بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً أبارك لكم أيها الحضور الأعزاء و لكل شعبنا المؤمن و للعالم الإسلامي عيد الغدير السعيد الذي يشكل جزءاً كبيراً من هوية شيعة الأئمة (عليهم السلام) و قد شعر الشيعة رجالاً و نساءً على مدى سنين و قرون طويلة بهويتهم بفضل ذكرى هذا اليوم و هذا الحدث. و أرحب بكم أيها الإخوة و الإخوات الأعزاء، لا سيما الإخوة و الأخوات الذين تفضلوا بالمجيء من طرق بعيدة و مدن مختلفة و كذلك بعوائل الشهداء الكريمة.
الغدير من القضايا التي يساعد التفكير حولها اليوم مجتمعنا الإسلامي و خصوصاً شعبنا و بلادنا يساعدهم كثيراً على أن لا يضيّعوا طريق الحركة الصحيح. أذكر نقطتين أو ثلاثاً حول قضية الغدير.
النقطة الأولى هي حادثة الغدير ذاتها. شهد العالم الإسلامي في زمن الرسول الأكرم و كان قد أتسع نسبياً، أمراً على جانب كبير جداً من الأهمية، ألا و هو إعلان خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ليس الشيعة فقط هم من رووا حادثة الغدير، فكثيراً ما روى محدثو أهل السنة و كبار أهل السنة أيضاً هذا الحدث، بيد أن فهمهم للمسألة كان مختلفاً في بعض الأحيان. لكن أساس هذه الحادثة يعدّ من المسلمات بين المسلمين. وقع هذا الحدث و هو تعيين خليفة للرسول في الأشهر الأخيرة من عمره أي قبل نحو سبعين يوماً من وفاته. و الحقيقة أن هذا الحدث يدل على أهمية قضية الحكومة و السياسة و ولاية أمر الأمة الإسلامية من وجهة نظر الإسلام. حينما يشدد إمامنا الجليل و الكثير من كبار الفقهاء قبله على قضية الوحدة بين الدين و السياسة و أهمية قضية الحكم في الدين، فلهذا جذوره في تعاليم الإسلام و من ذلك درس الغدير الكبير. هذا دليل على أهمية الموضوع. كل الذين يفهمون هذا المعنى من حادثة غدير خم - أي نحن الشيعة و حتى كثير من غير الشيعة ممن شعروا أو فهموا هذا المعنى من حادثة الغدير - عليهم التنبّه في جميع عصور التاريخ الإسلامي إلى أن مسألة الحكومة مسألة أساسية و مهمة و في المرتبة الأولى في الإسلام. لا يمكن عدم الاكتراث لقضية الحكومة و السيادة. و دور الحكومات في هداية الناس أو تضليلهم قضية تدل عليها التجربة البشرية. كل هذا التأكيد على قضية إدارة البلد الإسلامي في نظام الجمهورية الإسلامية، سواء في الدستور أو في سائر معارف الجمهورية الإسلامية، يعود إلى هذه الجذور العميقة و العريقة جداً لهذه القضية في الإسلام. هذه نقطة يجب أن لا تغيب عن البال.
النقطة الأخرى إلى جانب هذه القضية هي أن رسول الإسلام عيّن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السلام) في واقعة الغدير. فما هي الخصائص التي عرف بها عليّ في تلك الفترة من حياته و في الفترات اللاحقة؟ هذه الخصائص هي المعيار بالنسبة لنا؟ أولى خصائص الإمام أمير المؤمنين هي حبه و التزامه برضا الله و السير على الصراط المستقيم مهما كانت الصعاب و مهما تطلب ذلك من جهد و جهاد. هذه هي أبرز سمات الإمام أمير المؤمنين.
أمير المؤمنين إنسان لم يتراجع للحظة واحدة و في أية قضية حتى خطوة واحدة في سبيل الله و من أجله منذ أوان طفولته و حتى لحظة استشهاده، و لم يعتره التردد و الشك، و نذر كل كيانه في سبيل الله و قدمه إلى الميدان. بلّغ و دعا يوم كان عليه أن يبلغ و يدعو، و يوم كان عليه أن يضرب بالسيف، ضرب بالسيف بين يدي الرسول و لم يهب الموت. و صبر يوم كان عليه أن يصبر. و يوم كان عليه أن يمسك بزمام السياسة أمسك بزمام السياسة و خاض غمار الساحة السياسية. و أبدى في كل هذه العهود و الفترات كل ما تقتضيه التضحية. مثل هذا الشخص يضعه الرسول الأكرم على رأس المجتمع الإسلامي.. و كان هذا درساً.. هذا درس للأمة الإسلامية، و ليس مجرد ذاكرة تاريخية و ذكرى تعود للقرون الماضية. في هذا دلالة على أن المعايير و الملاكات لإدارة المجتمع الإسلامي و المجتمعات الإسلامية و الأمة الإسلامية هي هذه: العبودية لله، و الجهاد في سبيل رضا الله، و تقديم الروح و المال فداءً لذلك، و عدم التهرب من أية مصاعب أو مشاكل، و الإعراض عن الدنيا. هذه القمة هي أمير المؤمنين. المؤشر و المعيار هو أمير المؤمنين. هذا هو درس الغدير الكبير.
لننظر للعالم الإسلامي و الحكومات الإسلامية، و على مستوى العالم و الإدارات السياسية في العالم و نرى كم هو البون بين ما عرضه الإسلام على الإنسانية و بين ما هو قائم اليوم على أرض الواقع. الخسائر التي تتحملها الإنسانية يعود شطر كبير منها إلى هذه المسألة. يرى الإسلام أن سعادة الإنسانية تستدعي إدارة من نوع إدارة أمير المؤمنين، و أمير المؤمنين في هذا المجال تلميذ الرسول و تابعه. الإمام علي نفسه حينما جرى الحديث عن زهده قال أين زهدي من زهد الرسول!؟ الإمام أمير المؤمنين تلميذ رسول الله المميّز الكبير في الجهاد، و في الصبر، و في كل هذه الأمور. مثل هذا الشخص هو الجدير، و علينا جميعاً اعتباره نموذجاً و قدوة، لا لبلادنا و حسب، بل للعالم الإسلامي برمته.
مثل هذا الإنسان المتسامي الكبير غير الآبه للدنيا و لأموالها و بهارجها، و المستعد للتضحية في سبيل الحق و الحقيقة هو القادر على إنقاذ المجتمعات البشرية الكبرى.. شخص لا يستسلم للنـزوات النفسانية و لا تجعله المصالح الشخصية التافهة ينهزم أمام أحداث الحياة الكبرى. حين نقول مراراً إن رسالة الإسلام و رسالة الجمهورية الإسلامية للعالم رسالة جديدة فهذا هو معنى قولنا. و هذا نموذج بارز لها.
لاحظوا مستوى حياة البشرية في العالم راهناً.. رؤساء البلدان، و مدراء شؤون السياسة بين الشعوب، أيهم على استعداد لغض الطرف عن مصالحه الشخصية حين تكون هذه المصالح متاحةً لهم و بوسعهم تأمينها؟ أيهم على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيل مصلحة شعوبهم و بلدانهم؟ أيهم على استعداد لسحق الاعتبارات و الملاحظات؟ الفقر الكبير الذي تعاني منه البشرية اليوم هو في جانب منه هذا الفقر لمثل هؤلاء الرجال الذي عرض الإسلام على الإنسانية نموذجهم السامي. طبعاً من الواضح أن الوصول إلى تلك القمة ليس في مقدور أبناء البشر العاديين. ليس بوسع أحد الحياة و السلوك مثل الإمام أمير المؤمنين.. هذا طموح لا يتحقق. بيد أن القمة تكشف لنا عن الاتجاه. ينبغي السير نحو تلك القمة و التشبه بها و الاقتراب منها. هذه هي النقيصة و الثغرة الكبرى التي تعاني منها البشرية. إنها نقطة موجودة و متوفرة في حادثة الغدير. هذه أيضاً قضية ينبغي التنبه لها؛ رسالة الغدير للعالم رسالة نموذج الحكومة الإسلامية.
إنسان شديد و قاطع للغاية مع العدو و مع الحالات الانتهازية في سبيل الله، لكنه متواضع و ترابي و صبور مع المظلومين و الضعفاء إلى درجة لا يصدق معها أحد أنه أمير المؤمنين. في بداية دخول أمير المؤمنين للكوفة حيث لم يكن الناس يعرفونه، كان سلوكه، و ثيابه، و أسلوبه بحيث لا يعلم أحد حينما يمشي الإمام في الأزقة و الأسواق أن أمير المؤمنين بكل تلك العظمة هو هذا الشخص الذي يمشي بنحو جد طبيعي و عادي. متواضع صبور ترابي لهذه الدرجة مع الناس الضعفاء و العاديين، و حاسم صامد كالجبل أمام الأعداء الغادرين العتاة.. هذه قدوة.
أذكر نقطة أخرى حول الغدير. قضية الغدير بالنسبة لنا نحن الشيعة هي أساس العقيدة الشيعية. نحن نعتقد أن الإمام علي بن أبي طالب هو إمام الحق للأمة الإسلامية بعد الكيان المقدس لنبي الإسلام المكرم (صلى الله عليه و آله و سلم).. هذا هو الأساس و الرصيد الرئيسي لعقيدة الشيعة. واضح أن إخوتنا السنة لا يوافقون هذه العقيدة، و ينظرون و يفكرون بنحو آخر. إلا أن قضية الغدير هذه تعد في جانب منها سبباً لاجتماع الأمة الإسلامية، و هذا الجانب هو شخصية الإمام أمير المؤمنين. ليس ثمة اختلاف بين المسلمين حول شخصية هذا الإنسان الكبير المتسامي و عظمته. الجميع ينظرون لأمير المؤمنين بتلك المراتب السامقة السامية التي يجب النظر إليه فيها من حيث العلم، و التقوى، و الشجاعة. أي إن أمير المؤمنين هو ملتقى عقيدة جميع أبناء الأمة الإسلامية.
ما يلزم أن نتفطن له اليوم هو أن الشيعة حافظوا على هذه العقيدة طوال قرون متمادية كمحافظتهم على أرواحهم العزيزة. رغم كل العداوات التي شنت - و الجميع يعلمون تقريباً بهذه العداوات، و كم مارسوا من الظلم و الضغوط و القمع و الإرهاب - بيد أن الشيعة حافظوا هذه العقيدة و أشاعوا معارف التشيع، و فقه الشيعة، و كلام الشيعة، و فلسفة الشيعة، و علوم الشيعة، و حضارة الشيعة، و فكر الشيعة الرفيع، و عظماء الشيعة و كبراؤهم كانوا على مر التاريخ الإسلامي عناصر متألقة ساطعة. إذن، هذه عقيدة حافظ عليها الشيعة و سيحافظون. و لكن تنبهوا إلى أن هذه العقيدة يجب أن لا تكون سبب معارك و نزاعات هذا هو ما قلناه و كررناه لسنوات و نعود و نكرره. نحن نرى أية نوايا يحملها الأعداء و ما هي مقاصدهم الخبيثة من أيجاد الخلافات بين أبناء الأمة الإسلامية بعناوين مختلفة منها عناوين الشيعة و السنة. العدو هو عدو الإسلام، عدو القرآن، عدو القواسم المشتركة، عدو التوحيد، و ليس عدو جزء من الإسلام. يحاول العدو بث العداوات بين الأمة الإسلامية. يفهم كم هو مضر بالنسبة له اتحاد العالم الإسلامي. لاحظ العدو كيف استطاعت عظمة الثورة الإسلامية في إيران و ألقها حينما انتصرت، أن يستقطب القلوب في العالم الإسلامي.. القلوب التي لم تكن شيعية. الملايين من الإخوة أهل السنة في البلدان العربية، و البلدان الأفريقية، و الآسيوية انجذبوا للثورة و تضرر العدو من هذه الناحية. تضرر العدو من اتحاد القلوب و توجه أفئدة المسلمين نحو الجمهورية الإسلامية، و يريد القضاء على هذه التوجه.. كيف؟ بإيجاد العداوة بين الشيعة و السنة.
من الجوانب المهمة للسياسة الاستكبارية في منطقتنا الآن - فضلاً عن صنوف العداء الأخرى التي يبدونها - هي أن يصطحبوا معهم رؤساء بعض البلدان العربية و يضعوهم مقابل الشعب الإيراني في مختلف القضايا و الأمور.. في القضية النووية و غيرها من القضايا.. يعقدون الاجتماعات و يجلسون و يتعاملون و يتآمرون. تطالب أمريكا بعض البلدان الإسلامية و تسألهم ما السهم الذي أنتم مستعدون لتولّيه في مواجهة إيران. يسعون لإيجاد العداوة. الشيء الذي يستطيع العدو فعله في المحافل و القرارات السياسية هو دفع رؤساء الدول نحو مواجهة الجمهورية الإسلامية.. لا يستطيعون أكثر من هذا. ليس بمقدور العدو تغيير قلوب الشعوب - قلوب الشعوب في البلدان العربية و الإسلامية، قلوب الشعب الفلسطيني، و قلوب الشعب العراقي - ضد الجمهورية الإسلامية.. لا يقدرون على القلوب. أقصى ما يستطيعون فعله هو وضع الحكومات بوجه الجمهورية الإسلامية. طبعاً لكل واحدة من تلك الحكومات ملاحظاتها و اعتباراتها، و هي ليست على استعداد لتسليم نفسها بالكامل للصهاينة و الاستكبار في هذه القضية. لكنهم لا يستطيعون التأثير في قلوب الناس. ما الشيء الذي يؤثر في قلوب الناس؟ ما الشيء الذي بوسعه فصل أفئدة العالم الإسلامي عن الجمهورية الإسلامية و شعب إيران؟ هذه الخلافات و العصبيات الطائفية. هذا هو ما يمكنه الفصل بين القلوب، و هو ما ينبغي الخوف منه.. هذا ما ينبغي الخوف منه. الجميع يتحملون مسؤولية الحذر و المراقبة. أن يكتبوا الكتب في العالم الشيعي ضد الإخوة السنة، و في العالم السني ضد الإخوة الشيعة، و يوجهوا التهم و الإساءات فهذا لن يحوِّل أي شيعي إلى التسنن، و لن ينقل أي سني إلى التشيع. الذين يرغبون في أن يميل كل الناس في العالم الإسلامي لمحبة أهل البيت و ولايتهم ليعلموا أنه ليس بالإمكان استقطاب أي إنسان للتشيع و لولاية أهل البيت عبر شن المعارك و الشجارات و توجيه الإهانات و إعلان العداوات. شن الشجارات ليس له من أثر سوى البغضاء و الفصل و العداوة، و هذه البغضاء، و العداء، و الفصل هو ما تريده اليوم أمريكا و يسعى من أجله الصهاينة. تلاحظون أن تلفزيون بلد أوربي غير مسلم و عدو تاريخي و أساسي للبلدان الإسلامية يبث مناظرات بين الشيعة و السنة. يدعون شخصاً من الشيعة و شخصاً من السنة للمناظرة في هذا التلفزيون. ما هو قصدهم؟ بلد مسيحي مستعمر ذو ماضٍ أسود ما هو هدفه من تنظيم هذه المناظرات؟ هل يريد أن تنجلي الحقيقة؟ هل يريد لمستمعيه و متلقيه أن يدركوا الحق في مطاوي هذه المباحثات و المناظرات؟ أم يريد تأجيج نيران الخلافات عبر هذه الحوارات و ما يمكن أن يصدر عن بعض الأفراد خلال هذه الحوارات؟ إنه صبّ للزيت على النار. هذه أمور يجب أن توقظنا و تعيدنا إلى أنفسنا و وعينا. للشيعة منطق قوي. براهين متكلمي الشيعة و علمائهم حول قضايا التشيع براهين فولاذية متينة، بيد أن هذا لا صلة له بتوجيه الإساءات و الإهانات و بث العدوان في العالم الشيعي ضد مخالفيهم، و يحصل الشيء نفسه من الطرف المقابل و تتصاعد نيران العداء و الشجار. نحن على اطلاع، و أنا على اطلاع اليوم و كنت على اطلاع في الماضي أيضاً أن هناك أموالاً تنفق كي يكتب هؤلاء كتب سباب و شتائم و تهم ضد أولئك، و يكتب أولئك كتب سباب و شتائم و تهم ضد هؤلاء.. و هناك مركز واحد يمنح الأموال للطرفين.. أموال الكتابين و نفقات نشر الكتابين تخرج من جيب واحد. أليست هذه أموراً تدعو إلى الحذر و التيقظ؟ ينبغي التنبه لهذه الأمور.
أقول هذا اليوم ببركة ولاية أمير المؤمنين و باسم هذا الإنسان الكبير و استمداداً من روحه الكبير ليكون تأكيداً لما قاله إمامنا الجليل طوال سنين متمادية، و ما قلناه نحن: لا يظنن أحد في مكانٍ ما أنه يدافع عن التشيع و يخال أن الدفاع عن الشيعة يكمن في أن يستطيع تأجيج نيران العداء بين الشيعة و غير الشيعة. هذا ليس دفاعاً عن الشيعة و لا دفاعاً عن الولاية. إذا أردتم باطنه فهو دفاع عن أمريكا و عن الصهاينة. لا إشكال إطلاقاً في البراهين المنطقية.. ليكتبوا الكتب و يسوقوا البراهين، و قد كتب علماؤنا و لا يزالون لحد اليوم. لدينا في الفروع و في الأصول و في كثير من المسائل آراؤنا الشيعية المستقلة، ليبرهنوا عليها و يبينوها، و ليرفضوا ما سواها بالبراهين المنطقية أيضاً، لا مانع في هذا إطلاقاً. بيد أن هذا غير الإهانة و الإساءة و خلق العداوات.. يجب التنبه لهذه النقطة.
اللهم، بمحمد و آل محمد أيقظ قلوبنا، و لا تقصِّر أيدينا عن الاعتصام بأمير المؤمنين عليّ. تفضّل علينا و على الأمة الإسلامية بصبره، و جهاده، و إخلاصه. ربنا أحينا بولاية أمير المؤمنين و أمتنا على ولاية أمير المؤمنين.. أرضِ عنا القلب المقدس لإمامنا صاحب العصر و الزمان.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.