بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً أبارك هذه الأعياد الكبری المتتابعة التي يعد كل واحد منها بحق شمساً مشرقة و نوراً باهراً علی قلوب الشيعة، ميلاد الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه الصلاة و السلام) و ميلاد الإمام السجاد (عليه الصلاة و السلام) و ولادة سيدنا أبي الفضل العباس (عليه الصلاة و السلام). بوركت عليكم جميعاً هذه الأعياد إن شاء الله. و البركة هي أولاً في أن تكون قلوبكم مسرورة إن شاء الله، و أرواحكم متمتعة بالاستقرار و السكينة الإلهية، و كل كيانكم زاخراً بالثقة بالله و التوكل عليه تعالی. إذا كانت هذه الأحوال كان العيد مباركاً عليكم بركة تامة. لنحاول أن نحقق لأنفسنا هذه الأحوال. لنجعل قلوبنا مبتهجة و أرواحنا حافلة بالسكينة الإلهية، و كياننا طافحاً بالثقة بالله أكثر فأكثر.
إننا نثق بكلمة دارجة عادية من شخص لم نر منه سوءاً. إذا أردنا منه قرضاً، أو كانت لدينا عنده حاجة، و وعدنا بأن ينجز لنا هذه الحاجة، عادة ما نثق به و نتحرك لنهيّئ مقدمات المسألة، و الحال أنه ليس أكثر من إنسان، و قد يتندم أو قد يأتي من يغير رأيه علينا، أو قد ينسی، أو قد يفقد الإمكانية التي أراد بواسطتها إنجاز الحاجة لنا. هناك عشرة احتمالات أو عشرات الاحتمالات التي قد تفسد وعده هذا، و مع ذلك نثق به. حسناً، كم وعد الله تعالی المؤمنين بالنصر و الهداية و التعليم: «و اتقوا الله و يعلمكم الله» (1). وعد بالحفظ و الصيانة و وعد بالمساعدة في أمور الدنيا. كل هذه الوعود وعدنا الله تعالی إياها. طبعاً هذه الوعود ليست مطلقة. بل لها شروطها و شروطها ليست صعبة جداً، إنما بوسعنا توفيرها. و الدليل علی ذلك إننا متی ما عملنا بهذه الشروط ساعدنا الله تعالی. و مثال ذلك الحرب المفروضة. أنتم الشباب الذين لم تدركوا عهد الحرب المفروضة اعلموا أنه يوم بدأت الحرب المفروضة قال جميع المختصين و المحللين و النخبة علی نحو القطع إن صداماً هو المنتصر في هذه الحرب و إيران سوف تهزم. باستثناء عدد قليل من أصحاب النظرة الإسلامية و الإيمانية - نظرة الإمام للأحداث - كان في قلوبهم أمل يزيد أو ينقص. البعض كان في قلوبهم بصيص من أمل و البعض كانت قلوبهم مشعة بالأمل.
لقد رويت هذه الخاطرة مراراً: في اليوم الثالث أو الرابع للحرب كنا مجتمعين كلنا في غرفة هيئة أركان الحرب، و كنت موجوداً أيضاً و كان مسؤولو البلاد و رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء - رئيس الجمهورية في حينها كان بني صدر، و رئيس الوزراء المرحوم رجائي - و عدد من نواب المجلس و سواهم كنا مجتمعين كلنا هناك نناقش الأمور و نتشاور. و كانت هناك الشخصيات العسكرية. جاء أحد العسكريين إلی جانبي و قال: الأصدقاء في الغرفة الأخری لديهم شأن خصوصي معك. فنهضت و ذهبت إليهم. كان هناك المرحوم فكوري و المرحوم فلاحي - هؤلاء الذين أتذكرهم - و شخصان أو ثلاثة آخرون. جلسنا و قلت لهم: ما شأنكم؟ قالوا: أنظر يا سيدي - و أخرجوا ورقة لا أزال أحتفظ بها لحد الآن بين أوراق مذكراتي و فيها خط أولئك الإخوة الأعزاء - هذه طائراتنا، مثلاً أف 5، و أف 4، و سي 130، و كذا و كذا من أنواع طائرات النقل و القتال. كتبوا سبعة أو ثمانية أنواع. و كتبوا: من هذا النوع من الطائرات لدينا مثلاً عشر طائرات جاهزة للعمل و ستكون جاهزة إلی اليوم الفلاني. و فيها قطع غيار تحتاج إلی تبديل سريع - في الطائرات قطع غيار تتبدل مع كل رحلة جوية أو كل رحلتين - و كانوا يقولون إننا لا نمتلك هذه القطع. لذلك سينتهي مفعول هذا النوع من الطائرات بعد خمسة أو عشرة أيام و تعود كأنها غير موجودة و كأننا لا نمتلكها. و بعد إثني عشر يوماً سينتهي ذلك النوع من الطائرات. و بعد أربعة عشر يوماً ينتهي النوع الفلاني من الطائرات. و معظمها كان من نوع سي 130 الموجودة لحد الآن و التي قالوا عنها إنها ستعمل حوالي ثلاثين أو واحد و ثلاثين يوماً. أي إن الجمهورية الإسلامية لن يكون لديها بعد واحد و ثلاثين يوماً أية طائرة عسكرية سواء طائرة عسكرية مقاتلة أو طائرة إسناد و نقل عسكري. سينتهي كل شيء. قالوا: يا سيدي، هذا هو وضعنا الحربي، فاذهب و انقل هذا للإمام. و لا أخفي عليكم أنني شعرت بالخوف قليلاً و قلت: عجيب ماذا نفعل إن لم تكن لدينا طائرات؟ إنهم يأتون إلينا دائماً بالطائرات الروسية. طياروهم لم تكن لديهم شجاعة و مهارة طيارينا، لكن حجم العمل كبير. كانوا يأتون باستمرار و كانت لديهم أنواع الميغ.
قلت لهم حسناً. أخذت الورقة و ذهبت بها إلی الإمام في جماران. قلت له: سيدي هؤلاء السادة هم قادة جيشنا و كل ما لدی العسكريين هو في أيديهم، و هذا ما يقولونه، يقولون إن طائراتنا الحربية تعمل إلی خمسة عشر أو ستة عشر يوماً علی الأكثر، و آخر ما سيتبقی لنا من الطائرات هي طائرات سي 130 و طائرات النقل التي لن تعمل لأكثر من ثلاثين أو واحد و ثلاثين يوماً. و بعد ذلك لن تكون لدينا طائرات علی الإطلاق. نظر لي الإمام و قال - أروي هنا قوله بالمضمون و لا أتذكر عبارته حرفياً، ربما كتبت عباراته حرفياً في مكان ما - قال: ما هذا الكلام؟ قل لهم ليحاربوا، و الله سوف يمدّهم و يصلح الأمور، لن تحدث مشكلة.
لم يكن كلام الإمام مقنعاً بالنسبة لي من الناحية المنطقية. فالإمام ليس متخصصاً في الطائرات. لكنني كنت مؤمناً بأحقية الإمام و نور قلبه و حماية الله له، و أدري أن الله تعالی أراد هذا الرجل العظيم لأمر عظيم و سوف لن يتركه. كنت مؤمناً بهذا. لذلك اطمأن قلبي و عدت للسادة - في نفس اليوم أو في اليوم التالي لا أتذكر - و قلت لهم إن الإمام يقول صلّحوا هذا الموجود ما استطعتم و أعدّوه و بادروا للعمل.
نفس تلك الطائرات من طراز أف 5، و أف 4، و أف 14، و تلك التي كان المتوقع أن تعطل تماماً بعد خمسة أو ستة أيام لا تزال تعمل لحد الآن في قوتنا الجوية. مضت تسع و عشرون سنة علی عام 59 و لا تزال تلك الطائرات تعمل. طبعاً تضررت بعضها في الحرب أو سقطت أو أصيبت، و خرجت بعضها عن حيز الاستعمال. و لكن كان مقابل هذا التساقط نماء و تجددّ فقد استطاع مهندسونا في الأجهزة المختصة صناعة قطع الغيار اللازمة و ملأ الفراغات و استيراد بعض القطع بطرق معينة علی الرغم من الحظر المفروض و علی الرغم من أنوف الذين فرضوه، و إبقاء الطائرات تعمل. أضف إلی ذلك أنهم تعلموا منها و استطاعوا صناعة نوعين من الطائرات الحربية. و تعلمون الآن أنه يوجد في قوتنا الجوية نوعان من الطائرات الحربية - هي طبعاً ليست عين طائراتنا السابقة لكن المهندسين استفادوا من تلك علی كل حال. فالمهندس بطبيعة الحال ينظر للأعمال و يكتسب التجارب و يصمم بنفسه - طائرات بغرفتين للتعليم و طائرة بغرفة واحدة مقاتلة. مضافاً إلی أننا لا نزال نمتلك تلك التي كانت لدينا.
هذا هو التوكل علی الله. و هذا هو صدق الوعد الإلهي. حينما يقول الله تعالی بتأكيد مكرر و متعدد الجوانب:‌ «و لينصرن الله من ينصره»(2) فإن الله تعالی سينصر و يعين بلا شك و بلا ترديد و بشكل حتمي و يقيني الذين يعينون دينه. حينما يقول الله هذا و أنا و أنتم نعلم أننا ننصر دين الله إذن لنطمئن أن الله سوف يمنّ بنصره.
و قد شاهدنا النصر الإلهي و العون الإلهي بعد الحرب أيضاً عشرات المرات.. و إذا حسبنا الحالات التفصيلية الصغيرة ربما كان العدد أكثر من هذا بكثير و لأمكن القول آلاف المرات، و لكن يمكن حساب الحالات الكبيرة فقط. و من هذه الحالات عودة أسری الحرب. كان لنا عند العراق نحو خمسين ألف أسير.. خمسين ألفاً. و العراق أيضاً كان لديه أقل من هذا العدد بقليل من الأسری عندنا. لكن الفرق هو أن أسری العراق عندنا كانوا كلهم عسكريين أما الأسری الذين كانوا لنا عند العراق فالكثير منهم غير عسكريين. أخذوا الناس من البوادي و أسروهم. حينما انتهت الحرب بدی لي أن استعادة هؤلاء الأسری من صدام قد يطول ثلاثين عاماً.. ثلاثين عاماً. لأننا علی علم بتبادل الأسری في الحروب المعروفة. في الحرب العالمية، و في حرب اليابان، بعد مرور ثلاثين سنة لا يزال أحد الأطراف يدعي أن لدينا عند الطرف الآخر عدد من الأسری، و يقول الطرف الآخر ليس لدينا مثل هؤلاء الأسری. و تستمر المفاوضات و المساومات و الاجتماعات إلی يصلوا إلی نتيجة. يجب عقد مئات المؤتمرات و الاجتماعات لنثبت أنه لا يزال هناك هذا العدد من الأسری. و بشكل بطئ جداً. هكذا كان صدام بالتالي. إنسان سيئ المراس و سيئ الأخلاق و خبيث و مؤذٍ و كلما شعر بالقوة فسوف يستعرض هذه القوة بالتأكيد. هكذا صنف من البشر كان. طبيعة صدام كانت طبيعة جد دنيئة و منحطة. الأشخاص المنحطون الدنيؤن متی ما شعروا بالاقتدار ينتفخون إلی درجة أنه لا يمكن إقامة أي تعامل أو تبادل معهم، أبداً، و حينما يشعرون بالضعف و يقفون أمام طرف أقوی منهم يتذللون أكثر من النملة. لاحظتم كيف راح صدام يتوسل بالأمريكان. قبل أن يهجم الأمريكان علی العراق - في هذه المرة الأخيرة - كان يتوسل أن تعالوا لنتفاهم و نتصالح و نتحد كلنا ضد الجمهورية الإسلامية. إلا أن حظه كان عاثراً و لم يعد الأمريكان يرغبون فيه.
كنت أقول إن إطلاق سراح الأسری سيطول ثلاثين سنة. لكن الله تعالی مهّد الأمور، و حصل هجوم ذلك الأحمق علی الكويت، و إذا أراد أن يحارب الكويت - طبعاً حربه مع الكويت كانت بهدف احتلال الكويت بالكامل - فلا بد أن يطمئن باله من جانب إيران، و هذا غير ممكن مع وجود الأسری. في البداية كتب رسالة إلی رئيس الجمهورية في حينها، و لي بنحو من الأنحاء، و لأنه لم يتلقّ جواباً وافياً من هذا الجانب، بدأ هو بإطلاق الأسری و الذين يتذكرون يتذكرون. فجأة سمعنا أن الأسری يتوافدون علی الحدود جماعات جماعات إلی أن انتهی الأمر. كان هذا من فعل الله و من نصره. و هكذا القضايا الأخری من هذا القبيل و إلی اليوم.
أنتم إخوة و أخوات أعزاء سواء الذين يخدمون في الحماية أو في المنظومة الإدارية هنا، أو عوائلهم و زوجاتهم و أبناؤهم.. أنتم تخدمون حقاً في موضع حساس. إذا أردت أن أوصيكم توصية فهي أن تزيدوا من بصيرتكم.. البصيرة. البلايا التي تنزل بالشعوب إنما هي في العديد من الحالات بسبب انعدام البصيرة. الأخطاء التي يرتكبها البعض - ترون في مجتمعنا أن بعض العامة أحياناً، و النخبة في كثير من الأحيان، يقعون في أخطاء. المتوقع من النخبة أن تكون أخطاؤهم قليلة و أحياناً إذا لم تكن أخطاؤهم أكثر كمّاً فهي أكثر كيفاً من أخطاء عامة الناس - هي نتيجة انعدام البصيرة. الكثير منها و لا أقول كلها.
ارفعوا مستوی بصيرتكم و مستوی وعيكم. كثيراً ما ذكرت عبارة الإمام أمير المؤمنين التي أظن أنه قالها في حرب صفين: «ألا و لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر و الصبر» (3). تعلمون أن صعوبة راية أمير المؤمنين أكبر من راية الرسول من بعض النواحي. ففي راية الرسول كان العدو معلوماً و الصديق معلوماً. أما تحت راية أمير المؤمنين فلم يكن العدو و الصديق معلومين كما ينبغي. العدو يتكلم بنفس الكلام الذي يتكلم به الصديق. نفس صلاة الجماعة التي تقام في معسكر أمير المؤمنين تقام في المعسكر المقابل أيضاً.. في حرب الجمل و صفين و النهروان. فماذا كنتم ستفعلون لو كنتم هناك؟ يقولون لكم: الطرف الآخر علی باطل. و تقولون: فما هذه الصلاة و العبادة إذن؟ البعض منهم كالخوارج كانت عبادتهم شديدة جداً. انتهز أمير المؤمنين ظلام الليل و اجتاز بمعسكر الخوارج فرأی رجلاً يقرأ بصوت جميل: «أمّن هو قانت آناء الليل» (4) كان يتلو هذه الآية القرآنية في منتصف الليل بصوت جد دافئ و مؤثر. و كان إلی جانب أمير المؤمنين أحد أصحابه فقال له: يا أمير المؤمنين طوبی لهذا الذي يتلو الآية القرآنية بهذا الصوت الحسن. ليتني كنت شعرة في جسده، لأنه سيدخل الجنة، و لا شك أنني سأدخل الجنة معه و ببركته. مضت هذه و بدأت معركة النهروان. و بعد أن هزم الأعداء و قتلوا جاء أمير المؤمنين عند أجساد قتلی العدو فكان يجتاز بها و يأمر بأن يقلبوا بعض الجثث الملقاة علی وجوهها فكانوا يقلبونها و كان الإمام يتكلم معهم. كانوا ميّتين لكنه أراد لأصحابه أن يسمعوا. أمر بأن يقلب أحدهم فقلب و قال الإمام لصاحبه الذي كان معه تلك الليلة: هل تعرف هذا؟ قال صاحبه: لا. فقال الإمام: هذا هو من تمنّيت أن تكون شعرة في جسده و كان في تلك الليلة يتلو القرآن بتلك النبرة الحزينة المؤثرة، و هنا يقف مقابل القرآن الناطق أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلين) و يشهر السيف في وجهه. لأن البصيرة معدومة.. البصيرة معدومة، لذلك لا يستطيع أن يفهم الأوضاع.
كثيراً ما شبّهتُ هذه الجبهات السياسية و المسارح السياسية بجبهات الحرب. في الحرب النظامية إذا لم تتوفر لديكم هندسة الأرض فمن المحتمل وقوع أخطاء كبری. و لذلك تذهبون للاستطلاع. من الأعمال المهمة في العمل العسكري هو الاستطلاع. الاسطلاع عن قرب حيث يذهبون و ينظرون طبيعة الأرض، و أين هو العدو، و ما هو وضعه، و أين هو مواضعه، و ما هي موانعه و سواتره ليفهموا ما الذي ينبغي عليهم فعله. إذا لم يقم الطرف بهذا الاستطلاع و لم يعرف الميدان و أضاع العدو فقد يجد فجأة أنه يلقي قذائفه و مدفعيته باتجاه يتموضع فيه أصدقاؤه و ليس أعداؤه. لأنه لا يعلم الواقع. و كذا الحال بالنسبة للساحة السياسية تماماً. إذا لم تتوفر لديكم البصيرة و لم تعرفوا العدو قد ترون فجأة أن نيران مدفعية إعلامكم و حواراتكم و ممارساتكم متجهة نحو من هم أصدقاؤكم و ليس أعداؤكم. علی الإنسان معرفة العدو فلا يخطئ في تشخيص العدو. إذن البصيرة ضرورية و التبيين ضروري.
التبيين من الأعمال المهمة للنخبة و الخواص. ليوضحوا الحقائق من دون عصبيات و من دون أن تسيطر الانتماءات الفئوية علی قلب القائل. هذه الأحوال مضرة. ينبغي ترك الانتماءات و التيارات جانباً و إدراك الحقيقة كما هي. في حرب صفين كان من الممارسات المهمة لسيدنا عمار بن ياسر تبيين الحقيقة. لأن التيار المقابل و هو تيار معاوية كان له صنوف الإعلام و الدعاية. و هو ما يسمونه اليوم الحرب النفسية. هذه ليست من الاختراعات الجديدة إنما اختلفت الأساليب، و قد كانت منذ البداية. و قد كانوا ماهرين جداً في هذه الحرب النفسية. ينظر الإنسان في أعمالهم فيری أنهم كانوا ماهرين في الحرب النفسية. و تخريب الأذهان أسهل من بنائها. حينما يقال لكم شيء و يعتريكم سوء الظن بشيء معين فإن ولوج سوء الظن إلی الذهن سهل و محوه من الذهن صعب. لذلك كانوا يبثون الشبهات و ينشرون سوء الظن و كان عملهم سهلاً. و الشخص الذي وجد في هذا الطرف أن من واجبه الوقوف بوجه هذه الحرب النفسية و مقاومتها هو سيدنا عمار بن ياسر الذي ورد في أحداث حرب صفين أنه كان يتنقل علی الفرس هنا و هناك في أطراف المعسكر و صفوف الجنود و يتحدث للمجاميع - الكتائب أو الألوية حسب التعبير الدارج اليوم - بمقدار معين. كان يوضح لهم الحقائق و يؤثر فيهم. في موضع ما كان يری نشوب خلاف و أن البعض اعتراهم الشك و حصل بينهم نقاش و جدل فكان يوصل نفسه إليهم بسرعة و يتحدث لهم و يبين و يفتح هذه العقد.
إذن البصيرة مهمة. و دور النخبة و الخواص هو أن يوجدوا هذه البصيرة لا في أنفسهم فحسب بل لدی الآخرين أيضاً. و يری الإنسان أحياناً للأسف أن بعض النخبة مبتلون هم أنفسهم بانعدام البصيرة فلا يكادون يفهمون أو يلتفتون. يطلقون فجأة كلاماً لصالح العدو، لصالح الجبهة التي تكرس كل همّها للقضاء علی الجمهورية الإسلامية. هناك النخبة و الخواص و هم ليسوا أفراداً سيئين و ليست نواياهم سيئة لكنهم هكذا علی كل حال.. إنه انعدام البصيرة. أنتم الشباب خصوصاً عالجوا انعدام البصيرة هذا بقراءة الأعمال الجيدة بتأمل، و بالحوار مع الأشخاص الموثوقين الناضجين و ليس بالحوارات التقليدية - حيث تقبلون كل ما قاله، لا، ليس هذا ما أريده - هناك أشخاص بوسعهم إقناع الآخرين بالأدلة و تنوير أذهانهم و إقناعهم. حتی الإمام الحسين (عليه السلام) استخدم هذه الوسائل في بداية نهضته و علی امتدادها. و لأن الأيام أيام الإمام الحسين (عليه السلام) أقول هذه الكلمة:
ينبغي أن لا نعرف الإمام الحسين من خلال معركة يوم عاشوراء فقط. ذلك جانب من جهاد الإمام الحسين. ينبغي معرفته من خلال تبييناته و أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر و إيضاحه للقضايا و الأمور في منی و عرفات و خطابه للعلماء و للنخبة - للإمام الحسين كلمات عجيبة و مهمة مسجلة في الكتب - ثم في الطريق إلی كربلاء و في ساحة كربلاء نفسها. في ساحة كربلاء نفسها كان عليه السلام صاحب تبيين و تنوير فكان يذهب و يتحدث. مع أنها ساحة حرب و المتوقع إراقة الدماء لكنه عليه السلام كان ينتهز أية فرصة للتحدث مع الطرف المقابل عسی أن يستطيع إيقاظهم. البعض من النيام استيقظوا طبعاً، و البعض كانوا يتظاهرون بالنوم و لم يستيقظوا حتی النهاية. الذين يتظاهرون بالنوم من الصعب إيقاظهم، و أحياناً من المستحيل إيقاظهم.
بوركت عليكم جميعاً هذه الأعياد السعيدة إن شاء الله، و وفقكم الله تعالی جميعاً، نساءكم و رجالكم، شيبكم و شبانكم لقلوب مبتهجة و أرواح متفائلة و كيان ملؤه السكينة و الاستقرار و الثقة و الحركة نحو الهدف.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الهوامش:
1) سورة البقرة، الآية 282.
2) سورة الحج، الآية 40.
3) نهج البلاغة، الخطبة 173.
4) سورة الزمر، الآية 9.