بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً أرحب بالجميع و ثانياً أبارك الولادة السعيدة لسيدنا الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه الصلاة و السلام الذي يتجلی وجوده المعنوي في قلوب جميع أبناء شعبنا من كافة أنحاء البلاد ببركة وجود مرقده الطاهر في أرض بلادنا. الإمام الثامن عليه الصلاة و السلام ولي نعمة شعبنا المعنوي و الفكري و المادي. أتمنى بفضل هذه الولادة العظيمة و الشريفة و ببركة هذا الإنسان الكبير و المعنوية الساطعة من قبته الطاهرة أن يشملكم الله أنتم خدمة ضيوف و زوار بيت الله بألطافه و ينوّر قلوبكم بنور هدايته.
حرمة أشهر ذي القعدة الحرام، و ذي الحجة الحرام، و محرم الحرام بمعنى عظمة هذه الأشهر و الاحترام الكبير الذي تحظى به هذه الأيام و الليالي و الساعات في التكوين و الإرادة الإلهية. أيام الحج هي ذروة هذه الكرامة والعظمة، و تواجد الحجاج في المناسك و في قطب التوحيد في العالم الإسلامي - و أعني به مكة المكرمة - من أكبر بركات الأشهر الحرم. ليس من باب الاعتباط أن الإسلام أقرّ حرمة الأشهر الحرم من بين الأحكام التي كانت شائعة بين الناس قبل الإسلام. ليس مغزى الأمر هنا هو أن الرسول الأكرم تماشى مع العرب الجاهليين يوم ذاك فحكم الإسلام بحرمة هذه الأشهر لأنهم كانوا يرون حرمتها، كلا، إنما لأن هذه الأشهر الأربعة » منها أربعة حُرُم « (1) لها ميزة حقيقية. كما أن لبعض الأيام و الليالي و الأسابيع و العشرات امتيازاتها. لهذه الشهور ميزتها و علينا جميعاً معرفة قدرها.. خصوصاً حجاج بيت الله الحرام. الذين سيفوزون هذا العام بهذه السعادة العظمى، و كذلك أنتم خدمتهم و مدراءهم عليكم اغتنام هذه الأيام كمقدمة للشرف الذي ستنالونه بتلك السعادة العظمى. نتمنى أن يشملكم الله تعالى جميعاً بنظراته و هديه الخاص و ينوّر أفئدتكم إن شاء الله.
الحقيقة أن الحج واجب استثنائي و مراسم عجيبة زاخرة بالرموز و الأسرار. مع أن الكثير من الكلام قيل في الحج، و تحدث الجميع و ذكروا آراءً و أفكاراً جد جميلة و جزلة، بيد أن مسألة الحج أعمق بكثير مما فهمناه لحد اليوم. الحج عبادة خالصة عميقة جماعية تتضمن الخضوع، و الخشوع، و الذكر، و العبادة، و التضرع، و التوسل. الجمع بين هاتين الميزتين إلى جوار بعضهما تجعل المسألة ذات مغزى هائل جداً. مع أن في الإسلام عبادات اجتماعية كصلاة الجماعة، و صلاة الجمعة، و صلاة العيد، إلا أن لهذا التجمع الهائل و هذا التركيز على الذكر، و التوحيد، و جمع كل المسلمين من آفاق العالم الإسلامي إلى نقطة واحدة له معنى كبير جداً. أن يجتمع كل المسلمين و كل الأمة الإسلامية على اختلاف ألسنتهم و أعراقهم و عاداتهم و تقاليدهم و أذواقهم و مذاهبهم و يكون من واجبهم الاحتشاد في مكان واحد وأداء أعمال خاصة، سويةً، و هي أعمال عبادة، و تضرع، و ذكر، و توجه إلى الله، فلهذا معنى كبير جداً. يتجلى من هذا أن التوجه إلى بيت الله و اصطفاف القلوب و الأرواح و الأجسام إلى جانب بعضها له أهميته أيضاً. لذلك لاحظوا أن الله تعالى يقول في القرآن الكريم: » و اعتصموا بحبل الله جميعاً «. (2) مجرد الاعتصام بحبل الله لا ينفع لوحده.. المهم هو » جميعاً «.. اعتصموا كلكم سويةً بحبل الله.. تمسكوا سويةً بعروة التعليم و التربية و الهداية الإلهية الوثقى. المهم هو الاجتماع و الاتحاد. القلوب سويةً، و الأرواح سويةً، و الأفكار سويةً، و الأجسام إلى جانب بعضها. الطواف الذي تطوفونه - هذه الحركة الدائرية حول مركز واحد - رمز حركة المسلمين حول محور التوحيد. جميع أعمالنا و مبادراتنا و هممنا يجب أن تدور حول محور توحيد الله و التوجه نحو الذات الربوبية المقدسة. هذا درس للحياة كلها. الذين يريدون حصر الأحكام الإسلامية بزوايا البيوت، و دور العبادة، و القلوب، و تفريغ ساحة المجتمع من الدين، لا يتفطنون لهذه النقاط الإسلامية. و كذا الحال بالنسبة للسعي بين الصفا و المروة الذي يجب على كافة المسلمين القيام به. السعي حركة بهمة و شدة و توجه و إرادة و وعي، و على الجميع السير سوية ذهاباً وإياباً. و كذا الحال بالنسبة للاحتشاد الهائل في عرفات و المشعر و منى. هذه الأعمال الجماعية العظيمة التي لا نظير لها في أي دين، أو منهج، و لا في أي من الأحكام الإسلامية الأخرى، تدل على عظمة هذا الواجب. أودعت هنا ذخيرة إلهية على كل من يوفق لمدّ يده نحوها أن ينتهل منها إلى أقصى الحدود.استثمروا هذه الذخيرة في أيام الحج إلى أقصى درجة ممكنة.
هذه الأوقاف و الأيام مباركة و المكان أيضاً مبارك.. من حيث الزمن تعد الأشهر الحرم في ذروة الحرمة و القداسة، و من حيث المكان أيضاً يعد ذلك المكان في أرقى درجات البركة إذ هو بيت الله و مركز التوحيد و قطب توجه أرواح المسلمين في كل يوم. على الحاج أن يمتّن علاقته بالله هنا، و يستئنس بالقرآن، و يرى التضرّع، و الذكر، و الحضور واجبه الدائم. يأسف المرء بشدة في بعض الأحيان حين يرى البعض يذهبون هناك و يبحثون عن البضائع التي يمكن أن يجدوها في كل مكان، البعض ينفقون أعمارهم، و أموالهم، و سمعتهم، و وقتهم العزيز لارتياد الأسواق المختلفة و شراء هذه البضائع.. إنها بضائع الحياة العادية و توجد في كل مكان، بينما توجد هناك بضاعة لا توجد في أي مكان آخر.. بضاعة الرضا الإلهي، و زيارة بيت الله، و زيارة القبر الطاهر للرسول.. أين يمكن أن نجد هذا؟ أين يمكن أن نجد هذا المكان و هذا الزمان في غير هذه المناسبة؟ على الجميع استثمار هذه الفرصة. أنتم مضيّفي الحجاج و خدّامهم يجب أن تذكروهم بهذه الأمور دائماً. زلال المعنوية و الهداية يجب أن ينهمر دوماً على قلوب الحجاج الظامئة من قبل هذه المنظومات المؤمنة العاشقة. الكثير من هذه الفرص المتاحة للأمة الإسلامية لو استثمرت لغدت الأمة الإسلامية ما أراده لها القرآن الكريم: » فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون «. (3) أو » و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون «. (4) أنتم الأفضل.. طبعاً ليست الأفضلية هنا بسبب العرق، و لا بسبب القرابة مع الله - ليس لأي من المخلوقات صلة خاصة بالله - لكنكم الأفضل لانتسابكم لمدرسة تستطيع إنقاذ الإنسانية في عصر حيرتها. و بوسعها منح البشر مشاعل الهداية على مرّ القرون، و إسعادهم، و إيصالهم برَّ الأمن و الأمان و التكامل.. هذه هي ميزتكم.
سائر الأديان كانت مقدمة الدخول إلى هذا الدين.. » أنتم الأعلون «.. لأنكم تتحلون بالإيمان.. يجب أن تنتفعوا من هذه الميزة. إنه الإيمان الذي بوسعه سحق قوى الشياطين و الفراعنة و تحطيمها، و قد حطمها. من كان يحسب في الأيام الأولی لظهور الإسلام أن جماعة قليلة مظلومة مستضعفة في زاوية من زوايا مكة ستستطيع ببركة هذه الآيات الإلهية صناعة أعظم حضارة في ذلك الزمان و رفع مستوى التحضر و التنمية البشرية، و إيجاد هذه المملكة الهائلة و الرقعة الواسعة، و البقاء بكل هذا العزّ و الفخر طوال الزمن؟ تصوّر البعض أن كل شيء سيضمحل بسرعة: » الظانين بالله ظن السوء «. (5) تصوروا أن الرسول لن ينجح في أية حادثة تطرأ له: » بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً «. (6) » و ظننتم ظن السوء و كنتم قوماً بوراً «. (7) نحن المسلمين يجب أن لا نصل لهذه المرحلة. بوسع القرآن أن يهدي الإنسان.. أن ينتقل بالإنسان من » لفي خسر « إلى » إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه «.(8) يسير و يصير إلى الله و يلتقيه. الحج مظهر هذا القرآن. الإيمان الخالص للمؤمنين على مرّ تاريخ الإسلام كان ثمرة هذا القرآن. ينبغي معرفة قدر هذا. هذا الكنـز و كسائر كنوزنا يتعرض للهجوم. الذين ترونهم يتحرون بث الخلافات و الفتن و نشر أفكارهم الوهمية الخرافية المتحجرة في مراسم الحج هم الأصابع التي تسحق عن علم أو عن غير علم هذا الكنـز و تقضي عليه. الذين لا يسمحون بانعكاس شوكة هذه الوحدة و عزتها و عظمتها لتراها أعين الأمة الإسلامية الكبرى هم من الذين يضيعون هذا الكنـز و يتلفونه. الذين لا يسمحون بانعكاس وحدة الأمة الإسلامية و عظمتها في سبيل الله - و ليس العظمة في سبيل التفاخر، و لا العظمة من أجل استعمار سائر الشعوب و إهانتها، و لا العظمة بدافع إشعال الحروب ضد ضعفاء العالم، بل العظمة باتجاه القيم الإلهية و في سبيل التوحيد - للعالم الإسلامي إنما يظلمون الإنسانية. العالم الإسلامي اليوم يخسر بسبب تجاهل هذا الكنـز الإلهي العظيم.
لاحظوا ما الذي يفعله المستكبرون و فراعنة العالم حالياً في منطقة الشرق الأوسط بالمسلمين و الذين يحملون معهم هذه الجوهرة الثمينة التي لا يستثمرونها بنحو صحيح للأسف! انظروا ماذا يفعلون بشعب فلسطين! لاحظوا ما الذي يخططونه للشعب العراقي! لاحظوا أية أحلام وردية تراودهم للسيطرة على الثروات المادية و المعنوية و خيرات هذه المنطقة! بمقدور الأمة الإسلامية الوقوف بوجههم و إحباط هذه الممارسات المتغطرسة شريطة أن تتوجه لحبل الله المتين و عروته الوثقى. إنه شرط صعب لكنه ممكن. جميع المطامح و المبادئ - و منها هذا المبدأ - تتحقق بالقول و السماع و الفهم و الإصرار. ذات يوم لم يكن هناك بين البلدان العربية و الشعوب المسلمة أي ذكر لعظمة الإسلام و عزته. أما اليوم فالأمر على العكس تماماً بفضل إصرار الشعب الإيراني على مبدأ الإسلام و التضحية و الجهاد. تحمل شعب إيران على كاهله عبئاً ثقيلاً لصالح الأمة الإسلامية. طبعاً النفع الأكبر سيكون من نصيب الشعب الإيراني و المجاهدين في سبيل الله، إلا أن العالم الإسلامي أيضاً ينتفع من جهادهم. نظام الجمهورية الإسلامية المقدس الذي استظل بظلال راية الإسلام الخفاقة ملتزم بكافة المعايير الإسلامية. إننا نقيس جميع القضايا العالمية بمعيار الإسلام و هو أدق معيار و أفضل ملاك للمصلحة. ينبغي عدم التصوّر: لأننا ننظر للأحداث بنظرة إسلامية فلن نستطيع تحليل الأحداث أو طرح استراتيجية صحيحة لها، على العكس، يمنحها الإسلام مشعلاً نرى بفضله الطريق أمامنا. الذين هزموا نفسياً و استسلموا إزاء عجرفة أمريكا و غطرسة الصهاينة و وحشيتهم النادرة، بل و ساعدوهم لأنهم لم يأخذوا الإسلام بنظر الاعتبار، ابتلوا بهذه البلية الكبيرة فلم يصلح أمر دنياهم، و لم يستطيعوا حفظ شرفهم و عزتهم الإنسانية، و هم مؤاخذون أمام الله تعالى. الحكومات و البلدان التي لم تبد اتسعداداً للتحدث عن مظلومية الشعب الفلسطيني و الدفاع عن هذا الشعب المظلوم بشكل جاد، و هي غير مستعدة الآن أيضاً لانتقاد أطماع و نهب أمريكا في هذه المنطقة و الوقوف بوجهها ليست حتى دنياهم دنيا صالحة عامرة. إنه لمن السذاجة التصور بأنهم يتماشون أربع خطوات مع أمريكا و يفوزون بدل ذلك بحياة هانئة.. أية حياة هانئة؟! التجارب حولنا في العالم الإسلامي مليئة بإخفاقات خدم الشيطان و معاونيه و مواكبيه. طالما كانوا مفيدين لهم و للرأسماليين و الشركات التي تدعم تلك السياسات فسوف ينتفعون منهم ثم يقذفونهم بعيداً كحجر استنجاء الشيطان على حد تعبير المولوي. هذه تجربة قائمة. الإسلام يمنح الأمة الإسلامية و الحكام المسلمين العزة و القوة و الشجاعة كي يستطيعوا المبادرة و يفهموا و يبصروا طريقهم. الحج فرصة كبيرة لتزويد الرأي العام العالمي بهذه الحقائق و حقائق أخرى من هذا القبيل - يحملها الشعب الإيراني المسلم ببركة المعرفة و الهداية الإسلامية التي يتحلى بها - و إيقاظه و توعيته. الكثير من قلوب العالم الإسلامي واعية، و يجب أن تشعر أن لأفكارها مناصروها في كل العالم الإسلامي كي تكتسب الجرأة و الشهامة و الشجاعة اللازمة. كل هذا في ظل معنوية الحج. لا تغفلوا عن معنوية الحج و الاغتراف من المفاهيم السامقة في الأدعية و الزيارات و الآيات القرآنية الكريمة. تزوّدوا من هذه الثروة العظمى ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً، و ستعودون من هذا السفر بأيدٍ ممتلئة إن شاء الله.
نسأل الله تعالى أن يوفقكم جميعاً أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء العاملون في خدمة الحجاج، و لا سيما المسؤولون المحترمون عن هذا العمل الكبير الذين يبذلون للحق و الإنصاف جهوداً جبارة و يتحملون مشكلات كبيرة و يعالجونها. كما نشكر سائر الأحبة من دار الحديث و الكلية المختصة بهذا الشأن الذين حضروا هنا. أتمنى أن تشملكم. جميعاً الرحمة و اللطف و الهداية الإلهية و أن تتمكنوا إن شاء الله من أن تتزودوا خير الزاد من الخالق المتعال في هذه الأيام المباركة و خلال هذا السفر المبارك.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة التوبة، الآية 36.
2 - سورة آل عمران، الآية 103.
3 - سورة محمد، الآية 35.
4 - سورة آل عمران، الآية 139.
5 - سورة الفتح، الآية 6.
6 - سورة الفتح، الآية 12.
7 - سورة الفتح، الآية 12.
8 - سورة الانشقاق، الآية 6.