بسم الله الرحمن الرحيم
أشكركم كثيراً أيها الأصدقاء الشباب الذين أوجدتم اليوم في هذه الحسينية مناخاً حافلاً بحيوية الشباب ومميزات العقلانية والتفكير. نتمنى أن تترسخ وتنتشر هذه الروح بينكم أيها الطلبة الجامعيين الأصدقاء والشباب الأعزاء... الروح التي إن صاحبتها نزعة التدين والتقوى كانت حلّالة المشكلات في كافة أطوار حياة البلدان.
الأفكار التي طرحها الأعزاء هنا كانت لافتة جداً. أي إن أحاديثكم اليوم بدت لي أنا الذي استمع بدقة لكلام من يتحدثون هنا - سواء الطلبة الجامعيون والشباب، أو المجاميع الأخرى التي تشارك هنا أحياناً، أو في أية جلسة أقابل فيها جماعة وأتحدث معهم أرغب أن أصغي لكلامهم بدقة وانتفع منه - عميقة ومفيدة جداً، وهذا يوفر لنا معدلاً إجمالياً ومستوى متوسطاً لذهنية الطلبة الجامعيين وعقليتهم. لا نريد القول إنكم تمثلون كافة الطلبة الجامعيين في البلاد، لكن فيكم بالتالي دلالة على أن هذا المستوى من التفكير والمعالجات والمساعي لحل المشكلات والقضايا موجودة راهناً في جامعاتنا... هذا شيء لافت جداً بالنسبة لي.
ذكرتم أيها الأعزاء نقاطاً عدة. لدي بعض رؤوس النقاط التي سجلتها وسأطرحها على الأعزاء إذا توفر المجال، ولكن يلوح أنه من المناسب مراجعة ما ذكرتموه من نقاط وتقديم إيضاحات حولها والإطلال من خلالها على بعض ما كان يدور في ذهني.
قال أحد الأصدقاء إن جيلاً جديداً في طور الظهور... هذا صحيح تماماً. طبعاً هذا ليس أول جيل يظهر إبان فترة الثورة. فقد ظهر قبلكم جيل آخر في الثورة - أي ولد في الواقع - وكانت له إياد مقتدرة حلّالة للمشاكل والعقد. ذلك الجيل أيضاً كان جيل الثورة.. لم يتربّ في مكان ومناخ آخر. فالثورة كالأتون المتوهج يغيّر شكل العناصر ونظامها. كما كانوا يقولون قديماً إن الإكسير والكيمياء تبدل عنصر النحاس إلى ذهب. قد يبدو هذا بالطبع أسطورة في ذهن البعض.. إنه ليس أسطورة.. إنه واقع كان ولا يزال.. الثورة شيء من هذا القبيل.. تغيّر الأشياء وتبدلها. لا يقتصر هذا التغيير على نوع العلاقات الاجتماعية، إنما هو بالدرجة الأولى تغيير في الطبقات الداخلية للأفراد وذهنياتهم. التغيير الأول يحصل هناك... في القلوب ... وعليه فالجيل الذي كان له من العمر عند انتصار الثورة خمسة عشر عاماً، أو ستة عشر عاماً، أو ثمانية عشر عاماً، أدى اختباره في ميادين الثورة، ثم في فترة الدفاع المقدس و ما أوجده خلالها من فضاءات عجيبة. ذلك الجيل أيضاً ولد في الثورة، وهذا الجيل الذي تقولون إنه آخذ في الظهور أوافق كلامكم تماماً وأصدّقه وأشعر بصحته.
هنا يطرح السؤال: ما هي مهمة هذا الجيل؟ وما هي واجباته؟ من الذي يجب أن يتقدم به ويوجهه؟ هذه أسئلة جيدة. أعتقد أنها أسئلة وليست إشكالات ومؤاخذات. والإجابة عن هذه الأسئلة معروفة. لم تأتي الثورة لتحل حكومة مكان حكومة، إنما جاءت لتأسيس نظام ومنظومة وطنية وإنسانية على أساس نمط فكري معين. إنه النمط الفكري الإسلامي. ما ندعيه - وهذا ادعاء نثبته وقد ثبت وصار أمراً محسوساً - هو أننا نعتقد أن طريق سعادة البشر رهن بتعاليم الأنبياء وأكملها هي تعاليم الإسلام. البشر من دون تعاليم الأنبياء ما كان لهم أن يتقدموا بهذه الحدود التي حققوها حالياً حتى على الصعيد المادي، ناهيك عن التسامي المعنوي والبهجة المعنوية والطمأنينة والاستقرار النفسي الممهد لعروج الإنسان إلى المراتب الملكوتية العليا... هذا هو طريق سعادة البشر.
لأجل تطبيق أفكار الأنبياء في المجتمع لابد من حركة طويلة الأمد. ولقد جاءت هذه الثورة لهذا الهدف... المجتمع الإسلامي... البلد الإسلامي.. وليس الدولة الإسلامية فقط.. ليس مجرد تشكيل نظام إسلامي، بل تشكيل واقع ومنظومة جماهيرية تعيش على أساس تعاليم الإسلام - وهي لباب لباب تعاليم الأنبياء - وتشعر بآثارها. هذا هو هدفنا. إننا لم نبلغ هذا الهدف بعد، ولم يكن المتوقع إن نبلغه في ظرف ثلاثين سنة. إنه هدف طويل الأمد جداُ. ينبغي السعي والعمل ليمكن الوصول لهذا الهدف. هذه هي مسؤوليتكم. هذه هي مهمة هذا الجيل. أوصلوا بلادكم وشعبكم إلى المحطة التي يمكن القول معها وبالمعنى الحقيقي للكلمة إن مجتمعاً إسلامياً قد تشكل. اجعلوا هذا نموذجاً. وستكون هذه أفضل وسيلة لنشر هذه الأفكار وتنمية هذه التجربة في العالم. هذه هي مهمة هذا الجيل وهي ليست أمراً صعباً على مستوى التصور والطرح النظري، لكن الجانب العملي صعب جداً، ويستدعي هذه الهمم والمحفزات الشبابية والمساعي الجهادية التي تحدثنا عنها. هذا هو الهدف: نحن نريد بلداً إسلامياً. حينما يتأسس البلد الإسلامي فمعنى ذلك أن دنيا الناس سوف تبنى و تتعمّر، والعمارة هنا ليست بمعنى العمارة في النظم المادية.
ثمة في النظم المادية عمارة وبناء. أي إن التقدم المادي بحد ذاته حالة إيجابية، ولكن لا تتوفر نظرة عادلة ومتوازنة حتى بخصوص هذا التقدم المادي. بمعنى أنكم تلاحظون اليوم في بلد غني مثل أمريكا أن أثرياء هذا البلد هم أول الأثرياء في العالم، لكن فقراءه أيضاً يعدون أحياناً أتعس الفقراء في العالم.. يموتون من البرد، ومن الحر، ومن الجوع. ثمة هناك طبقة متوسطة إذا لم يعملوا على مدار الساعة وفي كل أوقاتهم وبكل قواهم وقدراتهم فلن يستطيعوا إشباع بطونهم. هذه ليست سعادة للبشر.. هذه ليست سعادة للمجتمع. نعم، إذا نظرتم لناتجهم الإجمالي الوطني ستجدونه عشرة أضعاف بلد آخر.. لكن هذا لا يعني كل شيء.. أي إنهم لا يتمتعون بالعدالة حتى في امتيازاتهم المادية.. الرفاه هناك ليس شاملاً.. لا يمتلكون أسباب الرخاء جميعهم، ناهيك عن الامتيازات المعنوية.. ليس ثمة استقرار نفسي.. ولا توجه إلى الله، ولا تقوى ولا ورع، ولا طهارة، ولا عفة، ولا تسامح، ولا تجاوز، ولا رحمة، ولا معونة لعباد الله..
هذا ليس التقدم الذي ينشده البلد الإسلامي والمجتمع الإسلامي. السعادة والرفاه الذي ننشده للمجتمع الإسلامي ليس هذا.. بل هو الرفاه المادي والمعنوي.. بمعنى أنه يجب أن لا يكون هناك فقر؛ يجب أن تتوفر العدالة، والتقوى، والأخلاق، والروح المعنوية، والورع. هذا هو الهدف الذي ينبغي أن نسعى إليه.
قال أحد الأصدقاء إن هناك أسباب تجعل مستقبل النهضة الطلابية غامضاً. أنا أقول إن مستقبلها ليس غامضاً على الإطلاق. ومن الصدفة أن هذا الأخ الذي طرح هذه الفكرة ذكر أيضاً واجبات النهضة الطلابية والمهمات التي ينبغي لها الاضطلاع بها. حسناً، ما الغموض في المسألة إذن؟! عليكم القيام بهذه الأعمال.. بهذه الأهداف والمقاصد.
يثار هنا سؤال: هل تقع جميع الواجبات على عاتق الطلبة الجامعيين فقط لأجل بلوغ هذه الأهداف السامية الكبرى؟ والمراد هم الطلبة الجامعيون الذين يؤمنون برسالة يحملونها وتسمونهم أنتم ((النهضة الطلابية)) .. أي الطلبة الجامعيون المتوثبون الناشطون الذين يريدون استخدام طاقاتهم الفكرية والجسدية والروحية في سبيل التقدم. هل هؤلاء هم المعنيون فقط؟ كلا دون شك. المسؤولية الأثقل تقع على كاهل المسؤولين ومختلف صنوف النخبة في المجتمع.. النخبة العلمية، والنخبة الفكرية، والنخبة السياسية.. بيد أن التيار الطلابي الناشط أيضاً تقع على عاتقه مسؤولية ثقيلة. من مسؤوليات التيار الطلابي السعي لأجل الفهم والإدراك، أي التفكير.
يبدو لي أن من الأمور الضرورية تشكيل جلسات فكرية واسعة يمكن لمجاميع الطلبة الجامعيين ومجاميع الطلبة الحوزويين عقدها ببرمجة جيدة لتكون محطات يفكرون فيها حول مختلف القضايا. تنمية التفكير الصحيح ونشره يمكن أن يؤتي الثمار التي نتوقعها من الطالب الجامعي في مجالات العلم والتقانة والتطور المعرفي.. أي الازدهار وتقديم جديد لساحة الفكر وفق حركة سليمة وتوجه صائب. هذه إحدى الأعمال الممكنة.
ومن الأعمال أيضاً تشخيص المبادئ. لدينا مبادئ وأصول ينبغي عدم تجاوزها. أي يجب عدم الانحراف عن المبادئ باسم التفكير. المبادئ هي علامات الطريق الصحيح والصراط المستقيم. من الخطأ تشبيه الأصول والمبادئ بجدران يجب على الإنسان التحرك بينها. كلا، الأصول هي العلامات والدلائل. ثمة طريق مستقيم.. ثمة صراط مستقيم يوصل الإنسان إلى الهدف. ينبغي معرفة هذا الصراط المستقيم واكتشافه. ما من أحد يحبس في حدود الصراط المستقيم، وليس ثمة إجبار على سلوك الصراط المستقيم. هذه الأصول لا ترغم أحداً على شيء.. لا تلزم أحداً ولا تقيده، إنما تهديه وتقول له إذا سرت وفقاً لهذه الأصول فستصل لتلك النتيجة المنشودة، وإذا تخطيت هذه الأصول فلن تبلغ الهدف. وهذا هو الإشكال الذي يرد على الطريق المنحرف. للطريق المنحرف إشكالان اثنان: الأول هو أن الإنسان لا يصل فيه إلى مبتغاه وهدفه. والإشكال الثاني أنه يضيّع عمر الإنسان ويفوّت عليه الفرص.
الذين رفعوا طوال المائة عام أو المائة وخمسين عاماً الماضية نداءات الإصلاح والتقدم في بلادنا والحق أنهم أخذونا إلى متاهات وطرق منحرفة، ارتكبوا في الواقع جريرة كبرى. أولاً لم نصل طوال هذه الأعوام المائة والخمسين إلى مبتغانا وبقينا متخلفين. وثانياً ضاع وقتنا. تعاقبت الأجيال وأهدرت طاقاتها في هذه المتاهات ولم تصل إلى نتيجة.. إلى أن يتفطن جيل إلى الخطأ ويعود أدراجه، ويبدأ المسيرة والحركة من البداية. خطيئة الذين يأخذون المجتمعات الإنسانية إلى طرق منحرفة هي أنهم يضيّعون أعمارهم وأوقاتهم ويفوّتون عليهم الفرص.
ذات يوم أفهموا مجتمعنا أن طريق التقدم يكمن في تقليدنا للغربيين، وليس التقليد في طلب العلم، بل التقليد في المظاهر.. أن تكون نساؤنا سافرات.. ويرتدي رجالنا الملابس والقبعات الأجنبية. وتعلمون أنه مر على شعبنا زمن كان فيه ارتداء نوع خاص من القبعات تسمى القبعات البهلوية أمراً إجبارياً. وإذا لم يلبس الرجل هذه القبعة يكون قد ارتكب مخالفة قانونية! وتقدموا خطوة أخرى بعد ذلك فقالوا إما القبعة البهلوية أو الشابو لأن الغربيين يلبسون هذا اللباس. نسخت ومنعت مختلف أنواع الملابس التي كانت ترتدى داخل البلاد كأزياء محلية من أجل أن يلبس الشعب الزي الموحد المستعار من الغرب. لماذا؟ لأجل التقدم! كانوا يرون تقدم البلاد أن يرتدي أبناء الشعب البنطلون والسترة وربطة العنق، وتمشي نساؤنا في الشوارع سافرات، ويتعلم الناس الأعراف والتقاليد الغربية. لاحظوا كم هي خسارة كبرى للبلد وكم هو خزي فادح لو فكّر الإنسان فيه. يومذاك لم يكونوا يشعرون بالخزي أبداً، بل يفخرون ويتباهون وينادون هذا بأعلى أصواتهم. هذا طريق منحرف. إنها وصفة مغلوطة للتقدم. طريق تيه .. والأصول مطلوبة لكي لا تقع هذه الأخطاء.
أحد الأصدقاء وجّه اعتراضات صريحة. وهذه هي سمة الطالب الجامعي. اعترض على الشخصيات والأجهزة والمؤسسات وقد تكون هذه الاعتراضات والنقود واردة وقد تكون غير واردة. لا أريد إصدار حكم ورأي في هذا الخصوص، لكن من المحبذ والإيجابي مبدئياً أن يطرح للطالب الجامعي رأيه بوضوح وصراحة ودون تحيّزات سياسية. أسوء إشكالية وحالة ترد على المناخ الجامعي وأجواء الطلبة الجامعيين هو أن تمنى هذه الأجواء بالنزعة المحافظة ويعبر الطلبة الجامعيون عن آرائهم بملاحظة المواقع والمصالح الخيالية. كلا، على الطالب الجامعي أن يقول كلمته بصراحة. طبعاً لا بد إلى جانب هذه الصراحة في التعبير عن الرأي أن يكون ثمة صدق في النية، وأيضاً سرعة في تقبل الاخطاء إذا ثبت أنها أخطاء. هذا هو الفرق الذي يجب أن يكون بينكم أنتم الشباب والطلبة الجامعيين الصادقين طاهري القلوب وبين الشخصيات السياسية.. اطرحوا آراءكم بصراحة.. وليكن ما تطرحونه نابعاً من قلوبكم، وإذا تبيّن أنه خطأ تراجعوا عنه بسرعة وبسهولة. هذا برأيي من أفضل مميزات الطالب الجامعي.
من هذه النقود النقد الذي تم توجيهه لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وما يقوله البعض من أننا إذا نقدنا الإذاعة والتلفزيون فسنكون قد طرحنا آراء معارضة للقيادة، لماذا؟ لأن القيادة هي التي تعيّن مدير الإذاعة والتلفزيون! إذا كان هذا هو الملاك فعلاً، فينبغي أن لا يعترض الإنسان على أي شخص، لأن رئيس السلطة القضائية أيضاً تعينه القيادة، ورئيس الجمهورية أيضاً يتم تنفيذ حكمه من قبل القيادة بعد الانتخابات. إذن، ينبغي عدم الاعتراض على أي شخص، لا يا أخي، أولاً القيادة ليست هي التي تدير الإذاعة والتلفزيون.. لتكن هذه النقطة معلومة. الإذاعة والتلفزيون يديرها مدير الإذاعة والتلفزيون، وللقيادة في كثير من الأحيان اعتراضاتها.. نظير هذه الاعتراضات التي لديكم الآن، بعضها أو الكثير منها يمثل اعتراضاتنا ونقودنا نحن أيضاً. وربما كانت هناك نقود أخرى... معلوماتي كثيرة لأنهم يوافونني بالتقارير من جهات عديدة، رغم أني قد لا أكون من متفرجي التلفاز أو مستمعي الإذاعة بمقدار ما تتفرجون وتستمعون أنتم. نعترض على وضع الإذاعة والتلفزيون ونسجل إشكالاتنا، وأحياناً نحتد معهم ونعنّفهم.. وهم بدورهم تحكمهم بعض الضرورات ولديهم إجاباتهم.. إجاباتهم صحيحة أحياناً، وغير صحيحية في أحيان أخرى. على كل حال ثمة اعترضات، ونقدكم للإذاعة والتلفزيون لا يسحب على القيادة إطلاقاً.. من حقكم أن تؤاخذوا وتنتقدوا.. لا إشكال في هذا على الإطلاق.
يسأل أحد الأعزاء كيف نتوفر على آراء الإمام؟ أعتقد أن هذا الأمر واضح تمام الوضوح. آراء الإمام مجموعة وكلماته لحسن الحظ مسجلة وموجودة.. كسائر النصوص التي يمكن استنباط أفكار القائل منها. ولكن بالأسلوب الصحيح للاستنباط، الأسلوب الصحيح للاستنباط هو نأخذ جميع الأقوال والكلمات بنظر الاعتبار ونضعها بجانب بعضها. في هذه الأقوال هناك العام والخاص، والمطلق والمقيد، ينبغي مقارنة الأقوال ببعضها، وستكون المحصلة رأي الإمام. هذا طبعاً ليس مهمة سهلة جداً، ولكن واضح ما الذي ينبغي فعله.. إنه عمل اجتهادي.. اجتهاد تستطيعون أنتم الشباب الاضطلاع به. شكلوا فرق عمل تتوزع على مجالات مختلفة واستنبطوا آراء الإمام من أقواله.
وأذكر الآن نقطة من النقاط التي سجلتها، فالوقت أدركنا ولم يبق الكثير منه حتى الأذان. كما أشار بعض الأعزاء إننا على أعتاب الدخول في العقد الرابع من عمر الجمهورية الإسلامية. طبعاً حينما يكون النظام الاجتماعي في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين من عمره فإنه في عنفوان شبابه. وإذا توفرت التحركات والتحولات الداخلية في النظام - وخصوصاً هذا النظام بشكلها المناسب وفي أوقاتها الملائمة فإنه لن يشيخ ويتهرأ بسرعة، بل إنه لن يشيخ حتى بمرور مئات السنين، غير أن المفروغ منه هو النظام الاجتماعي في هذه الأعوام - في أعوام الثلاثين والخامسة والأربعين - يعد نظاماً شاباً.. ما معنى النظام الشاب؟ معناه أنه لا يزال بحاجة إلى تجارب أكثر، ولا يزال بحاجة إلى مزيد من العمل والجد على مستوى المرتكزات كي يصل إلى درجة النضج والاكتمال.
لقد قلنا إن ما ينبغي لنا متابعته والاهتمام به كهدف وشعار في هذا العقد ولأجل اجتياز مرحلة معينة، هو التقدم والعدالة. لنجعل هذا شعارنا: التقدم والعدالة. أقول التقدم وأقصد التقدم الشامل.. أي التقدم المادي والمعنوي. نحن لا نرفض التقدم المادي. أي إننا لا نستهين إطلاقاً بقضايا عمل الجماهير، والتقدم العلمي والتقني وما شاكل. هذه قضايا مهمة جداً وينبغي متابعتها، كي لا يكون هناك فقر، وبطالة، وغلاء، وتضخم في الأسعار، هذا مما لا شك فيه. ولكن لا نكتفي بهذا المقدار، إنما يجب أن تتوفر إلى جانب ذلك الأفكار الجلية، والمعتقدات العميقة، والمحفزات المتظافرة الدفاقة، والأخلاق الإنسانية الإسلامية السامية.
وكما قلت ينبغي الحذر من طرق التيه والضياع. أحياناً يقترحون أشياءً وطرقاً للتقدم هي طرق ضياع. وقد ذكرت مثالاً لذلك. كطرق التقدم في العهد البهلوي التي كان بعضها بحق طرق مراوحة، وبعضها طرق تراجع وانهيار، ولا مجال للتفصيل في ذلك الآن لأن الوقت لا يسمح. كان ذلك نموذجاً يعد طريقاً منحرفاً بحق.. الرضا بالمظاهر والقشور، واعتبار الغربيين معياراً وملاكاً والسير وراءهم، وستكون النتيجة ما شهدناه في تلك الأعوام الخمسين السوداء المشؤومة خلال العهد البهلوي.
ومن نماذج هذه الطرق المنحرفة ما يمكن أن نشهده حتى في أيامنا هذه.. ينبغي الحذر والتفطن.. في هذا النموذج الثاني لا تذكر المظاهر والقشور، ولا ترفض الهوية الإيرانية الإسلامية كما حصل في النموذج المنحرف الأول، ولكن تلاحظ أجواء اليأس من العمل والتقدم في هذا السباق لدى الساسة والمدراء وأصحاب الرأي والقرار في المجتمع. بمعنى أن نظرتهم للغرب نظرة لقطب رفيع جداً لا يمكن بلوغه.. وهم يسمون هذا نظرة واقعية.. يقولون: ما هو واقع القضية يا سيدي؟ أولئك متقدمون اليوم كل هذا التقدم علمياً.. متقدمون كل هذا التقدم في شتى الميادين.. كل هذه النظريات في العلوم الإنسانية، والقضايا الاجتماعية، والشؤون السياسية.. كل هذه الآراء، والأفكار، والنظريات الجديدة المبتكرة.. متى نستطيع اللحاق حتى بغبارهم؟ يعيشون مثل هذه الروح الانهزامية. لقد واجهت شخصياً مثل هؤلاء الأشخاص طوال هذه الأعوام الثلاثين كانوا يعبرون عن هذا المعنى بشكل صريح أو نصف صريح، أو بلسان الحال، ويقولون: يا سيدي نحن يجب أن نتقدم طبعاً، ولكن ينبغي لنا السير وراء هؤلاء! نحن لا نستطيع اللحاق حتى بغبارهم، ناهيك عن أن نستطيع التفوق عليهم وسبقهم.. لماذا تشقون على أنفسكم دون طائل؟ هذا أيضاً طريق تيه وانحراف.
معنى هذا الكلام أن الشعب - وشعبنا نموذج لذلك - وشعوب الشرق ومنها الشعوب المسلمة محكوم عليها دوماً باتباع مسيرة الغرب وأن تبقى دوماً تلميذة للغرب، ولا يكون لديها إطلاقاً الأمل في الرقي إلى مستواهم، ناهيك عن أن نتقدم عليهم.. معناه أن لا تتوفر هذه الشعوب أبداً على روح الأمل. هذا طريق منحرف خطير جداً يشاع اليوم للأسف من قبل بعض أساتذة الجامعات، أو المفكرين السياسيين، أو الخطباء الدينيين. هذا على الضد تماماً من تجربة الإنسانية الطويلة.. لماذا؟ هل خلق الله تعالى جماعة معينة من البشر على أن تكون المتوفقة دوماً؟ أي واقع تاريخي يدل على هذا؟ هؤلاء المتقدمون اليوم في العالم، ألم يكونوا قبل قرون من الزمان شعوباً متخلفة على كافة الصعد؟ هل نسي التاريخ فترة القرون الوسطى في أوربا؟ فترة القرون الوسطى - وقد قلت هذا مراراً - فترة ظلام وجهل وعتمة في أوربا، وليس في البلدان المسلمة وإيران. الحقبة التي أطلقوا عليها اسم حقبة الجهل والغفلة والظلام والسبات كانت تمثل بالنسبة لبلادنا والبلدان الإسلامية حقبة عظمة وتقدم في مجالات العلوم والفلسفة والسياسة والاقتدار السياسي.
هذه النظرة نظرة جد خطيرة. في هذه الميادين العلمية التي تلاحظون اليوم أن بلادكم تتقدم إلى الأمام، في هذه الميادين على وجه الخصوص كان البعض يأتون ويقولون: يا سيدي لا فائدة من هذا! لكن الشاب الإيراني المسلم نزل إلى الساحة بهمة وتحفز وبلغ مستويات الآخرين، بل وتقدم أحياناً على الآخرين. أي إنه تفوق عليهم قياساً إلى الوقت الذي أنفقه. إذن، هذا النمط من التفكير هو من طرق التيه والخطأ. يجب أن لا تسود النظرة اليائسة أبداً. نظرة الدين، والإسلام، والقرآن للإنسان هي أن الإنسان يجب أن يسعى بشكل منظم ومبرمج وبلا توقف حتى يتسنى له بلوغ النتائج.. ها هو صوت الأذان قد ارتفع.
نتمنى أن يوفقكم الله تعالى كي تخرجوا من هذا الميدان - في هذه الفترة التي تجدّون فيها كطلبة جامعيين، وتمر بلادكم بإحدى أكثر فتراتها حساسية - باختبار جيد جداً لبلادكم وتكونوا مبعث تقدم لها.
اللهم اجعل هؤلاء الشباب الأعزاء بلطفك وهديك وحمايتك ذخائر لهذا البلد في الدنيا والآخرة.. انصرهم في كافة الميادين. اللهم أمطر ألطافك وبركاتك المعنوية بمناسبة أيام شهر رمضان على هذه القلوب الطاهرة الشابة. أرض عنا جميعاً القلب الطاهر للإمام المهدي المنتظر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته