بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً، أرحب بكم أيها الإخوة و الأخوات و العوائل المحترمة، و أبارك لكم هذا العيد السعيد الشريف، بل هذه الأعياد الكريمة التي تضمنها شهر شعبان المبارك بتقدير من الله تعالى. و شهر شعبان نفسه يا أعزائي، بصرف النظر عمّا فيه من ولادات مباركة، هو بحد ذاته عيد.. عيد التقرب و التوجه إلى الله و التوسل القلبي بساحة الربوبية، و فرصة كبيرة لتنوير الإنسان قلبه و روحه، و استعداده للدخول في ضيافة شهر رمضان المبارك. لننظر لشهر شعبان من هذه الزاوية.. شهر عبودية الله و بناء الذات.
ما أردت أن أقوله في الجماعة الحاضرة هنا هو قضية المحفزات. الأعمال الحسنة و الأعمال الكبيرة لا تتم إلا بمحفزات ممتازة و إذا صدرت عن أعماق القلب. لا يمكن إنجاز الأعمال الكبرى من منطلق تنفيذ الأوامر و التشريفات و الأمور الإدارية و ما إلى ذلك. الأعمال الإدارية النابعة من المقررات و الأوامر تبقى عند حدود الأعمال المألوفة العادية، بينما الأعمال البارزة الممتازة تنبع من المحفزات. الذي ينفق وقتاً كبيراً لإنجاز كمٍ كبير من الأعمال، و يفعل ذلك على حساب وقت استراحته له طبعاً محفزات قوية جداً. هذا شيء مميز و استثنائي. لقد شاهدنا مثل هذه المعنويات و الروح المتوثبة، و هي متوفرة هنا أيضاً. كنت في أماكن متعددة و متنوعة طوال الأعوام الثلاثين المنصرمة - سواء في زمن رئاسة الجمهورية أو قبل ذلك في القوات المسلحة و المواطن الأخرى - و شاهدت عن كثب أشخاصاً لا يعرفون العطلة حقاً، و لا يعرفون الاستراحة، و يرغبون في إنفاق كل لحظاتهم في العمل الملقى على عاتقهم. طبعاً، أقول لكم هنا إنني لا أوافق العمل بهذه الطريقة. اعتقد أن العمل يجب أن يبرمج و ينظم بحيث يستطيع الإنسان التفرغ أيضاً لعائلته و أبنائه و علاقاته العاطفية، و لا يسحق نفسه. و لكن البعض هكذا على كل حال. هم إما لديهم إمكانية عالية جداً، فيخوضون في كل شيء في وقته، و بذلك يعملون أعمالاً إضافية، او ينتقصون من الأعمال و المواطن الأخرى من أجل ممارسة أعمال إضافية. حجم العمل و كميته كبيرة و ثقيلة و واسعة. هذه من الأمور المميزة التي تحتاج إلى محفزات. ما لم تكن ثمة محفزات قلبية فلا يوجد أحد أبداً يعمل هكذا بدافع الأوامر و الدساتير و الأحكام و المقررات. و أحياناً لا يعلم أحد بهذا الحجم الكبير من العمل. قلت مراراً في الفئات العاملة التي تأتي إلى هنا: قد يكون في أيديكم ملفٌ او مشروع أو عمل معين و تقولون يجب أن أنهي هذا العمل. و ينتهي الدوام الإداري المقرر و أنتم متعبون، لكنكم تقولون يجب أن أنهي هذا العمل و أغادر، فتبقون نصف ساعة، أو ساعة، أو ساعتين أكثر، و لا تخبرون مديركم ولا تتقاضون أجوراً إضافية و لا يعلم أحد بما فعلتم، لكنكم تفعلون ذلك.. هذا له قيمة كبيرة جداً، و يبقى مسجلاً محفوظاً في كتاب الكرام الكاتبين. كتّاب أعمالنا - و هم مأمورو الساحة الربوبية - يكبرون مثل هذه الأعمال، و هي طبعاً أعمال كبيرة.
من الأعمال المميزة الأعمال النوعية. إنجاز العمل بنوعية و جودة عالية و بمستوى رفيع. بوسع الإنسان القيام بعمل ما على نحوين: هناك النحو أو الشكل الأسهل، لكن المرء يختار مع ذلك الشكل الأصعب من أجل أن يرتفع بجودة العمل و نوعيته. هذه أيضاً حالة متميزة.
و من أنواع العمل الإبداع و الابتكار. العثور على سبل جديدة، و أساليب جديدة، و طرائق أكثر كفاءة و جدوى، سواء في الأعمال المحددة الصغيرة أو في الأعمال العامة الشاملة. إنها بحاجة إلى تفكير و جهد. البعض يقولون: اترك الأمر الآن. نفعل ما يفعله الآخرون. و البعض يقولون: لا، و يقنعون أنفسهم بأداء أعمال ابتكارية خلاقة. هذه حالة تحتاج إلى محفزات. من دون المحفزات و من دون العامل الداخلي لن تكون مثل هذه الأعمال البارزة كمياً و نوعياً ممكنة. فما هي هذه المحفزات؟ إنها تركيبة من الإيمان و الوعي. هذان العاملان هما الذان يوفران المحفزات للإنسان. أن يكون الإنسان مؤمناً و أن يكون واعياً.
إذا كنتم مرضى لا سمح الله. حينما لا تعلمون بوجود هذا المرض أو لا تعلمون بوجود طبيب لهذا المرض، فسوف تتصرفون بطريقة معينة. و لكن حين تعلمون أن هذا المرض موجود فما ستفعلون في تلك الحالة؟ هنا سوف لن تتأخروا. سواء كان الطريق بعيداً أو قريباً أو سهلاً أو صعباً ستأخذون عزيزكم المريض إلى حيث العلاج. هذه هي المحفزات، و أن تكون للإنسان محفزاته على العمل. ثمة عامل داخلي يدفع الإنسان و يحركه. يدرك الإنسان الحاجة و يؤمن بحصول النتيجة - و بالنسبة للمؤمنين هناك معرفة أنهم في عين الله و تحت نظره - هذه هي المحفزات التامة. البعض يتوفر لديهم هذا الاعتقاد و هذا الوعي و هذا الإيمان بالنتيجة، لكنهم ليس لهم إله و رب، هؤلاء محفزاتهم أقل. لكننا أنا و أنتم نعلم أن العمل الذي نروم القيام به أو الذي نعمله حالياً إنما هو عمل لأجل الله، عمل للنظام الإسلامي، عمل للناس و لصالح الناس، و الله يرى هذا العمل، لكن الآخرين لا يعلمون به و لا يثنون علينا و لا يمدحوننا و لا يصفقون لنا، لكن الله تعالى يرى و يقدر و يثيب. قال الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء: »إن ذلك بعين الله«.. أعلم و أرى أن عملي بعين الله و الله يراه و يعلمه. هذه النظرة هي التي توفر المحفزات التي لا تترك الإنسان عاطلاً عن العمل إطلاقاً. و الإسلام و تاريخ الإسلام و الوجود المقدس لخاتم الأنبياء (صلى الله عليه و آله و سلم) فعلوا الأعاجيب لتعزيز هذه المحفزات و معرفة مواقع توفرها و توظيفها لصالح الأهداف و المبادئ. حينما ينظر المرء في تاريخ الإسلام يرى العجب العجاب في هذا الخصوص.
و أذكر هنا نموذجاً لذلك. في معركة أحد - كما تعلمون و كما سمعتم أو قرأتم - انتصر المسلمون في بداية الأمر، لكنهم هزموا بعد ذلك بسبب ميل بعضهم للدنيا. استشهد البعض منهم - كسيدنا حمزة سيد الشهداء و غيره - و هرب الآخرون و انسحبوا إلى أعلى ذلك الجبل. و عاد الأعداء في نهاية ذلك اليوم منتصرين فرحين و بقيت هذه الغصة و المرارة في قلوب المسلمين. أمر النبي (ص) أن يحملوا الشهداء و يأتوا بهم إلى المدينة - و جبل أحد قريب من المدينة - فساروا و دخلوا المدينة. كان ثمة بين الأشخاص العائدين إلى المدينة مصابون و جرحى و معاقون و أجساد الشهداء الطاهرة، و كان ثمة عوائل مفجوعة. فهاجت المدينة و ماجت بالبكاء و النواح و العويل على القتلى و الإخفاق في الحرب.. كان كل هذا مرارة و ألم.
في مساء ذلك اليوم الذي وقعت فيه هذه الحادثة المؤلمة، جاءوا للرسول (ص) بخبر فحواه أن بعض المشركين حين ابتعدوا عن المدينة فكروا أنه طالما قد انهزم المسلمون فالأفضل أن نهاجم و ننهي أمرهم. حين وصل هذا الخبر للمدينة راح بعض منفلتي الألسن - أو المغرضين أو الجهلة الذين ينشرون الإشاعات ما إن يطرق الخبر مسامعهم - سواء كان صحيحاً أو كذباً - حتى يبادروا إلى نشره و إذاعته.. كان في ذلك الزمن مثل هؤلاء الأشخاص و هم موجودون اليوم أيضاً.. شرع هؤلاء بنشر الخبر في المدينة. قالوا: الويل لنا سوف يهاجمنا هؤلاء، فلنخف منهم و كذا و كذا.. راحوا يخوفون الناس و يرجفون. هنا نزل الرسول الأكرم (ص) إلى وسط الميدان. في مثل هذه المواطن لا بد من إعمال روح النبوة.
جمع الرسول الأكرم (ص) الناس و أمر أن يجتمعوا كلهم في المسجد. توافدوا على المسجد فقال: سمعتُ أن العدو تجمع في الموضع كذا و ينتظر أن تغفلوا ليهجم عليكم، و عليكم أن تسيروا الليلة لتدميرهم و القضاء عليهم. فقالوا: نحن على استعداد يا رسول الله. فقال: لا، بل يجب أن يسير إليهم من كان اليوم في معركة أحد فقط. أي أولئك المتعبون و الذين قاتلوا من الصباح إلى المساء و المجرّحة أجسامهم، هؤلاء يجب أن يسيروا و لا يسير أحد غيرهم. ربما تعجب البعض في بداية الأمر، لكنهم رأوا بعد ذلك أنْ يا له من حكم. الذين كانوا ذلك اليوم في معركة أحد و أصيبوا و أجهدوا و تعبوا تجمعوا فوراً، فقال لهم الرسول: اذهبوا و أنهوا هذه القضية و عودوا.
الذين جرحوا اليوم و تلقوا ضربات العدو و يريدون تعويض ذلك و توجيه ضربات مماثلة للعدو، و من كانوا في المعمعة و ليس من سمعوا الأخبار من ذا و ذاك، هؤلاء هم الذين صفّهم النبي و عبّأهم و قال يجب أن تسيروا. كان هؤلاء عدداً من الرجال - و لم يكونوا كثيرين - فركبوا و ساروا نحو ذلك الموضع و داهموا العدو في كمينه و باغتوه و وجهوا له ضرباتهم و دمروه و عادوا. فنـزلت الآية الكريمة: »الذين قال لهم الناسُ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم«. المؤمنون هم أولئك الذين حين قال لهم مروّجو الشائعات إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.. »فزادهم إيماناً«.. لم يحصل لديهم هذا الخوف، بل تعزز و ازداد إيمانهم و محفزاتهم. »و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل«.(1) قالوا: الله يكفينا و أوكلوا الأمر إليه. لاحظوا أي عرفان عظيم هذا. أنت الذي تفعل الفعل، و ساعدك هو الذي يفعله، فكرك هو الذي يعمل، قلمك هو الذي يعمل، لكن الفعل فعل الله و يعود إليه. إيكال الأمر إلى الله ليس معناه أن نجلس جانباً، و نقول الله هو الذي يدبّر الأمر، كلا، الله لا يدبّر الأمر بهذه الطريقة. أن نفعل أنا و أنتم فعلاً و يأخذنا الغرور و نخال أننا نحن الذين فعلنا هذا و قمنا بهذا العمل الكبير، فهذا أيضاً خطأ و غير صحيح. إذا لم يعنّا الله و لم يهدنا و لم يوفقنا فلن تستطيعوا القيام بأي عمل، و لن تحصلوا على أية نتائج.
حينما يتظافر عنصران، أي حينما تتوكلون أنتم من جهة على الله، و تستمدون منه العون، و تعلموه حاضراً ناظراً، و أنه صاحب أعمالكم، و تبذلون من جهة أخرى كل طاقاتكم للعمل، عندئذ يكون العمل قد اتخذ نصابه الصحيح.. »قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل«.. هذه هي صفاتهم. و قد ذكر تعالى نتيجة فعلهم في الآية اللاحقة: »فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء و اتبعوا رضوان الله«.(2) ساروا و عادوا من دون أن يصيبهم أدنى ضير أو جراح. استطاعوا تدمير العدو و مصادرة ما معه و اغتنامه و العودة به. لم يحبطوا المؤامرة فحسب بل كسبوا مكسباً و غنائم للمدينة و لحكومة الرسول الأكرم (ص) في السنة الثالثة للهجرة، سنة معركة أحد.
يجب أن نتذكر هذه الأشياء، فهي ليست مجرد تاريخ و خواطر و ذكريات، بل هي دروس. يريد أن نتذكر أنا و أنتم هذه الحقائق و نطبقها في حياتنا. ذكرت أربع آيات في تعقيب صلاة الصبح - و هي موجودة في كتاب مفاتيح الجنان - و بمقدوركم مراجعتها و قراءتها. و كل واحدة من هذه الآيات المذكورة لها نتيجة تعقبها: »و أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ** فوقاه الله سيئات ما مكروا«.(3) »لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ** فاستجبنا له و نجيناه من الغمِّ و كذلك ننجي المؤمنين«،(4) و هي آية تتعلق بالنبي يونس (ع). الآية الأخرى هي هذه الآية التي تلوتها الآن: »حسبنا الله و نعم الوكيل ** فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء«. و الآية الرابعة: »ما شاء الله و لا قوة إلا بالله«.(4) و هي تختص بقصة ذلكم الأخوين. هذه دروس لنا. حينما يشعر الإنسان أن العمل كبير، و له قيمة عظيمة و له تأثير اجتماعي هائل، فسوف تتضاعف محفزاته.
على كل حال، الشيء الذي ينقضي و يفنى هو الماضي من أيامنا أنا و أنتم، أما الحسن و السيئ منه و ما كان منه مطابقاً للواجب و ما كان منه بخلاف الواجب، صواباً أو خطأ، هذا كله يزول، و طبيعة العالم طبيعة الزوال.. »العالم متغيّر«.. لكن ما يبقى هو آثار ذلك العمل في الديوان الإلهي. هذا هو الشيء الذي لا يزول. »لا يعزب عنه مثقال ذرة«.(6) حتى ما كان وزنه بمقدار ذرة - سواء كان معنى الذرة ذرة الغبار في الهواء أو بمعنى النملة - لن تخفى عن عين الحساب الإلهي. كاميرات الإله الخفية تسجل كل ذرة من أعمالنا و تحسبها و تزنها، و الأصعب من ذلك أنها تتسلط حتى على قلوبنا. ليست الكاميرات الخفية في الأبنية و أماكن العمل و داخل البيوت فقط، ففي قلوبنا أيضاً توجد كاميرات خفية. ما يمرّ في قلوبنا، و ما يمرّ في أذهاننا، و ما نفعله في الخلوات، ينعكس كله و يسجّل دون زيادة أو نقصان، فيتجلى يوم القيامة.. »فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ** و من يعمل مثقال ذرة شراً يره«.(7) ظاهر الآية هو أن هذا العمل يتجسد و يرى الإنسان ذلك العمل نفسه. المهم أن ذلك العمل يبقى، فلنفكر في هذا الذي يبقى. أحداث حياتنا و تعاقب أعمارنا و أيامنا بمحاسنها و مساوئها، و في ذروة الاحترام أو حضيض الأهانات، بجيب مملوء أو جيب فارغ، تنقضى كلها و لا تبقى مهما كانت. حتى الحسن منها لا يجدر بالمحبة و العلقة لأنه لا يبقى. و السيئ منها أيضاً لا يجدر بالشكاة لأنه لا يبقى بل يمضي و يمرّ. الشيء الذي يبقى هو آثار تلك الأعمال و نتائجها، و الثواب الإلهي، و العقاب الرباني، فلنفكر في هذا الشيء.
حسناً، فرحنا جداً للقائكم أيها الإخوة و الأخوات خصوصاً الشباب منكم الحاضرون عائلياً في هذه الجلسة. نتمنى أن يوفقكم الله تعالى و يؤيدكم جميعاً لتسيروا في الخط الصواب و الصحيح و الصراط الإلهي المستقيم.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة آل عمران، الآية 173.
2 - سورة آل عمران، الآية 174.
3 - سورة غافر، الآيتان 44 و 45.
4 - سورة الأنبياء، الآيتان 87 و 88.
5 - سورة الكهف، الآية 39.
6 - سورة سبأ، الآية 3.
7 - سورة الزلزال، الآيتان 7 و 8.