بسم الله الرحمن الرحيم

كانت جلسة جد محببة و طيبة و جيدة. أولاً جلسة القرآن بحد ذاتها - خصوصاً بهذه الألحان الجميلة و الأصوات الحسنة - جلسة رائقة للفؤاد. ثانياً أن نبدأ شهر رمضان المبارك بهذه الجلسة المباركة. نتمنى أن يجعلنا الله تعالى و إياكم من أهل القرآن، و تكون حياتنا حياةً قرآنية إن شاء الله، و يكون مماتنا أيضاً مماتاً طيباً أوصى به القرآن.
أولاً لقد شهد الأنس بالقرآن و تلاوة القرآن في البلاد نمواً جيداً جداً. هذه التلاوات التي استمعنا لها هنا - و أنا أشكر جميع الإخوة الأعزاء الذين تلوا القرآن هنا و كذلك المبرمجين للجلسة و التلاوات - هي من التلاوات الجيدة جداً. البعض منها بحق ترتقي إلى حدود الضوابط و القواعد المثالية، سواء من حيث الأداء، أو من حيث اللحن، أو من حيث التجويد، أو من حيث ملاحظة المضامين و المفاهيم و تنظيم الأداء بما يتناسب و المضامين و المفاهيم. لقد تقدم شبابنا إلى الأمام و الحمد لله تقدماً جيداً في هذه المناحي. هذه ظاهرة جيدة. و قد قيل مراراً إن هذه الجلسات و هذا التشجيع على التلاوات الجيدة مقدمة لجعل مجتمعنا يأنس بالقرآن الكريم، و يتخلص من البعد عن القرآن الذي ابتلي بلدنا و شعبنا به لسنوات طويلة، و لكي يقترب مجتمعنا من القرآن.. هذا شيء آخذ بالحصول تدريجياً. طبعاً لا تزال المسافة طويلة جداً إلى أن يستئنس شعبنا كله، و شبابنا كلهم، و جميع رجالنا و نسائنا بالقرآن، و إذا حصل الأنس بالقرآن عندئذ سيفسح المجال أمام الإنسان بأن يستفتي القرآن و يطلب كلام القرآن في الميادين الحياتية المختلفة و يستمع إليه. هذا ما يمكن أن يحصل في ظل الأنس بالقرآن. و إلا فليس بإمكان أيٍّ كان أن يفتح القرآن من دون أي استئناس به أو سابقة معرفة به، و يجد فيه بالضرورة ما يصبو إليه، لا، في كثير من الأوقات لا يمدّ القرآن يده، و لا يستطيع القلب التقرب إلى المفاهيم و المعاني القرآنية. لكن إذا كان الأنس بالقرآن أمكن الانتفاع منه. إذن، هذه مقدمات للأنس بالقرآن.
إنني حسب الدارج أقدم بعض التوصيات لقرّائنا الأعزاء. و توصية أخرى أروم ذكرها هذه السنة هي أن هذه الألحان و الأطوار الجيدة تحبب القرآن في الأسماع و القلوب و تزيده نفوذاً و تأثيراً. و لكن يمكن أداء هذه الألحان المتنوعة بهذه الأصوات الحسنة على شكلين: أحدهما ان يقرأ الإنسان فقط.. هذا شكل. لدينا بين القراء المصريين المعروفين - و هم كبار القراء - من هو على هذه الشاكلة. هذه مجرد قراءة.. و هي قراءة جيدة و بصوت حسن.. و الألحان و الإيقاع جيد. و الشكل الآخر هو أن يقرأوا القرآن - بهذه الأصوات و الألحان و الأنغام - بحيث يبعث على خشوع القلوب و تذكيرها بالله: (و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).(1) قراءة تقرب الإنسان إلى حالة الخشوع و التضرع. هذا شكل آخر. هناك من بين القراء المعروفين من هم من هذا النمط. قراءتهم قراءة خاشعة. يجب مراعاة ذلك، خصوصاً من قبلكم أنتم الشباب أصحاب الأصوات الحسنة و الحمد لله و التمكّن الجيد من القراءة، و أشعر أنكم على معرفة بمعاني و مفاهيم الآيات التي تقرؤنها. لم يكن الأمر هكذا من قبل. لم يكن كذلك في العقد الأول من الثورة. كانت الأصوات جيدة لكنهم لم يكونوا يهتمون غالباً للمعاني و المفاهيم. و الحمد لله نجد اليوم أن هذا التقدم قد حصل لدى الشباب. هذه ظاهرة جيدة. و لكن راعوا هذا الجانب أيضاً و خذوه بنظر الاعتبار في ضوابط تلاوتكم حتى يحصل الخشوع. إذا حصل الخشوع حيال الآيات عندئذ يتأثر القلب بالهداية القرآنية. ترون بعض القلوب لا تتأثر مهما قُرئ عليها من آيات القرآن و الهداية القرآنية. و البعض على العكس: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يُرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء).(2) يجب أن نطلب من الله تعالى أن يجعل قلوبنا من القلوب التي تتأثر و تستلهم الدروس حيال الهداية القرآنية و أصابع التأشير القرآني.
نقرأ الآيات باستمرار و نكررها، و نذكرها لبعضنا، أنتم تذكرونها لي، و أنا أذكرها لكم.. إذن يجب و الحال هذه أن تتأثر قلوبنا بهذه المفاهيم. لنفترض مثلاً قوله تعالى: (و اعتصموا بحبل الله جميعاً)،(3) هذه تعليمة قرآنية بالتالي، و قد كررناها دائماً و نقرؤها باستمرار. حينما تنزل هذه الآية الكريمة على قلوبنا كإلهام إلهي - إذا اجتذبها القلب و هضمها و أخذها و صار على شكلها، و أنصب القلب و انصبت الروح في قالبها - عندئذ ستكون قضية الوحدة قضية أساسية بالنسبة لنا، فلا نفسد الوحدات الوطنية العظيمة لأغراض و مقاصد شخصية. لاحظوا أن الآية تترك أثرها هنا. إذا نزلت آيات القرآن على قلب الإنسان بحيث اجتذبها القلب و فهمها و تشكّل بشكلها، عندها حينما يقال لنا: (و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)(4) سيكون قبول هذا المفهوم يسيراً علينا. المؤمنون أشداء على الكفار، و ليس معنى الشدة أن يسحق الإنسان العدو و يقمعه بالكامل، لا، أحياناً تقتضي الحال القمع، و أحياناً لا تقتضي القمع. و لكن ينبغي على كل حال أن يكون الإنسان شديداً صلباً أمام الأعداء يجب أن لا تكون سواتركم أمام الأعداء هشة حتى لا يستطيعوا النفوذ و التغلغل و التأثير. هذا هو حال المؤمنين أمام الأعداء. و في المقابل (رحماء بينهم).. يجب أن نكون رحماء و عطوفين فيما بيننا.. ينبغي أن نتحلى بالمرونة في التعامل مع بعضنا. هذا هو أمر القرآن على كل حال، فلماذا لا نعمل به؟ أين هي المشكلة؟ المشكلة تكمن هنا. إذا جعلنا قلوبنا أوعية تستضيف شآبيب رحمة القرآن و أمطار هدايته.. إذا سلّمنا القلوب للقرآن، كانت تلك الأمور سهلة علينا. عندئذ لن تؤدي المقاصد الشخصية، و الأغراض الشخصية، و المصالح المادية، و طلب السلطة، و حب المال، و الصداقات الخاصة إلى أن ينسى الإنسان هذه التوصية القرآنية و الهداية القرآنية، و يفقدها، و يتركها وراء ظهره.
فتح المصحف أمامنا، و الاستماع لآيات القرآن، و قراءتها، يجب أن تأخذ بأيدينا إلى هذه المستويات درجةً درجةً.. هذه هي الحال الصحيحة التي يجب أن نحققها. و هذه هي خصوصية القرآن الكريم هذا الكتاب السماوي. ليس القرآن كباقي الكتب العادية يقرؤها الإنسان مرةً واحدةً ثم يسدها و يتركها، لا، إنه كماء الشرب.. كماء الحياة.. يحتاجه الإنسان دائماً. تأثيره تدريجي و يستغرق زمناً و لا نهاية له.. لا نهاية لهداية القرآن. كلما تعلمتم من القرآن أكثر كلما انفتحت أمامكم أبواب، و انفتحت عقد، و اتضحت مجهولات، هكذا هو القرآن. لذلك ينبغي قراءة القرآن دوماً. و الوسيلة لذلك هو أن يكون لنا أُنسنا بالقرآن. ليقرأ شبابنا القرآن بأصوات حسنة و ألحان جيدة و يراعوا فيه الجوانب المختلفة، و كما ألمحت، ليجعلوا الخشوع من العناصر البناءة في التلاوة.
ربنا أحينا بالقرآن و أمتنا بالقرآن و أحشرنا مع القرآن. ربنا أجعل قلوبنا مستقبِلة للهداية و المعرفة القرآنية، و اجعلنا من أهل التوحيد. اللهم بحق محمد و آل محمد اجعل شهر رمضان هذا مباركاً على شعبنا و على الأمة الإسلامية. اللهم زد يوماً بعد يوم من انتشار القرآن و شياعه و تداوله بين الأمة الإسلامية. اللهم اشمل الماضين منا برحمتك و مغفرتك.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الهوامش:
1 - سورة الأنفال، الآية 2.
2 - سورة الأنعام، الآية 125.
3 - سورة آل عمران، الآية 103.
4 - سورة الفتح، الآية 29.