بسم الله الرحمن الرحيم
أرحب بكم جيمعاً أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء و أشكركم لما تحملتم من متاعب و جئتم إلى هنا من مدينة قم المقدسة حيث عطرتم أجواء حسينيتنا بأنفاسكم الحمیمة النابعة من الإيمان و من مودتکم. أسأل الله تعالى أن يشمل شهداءنا الأبرار و روّاد يوم التاسع عشر من شهر دي - و هؤلاء هم السابقون و الأوّلون في هذا الطريق - بعنايته و مغفرته الخاصة.
يوم التاسع عشر من شهر دي نقطة مشرقة، ليس في تاريخ مدينة قم فحسب، بل في تاريخ بلدنا و تاريخ الثورة. في هذا اليوم لبّى شباب قم، و رجالها و نساؤها، و طلاب العلوم الدينية و غيرهم، بكل إيمان و بسالة ما كان يقتضيه العصر. المهم هو أن يستطيع كل شعب أو شخص أو منظمة تلبية ما يقتضيه العصر. طبعاً لم يكن يوم التاسع عشر من شهر دي أول حدث یبدي فیه أبناء مدينة قم هذا الوعي و اليقظة و البسالة، فمدينة قم هي قاعدة لنشر الأفكار النيّرة لأهل البيت عليهم السلام منذ ألف و مائتي عام. في الوقت الذي كانت الحكومات معارضة لأهل البيت، حافظ أبناء مدينة قم على هذا الموقف، و إذا كانت هناك صعوبات، فهؤلاء هم من تحمل أعباءها. مدينة قم تمثل مركزاً و مهداً فكرياً و علمياً في العالم الإسلامي منذ سبعين عاماً. فهذه المدينة تحوّلت إلى مركز علمي رئيس في العالم الإسلامي و عالم التشيع منذ أن حلّ فيها المرحوم آية الله الحائري سنة 1340 هـ.ق و بلغت ذروتها في عهد المرحوم آية الله البروجردي، و كانت ثمرة تلك المراحل ظهور شخصية عظيمة و فريدة كإمامنا العظيم. فمدينة قم تتمتع بهذا الماضي المشرق حيث لبّت دائماً ما يتطلبه العصر. و من هذا القبيل يوم التاسع عشر من شهر دي.
مشكلة الشعوب و الأشخاص الذين يخضعون لضغوط العصر و يُقهرون أمام أحداث زمانهم، هي أنهم لا يعرفون زمانهم و ما يجري حولهم، كما لا يدركون ما يتطلبه العصر و إن أدركوا، فليس لديهم الشجاعة للتعبير عن ذلك. لذلك يقهرهم الزمان و العناصر المعارضة و المعاندة.
لو لم يثر أهالي قم في التاسع عشر من شهر دي عام 1356 هـ. ش و لم يصنعوا تلك الأحداث العظيمة المتوالية لكان من المحتمل أن تتخذ الأحداث مساراً و منحى آخر، لكنهم تميّزوا بالإبداع فتظافروا جميعاً في هذه الحركة رجالاً و نساءاً، و شيوخاً و شباباً و من علماء الدين و غيرهم؛ و إن وقع العبء الأعظم على عاتق الشباب، فلأن صفاء الفطرة و عدم التعلق بالماديات هي التي تسوق الشباب للنزول إلى وسط ساحة التكليف بكل يسر. لقد عبّر كافة أبناء الشعب الإيراني عن تلك الروح أثناء مرحلة الثورة، و إن تقدم البعض و تأخر آخرون فإن مدينة قم كانت في الطليعة. فكانت النتيجة أن خرج ذلك الحصن المستعصي - الحكومة الإيرانية - التي كانت في قبضة أعداء الشعب الإيراني و الناهبين و السلطويين و القراصنة الدوليين، خرج من قبضتهم على أيدي أبناء الشعب.
ربما يفتح البعض قلعة، لكنهم سرعان ما يفقدونها، و قد يكون من بين الحاضرین هنا الكثير ممن شاركوا في الحرب المفروضة و لاحظوا أن المرء يستولي أحياناً على حصن أو منطقة أو مدينة أو قرية، لكنه يصاب بالغفلة عند حراسته لها، أي إنه يتحلى بالحافز في المرحلة الأولى، ثم يفقده فيما بعد، فإن العدو يهاجمه ثانية - و كما يصطلح عليه العسكريون، الهجوم المضاد - و يسترد ما كان أخذه منه بمشقة و إيثار و تحفّز و إيمان. همّ الشعب الإيراني حتى الآن هو إجهاض الهجمات المضادة التي شنّها الأعداء في کل مکان. و لا يعني ذلك أن العدو قد كفّ عن هجماته المضادة، بل إنه يروم دوماً توجيه ضرباته لنا.
فمن هو العدو؟ إنه كل من يناهض سيادة النظام الجماهيري الديني المستقل، أي كل الطامعين و الناهبين و الانتهازيين و مكتنزي الثروات و السلطويين و العملاء و مروّجي الفساد و الذين يشعرون بالضرر الشخصي من سيادة الثقافة الدينية. طبعاً في مقدمة هؤلاء الأجانب الذين لحقتهم الهزيمة أكثر من غيرهم. أمريكا هي التي لحقها الضرر أكثر من غيرها من إقامة الحكومة الإسلامية و لم تزل كذلك - هؤلاء في مقدمة الجميع - و هكذا هو الحال بالنسبة للصهاينة و الشركات العالمية الضخمة، و المنحرفين في المجالات المختلفة و من يكتنزون الثروات الوطنية. هؤلاء هم الأعداء جميعاً.
مراتب العداء تختلف عن بعضها، لكن هناك جبهة معادية ظهرت. إن هذه الجبهة حاولت منذ انطلاق الثورة استرداد هذه القلعة. الهدف هو أن تتحول الحكومة الجماهيرية الدينية القائمة على الإيمان و الجماهير و حبهم و إرادتهم - القائمة في إيران حالياً - إلى حكومة عميلة احتكارية يسهل على أمريكا أن تفاوض معها، فتمنحها امتيازاً شخصياً و تسلبها امتيازاً. لكنهم یعجزون الآن عن هذا.
من أين تأتي الغفلة إلى تلك السرية، و الكتيبة أو الفرقة في ساحة الحرب بعد ما يفتحون قلعة أو حصناً منيعاً؟ هناك عدة عناصر تساعد على ظهور هذه الغفلة. العامل الأول هو فقدان الدافع و ضعف الحوافز و الغيرة و ضعف الإيمان و الاتحاد و الشجاعة. إن هذه العوامل تروّج و تشاع من قبل الأعداء لإثارة حالة من الانفعال بين الجبهة الجماهيرية العظيمة في الثورة و النظام الإسلامي. إنهم يعلمون أن الحرب العسكرية لا تعالج معضلة إيران، لأنها تزيد من وحدة الشعب، لذا يدخلون من طريق آخر. هذا هو السبب في تأكيدي و تركيزي على قضية الثقافة و الأجواء الثقافية للبلاد، و سبق أن تطرقت لهذه القضية أمامكم يا أبناء قم الأعزاء أثناء زيارتي لمدينتكم قبل بضعة أشهر، و أتطرق إليها الآن، لأن هذا هو أساس القضية. فإذا ما تلوثت البيئة، فإن الجميع يشعرون بهذا الخطر و يطلقون تحذيراتهم - فيقال على سبيل المثال: لقد ازداد معدل التلوث في أجواء طهران أو المدينة الفلانية - طبعاً هذه العناصر الملوّثة لها خطورتها و عملية التنفس في هذه الأجواء ستؤدي إلى إصابة الناس بأمراض في الرئة و الدم و الأعصاب، فكل ذلك صحيح، لكن كيف الحال مع البيئة الثقافية؟ أو ليس للبيئة الثقافية أهميتها؟ أو ليس من الخطورة بمكان أن ينمو الشاب المسلم وسط أجواء مليئة بعناصر الإثارة التي تدفع نحو الشهوة و الفساد و تشجع على البطالة و اللامبالاة و الإدمان على المخدرات و مختلف أنواع الإنحراف و تشجيع التبعية للأجانب سياسياً و ثقافياً و يستنشق الناس هذه الأمور في الأجواء الثقافية للبلاد؟
أية حالة أفضل للعدو - و هو الجبهة التي ذكرتها، أياً كانت - من أن يصل الأمر بأبناء المجتمع الإسلامي و الشباب إلى أن يقولوا: لماذا عليهم أن يعارضوا الأجانب الذين ينهبون ثروات إيران؟! فليأتوا و يقيموا الحكومة بأنفسهم و يأخذوا بزمام إدارة الأمور و ليأخذوا ما يحلو لهم من ثروات، لكن عليهم أن يتفضلوا علينا بما يسد جوعنا؟ كما كان الوضع قبل انتصار الثورة الإسلامية. طبعاً لم تكن هناك هذه الحالة الأخيرة نعطيهم و ليأكلوا كي لا يبقوا جائعين. كلّا، لقد كان الجوع و الفقر و عدم التمكن و فقر الدم العم لدى الجماهير يلوح بالأفق. هل هناك خطر أكبر من أن يروّجوا هذه الفكرة بين الجماهير و يجعلوا منها ثقافة و قناعة؟!
لقد أيقظ الإسلام شعبنا و شبابنا. فأثبت أولاً أن الشعب إذا ما أراد الوقوف على قدميه و إصلاح شؤونه، فإنه يستطيع، ثانياً وعي الناس و فهمهم بأن الذين يحتكمون في مصير البلد، معزولون عن الجماهير. فهذا ما لمسه الشعب و لاحظوه. الذي يريد أن يحكم، يجب أن يستند على الجماهير أو يستند على الأجانب أو يستند على عسفه و ممارسة ضغطه. هؤلاء لم يكونوا مستندين على الشعب بل كانوا مستندين على الدعم الأجنبي، لقد دعمهم الأجنبي حتی یلجأوا إلی القوة و السيف. فجاء النظام الإسلامي ليسحب البساط من تحت أقدامهم. فاليوم يعتمد النظام الإسلامي و الحكومة الإسلامية على الشعب و علی الأسس الإسلامية بالمعنی الحقيقي للكلمة. نحن لا ندعي تنفيذ الأحكام الإسلامية، كلّا، هناك الكثير من الأحكام الإسلامية لم تطبّق بعد. لكن من الذي يستطيع تطبيقها؟ إنه الإنسان المؤمن بالإسلام و المعتمد على الشعب. لذا فإن هذا التحرك هو التحرك الصحيح.
إن العدو يسعى من خلال إعلامه لبث السموم في الأجواء السياسية للبلد. الحكومة الأمريكية تجلس اليوم بسهولة مع أكثر الحكومات في العالم رجعية و فساداً للحوار فيما بينها، دون وجود أي شكوى بينهم - من قبيل الحكومة البهلوية الفاسدة السابقة و الحكومات الأخرى في الوقت الراهن - لكن هؤلاء أنفسهم يتهمون الشعب و الحكومة الإيرانية - و هي السباقة من بين دول المنطقة و العام إلى الاعتماد على أصوات الشعب - بنقض موازين الديمقراطية! فما هي الديمقراطية؟ هل تعني الديمقراطية الاستناد إلى أصوات الشعب؟ كلّا، لقد أثبتت الانتخابات الأمريكية الأخيرة عکس ذلك. في حین أن إيران تعيش الديمقراطية الحقيقية. على مدى السنوات الإحدى و العشرين أو الاثنين و العشرين التي تلت انتصار الثورة الإسلامية شهدت البلاد - كمعدل متوسط - عملية انتخابات واحدة في كل سنة، و كان لأبناء الشعب مشاركتهم في جميع أمور البلد. و في الوقت ذاته يتهمون إيران بنقض حقوق الإنسان! في حین تحدث اليوم أفظع حالات نقض حقوق الإنسان في العالم على أيدي هذه القوى الاستكبارية العالمية و أذنابها و حلفائها دون أن يمنعهم وازع عن ارتكاب نقض حقوق الإنسان في أمورهم التي تحدث لهم! فما هو هدفهم من توجيه التهم و الإساءة إلينا؟ الهدف هو بث السموم في الأجواء الفكرية و الثقافية و السياسية في البلد لكي يتلوث كل من يتنفس في هذه الأجواء عقلياً و فكرياً.
ما يقع اليوم على عاتق كافة أبناء الشعب - و بالدرجة الأولى على عاتق المسؤولين و نواب المجلس و العلماء و الخطباء و كبار المسؤولين الحكوميين - هو أن يعرفوا بأن النظام الإسلامي كما واجه في بداية ظهوره ألدّ الأعداء و أكثرهم وحشية، لا يزال يواجه نفس أولئك الأعداء. و على مسؤولي البلد سواء الحكومة أو السلطة القضائية أو نواب المجلس - أن لا يصدر عنهم قول أو فعل يستشف منه الرغبة في هذا العدو الغادر، عليهم أن ينتبهوا. لا يجب أن يتفوه مسؤول - سواء أكان في القطاع الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي، أو في السلطة التشريعية أو في السلطة القضائية - أو يتخذ موقفاً و يقوم بعمل يصب في صالح العدو. فالعدو متيقظ، فعليكم أيضاً التحلي باليقظة.
على أبناء الشعب أن يراقبوا سلوك المسؤولين و رجال الدولة و النخبة و الذين يمكنهم التأثير في المجتمع. فمن الخطأ أن نتصور أننا سلّمنا المسؤولية بأيدي أشخاص و هؤلاء هم المسؤولون، و علينا أن ننشغل بأمورنا و حياتنا و لا شأن لنا بهم. كلّا، فإذا ما حدث ذلك فعندئذ ستضرر الشعب، و لو وقعت الغفلة فستتغلب الأحداث.
إن العمل المناسب و الصحيح هو تلبية ما يتطلبه العصر. ما يقتضيه عصرنا اليوم بالدرجة الأولى هو الوعي و اليقظة و الحفاظ على روح الإقدام و القدرة على المبادرة في الحالات التي هي بحاجة إلى المبادرة. على المسؤولين أن لا يخافوا من القيام بالأعمال الكبيرة التي هي ضرورية للبلاد. فبوسعهم إنجاز هذه الأعمال الضخمة و ذلك بدعم من الشعب و إسناد الرأي العام و العلاقات القائمة بين الشعب و المسؤولين.
حيثما اقترنت هذه الجرأة مع الإيمان، فسوف نتقدم إلى الأمام. هكذا كان الوضع في المؤسسات الثورية. فالمؤسسات الثورية أفلحت في إنجاز أعمال جيدة في أي ساحة دخلتها و ذلك نتيجة ما تمتعت به من ثقة بالنفس و جرأة على المبادرة و التوكل على الله سبحانه و بالإعتماد على قدراتها الذاتية. القوى المؤمنة التي أبدت براعة فائقة في ميادين الدفاع المقدس - سواء حرس الثورة الإسلامية أو قوى الجيش المؤمنة أو قوات التعبئة الشعبية - أنجزت أعمالاً أشبه بالمعجزة. و هذا هو الحال بالنسبة لجهاد البناء. طبعاً تم دمج وزارة جهاد البناء مع وزارة الزراعة، لكن من المتوقع أن تمثل هذه الوزراة الجديدة - التي تسمى بوزراة الجهاد الزراعي - نفس تلك الخصال البناءة الراسخة، و الاعتماد على القدرات الذاتية - و من المسلم به ترحيب العناصر المؤمنة الملتزمة في وزارة الزراعة سابقاً بذلك - و تلك التي شكلت جهاد البناء لتتمكن من معالجة مشاكل القطاع الزراعي و القرى و المشاكل التي تعاني منها الصناعات الجانبية في القرى و كذلك معالجة مشكلة الهجرة. إن ما يمكنه حل العقد في كافة القطاعات - سواء الاقتصادية أو الثقافية - هو وجود العناصر التي تتحلى بالإيمان، و العزم و الثقة بالنفس و التوكل على الله و إيمان بالشعب على رأس الأمور و الأعمال. فهؤلاء بإمكانهم أيضاً حل المشكلات التي یعاني منها القطاع الاقتصادي. و أينما بقيت مشكلة لنا، فذلك ناجم عن ضعف الثقة بالنفس و التوكل على الله و محبة الشعب. فعلى المسؤولين سواء في مجلس الشورى أو الحكومة - أن لا يسمحوا بأن تضعف هذه الاعتقادات في القطاعات الثقافية و الاقتصادية.
أعزائي! يا أهالي قم الشجعان الواعين! و يا شباب قم الرائدين! أقول لكم: إن زمام الأمور قد خرج اليوم من أيدي القوى الكبرى بالرغم من مساعيهم الدؤوبة ضد الإسلام و ضد الصحوة الإسلامية - سواء في آسيا أو أفريقيا - فتيار الصحوة الإسلامية هذا يشهد اتساعاً مطّرداً يوماً بعد یوم و لا يمكن لهؤلاء فعل أي شيء، و قد حدث ذلك ببركة ثورتكم و نهضتكم البطولية الإيمانية الباسلة، و الانتفاضة الفلسطينية تمثل نموذجاً لذلك حيث خرجت زمام الأمور من أيدي القوى الكبرى. فالشعب الفلسطيني المحاصر في شوارعه و مدنه يواجه أكثر الأعداء همجية. كل جندي هناك بمثابة العدو للمواطن الفلسطيني. فليس الجندي هناك منهم كي يمكن لهم معالجة المشكلة بالعواطف و المودة أو تبادل الورود، بل الجندي نفسه عدو لكل شاب فلسطيني منتفض. مثل هذا الشعب الذي يعيش أجواء الکبت و یعاني من المشاكل الاقتصادية المتنوعة و يقدم الخسائر و الشهداء لم يزل صامداً و لم يتراجع، فعلى أي شيء یدل ذلك؟ إنه يثبت بأن زمام الأمور قد خرج من أيدي القوى المتغطرسة الكبرى.
أنتم أيها الشعب الإيراني العزيز محور هذا التحرك العالمي العظيم. هؤلاء ينظرون إليكم و يقلدون أقوالكم و شعاراتكم و أعمالكم و يتعلمون منكم. فعليكم ملازمة التوكل على الله و اليقظة و الشجاعة و القدرة على المبادرة، كما عليكم المحافظة على اليقظة و عدم الغفلة - التي يتميز بها الیوم الشعب الإيراني و الحمد لله - و أواصر العلاقة بينكم و بين الشعب و المسؤولين. و اعلموا أن الله سيؤیدکم بنصره و سيرغم أنف العدو المعتدي الطامع في أرضکم.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته