بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين سيّما بقية الله في العالمين.
أقدم تعزياتي لجميع الحضور العزاء و للشعب الإيراني الكبير و لكافة الأحرار في العالم بمناسبة الرابع عشر من خرداد ذكرى المصاب الجلل برحيل أبي هذا الشعب الجليل. و أتمنى أن يوفقنا الله تعالى جميعاً لنستطيع عبر تكرار و أحياء ذكرى هذا الرجل الكبير في تاريخ الإسلام التزوّد لمسيرتنا و لمسيرة الشعب الإيراني و لمسيرة الأمة الإسلامية.
أذكر نقطةً حول مسار الإمام و طريقه رضوان الله عليه و أهدافه. و هي أننا حينما نريد تلخيص توصياته و شعاراته و مطالباته من الجماهير و من المسؤولين و من جميع المسلمين في العالم نلاحظ وجود رايتين مرفرفتين في يد الإمام. و الواقع أن إمامنا الجليل في نهضته العظيمة التي أطلقها في بلادنا و في العالم الإسلامي رفع رايتين خفّاقتين: إحدى الرايتين راية إحياء الإسلام و إنزال قدرته العظيمة اللامتناهية إلى الساحة. و الراية الثانية راية عزة إيران والإيرانيين و شموخهم. هاتان هما الرايتان العاليتان التان رفعهما إمامنا العظيم بيديه المقتدرتين. الراية الأولى التي تمثل في الحقيقة بُعداً من أبعاد دعوة الإمام و نهضته تتعلق بالأمة الإسلامية الكبرى. و الراية الثانية مع أنها تتعلق بالشعب الإيراني و بإيران و الإيرانيين، و لكن حيث إنها تجربة عملية للتحرك الإسلامي الحيوي فهي باعثة على الأمل و العمل لدى الأمة الإسلامية برمتها. لأن هذه النهضة الكبيرة في إيران كانت تجربة عملية لصحوة الإسلام و تحققه على أرض الواقع، لذلك مع أنها تتصل مباشرة بإيران و الإيرانيين، إلا أن نتيجتها تعود بالقيمة و الأهمية مرةً أخرى على الأمة الإسلامية. سأذكر نقاطاً قصيرة حول هذين البعدين.
في البعد الأول و هو رفع راية الإسلام فإن هذا المشروع جعل جميع المسلمين في كل أنحاء العالم يشعرون بالهوية و الشخصية. بعد أن جرت محاولات طوال سنوات مديدة لسحق الهوية الإسلامية و نسفها، جاءت هذه الثورة و انتصبت القامة الفارعة لإمامنا الكبير أمام أنظار المسلمين في العالم، فشعر الجميع أنهم اكتسبوا هوية و شخصية و أصالة. و هذا ما أدى إلى بروز علامات صحوة المسلمين في شرق العالم الإسلامي و غربه. استعاد الشعب الفلسطيني حياته بعد عشرات الأعوام من الإخفاق. و الشباب في البلدان العربية و بعد هزيمة حكوماتهم في ثلاثة حروب مع الكيان الصهيوني حيث اعتراهم اليأس و الخيبة، استعادوا معنوياتهم.. هذه أمور تتعلق بالعالم الإسلامي و لا تختص ببلادنا. الكيان الصهيوني، و هو غدة سرطانية في قلب البلدان الإسلامية، و قد ظهر حتى ذلك اليوم بمظهر القوة التي لا تقهر، و قد صدّق الكثيرون في العالم الإسلامي أن الكيان الصهيوني لا يقهر، تلقّى صفعةً من يد الشباب المسلمين، و انطلقت الانتفاضات الفلسطينية، و انهالت الضربات المتتالية على الكيان الغاصب، سواء في الانتفاضة الأولى أو في انتفاضة الأقصى، أو في هزيمة و تراجع ما قبل تسعة أعوام في لبنان، أو في حرب الثلاثة و ثلاثين يوماً، أو في العام الماضي في حرب الـ 22 يوماً مع أهالي غزة المظلومين.. كل هذه كانت ضربات نزلت بالكيان الصهيوني. هذا في حين كان الكيان الصهيوني - يوم انتصرت الثورة الإسلامية - من وجهة نظر الحكومات المسلمة و الشعوب المسلمة، و خصوصاً الشعوب العربية كياناً لا يُهزم. و قد أفضى هذا إلى أن يسارع الكيان الصهيوني لترك شعار «من النيل إلى الفرات» و نسيانه. بدأت الشعوب المسلمة - من أفريقيا إلى شرق آسيا - تفكر بتأسيس نظام إسلامي و حكومة إسلامية وفق صيغ و معادلات شتى، و ليس بالضرورة وفق معادلة نظام الجمهورية الإسلامية عندنا. لكنهم بدأوا يفكرون بسيادة الإسلام في بلادهم. و قد نجحت بعض البلدان، و البعض ينتظرهم مستقبل واعد من الحركات الإسلامية.
نزل المثقفون في العالم الإسلامي إلى الساحة بأمل جديد. الشعراء و الفنانون و الكتاب الذين كانوا يتحدثون بيأس و يشعرون بالهزيمة، تغيرت معنوياتهم بعد انتصار الثورة الإسلامية و عقب حركة الإمام الجليل العظيمة و صمود هذا الشعب، و تبدلت لهجة كلامهم و أشعارهم و كتاباتهم و اصطبغت بلون الأمل. و هذه حكاية طويلة على كل حال.
أقول هنا للشعوب المسلمة إنكم ترون اليوم أن لهجة العالم الغربي حيالكم قد لانت و هذا ثمرة الصحوة العامة و الصمود و المقاومة في العالم الإسلامي. وعد الله الذي لا يُخلف بنصر المؤمنين لا يتحقق إلا إذا صمد المؤمنون و أصرّوا و ضحوا. و بمقدار ما حصل هذا الصمود انقلبت الصفحة و خرج العالم الإسلامي عن حالة الذل و الهوان أمام الغرب.
في الماضي كان العالم المهيمن و العتاة المهيمنون يتخذون قراراتهم بشأن البلدان الإسلامية كيفما شاءوا. لم يكونوا حتى ليسألوا رأي الشعوب المسلمة أو الحكومات الإسلامية. كانوا يخططون للاستيلاء على نفطهم إذا كان لديهم نفط، و على أسواقهم إذا كان لديهم أسواق و يتخذون القرارات و كان يجب تنفيذ تلك القرارات. و لكن مع صحوة العالم الإسلامي تغيّر هذا الواقع إلى حدّ كبير. على المسلمين في شتى أرجاء العالم الإسلامي معرفة قدر هذه التجربة كتجربة موفقة و مغتنمة و تنظيم مسارهم على أساسها. ما يجعل الشعوب عزيزة شامخة هو صمودها.
لاحظوا اليوم أنه حتى هذه الحكومة الجديدة في أمريكا تحاول رسم صورة جديدة لحكومة الولايات المتحدة في أعين شعوب هذه المنطقة. طبعاً من حقهم أن يطلبوا هذا الشيء، لأن الحكومة الأمريكية السابقة خلقت وجهاً قبيحاً منفراً و عنيفاً لحكومة الولايات المتحدة لدى شعوب هذه المنطقة. شعوب منطقة الشرق الأوسط و المنطقة الإسلامية و شمال أفريقيا يكرهون أمريكا من أعماق قلوبهم، لأنهم وجدوا منها طوال سنين عنفاً و تدخلاً عسكرياً في منطقتهم، و هضماً للحقوق و تمييزاً و تدخلات عسفية، و شاهدوا ضياع حقوقهم على يد الحكومات الأمريكية المتعسّفة على مدى السنين الماضية، لذلك يكرهون أمريكا. و الآن تحاول الحكومة الأمريكية الجديدة تغيير هذه الوجه، أي تحاول رسم صورة جديدة لأمريكا في هذه المنطقة. كيف يمكن هذا؟ أقول بنحو حاسم: هذا لن يحصل بالكلام و الخطابات و الشعارات. لقد فعلوا أشياء أساءت بشدة لشعوب هذه المنطقة و أزعجتها. لقد وجهت لها ضربات. لا يمكن تبديد هذا الانزعاج و الاستياء و النفور العميق بالكلام و الخطابات و الشعارات. لا بد من عمل.
لقد تحدثت أمريكا عن الديمقراطية، و عن اعتبار أصوات الشعوب. لكنها تجاهلت أصوات الشعب في فلسطين حين انتخب حكومة معينة، و لم تعرها أية أهمية و لم تبال بها. ما النتيجة التي ستحصل في أذهان الشعوب من هذا؟ واضح جداً. بخصوص حقوق الشعب الفلسطيني، الشعب الذي طرد من دياره و من وطنه بطريقة عنيفة و ظالمة - و هذا شيء يعرفه الجميع و ليس تاريخاً غير معروف، إنما هو أمر يعود إلى ستين سنة حيث حرم الشعب الفلسطيني من حقوقه و تشرّد في بلدان مختلفة - لم تبال أمريكا إطلاقاً لحقوق هذا الشعب و لم تدعمه أبداً، و ليس هذا و حسب بل دعمت الكيان الغاصب مائة بالمائة، و إذا أراد الفلسطينيون المظلومون رفع أصوات الأعتراض اعتبروا هذا الاعتراض إخلالاً و ممارسات شريرة. كيف يمكن إصلاح هذه الأمور؟
ممارسات غمط أمريكا للحقوق في هذه المنطقة ليست واحدة أو اثنتين. بخصوص بلدنا و حول قضية الطاقة النووية - القضية المطروحة منذ سنوات - لاحظوا كم كتموا الحقيقة و كم تحدثوا بخلاف الواقع؟ كم كذبوا، و كم واجهوا إرادة الشعب و مبتغاه وهو حقه الطبيعي و المشروع الذي حصل عليه بنفسه و يريده. يقول شعبنا إننا نروم الحصول على الصناعة و التقنية النووية.. نريد استخدام الطاقة النووية في المجالات السلمية المختلفة للحياة، و هم يقولون إن الشعب الإيراني يريد الحصول على القنبلة النووية! لماذا يكذبون؟ لماذا يجعلون الشعب الإيراني يكرههم من الأعماق بهذا الكلام؟ هذا ما فعلوه في الأعوام الماضية. أعلن الشعب الإيراني و مسؤولوه مراراً إننا لا نروم السلاح النووي، فهذا الشيء غير موجود أساساً في سلسلة أحتياجاتنا العسكرية و نظامنا التسليحي. و لقد أعلنا أن استخدام السلاح النووي حرام و ممنوع في الإسلام، و امتلاكه يخلق خطراً كبيراً و مشكلة كبيرة و نحن لا نريده و لا نعمل للحصول عليه. حتى لو أعطونا المال و قالوا لنا أفعلوا هذا الشيء لرفض الشعب الإيراني و مسؤولوه القيام بمثل هذا العمل. و مع ذلك تلاحظون أن إعلام المعارضين و الغربيين طوال السنوات الماضية و من أجل تبرير كلامهم الباطل و طروحاتهم المزيفة كرّر دائماً أن إيران تروم الحصول على القنبلة الذرية بدل القول إنها تريد التوفر على الطاقة النووية السلمية! أليس هذا غمطاً للحقوق؟
طوال الأعوام الماضية عملت الحكومات الأمريكية - و خصوصاً رئيس الجمهورية الأمريكي الأبله السابق - و تحت طائلة محاربة الإرهاب لاحتلال بلدين إسلاميين هما العراق و أفغانستان. و تنظرون إلى أفغانستان فترون الطائرات الحربية الأمريكية تقصف الناس و تقتلهم مائة مائة أو مائة و خمسين مائة و خمسين، و ليس لمرة واحدة أو مرتين أو عشر مرات، بل قصفوا الناس و قتلوهم دائماً طوال السنوات الماضية. طيب، و ماذا يفعل الإرهابيون؟! هذا هو نفس الشيء الذي يفعله الإرهابيون مع فارق أن الإرهابيين يقتلون الناس شخصاً أو شخصين أو عشرة أشخاص، و أنتم تقتلونهم مائةً أو مائةً و خمسين كل مرة. أية مكافحة للإرهاب هذه؟ في العراق أسندوا العناصر البعثية الإرهابية - وفقاً لمعلومات أكيدة - و تماشوا معهم، و الحال أنهم رفعوا شعار مكافحة الإرهاب! هذا هو ما يجعل شعوب المنطقة تبغض أمريكا، و تسوِّد وجهها و تسقّطها. إذا أراد رئيس جمهورية أمريكا الجديد تغيير هذا الوجه عليه تغيير هذه الممارسات. و هذا لا يحصل بالخطابات و الشعارات و ما إلى ذلك. و الشعوب المسلمة تعلم أن صدق الساسة الأمريكيين يتبيّن حينما يبادروا إلى التغيير على المستوى العملي. و إلا إذا لم يغيّروا على المستوى العملي، حتى لو ألقوا مائة خطاب و حتى لو اسمعوا الأمة الإسلامية كلاماً معسولاً جميلاً فإن ذلك لن يؤثر. الصحوة الإسلامية هي الوجه الأول للحركة العظيمة التي أطلقها إمامنا الجليل.
الوجه الثاني يتعلق بعزة إيران و الإيرانيين. العمل الأول و الأهم الذي قام به إمامنا الجليل في هذا الوجه الثاني هو أنه انتزع من الشعب الإيراني شعوره بالهوان و الذل، و بدّد هذه المشاعر عن روحه. هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية. شعبنا منذ مائة و خمسين سنة أو مائة سنة كان يشعر بالذل و الهوان في داخله لعوامل عديدة. كان يشعر بالدونية و النقص. ابتداءً من حروب العهد القاجاري و تلك الهزائم الصعبة و فقدان مدن عديدة، إلى العهد البهلوي و زمن رضا خان و تلك الدكتاتورية و القمع الشديد للشعب الذي أحصی على الناس أنفاسهم. ثم الفترة التي تلت عهد البهلوي الأول، أي في زمن محمد رضا حيث تواجد الأمريكيين و تأسيس منظمة الأمن المعروفة باسم السافاك و سلوكها العنيف مع الناس.. لذلك شعر الناس أنهم لم يعد لديهم أية مقدرة و طاقة. شعر الشعب الإيراني بالهزيمة في عدة قضايا مهمة. ابتداءً من قضية الثورة الدستورية حيث هُزم الشعب الإيراني بعدما انتصر، و إلى قضية النهضة الوطنية التي قام فيها الشعب بتحرك جبّار إلا أن المتصدين و المسؤولين لم يستطيعوا الحفاظ على التحرك فهُزم الشعب. و بعد ذلك ابتدأت فترة استبداد عصيب منذ عام 33 إلى سنة 57 استولى على الجماهير طوال أربع و عشرين سنة، إلى درجة أنه لم يترك للشعب أية معنويات و أمل.
من جهة كان المثقفون التغريبيون الذين شارك الكثير منهم في العمل في أجهزة الحكومة الظالمة، قد أفهموا الناس من خلال كلامهم و من خلال أعمالهم بأنهم غير قادرين و غير كفوئين، و لا يستطيعون فعل أي شيء و لا بد لهم من التقليد. كانوا يقولون لهم: لا بد لكم من التقليد في العلم، و في الصناعة، و في الثقافة، و في الملابس و الأزياء، و في الطعام، و في التحدث و الكلام. بل بلغ بهم الأمر أن قالوا ذاك مرة: يجب تغيير الخط الفارسي! لاحظوا كم يجب أن يبتعد الشعب عن استقلاله و عزته حتى يتجرأ البعض على القول له إن يجب أن يغيّر خطه.
الخط الفارسي الذي كتب به تراثنا العلمي لمدة ألف سنة، قالوا يجب تغييره و استعارة خط الأوربيين و تقليده. لقد بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد. جاء الإمام و انتزع روح الهوان و الدونية هذه و بث في الشعب روح الثقة بالذات طوال خمسة عشر عاماً من نهضته حتى انتصار الثورة، و منذ انتصار الثورة إلى عشرة أعوام من عمره المبارك بنحو آخر: أنتم قادرون، و نحن قادرون، أنتم عظماء و مقتدرون.
هذه الثقة بالذات الوطنية أحد ركنين أساسيين لتقدم أي بلد. أحد الركنين الإمكانات المادية. بيد أن الإمكانات المادية لا تكفي. قد يكون للبلد إمكانات مادية كبيرة لكنه لا يبلغ النمو و الرقي و الرفعة، فلا يستطيع الشعب بلوغ مدارج العزة و الاقتدار. لقد كان لنا قبل الثورة نفس هذا النفط الذي لدينا الآن، و نفس الغاز، و نفس هذه المناجم الهائلة من الفلزات القيمة، و نفس هذه المواهب و الكوادر البشرية المتألقة، و مع ذلك كنا شعباً من الدرجة الثالثة، و مغموراً في العالم، و مهاناً من قبل القوى الكبرى، و خاضعاً لجور حكومة فاسدة عميلة مرتبطة بأعداء الشعب. إذن، الإمكانات المادية لا تكفي، بل لا بد من عناصر أخرى. عناصر معنوية. من أهم تلك العناصر الثقة بالذات و الاعتماد على النفس، و أن يؤمن الشعب أنه قادر. لقد أوصلنا إمام الإمة إلى هذا الإيمان و أننا قادرون على الوقوف و المقاومة و على تحرير بلدنا، و على تأسيس نظام الحكم الذي يريده و المحافظة عليه بكل اقتدار، و كذلك على التأثير في العالم و في السياسات الدولية، و هذا ما حصل فعلاً. هذه هي العزة الوطنية التي تحدثت عنها قبل مدة في سنندج لإخواننا الكُرد. العزة الوطنية مهمة جداً للبلد. و هذه العزة الوطنية ليست مجرد كلام، إنما لها ترجمتها العملية في كل مجالات حياتنا.
العزة الوطنية في إدارة البلاد معناها أن تعتمد الحكومة و النظام على شعبه و جماهيره.
العزة الوطنية في القضايا الاقتصادية تحصل حينما يصل البلد إلى الاكتفاء الذاتي و يكون قادراً إلى درجة أنه إذا احتاج شيئاً من العالم يأخذه، و يحتاج إليه العالم في الوقت نفسه فيأخذ منه ما يحتاج إليه. أي لا يكون البلد مغلوباً و مقهوراً.
العزة الوطنية في مجال العلم هي أن يحاول الشاب الجامعي و الباحث و العالم أن يخوض غمار العلم و يحطّم حدوده - الشيء الذي أسميناه النهضة الرقائقية (البرمجية) و إنتاج العلم - و أن ينتج العلم. الذين بلغوا بالعلم هذه المراتب كانوا بشراً إن لم نقل إنهم أقل منا من حيث معدل المواهب و الذكاء فهم ليسوا أكثر منا. لدينا قرون من الماضي العلمي المتألق في التاريخ، و يجب أن نستطيع اليوم أيضاً إنتاج العلم و إيجاده و اكتشافه فيكون لنا نصيبنا الوافر في الصرح العلمي في العالم.. هذه هي العزة.
عزة الشعب في السياسة و في تعاطيه مع البلدان الأخرى و الحكومات و القوى المختلفة تكمن في تمتعه باستقلال الرأي. على الحكومة و على النظام أن يظهر أمام القوى الأخرى بحيث لا تتمكن هذه القوى من فرض إرادتها عليه في أية قضية.
العزة الوطنية في المجال الثقافي هي أن يلتزم الشعب بتقاليده و يرى لها قيمة و لا يقلد الثقافات الأجنبية المهاجمة. و للأسف فقد غرق بلدنا قبل الثورة و طوال مائة عام أو يزيد أمام هذا الطوفان و هذه الأمواج المدمرة من الثقافة الغربية، و لا نزال نتحمل آثار ذلك، و لا نزال نعاني من التبعات إلى يومنا هذا. العزة الوطنية هي أن يحترم الشعب تقاليده و أعرافه، و يفخر بها، و لا يهتم للآخرين حين يقولون له إنك رجعي. تفعل بعض البلدان الأوربية اليوم أفعالاً لو عرضت على إنسان عاقل سويّ طبيعي لما بدر منه سوى الضحك و الاستهزاء. نقول: لماذا تفعلون هذا؟ يقولون: هي تقاليدنا! ملتزمون بتقاليدهم البالية القديمة. و إذا احترمت الشعوب الأخرى تقاليدها و التزمت بها يستهزءون بهم و يطعنون فيهم.. كلا، الانهزامية على الضد من العزة الوطنية. تتحقق العزة الوطنية حينما لا ينهزم الشعب إزاء ثقافة الآخرين. هذه هي العزة الوطنية، العزة الوطنية لها ترجمتها و معانيها و مصاديقها في مجالات الحياة.
و في أسلوب إدارة البلاد و التواصل مع الناس تتجلى العزة الوطنية في أن يحظى جميع أفراد المجتمع بالاحترام.. »إمّا أخ لكَ في الدين أو نظير لكَ في الخلق«.(1) إذا كان الشخص على نفس دينكم فهو جدير بالاحترام، و حتى لو لم يكن على نفس دينكم كان جديراً بالاحترام أيضاً. كل إنسان في المجتمع جدير بالاحترام و التكريم. هذه حالة تنتج العزة الوطنية. هذه هي الأبعاد المختلفة للعزة الوطنية التي أوصى بها الإمام و أشار إليها و شدّد عليها.
و قد تقدم النظام الإسلام في هذه الأعوام الثلاثين على أساس الثقة بالذات. طبعاً كانت هناك منعطفات و كبوات و نهوض، لكن المسيرة لم تتوقف و الشعب لم يتوقف. و قد انعكست عزة شعبنا اليوم في العالم. إنني لا أوافق كلام أولئك الذين يتصورون أن شعبنا أصيب بالهوان في العالم و سقط من الأعين نتيجة التزامه بمبادئه و أصوله، أبداً، لدينا أعداء، و أعداؤنا جبهة متحدة تتكون من قوى تدخّلية و تعسفية في العالم. حينما ترى هذه القوى بلداً يخرج من مدارها و فلكها - من بين البلدان التي يعتقد هؤلاء أنها أقمارهم التي يجب أن تبقى تدور في فلكهم - كبلد إيران الذي خرج عن مدارهم بالثورة الإسلامية يحاولون مجابهته و ضربه و قمعه و إذلاله و وسائل إعلامهم كثيرة. ليس معنى هذا إننا فقدنا عزتنا، كلا، في قرارة قلوب هؤلاء الذين يعادون الإسلام و الجمهورية الإسلامية ثمة احترام راسخ للإمام و الشعب الإيراني.
سبيل شعبنا الكبير الذي نشأ على كلمات الإمام و هديه، سبيله لبلوغ ذروة العلياء و التقدم هو أن يحافظ على عزته الوطنية في جميع المجالات. يمكن لهذا الشعب بلوغ ذروة العلياء. فالشعب إذا تمتع بالقوة و أحرز الرقي المادي و المعنوي فسوف يتحقق له الأمن الكامل أيضاً. أي إن هشاشته و ضعفه سوف يزولان و لن يعود الأعداء يطمعون فيه. إذا أراد شعبنا بلوغ الأمن التام، و إذا أراد أن لا يتجرأ الأعداء على تهديده فعليه السير في هذا الطريق. إذا كان يريد التقدم و العدالة فعليه السير في هذا الدرب. الخطر الكبير على بلادنا هو الانفصال عن الشعب، و الانفصال عن القيم الإسلامية، و الانفصال عن الخط المبارك للإمام الخميني. هذه أخطار على بلادنا. إذا تم الحفاظ على هذه الهيكلية المتينة التي أوجدتها الثورة فسوف يمكن ترميم الكثير من المشكلات هنا وهناك على مرّ الزمان. لا تسمحوا بتحطّم هذه الهيكلية المتينة، فإذا تحطّمت لن يعود بالإمكان معالجة أي جرح من الجراح، و لن يمكن ترميم أية زاوية خربة. الهيكلية المتينة للنظام الإسلامي و التي علمنا الإمام إياها يجب أن تُصان و تحفظ. إنني أشكر الله على أن استطاع الشعب الإيراني و مسؤولوه طوال هذه السنوات الثلاثين مواصلة هذا الطريق بمقدار استطاعتهم. طبعاً كان هناك اختلاف في الدرجات و بعض حالات الضعف و الشدة؛ في فترة ما كان الوضع أفضل، و في فترة أخرى بدرجات أقل، بيد أن الحركة هذه استمرت دائماً و إلى اليوم، و سوف تستمر حتى النصر النهائي بتوفيق من الله و بهمتكم أيها الشعب، و خصوصاً هممكم يا شباب هذا الشعب.
أذكر هنا عدة نقاط حول الانتخابات. القضية الحساسة المهمة و المصيرية في بلادنا هي الانتخابات في جميع الدورات، سواء انتخابات مجلس الشورى أو انتخابات مجلس الخبراء، و خصوصاً انتخابات رئاسة الجمهورية التي ستقام بعد أيام. أذكر عدة نقاط حول الانتخابات:
النقطة الأولى هي أن الإذاعات الأجنبية بدأت قبل شهرين أو ثلاثة من الآن تعمل على تشويه الانتخابات في بلادنا و النيل منها من أجل بث التشاؤم و سوء الظن بها لدى الشعب. يقولون أحياناً: هذه ليست انتخابات بل انتصابات. و يقولون حيناً آخر: هذه لعبة مُسيطر عليها داخل الدولة. و قالوا أيضاً: هؤلاء المرشحون يلعبون هم أنفسهم، و ما هذه الاختلافات في وجهات النظر إلا لعبة و تمثيل و رياء. و قالوا حيناً: سيحصل تزوير في الانتخابات بالتأكيد. قالوا شيئاً في كل حين. القصد من كل هذا التخريب شيء واحد هو أن لا يشارك الشعب في الانتخابات مشاركة قوية واضحة.. هذا ما يريدونه. و أقول لكم: يا أعزائي، أيها الشعب الإيراني العزيز، يا شعب إيران اليقظ الواعي.. أيها الشعب الذي خاض التجارب و الامتحانات بنجاح و اجتاز كل هذه المنعطفات طوال الأعوام الثلاثين الماضية.. اعلموا أنهم يعارضون ديمقراطيتكم. العدو يعارض مشاركتكم وإدلائكم بأصواتكم. يريدون سلب النظام سنده و دعمه و هو الجماهير و أصوات الجماهير. إنهم يفهمون ماذا يفعلون. الويل لمن يكررون عن جهل و غفلة نفس كلامهم و يحققون مقاصدهم في الداخل. إنهم يعملون على سلب الناس أملهم. الشعب الإيراني شامخ بأن استطاع طوال هذه الأعوام الثلاثين تعيين مسؤوليه بنفسه. المسؤولون رفيعو المستوى في النظام من أولهم إلى آخرهم منتخبون من قبل الشعب. القيادة أيضاً منتخبة من قبل الشعب بواسطة انتخابات الخبراء.. و رئيس الجمهورية، و مجلس الشورى الإسلامي، و المجالس المختلفة.. هذه من مفاخر النظام و يريدون سلب الشعب هذه المفاخر، لأنهم يعلمون أن النظام يتقوّى بهذه الأمور. أقول لكم: كل من يحب تقوية هذا النظام، و كل من يحب الإسلام، و كل من يحب الشعب الإيراني، فمن الواجب عليه عقلاً و شرعاً المشاركة في هذه الانتخابات.
النقطة الثانية حول الانتخابات هي: يا اعزائي، لكل واحد من المرشحين أنصاره و محبوه. محبّو هذا المرشح لا يستطيعون الاعتراض على محبّي ذلك المرشح و القول لهم: لماذا تحبّون المرشح الفلاني، و لا تحبّون المرشح الذي نحبه نحن. لا، هذه من مفاخر بلدنا. يأتي أشخاص متنوعون، بمناهج متنوعة، و سلائق مختلفة، و بأساليب عمل عديدة و يقفون أمام الشعب. البعض يفضلون هذا، و البعض يفضلون ذاك، و البعض يفضلون شخصاً ثالثاً.. هذه مفخرة و شيء جيد. لكل من المرشحين المحترمين أنصاره. البعض من هؤلاء الأنصار متعصبون و محبون متشددون لذلك المرشح. لا بأس، فليكونوا كذلك.. لا إشكال في ذلك.. و لكن ليحذروا و ليدققوا أن لا تؤدي عصبيتهم هذه إلى مماحكات و صدامات و اضطرابات. إنكم تبذلون الجهود لعقيدتكم و إيمانكم، فلا تسمحوا لعدو هذا الإيمان و هذا الهدف أن يستغلكم. لقد سمعت و اطلعت على أن بعض الشباب من أنصار المرشحين يخرجون إلى الشوارع - و لا أتحدث الآن حول هذا الخروج إلى الشوارع - لكنني أؤكد: حذار من أن تتحول هذه الجولات في الشوارع إلى مواجهات و سجالات و اشتباكات.. كونوا حذرين. إذا وجدتم شخصاً يصرّ على التوتر و الاشتباك اعلموا إنه إما خائن أو غافل جداً.
النقطة الثالثة حول الانتخابات هي أن على المرشحين المحترمين أيضاً الحذر و التدقيق. لا يرتاح الإنسان أن يرى مرشحاً يلوذ في خطاباته الإعلامية و في كلماته في التلفزيون أو في غير التلفزيون إلى إقصاء الآخر من أجل إثبات نفسه، و بأدلة شتى.. هذا في رأيي غير صحيح. و سبق أن قدمت توصيةً حول هذا الشأن، و أكرر الآن في هذه الأيام الأخيرة. المرشحون يعملون جميعهم لهدف واحد. كل واحد يشعر بالمسؤولية و الواجب حسب تصوره، فينـزل إلى الساحة. إنني لا أعارض المناظرات و المعارضات و الحوار و النقد، و لكن حاولوا أن يتم هذا داخل الأطر الشرعية و الدينية الصحيحة. الشعب شعب يقظ و يفهم و يعلم. هؤلاء الأشخاص الأربعة الذين تم تأييدهم من قبل مجلس صيانة الدستور، و يلقون خطاباتهم في التجمعات المختلفة، ليتنبّهوا هم أنفسهم و يراقبوا أن لا يتحدثوا في هذه الخطابات و التصريحات بشكل يفضي إلى إيجاد العداء و النقار.. ليتحركوا و يعملون بأخوة و عطف. طبعاً اختلاف الرأي و وجهات النظر و اختلاف الأذواق في القضايا المختلفة و في المسائل الشخصية و في المسائل العامة أمر طبيعي، و لا إشكال فيه. لا تدعوا هذه الحالة تؤدي إلى الاضطرابات و التوتر. على المرشحين المحترمين أنفسهم التنبّه لهذه القضية.
النقطة الرابعة هي أنني لا أمتلك في هذه الانتخابات سوى صوت واحد. و يبدو لي أن أحداً لا يعرف لمن سوف أمنح صوتي.. و قد يخمِّن البعض لمن أصوّت. أنا لا أقول هذا لأحد .. لم أقل و لن أقول لمن صوّتوا و لمن لا تصوتوا. صوتي شأن يرتبط بي و هو للشعب. ما أريده من الشعب هو أن يحضر الجميع بكل قواهم و بكل قدراتهم و حيويتهم عند صناديق الاقتراع في يوم الثاني و العشرين من خرداد و يصوتوا. الله تعالى مع الشعب الذي يفكر و يتخذ قراره و ينتخب و يعمل بانتخابه في سبيل الله.
اللهم أنزل بركاتك و رحمتك على هذا الشعب. اللهم احشر الروح الطاهرة لإمامنا الجليل مع أوليائك. اللهم احشر روحي نجلي الإمام الجليل الذين رحلا عن الدنيا شابين و التحقا به مع الإمام العزيز و مع أوليائهم. اللهم احشر شهداءنا الأبرار الذين يرقد الكثير منهم بجوار هذا المرقد الشريف، و جميع شهداء الإسلام مع أوليائك.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
الهوامش:
1 - نهج البلاغة، الرسالة 53.