء، التدين ومراعاة القيم الدينية ضمن حدود الإمكان من شأنها استجلاب التوجه الإلهي والنجاح الإنساني، والتقدم. لا تستهينوا بهذا الجانب. أريد أن أقول إنكم إذا حللتم المعادلة الرياضية الفلانية، أو العنصر الكيمياوي الفلاني، أو أنجزتم الاختراع الفلاني أو الاكتشاف الفلاني، وكان توجهكم نحو الله فإن الله سيمدكم ويعينكم. فالأمور كلها بيد الله. ربما سبق أن ذكرت أنه حينما بدأ شبابنا متابعة قضية الخلايا الأساسية واكتشافها، رحم الله المرحوم المهندس كاظمي رئيس مؤسسة رويان، جاء مع فريقه وقدم لي تقريراً. قال: اتصلت هاتفياً لأرى أين وصلوا في العمل - لأنهم قالوا بالأمس مثلاً إنهم سينتهون غداً - ورفعت زوجته الشابة السماعة فقالت له إنه - أي المهندس المكلّف بمتابعة القضية - خرّ ساجداً وهو يبكي لأنه استطاع التوصل لهذا الاكتشاف. استطاع التوصل إلى النقطة الأخيرة فهوى ساجداً باكياً. حينما كان المرحوم المهندس كاظمي يروي هذه الحادثة اختنق بعبرته وبكى وبكى معه ذلك الشاب الذي كان في الاجتماع. انخرطوا في البكاء. ينبغي عدم الاستهانة بدور الروح المعنوية. بالتوجه إلى الله والتقرب منه والتوسل بالذات الإلهية المقدسة والعناية الإلهية يمكن النهوض بالكثير من الأعمال الصعبة. أنتم شباب، وتختلفون عنا. أقولها لكم: إنكم من هذه الناحية متقدمون علينا كثيراً. قلوبكم طاهرة نيرة حرة نقية كمرآة صافية تعكس النور على الفور؛ لم تتلوثوا؛ فاعرفوا قدر هذا. لتكن لكم علاقتكم وارتباطكم بالله؛ بالصلاة، والنوافل، وتلاوة القرآن، والدعاء، والصحيفة السجادية. الصحيفة السجادية هذه زاخرة بالمعارف الدينية. بهذا سوف تعززون بنيتكم الدينية والثورية. إذا كانت البنية الدينية لشبابنا متينة، فإن الكثيرين ممن يعملون في مدينتكم شيراز هذه ومحافظة فارس وكل البلاد - وأنا على اطلاع بالأخبار هنا- لحرف الأذهان نحو اتجاهات مختلفة، إذا لاحظوا القوة والثبات من شبابنا فإنهم سوف يقلعون ويعتزلون. في مدينتكم وفي الأماكن الأخرى ولا أريد التفصيل في القضية الآن، ولعلكم تعرفون الأمور جيداً، تنشط تيارات عرفانية مادية عبثية بلا محتوى، وأديان منسوخة، ومنظمات تتسمى بالدين لكن باطنها سياسي، تنشط وتتجاذب لتنتقص من المنظومة الإسلامية الهائلة كل ما تستطيع. إذا كانت البنية الفكرية والعقيدية لشبابنا متينة فسيفهم أولئك أنه لا طائل من محاولة كسب هؤلاء الشباب. تمتين البنية العقيدية يتأتّى بهذا التوجه إلى الله، والتضرع، والتوسل إلى الخالق، وأدعية الصحيفة السجادية. ليست هذه الأدعية مجرد تكرار: يارب يارب، بل هي طافحة بالمعارف الإسلامية التي تعمق عقيدة الإنسان. وكذا هو الحال بالنسبة لتلاوة القرآن، وأداء الصلاة. على كل حال، هذه هي وصيتي لكم أيها الشباب.
وحافظوا على اتحادكم. على مستوى الشعب الإيراني أيضاً يعد حفظ الاتحاد وسيلة رئيسية. وكذا الحال على مستوى شريحة الطلبة الجامعيين في مختلف أنحاء البلاد؛ وعلى مستوى الطلبة الجامعيين في مدينة أو محافظة معينة. لا تسمحوا لتباين الأذواق أن يجعلكم تصطفون ضد بعضكم. ذات يوم اقتضت مصالح البعض أن يجعلوا الجامعات مسرحاً لألاعيبهم السياسية واشتباكاتهم ونزاعاتهم السياسية. وهذه الحالات اليوم أقل والحمد لله. لا تسمحوا أن تتحول التنظيمات الطلابية ومكونات النهضة الطلابية إلى أعداء. المنافس شيء جيد؛ المنافس والتنافس الإيجابي. قال أحد الإخوة نحن على استعداد إذا منحونا مركز أبحاث أو سمحوا لنا بتأسيس مركز أبحاث أن نمارس نشاطنا في المجال الفلاني (الطاقة الشمسسة مثلاً أو أي مجال آخر). وتستطيع جماعة طلابية أخرى أن تقول أيضاً إنها على استعداد لتنافس علمي إيجابي مع الجماعة الأولى. هذا هو التنافس الإيجابي. إنه سباق ركض: »سابقوا إلى مغفرة من ربكم«. السباق في أمور الخير، السباق في الإنتاج، في التعلم، وتحقيق تلك المعلومات في الخارج، والمساعدة على تحسين المناخ الحياتي للناس. هذا السباق جيد جداً. التنافس جيد جداً. ولكن لا للشجار والعراك خصوصاً على الأشياء الصغيرة؛ الأشياء الصغيرة التافهة جداً. هذا ما لا نرضاه للبيئة الجامعية، ولا لكل البلاد، ولا لأجواء رجال الدين، ولا لأي من الأجواء والمناخات.
إذن، العلم أحد هذه المحاور الرئيسية. والاتحاد أيضاً من المحاور الرئيسية. والتدين من المحاور الرئيسية. واقتصاد البلد أحد المحاور الرئيسية. إذا عملنا بهذه المحاور وتابعناها خلال دورة زمنية معينة تحت شعار الإبداع الذي سيفضي أكيداً إلى الازدهار، فإن بوسع هذه المحاور وخلال هذه الدورة الزمنية أن تفرض الهزيمة على العدو. طبعاً، النشاط والسعي والعمل الاقتصادي لابد أن يخضع لمعيار العدالة، إذ من دون العدالة سيفضي أي نشاط اقتصادي إلى الضرر. وليس معنى العدالة أن لا نستثمر أو لا نسمح للمستثمر أن يستثمر. هذه تصورات خاطئة يحملها أولئك الذين اعتبروا أنفسهم يومها أنصاراً للعدالة. لا، إيجاد المشاغل عمل خيري وعبادة وممارسة كبرى يجب أن تتم. القضية هي الإدارة الصحيحة لهذه العملية. على مدراء البلاد والحكومة سواء في مجال التشريع، أو التنفيذ، أو القضاء أن يديروا العملية بحيث لا يحصل اعتداء على الحقوق، ولا يعتدي أحد على آخر. وسوف تتقدم هذه القافلة بكل مكوناتها إلى الأمام إن شاء الله.
اللهم اجعل ما قلناه وسمعناه لأجلك وفي سبيلك. اللهم وفقنا لما يوجب رضاك عنا. اللهم أجعل بلدنا متقدماً شامخاً أكثر يوماً بعد يوم. ربنا وفق هؤلاء الشباب الأعزاء الطاهرين لبناء مستقبل البلاد بالشكل المنشود. ربنا احفظ هؤلاء الشباب لهذا البلد والشعب. ربنا أرض عنا القلب المقدس لإمامنا المهدي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

هوامش
1 - ترجمة بيت شعري لحافظ الشيرازي.
2 - 1970م.
3 - عقد الثمانينات من القرن العشرين للميلاد.