بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين سيما بقية الله في العالمين.
أشكر الله تعالى من أعماق قلبي لأن وفقني و أمهلني لأنال مرة أخرى سعادة و شرف الحضور في هذه العتبة المقدسة و التقي أهالي مشهد الأعزاء و زوار هذا المرقد الرفيع. أرجو من الله تعالى أن يبارك هذا العيد السعيد و هذا العام الجديد على كافة الشعب الإيراني العزيز.
عامنا هذا هو العام الأول من العقد الرابع للثورة الذي سمّي باسم »عقد التقدم و العدالة«. و أذكر بعض النقاط بهذه المناسبة تتعلق ببعض أهم قضايا بلادنا، و أشير كذلك إلى بعض القضايا الدولية و الخارجية المهمة. سمينا هذا العقد عقد التقدم و العدالة في البلاد و نظام الجمهورية الإسلامية، و الحال أن الشعب الإيراني و منذ مطلع الثورة سار بحركته العظيمة و بتأسيسه و تكريسه لنظام الجمهورية الإسلامية نحو التقدم و العدالة. فما هي خصوصية الأعوام العشرة القادمة حتى أطلقنا عليها عنوان عقد التقدم و العدالة؟ من وجهة نظرنا فإن الفرق بين السنوات العشر القادمة و العقود الثلاثة الماضية يكمن في الاستعدادات الواسعة و الهائلة جداً للتقدم و العدالة التي ظهرت في بلادنا العزيزة ، و هي استعدادات تسمح لشعبنا الكبير ذي العزيمة العالية بأن يقطع خطوة و قفزة واسعة في هذا المجال. الشعب مستعد لتحرك سريع و كبير صوب التقدم و العدالة، و هذا ما لم يكن متوفراً لشعبنا بهذا الحجم في العقود المنصرمة.
لو أردنا تحديد العوامل و العناصر الرئيسية لهذا الاستعداد، فيجب عليَّ القول إن هناك عدة عناصر كان لها تأثير كبير في هذا الجانب: أحد هذه العوامل هو تواجد جيلنا الشاب من الخريجين. ثمة اليوم في ساحة العلم و البحث العلمي و النشاطات الاجتماعية و السياسية الملايين من الشباب المتوثبين الدارسين. وجود هذا العدد من الشباب العلماء و الخريجين و الموهوبين في بلادنا ظاهرة جد لافتة و مهمة و كبيرة.
العامل الثاني هو عامل التجربة. لقد أحرز نخب بلادنا و مسؤولوها طوال الأعوام الماضية تجارب جد قيمة في مواجهتهم للمشكلات المختلفة. هذه التجارب موجودة اليوم لدى الشعب.
و لو أردنا ضرب مثل حول هذه التجارب لقلنا إن من آثارها تنفيذ سياسات المادة 44 من الدستور. الاهتمام بهذه السياسات ناجم عن تجربة طويلة استمرت طوال العقود الماضية و أوصلت نخبة بلادنا إلى هذه المحطة.
و النموذج الآخر هو »توجيه الدعم« و الناتج أيضاً عن تجارب طويلة تراكمت لدى نخبة البلاد و أوصلتهم طوال هذه الأعوام إلى أن الدعم الذي يخرج من بيت المال - أي من جيوب عموم الشعب - و يُخصَّص لعموم الشعب، يجب أن يوجَّه للشرائح التي تعاني احتياجاً أكثر؛ أي يجب أن تنال الشرائح الفقيرة و الطبقات المتوسطة فما دون في المجتمع نصيباً أوفر من بيت المال و من كيس الشعب العام قياساً إلى الطبقات المتمتعة بدرجة عالية من الرفاه و من هم لا يحتاجون في الحقيقة لهذا الدعم. بلوغ هذه الحقيقة و العزيمة الراسخة لتنفيذها منبعثة من تجارب طويلة الأمد تراكمت على مدى هذه الأعوام و بلغت أخيراً طور التنفيذ.
العامل الآخر هو البنى التحتية للبلاد. ليست بلادنا اليوم كما كانت في العقد الأول أو العقد الثاني للثورة حينما كانت تفتقر للبنى التحتية العلمية التي تحتاجها. شبابنا و متخصصونا و علماؤنا اليوم بوسعهم القيام بأعمال كبيرة في أي فرع يخوضون فيه. لذا فإن الأشياء اللازمة للتقدم الواسع في مضمار الاتصالات و المواصلات و البحث العلمي و البناء متوفرة في بلادنا و الحمد لله. إننا من حيث وجود الطرق المهمة و الدولية، و وجود المطارات، و الاتصالات السلكية و اللاسلكية، و شبكات الاتصال، و بناء السدود، لا نحتاج للآخرين. ذات يوم لم يكن يخطر ببال أحد أن يستطيع خبراؤنا الداخليون بناء سد، أو مخزن غلال، أو طريق سريع، أو مطار، أو معمل فولاذ. كانت عيون شعبنا في كل هذه الأمور على الأجانب. و بعد ذلك حينما قصرت أيدي الأجانب كنا نعاني عوزاً و فقراً في هذه المجالات. لكننا نتمتع اليوم بقدرات كبيرة في هذه الميادين. شبابنا يصنعون المعامل المعقدة، و يقومون بأعمال علمية و تقنية معقدة، و يسدّون احتياجات البلاد، و يساعدون البلدان الأخرى كمستشارين و كجهات تزاول تجارة العلم و التقنية. اكتسبت البلاد واقعاً مميزاً من هذه الناحية. و هذا ليس بالتقدم القليل. ذات يوم لم يكن بوسع شبابنا حتى أن يرموا قذائف الـ (آر. بي. جي) و لم يكونوا يعرفوا ما هي. و اليوم يطلق نفس هؤلاء الشباب صاروخاً حاملاً للأقمار الصناعية يلفت إليه أنظار العلماء و الكل في العالم. ذات يوم كنا بحاجة للمتخصصين من أجل استخدام محطات الطاقة التي كانت لنا في البلاد، و اليوم تطور شباب بلادنا في الصناعة إلى حد أنهم يصنعون و ينتجون المصافي و محطات الطاقة و غير ذلك بأنفسهم. في يوم من الأيام كان البلد يعاني الفقر المطلق على صعيد علم الأحياء، و اليوم يحقق تطوراً في علوم الأحياء بما في ذلك مجال الخلايا الأساسية التي تعد مجالاً على درجة عالية من الأهمية في العالم. هذه إمكانيات متوفرة في البلاد اليوم. هذه كلها بنى تحتية يتيسّر على أساسها التقدم المستقبلي. أضف إلى ذلك - و كما ذكرنا - أن تجربة المدراء باتت اليوم تجربة جد عميقة و واسعة. البلاد اليوم أمام أنظار المدراء و النخبة أشبه بمشهد يمكنهم البرمجة لتقدمه إلى الأمام. زيارات المسؤولين لأنحاء البلاد المختلفة، و المناطق المحرومة، و المحافظات البعيدة، و زيارة المدن المختلفة في المحافظات، و الاتصال بالجماهير، و مشاهدة الأوضاع عن كثب، و الاطلاع على المشكلات برأي العين، اكسبت مسؤولي البلاد تجربة قيمة و عظيمة. هذه أرضية قفزةٍ تؤهل البلاد لأن تستطيع إن شاء الله السير في طريق التقدم و العدالة. و هذا ما يستدعي أن يكون العقد المقبل - أي العقد الذي يبتدئ من هذه السنة - عقد التقدم و العدالة لبلادنا و لنظام الجمهورية الإسلامية، و على الجميع العمل و الجد من أجل ذلك.
أذكر نقطة مقتضبة عن مفهوم التقدم و نقطة مقتضبة أخرى عن مفهوم العدالة. و تفصيل هذا المجمل مما يجب أن يعرضه المسؤولون و المتحدثون و من هم على اتصال بالجماهير و الرأي العام. عليهم البحث في هذا المجال و إطلاع الشعب على ما يبلغونه من نتائج.
ما هو مرادنا من التقدم؟ ليس القصد التقدم في اتجاه معين بحد ذاته، بل نروم التقدم في جميع الجوانب. شعبنا جدير بالتقدم على كافة الأصعدة.. التقدم في إنتاج الثروة الوطنية، و التقدم في العلم و التقنية، و التقدم في الاقتدار الوطني و العزة الدولية، و التقدم في الأخلاق و المعنوية، و التقدم في أمن البلاد - سواء الأمن الاجتماعي، أو الأمن الأخلاقي للشعب - و التقدم في رفع مستوى الفائدة. رفع مستوى الفائدة معناه أن نستطيع أستخدام ما عندنا على أحسن وجه. استخدام النفط، و الغاز، و المعامل، و الطرق، و كل ما يوجد لدينا على أحسن وجه و بأكبر قدر. و كذلك التقدم في الالتزام بالقانون و الانضباط الاجتماعي، فلو ابتلي شعب بانعدام القانون، و سادت حالة خرق القانون على ذهنية الشعب و ممارساته، فلن يكتب له أي تقدم معقول و صحيح. و التقدم على صعيد الوحدة و الانسجام الوطني، الشيء الذي حاول الأعداء إفساده منذ بداية الثورة، لكن شعبنا حافظ و لحسن الحظ على اتحاده و انسجامه رغم كل الأرضيات التي كان يمكن انتهازها لبث الفرقة. علينا التقدم إلى الأمام و رفع مستوانا في كل هذه المجالات. و هناك التقدم في مجال الرفاه العام حيث تستطيع كافة الطبقات التمتع بالرفاه. و التقدم في التنمية و النضج السياسي، إذ أن الوعي السياسي و الرشد السياسي و القدرة على التحليل السياسي بالنسبة لمنظومة عملاقة مثل شعبنا أشبه بسور فولاذي يصد نوايا الأعداء الشريرة. لذلك علينا رفع مستوى نضجنا السياسي. حتى من حيث الرشد السياسي يتقدم شعبنا اليوم علی كثير من الشعوب، لكننا يجب أن نتقدم أكثر من هذا. تحمل المسؤولية و العزيمة و الإرادة الوطنية، ينبغي تحقيق التقدم في كل هذه المجالات. طبعاً هذا الشيء غير متاح بالكلام و الألفاظ و الكتابة على الورق. لا بد من الحركة و البرمجة و سأشير إلى هذا الجانب فيما بعد.
أما بخصوص العدالة فيجب القول إن التقدم إذا لم يكن مصحوباً بالعدالة فهو ليس التقدم الذي يبتغيه الإسلام. أن نرفع الناتج الإجمالي الوطني و الدخل العام للبلاد إلى رقم عالٍ مع وجود تمييز و عدم مساواة في الداخل، و يكون للبعض آلاف الألوف بينما يعيش البعض الآخر الفقر و الحرمان، فهذا ليس ما يريده الإسلام.. ليس هذا هو التقدم الذي يتغيّاه الإسلام. ينبغي تأمين العدالة. و العدالة مفردة جد عميقة و واسعة يجب البحث عن خطوطها الرئيسية و العثور عليها. نعتقد أن العدالة هي خفض الفواصل الطبقية و الجغرافية. فإذا كانت المحافظة أو المدينة أو القرية بعيدة عن العاصمة و تقع في منطقة نائية جغرافياً يجب أن لا تعاني الحرمان بسبب بعدها هذا، بينما تتمتع المناطق القريبة بالخيرات.. هذه ليست عدالة. ينبغي رفع الفواصل الطبقية، و يجب أيضاً رفع الفواصل الجغرافية، و توفير المساواة في الاستفادة من الإمكانيات و الفرص. يجب أن يستطيع جميع أبناء البلاد - ممن لهم القابلية و القدرة - الانتفاع من الإمكانيات العامة للبلاد. يجب أن لا يجري تقديم المحظيين و المخادعين و الغشاشين. لنعمل ما من شأنه أن يستطيع مختلف أبناء البلد التمتع بفرص متساوية أمام إمكانيات البلاد و خيراتها. هذه طبعاً طموحات كبيرة لكنها ممكنة و ليست مستحيلة. و بوسعنا الوصول إليها إذا سعينا و عملنا. العملية هنا صعبة لكنها ممكنة.
من مصاديق العدالة مكافحة الفساد المالي و الاقتصادي التي يجب أخذها مأخذ الجد. لقد ذكرت هذه النقطة قبل سنوات و أكدت عليها عدة مرات، و بذلت من أجلها مساعٍ جيدة و لا تزال. بيد أن مكافحة الفساد عملية صعبة تخلق للإنسان معارضين يبثون الإشاعات و يكذبون، و يتعرض الشخص الذي يتقدم الآخرين في هذا الميدان لهجمات أعنف و أشد. و هذا الكفاح بدوره ضروري و لا بد أن يتم. الذين يريدون النهوض بهذه المشاريع الكبرى إن على صعيد التقدم و إن على مستوى العدالة، يجب أن يكونوا مدراء مؤمنين بهذه الأمور. يجب أن يعتقدوا حقاً بتكريس العدالة و مكافحة الفساد. المدراء المؤمنون بهذه الركائز و المتمتعون بالشجاعة و الإخلاص و التدبير و العزم الراسخ بمقدورهم يقيناً تحقيق هذه المقاصد و هذه الأهداف الإلهية العالمية. هذه هي النقطة الأولى التي كان يجب عليَّ ذكرها.
من الخطوات الأساسية على درب التقدم و العدالة ما ذكرته في نداء النوروز و خاطبت به الشعب الإيراني العزيز، ألا و هو قضية مكافحة الإسراف و السير نحو إصلاح نموذج الاستهلاك، و الحؤول دون البذخ و تضييع أموال المجتمع. هذه قضية على جانب كبير من الأهمية. طبعاً هذه ليست المرة الأولى التي نطرح فيها هذه الفكرة. إنني في لقائي بالجماهير بداية السنة و في مرات عدة خاطبت شعبنا العزيز و ذكرت بعض النقاط حول الإسراف و التبذير و إتلاف الأموال و ضرورة الاقتصاد، بيد أن هذه المسألة لم تنته، و لم يتحقق هذا الهدف كما يجب. يجب أخذ الاقتصاد بنظر الاعتبار كسياسة في الخطوط العريضة لبرمجتنا على شتى المستويات. ليتنبه شعبنا العزيز إلى أن الاقتصاد لا يعني عدم الاستهلاك، بل يعني الاستهلاك بنحو صحيح و مناسب و عدم تبذير الأموال و جعل الاستهلاك مثمراً و مفيداً. الإسراف في الأموال و في الاقتصاد هو أن يستهلك الإنسان المال من دون أن يكون لهذا الاستهلاك تأثير و فاعلية. الاستهلاك العبثي و التبذير هو في الحقيقة إهدار للمال. على مجتمعنا أن يجعل هذا الأمر شعاراً دائمياً نصب عينيه، ذلك أن واقع مجتمعنا من حيث الاستهلاك ليس واقعاً جيداً. هذا ما أقوله و يجب أن نعترف به. عاداتنا و تقاليدنا و أساليبنا الخاطئة التي تعلمناها من ذا و ذاك تقودنا إلى التمادي في الاستهلاك إلى درجة الإسراف. لا بد أن يكون هناك في المجتمع تلائم بين الإنتاج و الاستهلاك. لا بد أن تكون العلاقة لصالح الإنتاج، بمعنى أن يكون إنتاج المجتمع أكثر دائماً من استهلاكه. ينبغي أن يستهلك المجتمع من الإنتاج الحاصل في البلاد و يُخصص الفائض لرقي البلاد. ليس الوضع بهذا الشكل في بلادنا راهناً. استهلاكنا أكثر من إنتاجنا نسبياً و هذا ما يتسبب في تأخر البلاد و يكبدنا خسائر اقتصادية هامة، و يخلق للمجتمع مشكلات اقتصادية. أكدت الآيات القرآنية مراراً على اجتناب الإسراف في الشؤون الاقتصادية، و السبب هو أن الإسراف يوجّه ضربة اقتصادية و ضربة ثقافية أيضاً. حينما يصاب مجتمعٌ بداء الإسراف فسيترك هذا تأثيراته السلبية عليه من الناحية الثقافية أيضاً. إذن، قضية الاقتصاد و اجتناب الإسراف ليست قضية اقتصادية صرفة. بل هي اقتصادية، و اجتماعية، و ثقافية في نفس الوقت، و الإسراف يهدد مستقبل البلاد.
أذكر هاهنا بعض الإحصاءات المهولة المتعلقة بالإسراف في المواد الاستهلاكية المهمة في البلاد و من ذلك الإسراف في الخبز. بحسب دراسات ميدانية أجريت في طهران و بعض مراكز المحافظات يقال إن 33 بالمائة من الخبز يذهب هدراً. ثلث كل الخبز الذي يتم إنتاجه في هذه المدن يرمى بعيداً و لا يؤكل. تصوروا الأمر: ثلث الخبز! و فلاحنا ينتج القمح بكل مشقّة، و إذا كانت الأمطار شحيحة في عام من الأعوام - كالعام الماضي حيث انخفض إنتاج القمح في البلاد - تنفق الحكومة المال العام و من ميزانية الشعب لتستورد القمح من الخارج و تحوله إلى دقيق ثم عجين ثم يكون خبزاً ثم تُرمى ثلث هذه الثروة بعيداً. كم هو مؤسف هذا الوضع! هذا للأسف واقع موجود.
و حول الماء تقول الدراسات التي أجريت إن إهدار الماء في الاستهلاك المنـزلي يصل إلى نحو 22 بالمائة. بلدنا ليس بلداً غنياً بالمياه، و على شعبنا الاقتصاد في استهلاك المياه إلى أقصى درجة. ثم إن هذا الماء الذي يتم إنتاجه بكل هذه الجهود و المشاق يجلب عبر طرق بعيدة، و تبنى السدود بتكاليف عالية، و تستخدم كل هذه العلوم و التجارب و الجهود لكي يصل الماء إلى بيوتنا، و إذا بـ 22 بالمائة من هذا الماء يُهدر! هذا بالنسبة للاستهلاك المنـزلي فقط، و الاستهلاك الخاص بالزراعة و الصناعة أيضاً يشهد تبذيراً من نوع آخر. الإحصاءات المتوفرة لدينا بفضل الدراسات تقول إننا نستهلك من الطاقة أكثر من ضعفيْ متوسط استهلاك الطاقة في العالم، سواء بالنسبة للكهرباء أو حوامل الطاقة أي النفط، و الغاز، و الغازوئيل، و البنـزين. استهلاك هذه المواد في بلادنا أكثر من ضعفي متوسط الاستهلاك في باقي دول العالم. هذا إسراف.. أليس إسرافاً؟
ثمة مؤشر يسمى مؤشر شدة الطاقة، أي النسبة بين ما يستهلك من الطاقة و بين ما يتم إنتاجه من البضائع. و كلما كانت الطاقة التي تستهلك أقل كان ذلك أنفع للبلد. في هذا المجال تصل شدة الطاقة لدينا أحياناً إلی أكثر من ثمانية أضعاف شدة الطاقة لدى بعض البلدان المتقدمة! هذه نماذج للإسراف الموجود في المجتمع.
و يحصل الإسراف الفردي في الاستهلاك الشخصي و العائلي. نزعة البذخ و التنافس مع الآخرين و أهواء أفراد العائلة، ربّ العائلة، أو ربة العائلة، و شباب العائلة، و شراؤهم أشياء غير ضرورية.. هذه كلها من نماذج الإسراف. أدوات الترف، و أدوات التجميل، و أثاث المنـزل، و الزينة و الزخارف داخل البيت.. هذه أشياء ننفق الأموال لأجلها.. الأموال التي يمكن إنفاقها على الإنتاج و الاستثمار فتساعد على تطوير البلاد، و مساعدة الفقراء، و زيادة الثروة العامة للوطن نستهلكها على هذه الأمور المنبعثة عن الأهواء، و التنافس، و الحفاظ الوهمي على السمعة. يسافرون و يرجعون فيقيمون الضيافات، و أحياناً تكون تكاليف تلك الضيافة أضخم من تكاليف السفر إلى مكة! يقيمون عرساً أو عزاءً فينفقون له أموالاً طائلة و يقدمون شتى صنوف الطعام! لماذا؟ ما الداعي لذلك؟ لا يزال في بلادنا من هم محرومون من أوليات الحياة. يجب أن نساعد على تقدم البلاد. لا نقول انفقوا الأموال بالضرورة على الفقراء - و طبعاً أفضل الأعمال أن ينفق الإنسان في سبيل الله - و لكن حتى لو لم ينفقوا، فليستثمروا هذه الأموال التي يبذلونها على الترف في الإنتاج من أجل أنفسهم، و ليساهموا في المعامل و الإنتاج و سيكون ذلك نافعاً للبلاد. لكننا بدل هذه الأعمال نقيم الضيافات و المآتم و المراسم المفتعلة، لماذا؟ ما الضرورة لذلك؟ عقلاء العالم لا يفعلون هذا. هذا ليس رأي الدين فقط. يقول القرآن الكريم: »و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين«، »كلوا و اشربوا و لا تسرفوا«. و يقول في آية شريفة أخرى: »كلوا من ثمره إذا أثمر و آتوا حقه يوم حصاده، و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين«. نحن عباد الله، و هذا كلام الدين و ثمة الكثير من الأحاديث في هذا المضمار. ثمة في إحدى الروايات أن شخصاً أكل فاكهة و بقي نصفها فرماه، فنهره الإمام (عليه السلام) و قال له: لقد أسرفت! لِمَ رميته؟ و لدينا في الروايات أوامر بالاستفادة حتى من نواة التمر.. القضية جادة إلى هذا الحد! استهلكوا كِسَر الخبز المتفرقة. يقيمون الضيافات في الفنادق لعدد من الناس ثم يرمون كل ما يتبقى من الطعام في عبوات الأزبال بحجة أنه غير صحي! هل هذا مما يناسب مجتمعاً إسلامياً؟ هل يمكن بلوغ العدالة بهذه الطريقة؟
علينا إصلاح أنفسنا. يجب إصلاح نموذج الاستهلاك في المجتمع و البلاد. نموذجنا للاستهلاك خاطئ. كيف نأكل؟ و ماذا نأكل؟ و ماذا نلبس؟ نضع في جيوبنا هاتفاً جوالاً، و بمجرد أن ينـزل للأسواق موديل أحدث نرمي جهازنا جانباً و نشتري الموديل الأحدث، لماذا؟! أية نزوة هذه التي أصبنا بها؟!
و على المسؤولين واجباتهم. ليس الإسراف في المجالات الفردية فقط، فهناك إسراف على المستوى الوطني. فيما يخص الكهرباء و الطاقة التي قلنا إنهما يُبذّران هناك شطر كبير من هذا التبذير لا يتعلق بالناس و إنما بمسؤولي البلاد. شبكات الاتصالات، و شبكات نقل الكهرباء، و أسلاك الكهرباء حينما تتهرأ فسوف يُهدر الكهرباء. ننتج الكهرباء ثم نهدر قسماً كبيراً منه في هذه الشبكة القديمة التالفة. و شبكات نقل المياه إذا تهرأت فسوف تهدر المياه. هذه نماذج للإسراف الوطني و على المستوى الوطني و المسؤولون عنه هم مدراء البلاد. و قد يحصل الإسراف على مستوى المؤسسات. مدراء المؤسسات المختلفة لا يستهلكون استهلاكاً شخصياً، و لكن يحصل استهلاك منفلت في مؤسساتهم؛ ترف الإدارة، و غرف العمل، و الزينة، و الأسفار و الزيارات غير الضرورية، و أنواع الأثاث.. ينبغي الحيلولة دون هذه الظواهر عبر المراقبة و الإشراف. ينبغي النظر للإسراف بنحو سلبي على مستوى الدولة و على مستوى أبناء الشعب، و على مستوى المؤسسات. و كما ذكرنا فإن هذه الأمور لا تتحقق بمجرد الكلام، بل ينبغي البرمجة لها. و السلطتان التشريعية و التنفيذية مكلفتان بمتابعة الأمر. يجب عليهما البرمجة و التقنين لذلك و تنفيذ القانون بكل حسم. التقدم الذي سنحرز خلال الأعوام العشرة القادمة يرتبط جزء كبير منه بهذه القضية.
هذا هو الاقتصاد اللازم ابتداء من الإنتاج و إلى الاستهلاك و إلى إعادة الاستهلاك. لنقتصد في الماء، أي نصون سدودنا، و نصلح شبكات نقل المياه، و نؤهِّل الفلاحين لإتقان الأساليب الاقتصادية في الري و كيف يسقون الأراضي. طبعاً تم إنجاز هذه الأعمال بنسبة كبيرة خلال الأعوام الماضية لحسن الحظ، لكن هذا لا يكفي و يجب تنميته. لنمهّد الأرضية لخفض معدلات استهلاك المياه في المنازل. أن يقال : يجب استيفاء ضرائب أكبر و تقديم دعم أقل لأصحاب الاستهلاك العالي فهذا كلام جد معقول و جيد. أصحاب الاستهلاك القليل يتمتعون بمساعدات الحكومة و المساعدات العامة. البعض يستهلكون الماء بنسبة قليلة جداً جداً بحيث لو لم تقبض الحكومة منهم أموال الماء لما كان في ذلك أي ضير. و البعض يستهلكون عشرة أضعافهم أو عشرين ضعفاً، و لا بد أن يسدد هؤلاء فواتير أكبر.
أما بخصوص الخبز فمن الضروري إنتاج القمح الجيد، و الدقيق الجيد، و حفظه بطريقة جيدة، و طحنه بطريقة جيدة، و من ثم استهلاكه بطريقة صحيحة.
كان هذا ما يتعلق بقضية الإسراف و الاقتصاد اللازم عليَّ ذكره.
الموضوع الآخر من مواضيع البلاد الداخلية هو الانتخابات التي ستقام في بلادنا بعد فترة، و أود هنا الإشارة إليها. طبعاً ثمة وقت إلى حين موعد الانتخابات. و إذا امتد بنا العمر فسأطرح على شعبنا العزيز الأمور التي أرى من الضروري طرحها - لم يفت الأوان - لكنني سأشير هنا إلى بعض النقاط:
أولاً : ليست الانتخابات في بلادنا حركة استعراضية فهي أساس نظامنا. الانتخابات إحدى أسس النظام، لا يمكن تحقيق الديمقراطية بالكلام. الديمقراطية الدينية ممكنة الحصول بمشاركة الجماهير، و تواجدهم، و إرادتهم، و ارتباطهم الفكري و العقلاني و العاطفي بتطورات البلاد. و هذا غير متاح إلا عن طريق انتخابات صحيحة عامة و مشاركة شعبية واسعة فيها. هذه الديمقراطية سبب صمود الشعب الإيراني. حينما استطعتم طوال هذه الثلاثين عاماً أن لا تفزعوا من صراخ القوى العظمى، و حينما لم تستطع القوى العظمى توجيه ضربة قاصمة لكم ما عدا صراخهم، و حين يبدي شباب البلاد هذه الشجاعة و الإخلاص في خوض شتى السوح و الميادين، فهذا كله ناجم عن الديمقراطية الدينية و يجب معرفة قدره بحق. الانتخابات هي الرصيد و الاستثمار الكبير للشعب الإيراني. أشبه برصيد كبير هائل تضعونه في البنك فيعمل به البنك و تنتفعون أنتم من أرباحه. الانتخابات أشبه بهذا الشيء. الشعب الإيراني يقوم باستثمار كبير جداً و إيداع هائل للغاية و ينتفع من فوائده. أصوات كل واحد منكم أيها الجماهير سهم من هذا الاستثمار و الإيداع. كل صوت تضعونه في صناديق الاقتراع يشبه جزءاً من المال الذي توفرونه للإيداع و الاستثمار. حتى الصوت الواحد له أهميته. كلما كانت الانتخابات أعظم و أنشط كلما برزت عظمة الشعب الإيراني في أعين معارضيه و أعدائه أكثر، و سيُولون بذلك حُرمةً أكبر لشعب إيران. و أصدقاؤكم في العالم سوف يفرحون بدورهم. عظمة الشعب الإيراني تعبّر عنها مشاركة الشعب في الانتخابات. المسألة الأولى التي أحاول دائماً تركيز جهدي عليها في الانتخابات هي التأكيد علی أهمية مشاركة الجماهير. مشاركتهم تصديق و تأييد و تعزيز لنظام الجمهورية الإسلامية. ليست المسألة مجرد مسألة سياسية و فردية و أخلاقية محضة، بل هي مسألة شاملة متعددة الأبعاد. الانتخابات متصلة بمصير الشعب، و خصوصاً انتخابات رئاسة الجمهورية التي تمثل إناطة السلطة التنفيذية في البلاد بشخص و مجموعة تدير البلاد لعدة سنوات. الانتخابات مهمة إلى هذا الحد.
و أقول كلمة للمرشحين المحترمين الذين أعلنوا عن ترشيحهم أو الذين سيعلنون ذلك في المستقبل. ليعلم الذين يرشحون أنفسهم للانتخابات أن الانتخابات وسيلة لرفع قدرات البلاد و تكريس سمعة الشعب و ليست مجرد وسيلة لتولي السلطة. إذا كانت هذه الانتخابات لأجل اقتدار الشعب الإيراني فعلى المرشحين الاهتمام بها و مراعاة ذلك في إعلامهم و تصريحاتهم و نشاطهم. لا يتصرف المرشحون أثناء نشاطهم الانتخابي أو يصرحون بطريقة تُطمِع العدو. ليجعلوا التنافس منصفاً، و ليجعلوا الكلام و التصريحات منصفة، و لا ينحرفوا عن جادة الإنصاف. من الطبيعي أن يكون لكل مرشح كلامه و أن يرفض كلام الطرف المقابل. لا إشكال في نفس هذا الرفض و النقد شريطة أن لا يعتوره عدم الإنصاف أو كتمان الحقيقة. الساحة مفتوحة للجميع فليأتوا و يعرضوا أنفسهم على الشعب في ساحة الانتخابات، و الخيار للشعب الذي سيتصرف إن شاء الله كيفما يدرك و يشخّص و يساعده على ذلك وعيه.
الانتخابات سليمة و نزيهة بفضل الله و حوله و قوته. أرى أن البعض بدأوا من الآن يشككون في الانتخابات التي ستقام بعد شهرين أو ثلاثة. أي منطق هذا؟ و أي تفكير هذا؟ و أي إنصاف هذا؟ أقيمت كل هذه الانتخابات طوال الأعوام الثلاثين الماضية - حوالي ثلاثين انتخابات - و تعهّد المسؤولون آنذاك و في كل دورة رسمياً بضمان نزاهة الانتخابات و كانت الانتخابات نزيهة، فلماذا يشككون اعتباطاً و يضعضعون إرادة الجماهير و يبثون فيهم الشكوك؟ طبعاً لن تتزلزل أذهان شعبنا العزيز بهذا الكلام.
و أنا أؤكد على مسؤولي الانتخابات و أوصيهم أن يقيموا الانتخابات بشكل حماسي ملحمي، و بحيث تتوفر الحرية لكل المرشحين و يستطيع الشعب أيضاً التصويت بحرية، و تقام الانتخابات و ستقام إن شاء الله بنحو نزيه و بأمانة تامة.
و أقول لكم أيضاً أيها الأعزاء و لكل شعبنا العزيز فيما يتعلق بالانتخابات إنه كانت و ستكون هناك دوماً تخمينات و إشاعات حول موقف القيادة من الانتخابات. إنني أمتلك صوتاً واحداً سأضعه في صندوق الاقتراع. و سأمنح رأيي لشخص واحد و لن أقول لأي شخص أنتخب هذا و لا تنتخب ذاك. إنه اختيار و تشخيص الناس أنفسهم. إنني أدعم الحكومة أحياناً و أدافع عنها فيحاول البعض اختلاق معنى غير صحيح لهذه الممارسة. كلا، إنني أدافع عن الحكومات دوماً، و لكن إذا تعرضت حكومة لهجمات أكثر و شعرت أنها تتعرض لهجمات غير منصفة فسأدافع أكثر. إنني أتحيّز للإنصاف و أقول يجب أن نكون منصفين و ننظر إلى الأعمال، و لا صلة لهذا بالانتخابات، إنما هي قضية الإنصاف و عدم الإنصاف. دعم و حماية خدمة البلاد واجب أتحمله على عاتقي و يتحمله الجميع أيضاً. هذا لا علاقة له بالإعلان عن موقف انتخابي. إنني أرحب بكل نشاط إيجابي، و بكل خطوة جيدة، و بكل تقدم إلى الأمام، و بكل خدمة تقدم للجماهير، و بكل تعاطف مع المحرومين، و بكل مواجهة للظلم و الاستكبار، و أقدم الشكر و الثناء للشخص الذي يفعل ذلك، أياً كانت الحكومة، و أياً كان الشخص. هذا هو واجبي.
و حول قضايا بلادنا الدولية أشير إلى نقطة واحدة فقط هي قضيتنا نحن مع أمريكا. و قد كانت هذه القضية من الاختبارات المهمة التي واجهت الثورة منذ يومها الأول. منذ اليوم الأول لانتصار الثورة كان الشعب الإيراني أمام اختبار كبير في مواجهته و نمط تعامله مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. و قد استمر هذا الاختبار الكبير و المهم على امتداد هذه الأعوام الثلاثين. و قد واجهت الحكومة الأمريكية هذه الثورة بوجه مكفهر عبوس و لهجة معارضة منذ البداية. و طبعاً كان معهم الحق طبقاً لحساباتهم الخاصة. كانت إيران قبل الثورة في قبضة أمريكا، و مصادرها الحيوية كانت تحت تصرّف أمريكا، و مراكز اتخاذ القرار السياسي أيضاً كانت في يد أمريكا، و العزل و النصب في المواقع الحساسة بيد أمريكا. كانت إيران مرتعاً ترتع فيه أمريكا و العسكريون الأمريكان و سواهم. و خرج كل هذا من أيديهم. كان بوسعهم أن لا يبدو معارضتهم بهذا الشكل العدائي، إلا أن الحكومة الأمريكية - سواء رؤساؤهم الجمهوريون أو الديمقراطيون - أساءوا معاملة نظام الجمهورية الإسلامية منذ مطلع الثورة. و هذا ليس بالشيء الخافي على أحد. أول ما قام به الأمريكيون هو تحريض معارضي الجمهورية الإسلامية هنا و هناك و مساعدة حركات التجزئة و الإرهاب في الداخل. شرعوا بهذه الممارسات منذ البداية. أية منطقة من مناطق البلاد التي توفرت فيها الأرضية لحركات التجزئة و الانفصال شاهدنا الأصابع الأمريكية فيها؛ شاهدنا أموالهم أحياناً، بل و شاهدنا حتى العناصر الأمريكية في بعض الأحيان. لقد كلّف هذا شعبنا خسائر كبيرة. و للأسف فإن هذا السياق لا يزال مستمراً إلى الآن. الأشرار الذين ينشطون في المناطق الحدودية بين إيران و باكستان، لدينا بعض اتصالاتهم و هم مرتبطون بالعناصر الأمريكية، و يتحدثون معهم عبر اللاسلكيات و يتلقّون الأوامر. أشرار أرهابيون قتلة مرتبطون بضابط أمريكي في بلد جار! هذا الواقع مستمر إلى الآن للأسف. هذه كانت نقطة انطلاق عملهم. ثم كان الاستيلاء على أموال و ممتلكات و بضائع إيران و تجميدها. أعطى النظام السابق أموالاً طائلة للأمريكيين لشراء طائرات و مروحيات و أسلحة منهم. و قد تم إنتاج بعض هذه المعدات هناك، لكنهم لم يسلّموها حينما قامت الثورة، و لم يعيدوا تلك الأموال التي كانت مليارات الدولارات، و الأغرب أنهم احتفظوا بتلك المعدات في مخازن و قرروا لأنفسهم أجوراً على هذا التخزين و ظهروا بمظهر الدائن و اقتطعوا أجور تخزين لأنفسهم من حساب معاهدة الجزائر! يغتصبون ممتلكات شعب و يحتجزونها عندهم ثم يتقاضون أجور تخزينها! هذا سلوك ابتدأ منذ اليوم الأول و لا زال مستمراً إلى اليوم. لا تزال الأموال الإيرانية هناك.. في أمريكا، و في بعض البلدان الأوربية. و قد تابعناهم طوال سنوات و طالبناهم بممتلكاتنا التي دفعت أثمانها، فقالوا: لأنها تحت الليسانس الأمريكي فالأمريكيون لا يسمحون بتسليمها و لن نسلّمها لكم، و ابقوها عندهم. و لا تزال ممتلكات الشعب الإيراني موجودة هناك إلى يومنا هذا.
أعطوا لصدام الضوء الأخضر للهجوم على إيران، و كانت هذه خطوةً أخرى من قبل الحكومة الأمريكية. لو لم يتلقّ صدام الضوء الأخضر من أمريكا لكان من المستبعد أن يهاجم حدودنا. فرضوا على بلادنا ثمانية أعوام من الحرب، و استشهد في هذه الحرب قرابة ثلاثمائة ألف من شبابنا و أبناء شعبنا. طوال هذه الأعوام الثمانية - و في السنوات الأخيرة منها خصوصاً - ساند الأمريكان صداماً على الدوام و ساعدوه - مساعدات مالية، و تسليحية، و خبرات سياسية - و زوّدوه بمعطياتهم و أخبارهم المكتسبة من الأقمار الصناعية و سائر إمكاناتهم الاستخبارية. كانت أقمارهم الصناعية تسجل تحركات قواتنا في الجبهة و يعطونها في نفس الليلة لمقرات صدام كي يستخدمونها ضد شبابنا و قواتنا. غضوا الطرف عن جرائم صدام. وقعت فاجعة حلبجة و قصف مدننا بالصواريخ و تخريب بيوتنا، و استخدم الطرف المقابل السلاح الكيمياوي في الجبهات فغضوا طرفهم، و لم يحركوا ساكناً على الإطلاق، بل واصلوا مساعدة صدام. هذه أيضاً كانت واحدة من ممارسات الحكومات الأمريكية طوال هذه الأعوام ضد شعبنا و بلادنا. و في نهايات الحرب أطلق ضابط أمريكي صاروخاً من فرقاطة حربية أمريكية على طائرتنا المدنية في سماء الخليج الفارسي فأسقطها و كان فيها نحو 300 مسافر قتلوا جميعهم. ثم بدل أن يوجهوا توبيخاً لذلك الضابط منحه رئيس جمهورية أمريكا آنذاك مكافأة و نوط شجاعة. فهل ينسى شعبنا هذه الممارسات؟ و هل بوسعه أن ينساها؟ دعموا الإرهابيين المجرمين الذين قتلوا في بلادنا الرجال و النساء و الأفراد و الجماعات و العلماء الكبار و الأطفال الصغار، و سمحوا لهم بالعمل داخل بلادهم. أطلقوا الإعلام العدائي ضد بلادنا دون انقطاع. رؤساء جمهورية أمريكا - خصوصاً خلال فترة الرئيس الأمريكي الزائل السابق - متى ما تحدثوا طوال هذه الأعوام عن شعب إيران و ضد بلادنا و ضد مسؤولينا و ضد نظام الجمهورية الإسلامية أهانوا الشعب الإيراني و اطلقوا كلاماً فارغاً سخيفاً ضده. هكذا كان الوضع دائماً على مدى هذه الأعوام. ضعضعوا أمن منطقتنا، و أمن الخليج الفارسي، و أفغانستان، و العراق، و أطلقوا سيول التسليح لبلدان المنطقة من أجل مواجهة الجمهورية الإسلامية، و في الواقع من أجل ملء جيوب شركات السلاح. دعموا الكيان الصهيوني دون قيد أو شرط.. الكيان الظالم الذي شاهدتم نموذجاً لظلمه في أحداث غزة قبل شهرين أو ثلاثة، و لاحظتم أية فاجعة اجترحوا هناك.. كم قتلوا من الأطفال و الرجال و النساء. قتلوا على مدى 22 يوماً خمسة آلاف إنسان في غزة بقصفهم و صواريخهم و رصاصهم المباشر، و مع ذلك دافعت الحكومة الأمريكية عن ذلك الكيان إلى آخر لحظة. كلما أراد مجلس الأمن إصدار قرار ضد الكيان الصهيوني تقدمت أمريكا للأمام و جعلت من نفسها درعاً يحمي ذلك الكيان و دافعت عنه و حالت دون إصدار القرار. هددوا بلادنا بمناسبة و دون مناسبة. قالوا دوماً إننا سنهجم و أن المشروع العسكري على طاولتنا و سنفعل كذا و كذا. هددوا شعبنا في كل مرة تحدثوا فيها عن بلادنا. طبعاً لم تؤثر هذه التهديدات في شعبنا، لكنهم أبدوا عدائهم عن هذا الطريق. و جّهوا الإهانات لشعب إيران و حكومة إيران، و رئيس جمهورية إيران مراراً. قال أحد الأمريكيين قبل سنوات إنه يجب استئصال جذور الشعب الإيراني! و في السنوات الأخيرة قال أحد المسؤولين الأمريكيين إن الإيراني الجيد و المعتدل هو الإيراني الميت! هكذا وجهوا الإهانات لهذا الشعب الكبير الشريف الذي لم يكن ذنبه سوى دفاعه عن هويته و استقلاله. فرضوا الحظر على بلادنا مدة ثلاثين سنة، و طبعاً انتهى هذا الحظر لصالحنا، و علينا تقديم الشكر للأمريكيين بسبب ذلك. لو لم يفرضوا الحظر علينا لما كنا وصلنا لهذا الموقع الذي وصلناه من العلم و التقدم. الحظر اضطرنا دوماً إلى أن نصحو على أنفسنا و نفكر و نتفجر من الداخل. لكن نيتهم لم تكن مثل هذه الخدمة بل أرادوا ممارسة العدوان. هكذا تعاملوا مع شعب إيران مدة ثلاثين سنة. و الآن تقول الحكومة الجديدة في أمريكا إننا نرغب في التفاوض مع إيران، و تعالوا ننسى الماضي. يقولون إننا مددنا يدنا نحو إيران. طيّب، أية يد هذه؟ إذا كانت اليد الممدودة مغلّفة بقفاز من مخمل لكن تحتها يداً حديدية، فليس لهذا معنى أيجابي على الإطلاق. يباركون العيد للشعب الإيراني، لكنهم في نفس هذا التبريك يتهمون شعب إيران بمناصرة الإرهاب و طلب السلاح النووي و أمور من هذا القبيل!
أنا لا أدري من هو صاحب القرار في أمريكا، هل هو رئيس الجمهورية؟ أم الكونغرس؟ أم العناصر الكامنة خلف الكواليس؟ لكنني أريد القول إن لنا منطقنا. لقد سار الشعب الإيراني منذ اليوم الأول و إلى الآن وفق المنطق. لسنا عاطفيين فيما يخص قضايانا المهمة، و لا نتخذ قراراتنا انطلاقاً من العواطف و الأحاسيس، إنما نقرر وفقاً لحسابات. يقولون تعالوا نتفاوض، و نقيم علاقات، و يرفعون شعار التغيير. طيّب، أين هو هذا التغيير؟ و أي تغيير هو؟ أوضحوا لنا هذا. ما الذي تغيّر؟ هل تغيّر عداؤكم للشعب الإيراني؟ أين هي علامة ذلك؟ هل أفرجتم عن ممتلكات الشعب الإيراني؟ هل ألغيتم الحظر الظالم؟ هل أقلعتم عن التشويه و توجيه التهم و الإعلام السيئ ضد هذا الشعب الكبير و مسؤوليه الشعبيين؟ هل أقلعتم عن الدفاع غير المشروط عن الكيان الصهيوني؟ ما الذي تغيّر؟ يرفعون شعار التغيير و لكن لا يُشاهد تغيير على المستوى العملي. لم نشاهد أي تغيير. حتی اللهجة و الأدبيات لم تتغير. رئيس جمهورية أمريكا الجديد و في اللحظة الأولى التي تولى فيها رئاسة الجمهورية رسمياً و ألقى كلمته أهان إيران و حكومة الجمهورية الإسلامية، لماذا؟ إن كنتم صادقين في حصول تغيير فأين هو هذا التغيير؟ لماذا لا يُشاهد شيء؟ إنني أقول هذا للجميع، ليعلم المسؤولون الأمريكيون، و ليعلم الآخرون أيضاً، الشعب الإيراني لا يمكن خداعه و لا يمكن إخافته.
أولاً : التغيير في الألفاظ ليس كافياً - و لم نر تغييراً يذكر حتى في الألفاظ - بل يجب أن يكون التغيير تغييراً حقيقياً. و نقول للمسؤولين الأمريكان إن التغيير الذي تتحدثون عنه هو ضرورة بالنسبة لكم، و ليس أمامكم مفر من التغيير؛ إذا لم تغيّروا فسوف تغيّركم السنن الإلهية و سوف يغيّركم العالم. يجب أن تغيّروا، إلا أن هذا التغيير يجب أن لا يكون مجرد لقلقة لسان تقف وراءه نوايا غير نظيفة. تارة يقولون: إننا نروم تغيير سياساتنا لكننا لا نغيّر أهدافنا إنما نغيّر تكتيكاتنا فقط. هذا ليس بتغيير. هذه خدعة. و تارة يكون التغيير تغييراً واقعياً، عندها يجب أن يُشاهد على مستوى الفعل. إنني أنصح المسؤولين الأمريكيين و كل من بيده القرار في أمريكا - سواء كان رئيس الجمهورية، أو الكونغرس، أو غيرهم - و أقول إن الواقع الذي اتسمت به الحكومة الأمريكية في السابق يضرّ بالشعب الأمريكي و يضرّ بالحكومة الأمريكية نفسها. إنكم مكروهون في العالم اليوم. اعلموا ذلك إن لم تكونوا تعلمون. الشعوب تحرق علمكم. الشعوب المسلمة في كل أنحاء العالم تقول » :الموت لأمريكا«. ما هو سبب هذه الكراهية؟ هل درستم ذلك و حلّلتموه؟ هل استلهمتم العبر منه؟ السبب هو أنكم تتعاملون مع العالم تعامل القيّم عليه و تتحدثون بطريقة متكبّرة، و تريدون فرض إرادتكم في العالم، و تتدخلون في شؤون البلدان، و تستخدمون معايير مزدوجة في العالم. تارةً تصبّون سيول الدعاية ضد شاب فلسطيني يضطر بسبب شدة الضغوط لتنفيذ عملية استشهادية، و لكن من جهة ثانية تتجاهلون جرائم الكيان الصهيوني الذي اقترف تلك الفاجعة في غزة على مدى 22 يوماً. تسمّون ذلك الشاب إرهابياً، و تقولون عن هذا الكيان الإرهابي إننا ملتزمون حيال أمنه. هذا ما يجعلكم ممقوتين في العالم. هذه نصيحة لكم و هي لخيركم و صلاحكم و لأجل مستقبل بلادكم: اقلعوا عن لهجة الاستكبار و أساليب الاستكبار و تصرفات القوامة، و لا تتدخلوا في شؤون الأمم، و اقنعوا بحقكم، و لا تقرروا لأنفسكم مصالح في كل مكان من العالم، و سترون أن الوجه الأمريكي في العالم سيخرج تدريجياً من حالة كونه مكروهاً ممقوتاً إلى حالة أخرى. اسمعوا هذا الكلام. هذه هي نصيحتي للمسؤولين الأمريكان سواء رئيس جمهوريتهم أو غيره. فكروا في هذا الكلام بدقة. خذوه ليترجموه لكم؛ طبعاً لا تعطوه للصهاينة ليترجموه، بل استشيروا أشخاصاً نظيفين و اطلبوا آراءهم. طالما واصلت الحكومة الأمريكية أسلوبها، و أعمالها، و توجهاتها، و سياساتها ضدنا كما فعلت في الثلاثين سنة الأخيرة، فسنكون نفس ما كنا عليه في هذه الثلاثين سنة، و سنبقى نفس الشعب الذي كان طوال هذه الأعوام الثلاثين. شعبنا يسوؤه أن تواصلوا رفع شعار ( التفاوض و الضغوط ) و تقولوا نتفاوض مع إيران و نمارس الضغط ضدها في نفس الوقت.. التهديد و التطميع في آن واحد. لا يمكن التحدث مع شعبنا بهذه الطريقة. ليست لدينا سوابق عن الحكومة الجديدة و رئيس الجمهورية الجديد في أمريكا، و سننظر لأدائهم و نحكم. غيّروا و سوف يتغيّر أسلوبنا أيضاً. و إذا لم تغيّروا فإن شعبنا أصبح خلال هذه الأعوام الثلاثين أكثر خبرة و تجربة و صبراً و قوة.
أدعو الله تعالى : اللهم بمحمد و آل محمد لا تقطع لطفك و رحمتك عن هذه الأمة. و أقول لشعبنا العزيز إننا علمنا أن زوجة إمامنا الراحل و رفيقة دربه الدائمة رحلت عن الدنيا هذا اليوم للأسف. لقد كانت هذه السيدة الجليلة شخصية قيمة لشعب إيران. لقد صبرت و صمدت عشرات السنين إلى جانب إمامنا العزيز الذي كان قبلة قلوب الشعب، في كل الامتحانات الصعبة، و رافقت الإمام، و كانت سيدة و شخصية بارزة بحد ذاتها. أعزي شعب إيران بمناسبة رحيلها و أعزي ذويها، و أسأل الله أن يشملها برحمته و غفرانه.. اللهم احشر هذه السيدة الجليلة مع أوليائك.. اللهم أحشر إمامنا الكبير و أبناءه الأعزاء و زوجته مع أوليائك.. اللهم اجعلنا دوماً عارفين قدر إمامنا العزيز.. ربنا اشمل جميع أبناء شعبنا، لا سيما شبابنا الأعزاء بهديك و لطفك و تعضيدك.. اللهم أنزل أمطار رحمتك على كل بلادنا و على أراضينا العطشى، و مزارعنا، و شعبنا.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.