بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا و حبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين، سيما بقية الله في الأرضين.
قال الله الحكيم في كتابه: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون، اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً)(1).
إنه ليوم جد عظيم و كريم. أشكر الله أن منَّ بتوفيقه و عنايته للاجتماع بكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء - من أهالي مدينة مشهد و زوّار هذا الحرم الطاهر - في يوم عيد الغدير المبارك و تحت ظلال المرقد الطاهر لسيدنا الإمام علي بن موسى الرضا (عليه الصلاة و السلام) و إحياء عيد الغدير. أبارك عيد الغدير السعيد لكم جميعاً أيها الأعزاء، و لكل الشعب الإيراني العظيم و لكافة الشيعة و المسلمين في العالم.
أحيى شعبنا العزيز طوال هذا العام و العام الماضي الذكرى المباركة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة و السلام)، و كان من شأن هذين العامين الذين أخذا أسمي سنة الإمام علي و سنة السلوك العلوي أن تتوجّه فيهما القلوب أكثر نحو تلك الكعبة المحبوبة في قلوب العارفين و طلاّب العدالة في العالم.
أرى لزاماً عليّ هنا و في مطلع حديثي أن أشير باختصار إلى مفهوم الغدير. ينبغي عدم النظر لحادثة الغدير التاريخية العظيمة التي نعيّد فيها اليوم بعين الذكرى الطائفية و حسب. الغدير في معناه الحقيقي لا يختص بالشيعة. مع أن الشيعة يعيّدون في هذا اليوم بتنصيب مولى المتقين في مقام الإمامة و الولاية، و يشكرون الله تعالى على ذلك، لكن يوم الغدير في حقيقته امتداد لخطّ جميع الرسالات الإلهية، و ذروة هذا الخط النيّر الساطع على مرّ التاريخ. لو نظرنا إلى مضمون الرسالات الإلهية لوجدنا أن هذا الخط النيّر قد تنقّل على امتداد تاريخ النبوات و الرسالات من يد إلى أخرى، إلى أن وصل إلى النبي الأكرم الخاتم(ص)، و تجسّد و يتبلور في نهاية حياة ذلك الإنسان العظيم على شكل حادثة الغدير.
هنا، أرى من الضروري الإشارة إلى أهمية دعاء الندبة، و هو في الحقيقة خطبة غرّاء تفصح عن معتقدات الفرقة الإمامية الشيعية و آمالها و شكاتها على مرّ التاريخ. لو نظرتم لوجدتم هذا الخط الوضّاء منذ بداية دعاء الندبة: الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك.(2) إنه خط منير يتواصل منذ بدء تاريخ الرسالات إلى حقبة النبوة الخاتمة. مضمون الرسالة و هي عبارة عن دين الله، هو في الحقيقة صياغة و توجيه كافة المساعي الإنسانية. الدين معناه صراط الحياة، لو نظرتم إلى مجتمع إنساني أو بلد معين، لرأيتم الأفراد في ذلك المجتمع ينشطون بأشكال مختلفة لأجل متابعة قضاياهم الشخصية و العاطفية و المعيشية و العامة. الدين يوجّه كل هذه الأنشطة و يهديها و يهبُّ لمساعدة العقل الإنساني ليستطيع الإنسان تنظيم و تنسيق هذه الأنشطة بما يضمن له سعادته في الدنيا و الاخرة.
الجهود التي يبذلها البشر بعضها يتعلق بقضاياهم الشخصية و التي تشكّل جزءاً صغيراً من الأنشطة الإنسانية - كالمعيشة و المعنويات و العواطف و العلاقات الشخصية بين الأفراد - على أن الجزء الأكبر من أنشطة الإنسان هي تلك التي تتفاعل في الساحة الاجتماعية و بمساع اجتماعية، و تسمى السياسة.. السياسات الاقتصادية و السياسات الاجماعية، و السياسات العسكرية، و السياسات الثقافية، و السياسات المدنية، و السياسات الدولية. هذا ما يشكل الجزء الأكبر من جهود الإنسان في حياته. لماذا نقول الجزء الأكبر؟ لأن هذه السياسات تقود الأفراد في أنشطتهم الشخصية باتجاهات معينة. معظم مساعي الإنسان مساعٍ توجِّه عموماً أنشطته الشخصية و الصغيرة باتجاهات معينة. يرتبط الدين بكلا المجالين.. مجال الجهود و الممارسات الفردية للإنسان، و مجال السياسة الذي يعدّ ساحة جداً واسعة في حياة الإنسان.
ثمة آفتان تهددان التدين و السياسة. من آفات التدين أن يترافق تديّن المجتمع أو الشخص بالانحراف أو عدم المبالاة أو التحجّر أو الجمود أو نسيان دور العقل أو الانتقائية و ما إلى ذلك. الآفة الأخرى من آفات التدين هو أن يقتصر الدين على الحياة الشخصية، و ينسى المساحات الواسعة لحياة الإنسان و المجتمع الجماعية أو يسكت عنها و يمرّ بها مرور الكرام.
و هناك خطران يهددان السياسة: الأول أن تبتعد السياسة عن الأخلاق و تخلو من المعنوية و الفضيلة. بمعنى أن تتغلب الشيطنة على الساسة، و تمسك الأهواء النفسية للأشخاص بالسياسة في قبضتها، و تستحوذ مصالح الطبقات القوية المتغطرسة الثريّة على السياسة و تجرّها هنا و هناك. إذا أصيبت السياسة بهذه الآفة فسوف تتعرض كل الساحة الإنسانية الاجتماعية للمعايب و الآفات. و الآفة الأخرى التي تهدد السياسة هي أن يستولي عليها أشخاص قصار النظر و ضعفاء و ذوو طباع صبيانية، و يخرجوا زمامها من الأيدي القوية، فتقع في أيدٍ غير كفوءة.
ما هو سبيل العمل؟ أفضل شكل و سبيل للعمل هو أن يكون على رأس السياسة و إدارة شؤون المجتمعات أشخاص تخلو سياستهم من هاتين الآفتين. أي يتولى إدارة شؤون المجتمعات أشخاص متدينون أصحاب معنويات و أفكار دينية راقية، و بمنأىً عن الانحراف و الخطأ و الانتقائية و الاعوجاج في النظرة الدينية، و بمعزل عن التحجر و الجمود و المراوحة في فهم الدين، و لا يتخذون الدين ألعوبة في حياتهم. و أن يكونوا من الناحية السياسية أشخاصاً كفوئين مدبرين شجعاناً لا يفصلون السياسة عن المعنويات و الأخلاق و الفضيلة. مثل هؤلاء الأشخاص إذا أمسكوا زمام أمور المجتمع بأيديهم عندئذ سيكون المجتمع مصوناً من معظم الأخطار التي تحدق به. ما هي ذروة هذه الحالة. الذروة هي عندما يكون إنسان معصوم عن الخطأ و الاشتباه على رأس السلطة السياسية و الدينية. هذا معنى الإمام.
الإمام المعصوم إنسان سامٍ، قلبه من الناحية الدينية مرآة تعكس أنوار الهداية الإلهية. روحه متصلة بينبوع الوحي. و هدايته هداية مخلصة. و من حيث الأخلاق الإنسانية يكون سلوكه و أخلاقه متطابقاً مع الفضيلة مائة بالمائة، و لا سبيل لهوى النفس إليه، و لا يمكن للمعاصي أن تتغلب عليه، و لا تستطيع الشهوات و النزوات الإنسانية أن تهزمه. و لا يخرجه الغضب عن سبيل الله. و من الناحية السياسية فإن بصيرته واسعة بحيث يرى بعينه الثاقبة حتى أهدأ التحركات و أصغر الأحداث في مسرح الحياة الاجتماعية - حيث قال الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام: و الله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم(3). أي إنني لست ممن يمكن إنامتهم بالهدهدات - و يبدي عن نفسه أمام أحداث الحياة و الوقائع العصيبة شجاعة و اقتداراً روحياً و معنوياً. لا قيمة لروحه عنده، لكنه يرى قيمة كبيرة لأرواح الناس، حتى الناس في المناطق النائية، و حتى النساء من الأديان الأخرى، و يقول إذا مات الرجل حزناً على هذا كان محقاً. كان الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السلام) يتصرف أمام الأخطار بشجاعة إلى درجة قوله إنه لم يكن بمقدور أحد الاصطدام بالفتنة التي فقأت عينها، و يقصد فتنة الخوارج أو فتنة الناكثين. تلك المعنويات و الدين و الأخلاق و الفضيلة من ناحية، و تلك البصيرة العميقة و الشجاعة و التضحية و العواطف الإنسانية الرقيقة إلى جانب الصلابة و القوة المعنوية و الروحية من ناحية ثانية. كل هذا ناجم عن العصمة، فقد اختاره الله تعالى لمقام العصمة و لا سبيل للذنب أو الخطأ إلى أعماله. إذا كان مثل هذا الشخص على رأس المجتمع كان ذلك الذروة المنشودة من قبل جميع الرسالات. هذا هو معنى الغدير. لقد حدث مثل هذا الحدث في الغدير.
لا تنظروا للغدير كمجرد عملية تنصيب أو تعريف بسيط قام بها الرسول الأكرم(ص) لشخص معين. طبعاً، قام الرسول بتنصيب الإمام علي أمير المؤمنين للخلافة أمام جماعة من المسلمين بلغت عشرات الآلاف. لا شك في هذا و هو ليس بالأمر الذي يرويه الشيعة فقط. فقد روى حادثة الغدير إخوتنا أهل السنة و محدثوهم في كتبهم بنفس الخصوصيات التي رواها بها الشيعة.(4) ليس هذا بالشيء الذي يمكن لأحد إنكاره، بيد أن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد. المسألة هي أنه منذ زمن سيدنا آدم حيث ابتدأت سلسلة النبوات و الرسالات، تشكلت الحكومات النبوية على مرّ التاريخ مرات و مرات - كحكومات الأنبياء سليمان و داود و آخرين من بني اسرائيل إلى زمان نبينا - و كان الموضع الذي تمازجت فيه السياسة بالدين تمازجاً بديعاً جزلاً و في الذروة و على شكل سنّة باقية تضمن هداية المجتمع هو حادثة الغدير. لذلك نقرأ في دعاء الندبة الذي ذكرته: فلما انقضت أيامّه أقام وليّه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما و آلهما هادياً إذ كان هو المنذر و كل قوم هاد(5) ما أحسن أن ندقق و نتأمل جيداً في المعارف تعرض علينا رخيصةً هكذا ببركة هداية أهل البيت (عليهم السلام). دعاء الندبة كما ذكرت خطبة غرّاء تعرض تاريخ هذا الفكر و جذور هذه الحركة خلال عهود الرسالات. لو دققتم لما شاهدتم أية نقطة مثيرة للخلاف بين الشيعة و السنة في هذا الدعاء، إنما تطرح قضية الإمامة و الولاية بطريقة استدلالية علمية. إذ كان هو المنذر و لكل قوم هاد(6). أي إن للرسول الأكرم (ص) مقام الرسالة و الإنذار و التبشير، و هو الباديء بالطريق و الفاتح لأفق جديد أمام البشرية.
لكن الرسول ليس شخصاً أبدياً دائماً. و المجتمعات بحاجة إلى من يهديها. و قد قدَّر الإسلام هذا الهادي: يتعاقب المعصومون في الأجيال المتعددة تلو بعضهم، و يمسكون بزمام الأمور، و يهدون المجتمع بالتعاليم القرآنية الأصيلة الخالصة طوال عدة أجيال و قرون، و يكرسون في الواقع جميع الأفكار و الخصوصيات و السلوكيات و الأخلاق الإسلامية في المجتمع الإسلامي. طبعاً تبقى بعد ذلك أيضاً حجةُ الله حَيّةً بين الناس، فالعالم و البشرية غير ممكنين من دون قيام حجّة، لكن البشرية كانت ستجد طريقها، و طبعاً لم يحدث هذا. هذا هو المشروع و الخارطة العامة للإسلام و هذا هو معنى الغدير.
الأمامة معناها ذروة المعنى المنشود لإدارة المجتمع مقابل شتى الأنواع الأخرى لإدارة المجتمع النابعة من حالات الضعف و الشهوات و النخوات و الجشع البشرية. عرض الإسلام أسلوب الإمامة أو وصفة الإمامة للإنسانية، بمعنى أن يكون ثمة إنسان قلبه فائض طافح بالهداية الإلهية، و عارف فاهم للمعارف الدينية.. (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)،(7) و لا تكون نفسه و مطامحه و حياته الشخصية مهمة بالنسبة له، بينما حياة الناس و أرواحهم و سعادتهم هي كل شيء عنده، و هذا ما أثبته الإمام علي (ع) عملياً خلال أقل من خمسة أعوام من استلامه الحكم. إنكم تلاحظون أن فترة أقل من خمسة أعوام من حكم الإمام علي (ع) لا تزال بعد قرون طويلة من الزمن تتألق خالدةً كنموذج و مثال و شيء لن تنساه البشرية أبداً. هذه هي نتائج و دروس و معاني و تفسير حادثة الغدير.
لقد وجّهنا المجتمع و قلوبنا لمدة سنتين اتخذتا عنوان الإمام علي (ع) نحو عظمة هذا المقام الشامخ و هذا الوجه الخالد في التاريخ، لكن هذا لا يعني أنه إذا انتهى هذا العام - و هو عام 80 - فلن يعود من اللازم علينا التأسي بالسلوك العلوي و الاستلهام من حياة الإمام أمير المؤمنين (ع)، و أن تاريخ استهلاك هذه الأمور قد انقضى، كلا، إننا بحاجة للنظر إلى ذلك النموذج و الخط و العلاقات التي كانت في حياة الإمام علي (ع) في كل لحظة من لحظات حياتنا، و الاستلهام منها و تقليل المسافة بيننا و بينه تدريجياً و بقدر الإمكان.
أكبر خطر على نظام و دولة مثل نظامنا و دولتنا قامت على اسم الإسلام هو أن ننسى أن مثال دولتنا هو الإمام علي (ع)، و ننظر للنماذج الدارجة في العالم و التاريخ و نقارن أنفسنا بها، أو ننظر لنماذج الحكم المنحرفة التي أضرت بالإنسانية دوماً و على مرّ التاريخ، و إذا كانت قد تقدمت في جانب من حياة الإنسان، فلقد أضرت بجانب آخر أضراراً لا تعوَّض. ينبغي أن تنصب همم الجمهورية الإسلامية على الاقتراب من ذلك النموذج الذي أُعلن عنه في الغدير و تجسّد عياناً خلال خمسة أعوام من حكم الإمام علي (ع). لو دققنا لوجدنا أن حروب الإمام علي (ع) خلال هذه الفترة القصيرة كانت كلها من أجل الحؤول دون مسخ الإمامة و الولاية الإسلامية إلى تلك الأشكال المنحرفة.. تبديل الإمامة إلى ملكية وراثية، و تحويل دولة المعرفة إلى دولة الجهل، و تبديل الحكم القائم على تجاهل المصالح الشخصية إلى حكم يقف على رأسه أشخاص يفكرون أكثر ما يفكرون بمصالحهم الشخصية و جمع المال و المنال الدنيوي.
إذا أردنا في العصر الراهن أن نحقق في إطار الجمهورية الإسلامية سعادة هذا البلد و أن يصل شعبنا الإيراني العزيز إلى آماله و مناه المشروعة بالقدرات التي أودعها الله تعالى في جوهر هذا البلد و هذا الشعب، فيجب متابعة هذا الخط و استلهام ديننا و دنيانا عن تلك الدولة و النموذج.. السياسة غير الملوثة بالأغراض و النزوات و الشهوات.. السياسة المستلهمة عن الدين و الأخلاق، سياسة يتم فيها ترجيح مصالح الشعب العامة على المصالح الشخصية و الفئوية و القومية و مصالح الأجانب الذين يريدون العالم كله لهم، سياسة تُضمن فيها دنيا الناس و حياتهم و معيشتهم إلى جانب عزتهم و اقتدارهم الوطني و سمعتهم العالمية و ثقافتهم السامقة، و تطورهم العلمي، و رفعتهم المعنوية، و احترامهم للفضيلة و الدين و الأخلاق. هذا ما نحتاج إليه اليوم و هو ما يتم تأمينه من قبل حكّام و ساسة يتولون المسؤوليات و يتابعون الأعمال وفقاً لرغبة الشعب و انتخابهم و إرادتهم و عواطفهم الفياضة و عقائدهم. هذا سيكون النموذج الكامل. إذا تابعنا في الجمهورية الإسلامية هذا الخط و هذا الطريق - و هذا الأمر ممكن بتوفيق من الله، و قد أحرز المسؤولون طوال هذه الأعوام الثلاثة و العشرين التجارب و النماذج اللازمة له، و يبدي أبناء الشعب رغبتهم فيه - عندها سيرضى الله، و يثق الشعب أكثر، و يتضاعف اقتدار النظام.
طبعاً، في السنتين الماضيتين و خصوصاً في السنة الجارية - و هي سنة السلوك العلوي - أنجزت ببركة اسم الإمام علي (ع) في هذا البلد أنشطة باتجاه الاقتراب من ذلك النموذج المتألق. و من نماذج ذلك مكافحة الفساد الاقتصادي. و قد أبدت مكبرات الإعلام من كل أنحاء العالم و باستغراب كبير، حساسيةً بالغةً إزاء توجّه نظام الجمهورية الإسلامية هذا، و أثبتت لنا بغضبها أكثر فأكثر أن هذا الاتجاه هو الاتجاه الصحيح. مكافحة المفاسد الاقتصادية و العبث ببيت المال و عدم الالتزام المالي كانت من أول الخطوط في برامج الإمام علي (ع)، يجب علينا في نظام الجمهورية الإسلامية أن نفخر بأننا نتابع هذا الدرب و نسير فيه.
يقول البعض إنكم حين تقولون مكافحة الفساد الاقتصادي سيكون معنى ذلك توجيه الاتهامات للمدراء و المسؤولين المخلصين الدؤوبين في النظام! لا، هذا خطأ. لو كان الفساد راسخاً في أجهزة النظام المختلفة لما طرح أساساً أسم مكافحة الفساد و لا فكرتها، إنما المكافحة موجهة ضد الحالات العارضة و الطارئة و المفروضة على النظام. الدليل على سلامة النظام هو أنه حينما تطرح فكرة مكافحة المفاسد الاقتصادية ينزل إلى الساحة المسؤولون رفيعو المستوى و المدراء الذين يأتون من بعدهم بكل شوق و اندفاع حقيقي. معنى ذلك أن النظام استطاع بفضل الخالق تعالى و ببركة الإسلام و اسم الإمام علي بن أبي طالب (ع) متابعة طريقه الأصلي العام على جادة الصلاح و السداد. أي نهر نظيف سليم يمكن أن تصبّ فيه بعض التيارات الملوثة هنا و هناك. و نحن نروم أن نحول دون ذلك. مدراء النظام الكبار و مسؤولوه يفرحون لمكافحة الفساد ككل أبناء الشعب. أعداء هذا الشعب و الذين يريدون لنا أن لا نخوض هذه المكافحة لكي يستشري الفساد في المجتمع، يحملون مكافحة الفساد على أن المجتمع أصبح فاسداً، كلا، إننا في نظام الجمهورية الإسلامية نكافح أموراً أصبحت في الكثير من الأنظمة العالمية عرفاً و حالة دارجة. الفساد هناك راسخ و متجذر. مكافحة الفساد خطوة و سلوك علوي و تحتاج إلى الحسم العلوي، و المسؤولون عن هذه المكافحة يجب عليهم بفضل من الله و باستلهام سيرة الإمام علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السلام) أن يبدوا عن أنفسهم هذا الحسم و سوف يبدونه.
من أجل الجد و السعي في سبيل تحسين حياة المحرومين في المجتمع و هو بدوره من الخطوط الأصلية في النهج العلوي، أنجزت هذا العام - و هو عام السلوك العلوي - أعمال معينة. طبعاً، يقوم المسؤولون بالكثير من الأعمال لكنهم لا يغطونها إعلامياً، و هذا شيء حسن. نعتقد أن الوعود يجب أن لا تذكر إعلامياً. ينبغي عدم تضخيم عبارات سوف نفعل. بالطبع، يجب أن يعلم الناس أن الأجهزة في صدد مثل هذه الأعمال، و على المسؤولين أن يذكروا للناس ما يحصل و يتحقق، و في هذا المجال أيضاً لا يزال إعلامنا للأسف ناقصاً إلى حد كبير: المساعي التي بذلت هذه السنة في الحكومة و الأجهزة المختلفة لتوفير فرص العمل كانت نموذجاً من هذه الأنشطة السائرة في اتجاه السلوك العلوي. هذه المساعي غير كافية طبعاً. لقد أكدت على الإخوة و المسؤولين في شتى الأقسام التنفيذية و الحكومية و قلت لهم إن العمل يجب أن يتواصل حتى يؤتي نتائجه و تظهر آثاره في حياة الناس. بيد أن الانطلاق في العمل و البدء به يعدّ بحدّ ذاته حالة مباركة و مغتنمة.
هذه الخطوات طبعاً من البرامج العادية للحكومة، على أن تصاعد هذه الحركة و تميّز الأنشطة من خيرات عام السلوك العلوي و نتمنى أن تصل الأنشطة إلى نتائجها المنشودة إن شاء الله.
السير في هذا الطريق له أعداؤه و معرقلوه. العدو الأكبر لهذا الطريق هو العدو الذي في داخلنا و هو: طلب الراحة، و الغفلة، و الكسل، و التقاعس، و تجنب الميادين الصعبة. إنه طريق يحتاج إلى الجد و الجهد و الجهاد. الميول البشرية المنحرفة - الميل نحو الأموال، و الاحتكارات في الحياة، و مختلف أنواع الشهوات - هي عقبات هذا الطريق، و علينا نحن المسؤولين و الإخوة و الأخوات مدراء الأقسام و المؤسسات المختلفة في البلاد أن نعوذ بالله تعالى و نراقب أنفسنا و نذكر بعضنا. هذا العدو الداخلي أخطر طبعاً من العدو الخارجي.
و لهذا الطريق أعداؤه الخارجيون أيضاً. الأعداء الخارجيون هم الذين ينظرون فيجدون إيران الإسلامية تتحول إلى نموذج في العالم الإسلامي، و هم لا يريدون ذلك. يعلمون أنه لو استطاعت الجمهورية الإسلامية معالجة قضايا الحياة و المسائل المادية و المشكلات و العقد المختلفة - التي تعاني منها جميع البلدان بدرجات متفاوتة - و وفرت للجماهير حياة مزدهرة مرفهة، فسوف يتحرك المسلمون بحرارة و انجذاب أكبر نحو هذا النموذج. لذلك يخلقون الموانع و العقبات باستمرار. منذ سنوات و أعداؤنا في الخارج يخلقون العقبات علانية و بأشكال مختلفة للحؤول دون تطور إيران في الشؤون الاقتصادية.
طبعاً هذه العقبات لا يمكنها أبداً صدّ الشعب و الحكومة و النظام المصمَّم القاطع و المسؤولين الشجعان الحاسمين عن مواصلة العمل. و الآن، حيث جرّبوا سبلاً مختلفة للحؤول دون حركة الجمهورية الإسلامية و تقدمها و لم يحققوا نتائجهم، راحوا يهددون عسكرياً. معنى التهديد العسكري أن العراقيل المتنوعة التي اختلقوها طوال الأعوام من بعد الثورة الإسلامية لم تستطع أن تحقق لهم مقاصدهم.
طبعاً، أقول لكم إن التهديد العسكري أيضاً لا يستطيع تحقيق مقاصدهم لهم. أنا طبعاً سوف أتحدث بالتفصيل في المستقبل القريب بفضل من الله حول تصريحات رئيس جمهورية أمريكا و بيان المثقفين التابعين للنظام الإستكباري في هذا البلد، و سوف تسمعون إن شاء الله، و إذا بقيتُ على قيد الحياة، آراءنا في هذا المضمار. لا أروم الخوض حالياً في هذه القضية، و لكن إذا أردتم معرفة خلاصة القضية، فهي أن الساسة الأمريكان و المثقفين التابعين لهم، يطرحون حالياً في ممارساتهم و تصريحاتهم الحرب باعتبارها أمراً مقدساً، و ذلك بخلاف كافة دعاواهم السلمية السابقة، و يطرحون المبادىء و القيم الأمريكية كونها أمراً مطلقاً و مقدساً، على العكس تماماً مما أذاعه إعلاميّوهم طوال الأعوام المتمادية حيث كانوا يقولون إننا نؤمن بالتعددية و نحترم معتقدات الناس. كانوا يزعمون دوماً أنهم أنصار السلام، و تدخلنا في المنطقة الفلانية إنما هو لأجل السلام. و عملنا في المكان الفلاني من أجل السلام. أما اليوم فقد وصل بهم الأمر إلى تقديس الحرب في تصريحاتهم، و اعتبارها أمراً مقدساً. هذا خطؤهم الكبير الذي لا ينسى و الذي يبطل كل مزاعمهم الماضية في أنظار الرأي العام العالمي. لا يفهمون أية خطوة خاطئة يفرضها عليهم هوى النفس. يقطعون هذه الخطوات الواحدة تلو الأخرى و يستمرون فيها. و يعرضون لأنفسهم وجهاً عسكرية حربياً عنيفاً في العالم سوف يدينهم عليه الرأي العام العالمي في الحاضر و المستقبل. و لا مفرّ أمامهم من ذلك.
يدعون إننا نناصر الديمقراطية و نظام الحكومة المستند إلى أصوات الجماهير، و مع ذلك يدعمون العديد من الحكومات التي جاءت للسلطة عن طريق الانقلاب، أو الحكومات الاستبدادية التي لم يشارك في تشكيلها حتى صوت واحد من أصوات الشعب. هذه فضيحة لهم أمام الرأي العام. من دون أن يفهموا و يدركوا ما الذي يفعلونه تأخذهم هذه الأخطاء المتعاقبة إلى طور جديد من الأخطاء. هذه مقدمة السقوط.
يخاطبون بوقاحة و بدون أن يعلموا ما الذين يتفوهون به، شعباً كبيراً ذا ثقافة و شجاعة، شعباً أثبت كفاءته طوال أعوام متمادية في ساحات عدة، و يقولون له عليك أن تكون تابعاً ضعيفاً حتى لا نعاديك و لا نهددك! إذا كان الشعب الإيراني مقتدراً و مستقلاً و متحداً و متلاحماً فلن يرضوا عنه. رضاهم أولاً في أن يختلف الشعب الإيراني داخلياً، و ينهار تلاحمه و يشتبك أفراده فيما بينهم، و يسلب بعضه الشرعية عن البعض الآخر لأسباب معينة، و يعود ذلك البعض الآخر فيسلب بدوره الشرعية عن الفريق الأول. و ثانياً في أن يرتبط البلد بأمريكا و يكون تابعاً لها كما هو حال بلدان أخرى في المنطقة ارتهنت شعوبها المسكينة لأمريكا نتيجة سوء سياسة حكامهم. و ثالثاً في أن يكون الشعب الإيراني ضعيفاً من النواحي العسكرية و السياسية و لا يمتلك القدرة على الدفاع عن نفسه و حدوده. إذا كان هذا، عندها سيرضى رئيس جمهورية أمريكا عن شعب إيران.
و جوابنا هو أن الشعب الإيراني لن يتخلى ببركة الإسلام عن عزته و استقلاله و تلاحمه و وحدته التي أحرزها، و لا عن الطريق النيّر الذي اختاره. بالاعتماد على هذا التلاحم و الوحدة و القوة الذاتية و الوطنية، و التاريخ العريق و القيم الخالدة و الصمود الإسلامي و بالاتكال على الله تعالى، سوف يواصل هذا الطريق، و يقف بوجه التهديدات، و هو يعلم أن من يريد تجريب سيفه في هذه الصخرة القوية فلن يكون لسيفه من مصير سوى الانكسار.
بعد أسبوعين ستبدأ السنة الشمسية الجديدة، و تتوافق مع بداية السنة الهجرية القمرية الجديدة، أي بداية محرم الحرام، و أنا واثق من أن الشعب الإيراني رغم اهتمامه بتقاليده و حبّه لها و حبّه لعيد النيروز - و قد اعتبرنا عيد النيروز طوال أعوام ما بعد الثورة و إلى اليوم عيداً وطنياً مباركاً - إلاّ أن تقارن هذا العيد مع عاشوراء الحسين و أيام محرم، يكرس احترام الشعب الإيراني للإمام الحسين و عاشوراء و دماء شهداء كربلاء و يحفظ حرمة شهر محرم. طبعاً انتم متنبهون إلى أن ثمة أشخاص يرغبون في نشوب حرب بين الميول المتنوعة داخل البلاد. يتمنون أن يصاب المجتمع بالتفرقة و الاضطراب. لا تكترثوا لهؤلاء. ليس ثمة في بلادنا مشكلة بين الشيعة و السنة و المسلمين و غير المسلمين، فالجميع يحترمون عاشوراء. حتى غير المسلمين في بلادنا يحترمون عاشوراء. و حتى الذين لا يلتزمون من الناحية الدينية التزاماً كبيراً يحترمون الإمام الحسين، و أبا الفضل العباس، و علي الأكبر، و علي الأصغر، و زينب الكبرى عليهم السلام، و يجلُّون دماءهم. بلدنا بلد أهل البيت و بلد الإمام الحسين.
أتمنى أن تقام بداية السنة الشمسية الجديدة و بداية شهر فروردين و الربيع لاقترانه بأيام عاشوراء بطريقة تحفظ حرمة عاشوراء و الإمام الحسين (ع)، و أن يعمل الناس و المسؤولون و المؤسسات و وسائل الإعلام العامة على هذه الشاكلة.
اللهم، بمحمد و آل محمد، لا تحرمنا ظلال الإمام الحسين و أهل البيت و ظلال الغدير. ربنا، وفّق الشعب الإيراني و أعزّه و أرفع رأسه في جميع الميادين، و قصّر أيدي الأعداء عن هذا البلد يوماً بعد يوم. ربنا أكتب الذلّ على من يحملون النوايا السيئة لهذا الشعب. اللهم قرّب يوماً بعد يوم قلوب أبناء الشعب و المسؤولين و الناشطين السياسيين من الحقائق و من بعضها. اللهم اشملنا بدعاء ولي الله الأعظم سيدنا الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) و اجعلنا من جنده الحقيقيين. اللهم بمحمد و آل محمد بارك هذا العيد السعيد، عيد الغدير، و هذا اليوم الكبير على شعب إيران. ربنا، بمحمد و آل محمد و بمناسبة هذا العيد السعيد منَّ على شعب إيران بعيديّة و بشارة حقيقية.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة المائدة، الآية 3.
2 - مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.
3 - نهج البلاغة، الخطبة 6.
4 - لمزيد من الاطلاع يراجع كتاب الغدير للعلامة الأميني.
5 - مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.
6 - م س.
7 - سورة مريم، الآية 12.