الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين نحمد و نستعينه و نؤمن به و نستغفره و نتوكل عليه و نصلّي و نسلّم على حبيبه و نجيبه سيد خلقه بشير رحمته و نذير نقمته سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين سيّما بقية الله في العالمين.
اللهم صلِّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين.
أوصي الإخوة و الأخوات المصلين الأعزاء بتقوى الله. هذا الشهر هو شهر التقوى، و اليوم و هو الحادي و العشرين من شهر رمضان المبارك يوم التقوى المتجسدة .. الإمام علي بن أبي طالب هو التقوى المتجسدة. لنستلهم الدروس، و نجعل التقوى زادنا للدنيا و الآخرة.
أذكر في الخطبة الأولى نقاطاً حول أمير المؤمنين الإمام علي .. إنه يوم الإمام علي. في مثل ليلة البارحة - و كانت ليلة جمعة و هي لذلك شبيهة أكثر بليلتنا هذه السنة - في ليلة الحادي و العشرين خسرت البشرية علي بن أبي طالب. جسد أمير المؤمنين، و صوت أمير المؤمنين، و الأنفاس الدافئة لأمير المؤمنين، و العين الثاقبة لأمير المؤمنين فارقت عالم البشرية يومذاك. و لكن يمكن الاحتفاظ بعلي (عليه السلام).. يمكن الاحتفاظ به في مقدمة المسيرة شريطة أن نهتم لسيرة الإمام علي و سلوك الإمام علي كمثال و نبراس. سأذكر لكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء اليوم جانباً من هذه الحياة الزاخرة بالمفاخر و الحكومة القصيرة الأمد لكن المتألقة و المضيئة.
النقاش الذي سأثيره حول النقاط التي سأذكرها يتعلق بالسلوك السياسي لأمير المؤمنين. يتعين الالتفات إلى أن السلوك السياسي لأمير المؤمنين غير منفصل عن سلوكه المعنوي و الأخلاقي. سياسة الإمام علي ممتزجة بالمعنوية و الأخلاق، بل هي منبثقة أساساً عن معنوية الإمام علي و أخلاقه. إذا نبعت السياسة من الأخلاق، و ارتوت من المعنوية، فستكون أداة كمال بالنسبة للناس الذين يتعاملون مع تلك السياسة، و ستكون طريقاً إلى الجنة. أما إذا انفصلت السياسة عن الأخلاق و عن المعنوية فعندئذ ستكون لعبة سياسية و وسيلة لكسب السلطة بأي ثمن، و للحصول على المال و لتمرير الأجندة و الأهداف في الدنيا. و ستكون هذه السياسة آفة على اللاعب السياسي نفسه و على الجماهير التي تمارس هذه السياسة في مجالاتهم الحياتية.
الحكومة التي قادها الإمام علي و التي وقعت فيها ثلاث حروب كبيرة بآلاف القتلى - انظروا في نهج البلاغة - يذكرها الإمام علي بتعابير تدل على استهانته بها. مرة يصفها - في خطابه لابن عباس - بأنها أهون عنده من حذائه القديم المرقع. و مرة يقول عن هذه الحكومة: »لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز«.. كم هي القيمة الحياتية للرطوبة النازلة من فم عنـز عند عطاسها؟ لا شيء. يقول عليه السلام: هذه الحكومة و هذه السلطة و هذا التربع على أريكة الحكم هو عند عليّ أقل و أهون من هذا الشيء. و في موضع ما من نفس تلك الخطبة يستدل على قبوله لهذه الحكومة بقوله: » لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر«. رأيت الناس قد توافدت و أصرت و عرضت نصرتها فقبلت. و يقول في معرض الاستدلال أيضاً: » و ما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم« (1).. يقول عليه السلام إن الله تعالى أوجب على العلماء أن لا يسكتوا على تخمة الظالم و جوع المظلوم. هذه هي الأمور التي تدفع الإمام علي نحو الحكومة أو تحضه على المقاومة و الثبات و حتى علی الحرب العسكرية ضد من يبغي عليه، و إلا فالحكومة لا قيمة لها عند أمير المؤمنين.
من خصائص الإمام علي في هذه السياسة أنه بعيد عن المكر و الخداع. رويت عبارة عنه عليه السلام: » لو لا التقى لكنت أدهى العرب«.(2) لو لا أن التقوى تقيدني لكنت أشد حيلة و مكراً من كل دهاة العرب و ماكريهم. و في موضع آخر حين يقارن بينه و بين معاوية - لأن معاوية كان مشهوراً بالدهاء و المكر في الحكومة - يقول حسب ما يروى: » و الله ما معاوية بأدهى منّي« (3)، ليس معاوية أشطر مني، و لكن ما يفعل علي و هو يريد مراعاة التقوى و الأخلاق فيبقى لسانه و يده مغلولة؟ هذا هو منهج أمير المؤمنين. حين لا تكون هنالك تقوى يطلق لسانُ المرءِ و يداه فيستطيع أن يقول أي شيء.. يمكنه أن يقول أشياء على النقيض من الواقع.. يستطيع القذف، و توجيه التهم، و الكذب على الناس، و نقض العهود، و الميل لأعداء الصراط المستقيم. هكذا سيكون الحال حينما لا يكون هنالك تقوى. يقول أمير المؤمنين: لقد اخترت السياسة بمعية التقوى. لذلك لا يوجد في منهج الإمام علي مكر و حيل و أعمال قذرة.. فهو إنسان طاهر.
من أخطار فصل الدين عن السياسة الذي يروِّج له البعض دائماً في العالم الإسلامي - و قد كان هذا الترويج موجوداً في بلادنا سابقاً و اليوم أيضاً للأسف يطلق البعض معزوفات فصل الدين عن السياسة - هو أن السياسة إذا انفصلت عن الدين ستنفصل أيضاً عن الأخلاق و عن المعنوية. في الأنظمة العلمانية و غير ذات الصلة بالدين نلاحظ زوال الأخلاق في الأغلبية الساحقة من الحالات. قد يشاهد من باب الاستثناء عمل أخلاقي هنا و هناك.. هذا شيء ممكن لكنه استثناء. حينما ينفصل الدين عن السياسة، ستعود السياسة عارية من الأخلاق و قائمة كلها على الحسابات المادية و المصلحية. السلوك السياسي للإمام علي يرتكز على المعنوية و لا ينفصل عن سلوكه المعنوي.
السلوكيات السياسية لأمير المؤمنين كانت أولاً المداراة قدر الإمكان مع معارضيه و حتى مع أعدائه. حيث تلاحظون وجود ثلاثة حروب اضطر لها الإمام علي و فرضت عليه خلال زهاء خمسة أعوام من حكمه، فقد كان ذلك بعد عمله بكل ما يمكن من المداراة. لم يكن الإمام علي شخصاً يبادر إلى السيف ابتداءً ضد معارضيه من دون العمل بالمداراة اللازمة. و الآن لنستمع إلى بعض عبارات الإمام أمير المؤمنين:
ذات مرة جاء عدد من الناس لأمير المؤمنين في بداية خلافته و أشاروا إلى بعض الأفراد طالبين منه أن يحسم أمرهم و ينهيه، و قد أصروا عليه في ذلك. و كان جواب أمير المؤمنين أن نصحهم بالصبر، و كان من جملة ما قاله: هذا الرأي الذي أنتم عليه إنما هو أحد الآراء.. »فرقة ترى ما ترون«. البعض يوافقونكم على رأيكم هذا.. » و فرقة ترى ما لا ترون«.. و البعض يعتقدون بشيء غير الذي تعتقدون به. » و فرقة لا ترى هذا و لا ذاك«.. و البعض لا هم من هذا الفريق و لا من ذاك، بل لديهم رأي ثالث.. »فاصبروا«.. اصبروا حتى يدير أمير المؤمنين الأمور بحكمته.. »حتى.. تؤخذ الحقوق مسمحة«.. دعونا نأخذ الحق لأصحابه و نحقّ الحقوق بالسماح و اللطف و اللين. »و إذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي« (4).. يجب أن نعطي صاحب الحق حقه بالتسامح و السماح و اللين و السلوك الطيب ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. و إذا وجدنا أنه لم يعد ثمة سبيل و أنهم لا يرضخون للحق، عندئذ »آخر الدواء الكي«.. هذا مثل عربي معروف »آخر الدواء الكي«.. بمعنى أننا سنقوم بالحل الأخير بحسم و قطع. نعالج الأمور بالأدوية و المراهم ما أمكن ذلك و من أجل معالجة هذا الجرح و شفائه، و إذا لم ينفع نعمل بالكي لأنه لم يبق سبيل غيره. في حرب صفين و قبل أن تبدأ الحرب كان البعض يصرون إصراراً شديداً على الإمام أمير المؤمنين بأن يبدأ القتال. و قال لهم الإمام: » فو الله ما دفعت الحرب يوماً إلا و أنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي«(5) أي إنني لا أبتغي الحرب بل أنشد الهداية، و لا أؤخر الحرب يوماً إلا من أجل أني أتمنى أن تميل قلوب البعض إلى الحقيقة و يعودوا إلى الصراط المستقيم. و إذا يئسنا و وجدنا أنه لا أحد يقدم علينا عندئذ نشهر السيوف و نبدأ الحرب.
و قال عليه السلام في قضية حرب الجمل و أهل الجمل - و التي كانت من المحن الصعبة التي مرّ بها الإمام أمير المؤمنين - : »إن هؤلاء قد تمالئوا على سخطة إمارتي«.. لقد اجتمع هؤلاء و اتحدوا و تعاضدوا ليظهروا غضبهم من هذا الحكم الذي يمسك الإمام علي بزمامه. »و سأصبر«.. قال إنني سأصبر، و لكنك إلى متى؟ »ما لم أخف على جماعتكم«(6)، إذا وجدت أن تحركاتهم تبث الشقاق و الفرقة بين المسلمين و تضع الإخوة في وجه بعضهم، عندئذ أبادر للعمل و أعالج الفتنة. أصبر و أعمل بالنصيحة في حدود الإمكان.
من خصائص الإمام أمير المؤمنين في منهجه السياسي أنه كان يتحدث مع أعدائه و معارضيه بالبراهين و الأدلة. حتى في الرسائل التي كتبها لمعاوية - مع أن العداء بين معاوية و أمير المؤمنين كان شديداً إلا أن معاوية كان يكتب له الرسائل و يوجّه الإهانات و يكذب - كان يسوق له الأدلة على خطأ منهجه. و طلحة و الزبير الذان جاءا و بايعا الإمام أمير المؤمنين - و خرجوا من المدينة بذريعة أنهما يريدون العمرة و ساروا نحو مكة. و كان أمير المؤمنين حذراً و قال منذ البداية أنهما لا يريدان العمرة. ذهبوا إلى هناك و عملوا الكثير مما تطول تفاصيله - قال لهما الإمام علي: » لقد نقمتما يسيراً و أرجأتما كثيراً«(7)، أي لقد جعلتما شيئاً تافهاً سبباً للخلاف و النـزاع و لم تشاهدا كل هذه النقاط الإيجابية و رحتما تناديان بالعداء و المعارضة. كان يتكلم الإمام معهما بتواضع و يوضّح لهم الأمور، و يقول: إنني لا أريد أن اختلق لنفسي الأعداء. هكذا كان يداريهم الإمام. و لكن حين لا تؤثر هذه المداراة شيئاً، عندئذ يحين موعد الحسم العلوي. هناك يثبت الإمام أمير المؤمنين أنه يتصرف مع أشخاص مثل الخوارج بحيث يقول: »أنا فقأت عين الفتنة«.(8) أنا الذي فقأت عين الفتنة و أمتّها، و ما كان أحد آخر غير عليّ بمقدوره - كما قال عليه السلام نفسه في نهج البلاغة - أن يقوم بذلك.
من خصائص سياسة الإمام أمير المؤمنين أنه لم يكن يستعين بالظلم و الكذب و الممارسات الظالمة من أجل أن ينتصر. جاء جماعة في بداية خلافته و قالوا له حبّذا لو راعيت هؤلاء الأشخاص المتنفذين في المجتمع و أعطيتهم نصيباً أوفر من بيت المال حتى لا يعارضوك و تستطيع تأليف قلوبهم و كسبها، فقال: »تأمروني أن أطلب النصر بالجور«، أتريدون أن أحقق النصر لنفسي بالظلم؟ »و الله لا أطور به ما سمر سمير و ما أمّ نجم في السماء نجماً«،(9) من المستحيل أن يكسب الإمام علي الأصدقاء بالظلم و السبل الخاطئة المغلوطة و الأساليب غير الإسلامية.
و من خصوصيات الإمام أمير المؤمنين في منهجه السياسي أنه كان يطلب من الناس بجد - و ليس من باب المجاملة - أن لا يتحدثوا معه بتملق و مصانعة. في أواسط إحدى خطب الإمام عليه السلام - و هي من خطبه البليغة العجيبة - قام شخص و راح يثني على الإمام و يمدحه .. راح يثني على كلام الإمام و أفكاره و عليه أيضاً. و حين انتهى كلامه التفت إليه الإمام و تحدث معه ناصحاً بمقدار ما تحدث هو - حسب ما يلاحظ المرء في نهج البلاغة و بمقدار ما اختاره السيد الرضي - و قال له لا تخاطبوني بهذه الطريقة، و من ذلك قوله المعروف: »فلا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة«. لا تتحدثوا معي بنفس الطريقة و الألفاظ التي يتحدث الناس بها مع الجبابرة. » و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة« و لا تتحفظوا أمامي و لا تمتنعوا عن الكلام كما يفعل الناس أمام الجبابرة حيث يحذرون أن يسؤوهم هذا الكلام أو لا يرتاحون لهذا القول. » و لا تخالطوني بالمصانعة و لا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي«،(10) لا تظنوا أنكم إذا قلتم لي الحق فسوف يسؤوني ذلك و سيثقل عليَّ قول الحق. كلا أبداً. هذه أيضاً واحدة أخرى من خصوصيات أمير المؤمنين.
و من خصائصه الأخرى عليه السلام أن سلوكه و تعامله مع معارضيه لم يكن على شاكلة واحدة. لم يكن ينظر لهم جميعهم من زاوية واحدة. كان الإمام أمير المؤمنين يفرق بين بعض الأفراد و التيارات و أفراد و تيارات أخرى. وقف الإمام علي أمام الخوارج، أي أمام انحرافهم و انحطاطهم و استعانتهم بالظواهر الدينية، و وقف أيضاً بوجه معاوية، و حينما رفعوا المصاحف على الرماح قال عليه السلام إن هذا و الله لمكر و خديعة، و هؤلاء لا يؤمنون بالقرآن. يوم وقف الخوارج بظواهرهم الدينية و أصواتهم الحزينة التي يتلون بها القرآن بوجه الإمام وقف الإمام بوجههم. أي حينما يريد البعض العمل بواسطة الظواهر الدينية يقف الإمام علي بوجههم، سواء كانوا جماعة معاوية أو الخوارج. لكنه في الوقت نفسه لا يعاملهم بطريقة واحدة. كانت له وقفته بوجههم لكنه كان في الوقت ذاته ينصح بعدم التعامل مع الجميع بطريقة واحدة. لذلك قال: » لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه«.(11) الشخص الذي ينشد الحق لكنه يخطئ في تشخيصه.. إنه يبحث عن الحق لكنه لا يصل إليه بسبب جهله و سطحيته، هذا الشخص يختلف عن شخص ينشد الباطل فيصل إليه.. هذان ليسا على شاكلة واحدة.
هذا هو السلوك السياسي لأمير المؤمنين. حينما ننظر نجد أن هذا السلوك السياسي متطابق و متجانس تماماً مع سلوكه المعنوي، و الإمام علي هو الإمام علي المميز الألمعي الذي لم تر الدنيا نظيره في أي مكان. اليوم هو يوم عزاء الإمام أمير المؤمنين. أذكر كلمات حول مصيبة ذلك الإمام الجليل. كليلة البارحة فارق الإمام أمير المؤمنين الدنيا. خلال هذين اليومين أو الليلتين - من سحر التاسع عشر حين ضُرب أمير المؤمنين بيد ذلك الملعون إلى ليلة الحادي و العشرين - وقعت عدة حوادث ذات عبر و دروس:
الحادثة الأولى كانت في نفس تلك اللحظة الأولى. حينما ضرب عدو الله أمير المؤمنين، جاء في الرواية أن الإمام لم يئن و لم يتأوه أبداً، و لم يبد ألماً أو وجعاً. الشيء الوحيد الذي قاله هو: »بسم الله و بالله و في سبيل الله، فزت و رب الكعبة«.(12) ثم جاء الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) و أخذ رأس الإمام علي و وضعه في حجره. جاء في الروايات أن الدم كان يتصبب من رأسه المبارك و يخضّب لحيته. الإمام (ره) الحسن كان ينظر لوجه أبيه و عيناه تفيضان من الدمع. سقطت قطرات من دموع الإمام الحسن على وجه أمير المؤمنين. فتح الإمام عينيه و قال: ولدي الحسن، أتبكي؟ لا تبكِ، إنني الآن عند جماعة يُسلّمون عليَّ. عندي هنا نفر - هذا ما روي عن الإمام عليّ أنه قاله في اللحظات الأولى - منهم الرسول و فاطمة الزهراء. بعدها حملوا الإمام - بعد أن صلى الإمام الحسن (عليه السلام) في المسجد، و صلّى الإمام علي جالساً. يقول الراوي إن الإمام علي كان يميل أحياناً إلى جانبه فيقع، و أحياناً يمسك نفسه فلا يقع - و أخيراً حملوه إلى المنـزل. سمع الأصحاب الصوت الذي قال: » تهدمت و الله أركان الهدى.. قتل علي المرتضى«.(13) سمع كل أهل الكوفة هذا الصوت و هرعوا إلى المسجد فكانت ضجة عظمى. يقول الراوي: علا الضجيج و البكاء في الكوفة كيوم وفاة الرسول، و كانت الكوفة تلك المدينة الكبرى حزناً و مصاباً و ألماً كلها. جاءوا بالإمام علي فاقترب الإمام الحسين (عليه السلام). ورد في الرواية أن الإمام الحسين بكى خلال هذه المدة القصيرة إلى درجة أن جفونه تقرحت و جرحت. وقعت عين أمير المؤمنين على الإمام الحسين فقال: ولدي حسين لا تبكِ، و أصبر فما هذا بالشيء الكثير، إنما هي أحداث تمرّ.. كان يعزّي الإمام الحسين.
جاءوا بالإمام علي إلى داخل الدار و أخذوه إلى مصلاه حيث كان يصلي داخل الدار. قال: خذوني هناك، فأخذوه و فرشوا له فراشاً و مدّدوه عليه. هناك جاءت بنات أمير المؤمنين زينب و أم كلثوم، و جلسن عنده و رحن يبكين. حينما بكى الإمام الحسن نصحه الإمام علي و عزّاه و سلاه، و حينما بكى الإمام الحسين سلاه أميرُ المؤمنين و قال له: اصبر. لكنه هنا لم يصبر على دموع بناته. يقال إن الإمام علي راح يبكي هو الآخر. يا أمير المؤمنين لم تستطع الصبر على بكاء زينب هنا، فما كنت ستفعل لو رأيت زينب يوم عاشوراء تبكي و تنوح؟
يروي أبو حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو أنه قال: في الساعات الأخيرة، أي في ليلة الحادي و العشرين ذهبت لزيارة أمير المؤمنين فرأيت إحدى بناته عنده، و كانت تبكي، فبكيت أيضاً. و الناس في خارج الغرفة حينما سمعوا صوت بكاء هذه البنت راحوا يبكون هم أيضاً. فتح أمير المؤمنين عينيه و قال: لو كنتم ترون ما أرى لما بكيتم. فقلت له: و ما ترى يا أمير المؤمنين؟ قال: أرى ملائكة الله في السماء و كل الأنبياء و المرسلين في صفّ يسلمون عليَّ و يرحبون بي. و أرى رسول الله جالساً إلى جواري يقول لي تعال يا علي و أسرع إلينا. يقول: بكيت ثم قمت، و لم أكن قد خرجت من الدار بعد و إذا بي أسمع صراخ العائلة قد ارتفع، فشعرت أن الإمام علي قد فارق الدنيا.
صلّى الله عليك يا أمير المؤمنين، صلّى الله عليك يا أمير المؤمنين، صلّى الله عليك يا أمير المؤمنين. نسألك اللهم و ندعوك باسمك العظيم الأعظم الأعز الإجل الأكرم يا الله...
اللهم بحق أمير المؤمنين اجعلنا من الشيعة الحقيقيين لهذا الإمام. ربنا اجعل سلوكنا في الدنيا و الآخرة سلوك أمير المؤمنين. اللهم اجعلنا من أتباعه و المقتدين به بالمعنى الحقيقي للكلمة. اللهم أصلح مشكلات العالم الإسلامي، و أرفع معاناة الشعوب المسلمة في فلسطين، و العراق، و لبنان، و أفغانستان، و باكستان، و باقي الأقاليم الإسلامية. اللهم أرفع بفضلك و كرمك مشكلات الشعب الإيراني. ربنا ضاعف يوماً بعد يوم من عزة هذا الشعب و قدرته. اللهم احفظ لشعب إيران وحدته و هي رصيده الكبير. اللهم أقطع أيدي التفرقة. الله وفقنا للالتزام بالحق في أي مقام أو مرتبة كنّا، و أحفظنا اللهم من الظلم و الاعتداء على حقوق الآخرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
و العصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر.(14)

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين سيما علي أمير المؤمنين، و فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، و الحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة، و عليّ بن الحسين زين العابدين، و محمد بن علي الباقر، و جعفر بن محمد الصادق، و موسى بن جعفر الكاظم، و علي بن موسى الرضا، و محمد بن عليّ الجواد، و عليّ بن محمد الهادي، و الحسن بن علي الزكي العسكري، و الحجة القائم المهدي. اللهم صلّ عليهم و صلّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله.
في هذه الخطبة أيضاً أوصي نفسي مرةً أخرى و أوصيكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء و أدعوكم إلى تقوى الله، لنكن متقين ورعين في سلوكنا، و في أقوالنا، و في أعمالنا.
في الخطبة الثانية من الضروري أولاً أن نحيّي ذكرى المرحوم آية الله طالقاني، و كذلك ذكرى الشهيد آية الله مدني (رضوان الله عليهما). هذه الأيام لها مناسباتها مع كلا هذين الشخصين الجليلين، و هذان الشخصان من الذين لا تنفصل ذكراهما عن تاريخ إمامة الجمعة في بلادنا. الحق و الإنصاف أن لكل واحد من هذين الرجلين الكبيرين حقوقه التي لا تنسى، و ستبقى عنهما ذكرى لا تُنسى في أذهاننا و تاريخنا.
من النقاط التي أريد ذكرها اليوم في هذه الخطبة - و الواقع أن المخاطب بهذا الكلام الذي أذكره أمامكم أيها المصلون الأعزاء و جماهير الشعب العزيزة هو التيارات السياسية، و الشخصيات السياسية، و المسؤولين السياسيين السابقين و اللاحقين - هي أن نستثمر فرصة شهر رمضان المبارك. نذكر هنا بعض الأمور من باب بيان الحقائق و تقديم النصائح، عسى أن تكون مفيدة إن شاء الله للمعنيين بهذا الكلام، و لنا، و خصوصاً لشبابنا الأعزاء، و جماهير شعبنا الأعزاء المؤمنين.
المعنيّون بهذا الخطاب هم طبعاً أشخاص كانت لهم مواقعهم داخل النظام الإسلامي لحد الآن.. إنهم شخصيات من داخل النظام، و سيبقون داخل النظام في المستقبل أيضاً إن شاء الله، و يعملون و يبذلون مساعيهم و جهودهم لهذا النظام. عبارات داخل النظام و خارج النظام هذه ليست مفاهيم دعائية و شعارات فارغة. ليست مجرد لوحة.. لها مؤشراتها و مبانيها العقيدية و العلمية. هكذا كان الحال لحد الآن، و سيبقى كذلك بعد الآن أيضاً إن شاء الله.
النقطة الأولى هي حصول انشقاقات و تعارضات في تيار الثورة و التيار الشعبي الأصيل منذ بداية الثورة و لحد الآن. و كانت بعض هذه الانشقاقات و التعارضات لها خسائرها، و بعضها لم يكن كذلك، إنما ذابت و تلاشت بفضل وعي الجماهير و وعي و مسؤولية العناصر الناشطة في هذه التيارات و لم تكلّف الثورة و البلاد أعباءً باهضة. هذه الاختلافات في وجهات النظر و الانشقاقات التي تظهر ليست كلها من سنخ واحد. بعض الانشقاقات ناجمة عن تباين في المباني و العقيدة. و بعضها ليس بسبب العقائد، بل بدافع المصالح، أي إن الصراع فيها بسبب المصالح، و بعض هذه الانشقاقات و الخلافات لا بسبب هذه و لا تلك، إنما القضية فيها قضية أذواق، بمعنى أن هناك اختلاف رؤى و أذواق في تنفيذ الأصول.. يحدث اختلاف في إطار الأصول و المباني و في الأساليب. لذلك فهي ليست كلها من سنخ واحد.
حسناً، منذ مطلع الثورة حدثت خلافات بين هذه الفئات التي كانت كلها إلى جانب بعضها خلال فترة ما قبل الثورة و في سنوات الجهاد و النضال. لم يتعامل الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) بطريقة واحدة مع جميع هذه الاختلافات. و كما ذكرنا بالنسبة لمنهج أمير المؤمنين كذلك كان الحال في منهج الإمام الخميني (رضوان الله عليه). أي إنه بدأ العمل بالمداراة و النصيحة، لكنه تعامل بحسم حينما اقتضت الضرورة ذلك. إحدى الفئات هي الحكومة الموقتة و ما رافقها من مشكلات. و من تلك الفئات الأشخاص الذين فعلوا ما فعلوا حيال لائحة القصاص. و هناك فئات بلغ بها الأمر حتى إلى الاغتيالات و الاضطرابات في الشوارع. تعامل الإمام مع كل واحدة من هذه الحالات بطريقة مختلفة. و كان الأمر ممتداً إلى المستويات العليا من الحكم، فهناك رئيس الوزراء، و رئيس الجمهورية، بل و ارتفع المستوى بعد ذلك و في السنوات الأخيرة من عمر الإمام (رضوان الله عليه) إلى ما فوق رئيس الجمهورية. اصطدم الإمام مع الذين شعر أنه لا يمكن مداراتهم أكثر من هذا. و قد كان لهم جميعاً سوابق ثورية، و سوابق دينية، و كان الكثيرون منهم في مستويات عالية، لكن ما حدث حدث على كل حال.. حصلت هذه الانشقاقات. البعض اصطدم بالإمام حقاً. و البعض لا، كان لهم اختلافهم في وجهات النظر، لكنه اختلاف لم يؤدِ إلى شجار و نـزاع و انشقاق. البعض اصطدموا بالإمام و لم يأخذوا مداراة الإمام بنظر الاعتبار. أوصل الإمام لزمرة المنافقين الذين أرادوا أن يأتوا و يلتقوه رسالةً قال لهم فيها إنكم إذا عملتم بالحق فسوف آتي أَنا إليكم. لقد عمل و تحدث معهم الإمام بالمداراة إلى هذه الدرجة. و لكن حينما شعر بالخطر، خصوصاً حينما أصبحت القضية قضية ترسيخ المباني الخاطئة في جسد النظام و الثورة، فقد كان ذلك أشبه بالسمّ المهلك. عندئذ لم يعمل الإمام بالمداراة، و تصدي و حسم الأمور. هذا فيما يتعلق بتلك الاختلافات الجذرية.
و الذين لديهم اختلافات على المصالح، يضفون عليها أحياناً صبغة عقيدية و مبنائية. أيّ من الفريقين كان - سواء الذين لديهم اختلافات في المباني و العقيدة، أو من كانت اختلافاتهم بسبب المصالح - حينما يصل الأمر درجة الصدام بالنظام و الثورة و الإعراض عن مباني الثورة، فسيكتسب ذلك الفريق حالة العدو.
طبعاً، إذا كان للإنسان عقيدة مختلفة، و لم يكن له شأنه بالنظام فلن يكون للنظام شأن معه. البعض يشيعون عبارة: »أصحاب الفكر الآخر«.. كيف يتعامل النظام مع أصحاب الفكر الآخر؟ ليس للنظام شأنه مع أصحاب الفكر الآخر. يوجد كل هؤلاء من حملة الفكر الآخر. صاحب الفكر السياسي الآخر ليس أعلى من صاحب الفكر الديني الآخر. حسناً، لدينا الأقليات الدينية و هم أصحاب فكر آخر، و لديهم نوابهم في مجلس الشورى الإسلامي، و لهم حضورهم و مشاركتهم في المناصب المختلفة. إذن، القضية ليست قضية فكر آخر، إنما هي قضية معارضة و مخالفة و توجيه الضربات، و إشهار السيوف بوجه النظام و الثورة. هؤلاء هم من يتصدى لهم النظام. أما إذا كان الاختلاف اختلافاً في الأذواق و الأساليب فلا؛ هذه الاختلافات ليست مضرة، بل و نافعة أيضاً.
لا إشكال في أن يكون لمسؤولي البلاد و مدراء شؤونها من ينتقدهم و يؤشر لهم على نقاط ضعفهم. حينما يكون المرء في ساحة تنافس و يكون أمامه من ينتقده فسيعمل بصورة أفضل. وجود النقاد و الذين لا يوافقون هذا الأسلوب أو ذاك لا يضرّ النظام، و لكن يجب أن تتم هذه العملية ضمن إطار النظام؛ لا إشكال في هذا .. هذه المخالفة ليست مخالفةً مضرة على الإطلاق. و النظام لا يجابه مثل هذه المخالفة أبداً. طبعاً النقد يجب أن يتم ضمن إطار الأصول، و أصول الثورة معروفة. أصول الثورة ليست شؤوناً ذوقية حتى يخرج كل يوم شخص من هنا و هناك و يرفع راية الأصول و المبادئ، ثم حين ننظر في هذه الأصول نراها أجنبيةً على الثورة. أصول الثورة هي الإسلام، و الدستور، و توجيهات الإمام، و وصية الإمام، و السياسات العامة للنظام و المحددة في الدستور و التي يجب تدوينها. ليست اختلاف وجهات النظر، و اختلاف المسالك و الأذواق بالشيء المعيب ضمن هذا الإطار، بل هو شيء حسن، و ليس مضراً بل مفيداً و نافعاً. في ساحة مثل هذه الاختلافات لا يجابه النظام أي شخص. حينما يتصرف الأفراد داخل إطار الأصول و المبادئ و لا ينحازون إلى العنف و لا يفكرون في زعزعة أمن المجتمع و لا يريدون إفساد هدوء المجتمع - من قبيل هذه المخالفات التي تحدث كالكذب و الإشاعات - فليس للنظام أية مشكلة. هناك مخالفون و لديهم آراؤهم التي يعبّرون عنها و النظام لا يجابههم. يعمل النظام هنا على أساس أقصى حد من الاستقطاب و أدنى حد من الإقصاء. هذا هو منهج النظام، و على الجميع التنبّه لذلك. و الذين لديهم آراء معارضة و تصورات تختلف عن التصورات الرسمية بوسعهم مقارنة أنفسهم بهذا الإطار. إذا عارض شخص أسس النظام، و عارض أمن المجتمع، فالنظام مضطر للوقوف بوجهه.
إننا نقول عن الأشخاص الذين توجّه لهم إهانات و تهم إن لهم حق الدفاع عن أنفسهم. حسناً، النظام أيضاً له مثل هذا الحق.. للنظام أيضاً حق الدفاع عن نفسه. من الخطأ أن يتصور البعض أن النظام و لأنه يحكم و يمسك بالسلطة السياسية فيجب أن لا يدافع و يبقى بلا أي دفاع. و مهما وقعت ضده من المعارضات و المخالفات و خرق القوانين و تجاوز الحدود، يجب عليه أن يبقى بدون أية ردود أفعال. هذا غير صحيح. هذا شيء غير موجود في أي مكان من العالم. في الاختلافات المتعددة التي تقع بين الأحزاب في العالم - في هذه البلدان التي تعتبر نفسها رائدة الديمقراطية في العالم - لا يعمد أي من تلك الأحزاب المتعارضة المتنافسة إلى معارضة أصول ذلك النظام و ركائزه، و إلا سقطت تلك الأحزاب من أعين الجماهير. لديهم أجهزة مختصة بمراعاة دستور البلاد أو محكمة مختصة بالدستور - على غرار مجلس صيانة الدستور لدينا - سوف ترفض تلك الأحزاب. لا يوافقون أن يأتي شخص في نظام معين و يعمل ضد مباني ذلك النظام و يعارضها و يبقى النظام صامتاً قاعداً أمامه. و حتى في أقل من ذلك أحياناً يُلاحظ في هذه الأنظمة الأوربية أنها تتعامل بعنف و حدّة.. حتى بالنسبة لأمور لا تعدُّ من الأصول و الركائز. إذن، مواجهة النظام و ركائز النظام و الوقوف بوجهه و إشهار السيف بوجهه تستتبعه ردود حادة. و لكن أن يكون للمرء رأي آخر.. رأي مختلف.. إذا لم ترافقه هذه الإشكالات و إشكالات أخرى من قبيل توجيه التهم و بث الإشاعات و الأكاذيب، فإن النظام لن يردّ بأي شيء. لم يكن هذا أسلوب النظام و هو ليس أسلوبه اليوم أيضاً، و لن يكون هذا أسلوبه في المستقبل إن شاء الله. هذه نقطة.
النقطة الأخرى التي يجب على الناشطين السياسيين، و المسؤولين و رجال السلطة، و أصحاب المسؤوليات المختلفة و المتنفذين الحذر منها بشدة هي مسألة الانحراف و الفساد الشخصي. علينا جميعاً المراقبة و الحذر من ذلك. الإنسان معرض للفساد و الانحراف. الزلات الصغيرة تأخذ الإنسان أحياناً زلات أكبر و أكبر و قد تهوي به أحياناً إلى السقوط في أعماق الهاوية. ينبغي الحذر بشدة. لقد حذرنا القرآن. هذا التحذير موجود في القرآن بخصوص حالات متعددة. يقول في آية من الآيات: »ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله«،(15) عاقبة بعض هذه الأعمال هي أن يصل الإنسان إلى الموضع الأسوء ألا و هو تكذيب الآيات الإلهية. و يقول في آية أخرى: »فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه«،(16) أخلفوا الله ما وعدوه، و هذا ما جعل النفاق يتغلغل في قلوبهم. أي إن الإنسان يرتكب ذنباً فيجرّه هذا الذنب إلى مساحة النفاق. و النفاق هو الكفر الباطني. الكافرون و المنافقون في هذه الآية القرآنية إلى جانب بعضهم. و يقول عز و جل في آية أخرى: »إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا«.(17) حين ترون البعض ينهزمون أمام العدو و لا يطيقون القتال و الصمود فما هذا إلا بسبب شيء ارتكبوه سابقاً. لقد أفسدوا باطنهم بالخطايا. الزلات تفسد الإنسان. هذا الفساد يؤدي إلى الانحراف في العمل و أحياناً إلى الانحراف في العقيدة. و هو شيء يحصل تدريجياً، و لا يحصل دفعةً واحدة حتى نظن أن شخصاً ينام ليلته مؤمناً و يستيقظ في الصباح منافقاً. لا، يحصل الأمر تدريجياً و قليلاً قليلاً. و علاج هذه الحالة مراقبة الذات. و مراقبة الذات هي هذه التقوى. إذن، علاجها التقوى. لنراقب أنفسنا. أقرباء الشخص أيضاً يجب أن يراقبوا. لتراقب النساء أزواجهن، و الأزواج زوجاتهن. و الأصدقاء أصدقاءهم.. » و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر«،(18) لنراقب بعضنا حتى لا نبتلى. ليعظ أبناء الشعبُ المسؤولين، و ينصحوهم، و يطلبوا لهم الخير، و يكتبوا لهم، و يتحدثوا معهم، و يبعثوا لهم الرسائل حتى لا يزلوا. أخطار زلل المسؤولين أكبر على النظام، و على البلاد، و على الشعب. يشعر الإنسان بهذا أحياناً من بعض التصريحات، و بعض المبادرات و التحركات.. يشاهد الإنسان علامات مثل هذا الانحراف. ينبغي الاستعاذة بالله، و طلب العون منه.
النقطة الأخرى هي أن ذات الشيء الذي يمكن أن يحدث للشخص - و أعني به الفساد و الانحراف - قد يقع للنظام. النظام الحكومي الإسلامي السليم قد يصاب بنفس هذا الداء الذي قد يصيب الأشخاص. إنه داء يمكن أن يصيب النظام الإسلامي و الجمهورية الإسلامية. يبقى الاسم الجمهورية الإسلامية، و يبقى الظاهر ظاهراً إسلامياً، و الشكل شكلاً إسلامياً، بينما السيرة و السلوك و الأداء و البرامج غير إسلامية. إنها قضية صورة الثورة و سيرتها التي طرحتها على الطلبة الجامعيين الأعزاء في مكان ما خلال العام الماضي.
تحرك المجتمع و النظام على نحوين: تحرك إيجابي و تحرك سلبي. تحرك نحو العروج و الذرى، و تحرك نحو الهبوط و السقوط. التحرك نحو الذرى هو أن يقترب المجتمع من طلب العدالة، و من الدين، و السلوك الديني، و الأخلاق الدينية. و أن ينمو داخل أجواء الحرية، ينمو عملياً، و ينمو علمياً، و ينمو صناعياً. و أن يكون ثمة في المجتمع تواصٍ بالحق، و تواصٍ بالصبر. و أن يشعر المجتمع يوماً بعد يوم بمزيد من الاقتدار أمام أعداء الله، و أعداء الدين، و أعداء استقلال البلاد، و يقف وقفة اقتدار أقوى و أرسخ. أن يزيد من وقفته الصمودية أمام جبهة الظلم و الفساد الدولي باستمرار. هذا هو النمو. هذه دلائل التحرك الإيجابي للمجتمع. و هذا ما يعمِّر دنيا المجتمع و آخرته. علينا أن ننشد مثل هذا التحرك الإيجابي. أما النقطة المعاكسة لكل هذا فهو التحرك نحو الهبوط و السير نحو الفواصل الاقتصادية و الاجتماعية الهائلة بذرائع شتى بدل السير نحو العدالة. و استخدام الحرية من أجل الفساد، و الفحشاء، و إشاعة المعاصي و المخالفات و اللاأبالية بدل استخدامها من أجل النمو العلمي و العملي و الأخلاقي. و الانفعال و الشعور بالضعف و التراجع أمام المستكبرين و المعتدين و الناهبين الدوليين بدل إبداء الاقتدار حيالهم. التبسّم لهم حينما يجب التقطيب في وجوههم. و غضّ الطرف عن حقوق الذات حينما يجب الثبات و الإصرار عليها - سواء الحقوق النووية أو غير النووية - هذه علامات الانحطاط. يجب أن يكون تحرك المجتمع نحو التعالي و القيم و الرفعة و يجب أن يكون تحركاً إيجابياً. هذه التحركات نحو الأسفل هي تلك الأمراض التي قد يصاب النظام الإسلامي بها. و هذا خطر على النظام الإسلامي. على الجماهير أن يكونوا يقظين. الجمهورية الإسلامية لا تكون جمهورية إسلامية حقاً إلا حينما تتقدم نحو الأمام بنفس مباني الإمام الخميني الرصينة، و بنفس الأمور التي كانت مطروحة خلال فترة حياة الإمام المباركة، و بنفس الشعارات التي كانت تتابع حين ذاك. أينما تقدمنا إلى الإمام بتلك الشعارات - إنني أقول عن بصيرة و قد اختبرت أوضاع هذه الأعوام الثلاثين عن كثب - حققنا التقدم و كان النصر حليفنا. و كانت العزة في معسكرنا، و حصلنا حتى على المصالح الدنيوية. و أينما تراجعنا عن تلك الشعارات و تنازلنا عنها و فسحنا المجال للأعداء و أصابنا الضعف و تراجعنا إلى الوراء، لم نصب العزة، و تجرأ الأعداء علينا أكثر و تقدموا نحونا أكثر، و أصابنا الضرر حتى من الناحية المادية. من الخطأ أن يتصور البعض أن علاج مشكلات البلاد - سواء المشكلات الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية - هو أن يضع الإنسان سلاحه أمام العدو المستكبر. هذا ما يريده العدو المستكبر.
كل هذه الاضطرابات التي شاهدتموها بعد الانتخابات و التي خلقوها هم و دعموها، كانت من أجل أن يستطيعوا ربما ضرب الرصيد الشعبي للثورة و سلب الثورة هذا الرصيد. لقد قلتُ إن مؤشر ثقة الشعب بهذا النظام هو مشاركته بنحو أربعين مليون نسمة في الانتخابات. و مع ذلك تكرر الإذاعات الأجنبية و يجاريهم البعض في الداخل للأسف، و تصر على أن ثقة الشعب بالنظام قد سُلبت! هذا جواب ذلك الكلام. قلنا هناك إن تصويت خمسة و ثمانين بالمائة من الشعب و ما يعادل أربعين مليون، و مجيئهم عند صناديق الاقتراع مهما كان الشخص الذي يصوتون له، مجيئهم في حد ذاته عند صناديق الاقتراع دليل ثقة الشعب بالنظام - و هذه هي حقيقة القضية - و هم من أجل أن يُظهروا هذا الكلام على أنه كذب كرروا و كرروا في إعلامهم أن ثقة الشعب قد زالت، فماذا نفعل؟ و قال البعض بظاهر المخلصين: ماذا نفعل لإعادة الثقة؟ الشعب له ثقته بالنظام، و النظام أيضاً واثق من الشعب. و سترون إن شاء الله في الانتخابات المقبلة -التي ستقام بعد سنتين أو ثلاث - كيف سيُسجل نفس هذا الشعب مشاركته القوية في الانتخابات رغم هذه الألاعيب التي مارسها المعارضون و الأعداء و الغافلون الداخليون.
إذن النقطة هي أننا يجب علينا جميعاً لئلا يتحول نظام الجمهورية الإسلامية - و هو نظام إسلامي و ديني و يفخر بأنه يروم التحرك في إطار أحكام الدين و الإسلام و القرآن - إلى نظام لا يؤمن بالدين، أو نظام علماني على حد تعبير السادة.. باطنه علماني و ظاهره ديني. باطنه منجذب للثقافة الغربية و القوى المهيمنة على تلك الثقافة، و ظاهره لا يخلو من الشعائر الدينية و الشؤون الدينية البسيطة.. يجب أن لا يحدث هذا. النظام الإسلامي يجب أن يكون إسلامياً بالمعنى الواقي للكملة، و أن يقترب نحو المباني الإسلامية باستمرار. هذا ما يحلّ العقد المغلقة و يعالج المشكلات، و ما يمنح المجتمع العزة و الاقتدار، و يضاعف من أنصار الجمهورية الإسلامية في كل مكان.
البعض ينظرون إلى الأعداء و عداءهم فترتعد قلوبهم. يرتعبون حين يشاهدون الأفواه مفتوحةً من الغضب تسيئ للجمهورية الإسلامية و تتحدث ضدها. لكل الأنظمة في العالم و لكل الحكومات في العالم أعداؤها و أصدقاؤها. و كذا الحال اليوم و قد كان كذلك على مرّ التاريخ. لا يمكن أن تجدوا حكومة تكون علاقة جميع الناس في داخلها و خارجها طيبة معها أو سيئة معها. لا، لها مؤيدوها و لها معارضوها. هكذا كانت حكومة الرسول أيضاً. و كذا كانت حكومة الإمام أمير المؤمنين. و كذلك حكومة معاوية و يزيد. البعض يؤيدون و البعض يعارضون. و كذا الحال بالنسبة للجمهورية الإسلامية. البعض يؤيدونها و البعض يعارضونها. لكن القضية هي أن نرى من هم مؤيدو الحكومة و من هم معارضوها. هذا هو المؤشر.
ثمة حكومة يعارضها كل الناهبين الدوليين، و يخالفها كل العتاة و الجبابرة الدوليين. تعارضها جميع الدول ذات السوابق الاستعمارية السوداء. و يعارضها كل الرأسماليين الصهاينة الخبثاء. هذه المعارضات مبعث فخر لها، و يجب أن لا تخيف أحداً. و من هم أنصارها و مؤيدوها؟ الشعوب المؤمنة في كل أنحاء العالم تؤيدها.. الشعوب المسلمة غير الإيرانية في أفريقيا، و في بلدان أفريقيا الشمالية، في المناطق المسلمة من أفريقيا، و في آسيا حتى اندونيسيا، و ماليزيا، و في البلدان العربية، و غير العربية، و في أوربا، و بين الجماعات المسلمة و الشعوب المسلمة.. لها أصدقاؤها و مناصروها.
في مبارياة كرة القدم قبل عدة سنوات فاز الفريق الإيراني على الفريق المقابل. و كان الشباب جالسين في مقهى في أحد بلدان شمال أفريقيا، و حينما سجل اللاعب الإيراني هدفاً راحوا يصفقون. فقال لهم شخص: لكن هذا ليس بلدكم، و مالكم أنتم إذا هدّف اللاعب الإيراني في مرمى الفريق المقابل و هو بدوره ليس عدوكم. و كانوا يقولون له إن انتصار إيران انتصارنا.. حتى في ساحة كرة القدم.. هذا شيء له قيمته.
في اضطرابات ما بعد الانتخابات أصاب القلق المسلمين في مختلف البلدان الإسلامية. كانوا يسألون أصدقاءهم هنا: ماذا حلَّ بإيران؟ و كان هؤلاء يقولون لهم: لا تقلقوا و لا تخافوا.. الجمهورية الإسلامية أقوى من هذه الأشياء. مثل هذه الدولة و هؤلاء أعداؤها و هؤلاء أصدقاؤها. يعاديها كل الأشرار و أمثال شمر في العالم، و يؤيدها كل المظلومين في العالم.. يؤيدها الشعب الفلسطيني، و الشعوب العربية المقاومة. نعم، تعارضها الحكومة الأمريكية، و تعارضها الحكومة البريطانية بسوابق خبثها التي تمتد لمدة مائتي سنة في إيران. هذه المعارضات لا تخيف أحداً. و هنالك دولة على العكس من ذلك، أنصارها لصوص العالم و ناهبوه و مستكبروه و عتاته، و معارضوها هم شعبها أو الشعوب المؤمنة و المظلومة.. هذا عار عليها. الجمهورية الإسلامية كان لها لحد اليوم معارضوها من قبيل أولئك المعارضين: لصوص العالم، ناهبي العالم، مستكبري العالم.. هؤلاء هم الذين يعارضون الجمهورية الإسلامية.. هؤلاء هم الذين يحاولون مواجهة الجمهورية الإسلامية و معارضتها في المحافل العالمية؛ أما الشعوب، و المجاميع الشعبية، و الحكومات المستقلة، و رجال السياسة المتحررين من السلطات، و الشعوب المظلومة، فهؤلاء أنصار الجمهورية الإسلامية. يجب عدم إبداء وجهاً استسلامياً بسبب الخوف من مثل هذه المعارضات. على كل حال يجب على جيلنا الشاب أن يكون يقظاً.
أيها الشباب الأعزاء، هذا البلد بلدكم، و الغد لكم. النظام المقتدر - سواء الاقتدار العلمي، أو الاقتدار السياسي، أو الاقتدار الاقتصادي، أو الاقتدار المعلوماتي، أو القدرة على التحرك في المناطق و المساحات العالمية و الدولية المختلفة - مبعث عزة لكم.. مبعث فخر لكم، و ينبغي لكم السعي و الشعور بالمسؤولية في سبيل استكمال مثل هذا النظام و إتمام أشواطه.
الجمهورية الإسلامية التي أسسها الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) لنا و أهداها لبلادنا، بوسعها تأمين هذه الخصائص بالمعنى الحقيقي للكلمة: الاقتدار الدولي، و الاقتدار السياسي، و العزة، و رفاه الدنيا و عمارة الآخرة معنوياً. و لكن احذروا من أن يصنعوا لكم نظام جمهورية إسلامية مزيّف.. الشيء الذي جرت بعض التحركات في إطاره قبل عشرة أعوام، لكن الله تعالى دفع ذلك، و كان الشعب يقظاً و لم يسمح به. أرادوا فعل بعض الأشياء، و إيداع شعارات الإمام في المتاحف.. و كانوا يقولون صراحةً إنها قد بليت و صارت قديمة! لا، شعارات الثورة لا تبلى، فهي جديدة دوماً و جذابة و شيقة لأبناء الشعب دوماً. الشعار الذي يكون لصالح المستضعفين، و لصالح العزة الوطنية، و الشعار الذي تكون فيه مقاومة و صمود، هذه الشعارات لا تبلى أبداً بالنسبة لأي شعب من الشعوب، و هي لا تبلى بالنسبة لنظامنا أيضاً.
في الأسبوع القادم - الجمعة - هناك يوم القدس. هذه من أبرز ذكريات إمامنا العزيز، و مؤشر انشداد ثورتنا و شعبنا لقضية القدس الشريف و قضية فلسطين. استطعنا ببركة يوم القدس إحياء هذا الاسم في العالم كل سنة. الكثير من الحكومات و الكثير من السياسات كانت راغبة و قد سعت و انفقت الأموال من أجل نسيان قضية فلسطين. و لو لا مساعي الجمهورية الإسلامية و وقوفها بكل قواها لمواجهة هذه السياسة الخبيثة لما كان مستبعداً أن يستطيعوا عزل قضية فلسطين تدريجياً، و إنسائها أساساً. و الآن تعترف أجهزة الاستكبار نفسها و الصهاينة الخبثاء أنفسهم و يعتقدون و ينـزعجون من رفع الجمهورية الإسلامية لراية فلسطين و كونها لا تسمح بإخراج قضية فلسطين من الميدان عن طريق العمليات الاستسلامية التي يمارسونها. يوم القدس يوم إحياء هذه الذكرى و هذا الاسم. و السنة أيضاً سيُحيي شعبنا العظيم يوم القدس في طهران و في كل المدن بتوفيق و هدي من الله عزّ و جلّ، و سيخرج في مظاهراته. و في بلدان أخرى أيضاً يتبع الكثير من المسلمين الشعب الإيراني في يوم القدس. يوم القدس يوم لقضية القدس، و هو إلى ذلك مظهر وحدة الشعب الإيراني. احذروا من أن يحاول البعض في يوم القدس استخدام هذه التجمعات للتفرقة. ينبغي الخوف من التفرقة. يجب مواجهة التفرقة و معارضتها. يجب أن لا تحدث التفرقة. يستطيع الشعب الإيراني رفع راية القدس حينما يكون متلاحماً. حاولوا طوال هذه السنوات إفساد حتى هذا الشيء، لكنهم لم يستطيعوا و الحمد لله، و لن يستطيعوا بعد ذلك أيضاً إن شاء الله.
اللهم بمحمد و آل محمد، اجعل شعبنا متوثباً، يقظاً، قوياً، مقتدراً، و نشيطاً أكثر فأكثر على الدوام.
بسم الله الرحمن الرحيم
و العاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيرات صبحاً، فأثرن به نقعاً، فوسطن به جمعاً، إن الإنسان لربه لكنود، و إنه على ذلك لشهيد، و إنه لحب الخير لشديد، أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، و حصّل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير.(19)
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 3.
2- الكافي، ج 8، ص 22.
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم 200.
4- نهج البلاغة، الخطبة رقم 168.
5- نهج البلاغة، الخطبة رقم 55.
6- نهج البلاغة، الخطبة رقم 169
7- نهج البلاغة، الخطبة رقم 205.
8- نهج البلاغة، الخطبة رقم 92.
9- نهج البلاغة، الخطبة رقم 126.
10 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 216.
11- نهج البلاغة، الخطبة رقم 61.
12- مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 119.
13- بحار الأنوار، ج 42، ص 280.
14- سورة العصر، الآيات 1 - 3.
15- سورة الروم، الآية 10.
16- سورة التوبة، الآية 77.
17- سورة آل عمران، الآية 155.
18- سورة العصر، الآية 3.
19- سورة العاديات، الآيات 1 - 11.