بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين، و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.
قال الله الحكيم في كتابه:
»هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ** لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ كَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ** وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سَاءتْ مَصِيرًا ** وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا«.(1)
صدق الله العلي العظيم.
أولاً نتقدم بالشكر الجزيل للسادة المحترمين الإخوة الكرام أعضاء هذه الجلسة و الهيئة الفخيمة في نظام الجمهورية الإسلامية، الذين شكلتم هذا الاجتماع و طرحتم هذه الآراء الجديرة بالنظر و الاهتمام. كما أشكر كلمتي الرئيس المحترم و نائب الرئيس المحترم الذين قدّما لنا تصوراً إجمالياً عن قضايا هذا الاجتماع.
خصوصية اجتماعكم هذه المرة قربه من شهر رمضان المبارك، شهر العبودية و الإخلاص، شهر الاتصال بمعدن العظمة و القدرة، و شهر الطمأنينة و السكينة الناجمة عن ذكر الله، حيث قال: »... أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ«.(2) يجب أن يكون من الثمرات المهمة لنا في هذا الشهر الشريف أن تنتهي التلاطمات و الاضطرابات و التوترات التي تشتعل في قلوبنا و تأخذنا ذات اليمين و ذات الشمال، و تنـزل السكينة الإلهية على قلوبنا. فلو تفضل الله تعالى علينا و رحمنا بهذه السكينة لازداد عمق إيماننا و عشقنا و محبتنا لله تعالى، »... لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ«.
الناس لحسن الحظ أصابوا منفعة جيدة في شهر رمضان هذا، و هو ما يراه الإنسان. جاءتنا تقارير عديدة من كافة أنحاء البلاد - تقارير موثقة و مصورة - تروي أحوال الناس و توجههم إلى الله في ليالي الإحياء، و في غيرها من الليالي، و في يوم القدس. لقد انتفع الناس بشكل جيد و الحمد لله. و خصوصاً الشباب منهم. المعنويات في هذا الشهر أشبه بشعاع متلألئ أنار القلوب بنظرة واحدة، و بنظرة واحدة أنزل شآبيب البركة على قلوب الناس و أرواحهم. نسأل الله أن لا نتخلف نحن بدورنا عن هذه القافلة، و أن ننتفع بعض الشيء من هذا الشهر المبارك.
طبعاً، هذا التوجه العام و هذا الفضل الإلهي الذي شاهده الإنسان بأنواعه و صنوفه و يرآه بوضوح عبر حواراته مع الناس ومعاشرته لهم و ما يسمعه و يرآه منهم، هذه الحالة يجب أن لا تدفعنا صوب الغفلة. الوضع العام مُرضٍ و باعث على الارتياح و الحمد لله، و لكن ينبغي عدم الغفلة عن المكر الإلهي. الغفلة عن ما يمكن أن يأتي، و عن الأخطاء التي قد تقع، و عن العقاب الذي قد يقرره الله تعالى لأمة أو شعب بسبب كفرانه و عدم شكره. هذا خطر كبير.
و لحسن الحظ كانت و لا تزال هناك أحداث داعية إلى اليقظة. هذه الأحداث المختلفة و الهجمات المتعددة، و حادثة إهانة القرآن الشريف العزيز في بلد أمريكا.. هذه الحادثة المخزية.. هذه أحداث تبعث على اليقظة و الوعي. إنها تلك الأجراس التي تقرع حتى لا يبقى الإنسان غارقاً في نوم الغفلة، و لا يكون نومه ثقيلاً عميقاً، و لا يغفل عمّا حوله. هذه نعمة كبيرة. لقد مرّت بنا طوال التاريخ و على امتداد عمر الثورة مثل هذه الأحداث، و قد انتفع الأفراد المؤمنون ذوو البصائر و الوعي منها.. انتفعوا من عداء الأعداء.
من الأمور المعروفة و التي سمعنا بها - و لا أذكر الآن هل قرأت هذا في مكانٍ ما أم لا، لكنه كان أمراً تتداوله الألسن منذ عقود - أن كتاب »فجر الإسلام« الذي وضعه أحمد أمين المصري و وجّه فيه تهماً و إهانات كثيرة للشيعة - ثم أصدر بعد ذلك »ضحى الإسلام«، و »ظهر الإسلام«، و »عصر الإسلام«، و واصل في جميعها إهاناته و كررها - حينما صدر هذا الكتاب أدى إلى أن يتنبه عدد من كبار شخصيات و مثقفي الحوزة العلمية في النجف، و يردوا على هذا الكتاب رداً عملياً. لذلك وضع المرحوم الشيخ آقا بزرگ الطهراني كتاب »الذريعة«، و ألّف المرحوم السيد محسن العاملي كتابه المعروف في الرجال و »أعيان الشيعة«. و كتب المرحوم الصدر كتاب »تأسيس الشيعة لفنون الإسلام«. دافع هؤلاء في كتبهم هذه دفاعاً عملياً عن التشيع. أي إن كتاباً من 300 أو 400 أو 200 صفحة اسمه »فجر الإسلام« بعث على ظهور عدة موسوعات شيعية كبيرة. كان هذا جرساً للتنبه و اليقظة حيث استيقظ الجانب الآخر و أنجز العمل الذي كان يجب أن ينجزه.
و قد كان هذا هو الحال في الماضي أيضاً. لاحظوا بدايات كتاب »المبسوط« للشيخ (رضوان الله عليه) - و الذي كتبه في أخريات حياته المباركة - حيث يقول إننا كثيراً ما نسمع أن معارضينا ينالون من فقهنا.. »يستحقرونه ويستنـزرونه« أي يستقلونه، و يقولون إن فقهكم لا فروع له و لا كذا و كذا له، لذلك وضعتُ أنا هذا الكتاب. كتاب مبسوط بهذه العظمة بكل تلك التفريعات التي يقول هو عنها: إنني لم أر لدى أي من المذاهب الإسلامية لحد الآن كتاباً في كافة أبواب الفقه بكل هذه الفروع. هذا ما يقوله الشيخ نفسه في بداية كتابه. أي إن إهانة معينة أو طعن معين يؤدي إلى ظهور مثل هذه الأحداث و النتاجات الحلوة.
أو الشيخ النجاشي (رضوان الله عليه) في بداية كتاب »الرجال« و هو من أفضل و أهم وثائقنا الرجالية منذ ألف سنة و إلى اليوم، يقول إنني سمعت أن السيد الشريف قال - و يظهر أنه الشريف المرتضى - إن معارضينا يقولون: »أن لا سلف لكم«. أي لا ماضي لكم، و »لا مصنَّف« أو »مصنِّف«. ليس لديكم علماء مؤلفون و سلف علمي. لذلك وضعت هذا الكتاب لأقول: بلى، لدينا هؤلاء.
لاحظوا أن العظماء يوظفون الأحداث بهذه الطريقة. اعتقد أنه ينبغي النظر لهذه الأحداث المرة من هذه الزاوية. لا أن إهانة القرآن شيء صغير، إنما هو كبير جداً، و قبيح جداً، و مخز جداً، لكنه يجب أن يمثل بالنسبة لنا أجراس اليقظة فننتبه و نتيقظ و نفهم أنه »من نام لم ينم عنه«.(3) إذا نمنا هنا فإن الأعداء في جبهاتهم و خنادقهم قد لا يكونوا نياماً بل يقظين يخططون المؤامرات ضدنا.
و أعتقد أن فتنة سنة 88 أيضاً كانت من هذا القبيل. كانت بمثابة جرس توعية بالنسبة لنا. بعد أن شارك أربعون مليوناً في الانتخابات و كنا جميعاً فرحين مرتاحين حتى آخر الليل لأن الجماهير احتشدت عند صناديق الاقتراع و أدلت بأصواتها حتى ساعة متأخرة من الليل - و لم تعلن النتائج بعد و الكل كانوا مستأنسين مستمتعين - و إذا بفتنة تبدأ فجأة من زاوية من الزوايا فتوقظنا و تقول لنا: لا تناموا و لا تغفلوا، ثمة أخطار أمامكم و هذه هي الأخطار. أخال أنه يجب النظر لجميع الأحداث من هذا المنظار.
لنلقِ في هذه الجلسة المحترمة المكرمة نظرةً للقضايا العالمية ذات الصلة بنا. و لنلقِ نظرة على قضايا البلاد لنرى ما الأمور و النقاط التي يمكن أن نتعلمها منها، و ما الدروس التي يمكن أن نتعلمها اليوم مما يجري في العالم و في بلادنا.
على صعيد القضايا العالمية تبدو المسألة الأوضح و الأبرز من كل شيء هي تخبط الجبهة المقابلة لنا. مرض الحركيّة (التخبط) من الأمراض التي يصاب بها الأطفال و الأحداث. معنى التخبط هو أن الحركة كثيرة و الأفعال و الأعمال متنوعة و لكن من دون تركيز ومن دون هدف. يضرب أطرافه ذات اليمين و ذات الشمال. الحركة كثيرة و لكن من دون هدف و غالباً ما تكون دون نتائج و مصحوبة بالفشل و الإخفاق. هذا هو التخبط و هو حالة يمكن للمرء أن يشاهدها اليوم في جبهة العدو المقابلة لنا. إنهم يتحركون حركات عديدة: الحظر، إصدار القرارات، توجيه الاتهامات، إثارة الأجواء ضد النظام الإسلامي، تقوية المعارضين الداخليين، و حسب اصطلاحات الرياضيين حقن المعارضين الداخليين بالمواد المنشطة، حيث يحقنونهم باستمرار بحقن منشطة ليس لها أي تأثير في تقويتهم بشكل حقيقي و واقعي، و إنما تجعلهم نشطين في الظاهر فقط.
في العام الماضي سمعتم في ذروة أحداث فتنة عام 88 أن إحدى الشبكات الالكترونية الاجتماعية ذات الصلة بالمعارضين و التي كانت تأخذ الأخبار من هنا إلى هناك، و تنقل أوامر الجانب الآخر هناك إلى هنا، و تثير الضجيج و الأجواء. أرادت هذه الشبكة تعطيل أعمالها و نشاطها موقتاً لإجراء بعض التعميرات، لكن الحكومة الأمريكية منعت ذلك و قالت إنكم إذا توقفتم عن العمل الآن حتى و إن بشكل موقت، فسوف يلحق هذا الضرر بالمعارضين في داخل إيران، و حالوا دون التعطيل الموقت. لم يسمحوا بتعطيل موقت لهذه الشبكة الاجتماعية. هكذا كانت المساعدات، إلى غير ذلك من شتى صنوف المساعدات و الإعانات.
يستخدمون اليوم كافة وسائل الاتصال، و جميع الأدوات السياسية، و الوسائل الثقافية، و الأدوات الاقتصادية من أجل أن لا يبلى الحظر ضد إيران و لا يتوقف في وسط الطريق. كلفت الحكومة الأمريكية أحد رجالها الاقتصاديين و الماليين رفيعي المستوى بهذه المهمة خصيصاً، و من واجبه توجيه لجان معينة تسافر إلى هنا و هناك من أنحاء العالم و تتصل برؤساء و قادة البلدان، و تحرضها دوماً ضد إيران. هذا هو تخبط نظام الاستكبار و الجبهة المقابلة للنظام الإسلامي، و هو برأيي أبرز الأحداث في الوقت الراهن.
يمكن للمرء أن يستفيد عدة نقاطٍ من هذا الحدث. النقطة الأولى هي أن هذا الواقع ناتج عن قوة الصحوة الإسلامية المتصاعدة باطراد. حين يرى الإنسان أن الخصم مرتبك و يبذل مساعيه باضطراب و يطرق هذا الباب و ذاك الباب و يعمل هذا و يلتقي بهذا و ذاك فهذا دليل على أن الجانب الآخر من القضية اكتسب قوة و قدرة أرعبت الجانب الآخر و أخافته و فرضت عليه الاضطراب و التخبط. لو كنّا ضعفاء و هشّين، و لو كان بمستطاعهم إخضاعنا بضربة واحدة، لما كانت هناك حاجة لكل هذا السعي. هذه المساعي مؤشر اقتدار الطرف الآخر. و هذا هو واقع الأمر، و سوف أشير إلى ذلك. الطرف هنا ازداد قوةً و تجربةً و وعياً بالمقارنة إلى ما كان عليه قبل ثلاثة عقود، و أصبح أكثر حريةً و إمكانية في تحركه و فعله. و في المقابل ازداد العدو ضعفاً. ذات يوم كان العالم الاستكباري مجتمعاً كله ضد إيران. أي لم تكن هناك حقاً فرصة للاستراحة. هكذا كان الواقع في العقد الأول من الثورة. كان الاتحاد السوفيتي قوة، و لم يكن بلداً واحداً، بل كان منظومة كبيرة من بلدان مركزها و قطبها هو روسيا الحالية. أوربا الشرقية كانت لهم، و معظم البلدان الأفريقية و بلدان أمريكا اللاتينية كانت معهم، وفي آسيا أيضاً كان يحسب لهم حسابهم. هؤلاء كانوا ضد الجمهورية الإسلامية. في حينها لم يكن بوسعنا مراجعة أي مصدر لأجل الحصول حتى على الأسلحة التقليدية. أي لم يكن هناك أي بلد في العالم يبيعنا سلاحاً تقليدياً من قبيل الدبابات إذا احتجنا لعشرين أو ثلاثين منها. في زمن رئاستي للجمهورية زرت يوغسلافيا، و قد رحبوا بنا ترحيباً حافلاً حسب الظاهر، و احترمونا و أهلّوا و استهلّوا فرحاً، و لكن مهما أصررنا لم يكونوا على استعداد لتزويدنا بهذه الأسلحة التقليدية. مع أن يوغسلافيا كانت من البلدان المستقلة و ليست ضمن المعسكر الغربي و لا ضمن المعسكر الشرقي. و مع ذلك لم يكونوا مستعدين لبيعنا السلاح. فما بالك بالباقين؟
و كان هناك المعسكر الغربي و فيه أمريكا و أوربا و فرنسا هذه التي تشن ضدنا الهجمات الإعلامية كانت يومذاك تبعث الميراج ضدنا، و تمنح السوبراتاندارد ضدنا. أي أن هجمات هذه البلدان علينا يومذاك كانت أشد بكثير و أكثر بكثير من اليوم. الألمان اليوم قد يتحدثون بشيء في إعلامهم على لسان المستشارة أو غيرها، لكنهم كانوا في ذلك الحين يزودون صداماً بالأسلحة الكيمياوية، و يؤسسون له مصانع الأسلحة الكيمياوية. بمعنى أن العداء كان يومذاك عملياً و أكثر فاعلية.
و لا توجد من قبيل هذه الأمور اليوم. أي إنهم لا يستطيعون ذلك و لا تتوفر لديهم الأرضية لذلك، لا أنهم أرتفعت درجة نجابتهم و فضلهم حالياً، لا، إنما يجدون أنهم لا يستطيعون فعل شيء. بمعنى أن هذا الكيان العظيم ازداد اليوم قوة و مضموناً و محتوى داخلياً. و الغرب اليوم - و هذه نقطة على جانب كبير من الأهمية - يشعر أن هيمنته السابقة على العالم الإسلامي قد تضعضعت. أي إن هؤلاء الذين كانوا يصولون و يجولون و يتقدمون إلى الأمام في البلدان الإسلامية و العربية دون مانع أو رادع، يجدون اليوم أن هذا الأمر غير ممكن، و غير متيسّر لهم. لقد فرضت عليهم هذه الموجة الإسلامية ما فرضت، بل إنهم يريدون اليوم إعادة النظر، وإعادة النظر نفسها صعبة عليهم. يريدون في بعض البلدان ذات التبعية الواضحة الجلية للغرب - و شعوبهم تعلم ذلك و هي غير راضية عنه - إعادة النظر عسى أن يستطيعوا ترتيب الأوضاع لكنهم لا يستطيعون فالطريق مسدود أمامهم. يقف الغرب حالياً في مثل هذا الموقف و الواقع. و نتيجة هذا الضعف بشكل طبيعي هو أن يلجأوا إلى مثل هذه الأشياء و يصدروا القرارات. قرارات، قرار و قرارين، و خمسة، و عشرة. قرارات ليست قلوب الشعوب بل حتى قلوب الحكومات معها. نحن نعلم أن هذه الحكومات و بعضها أعضاء في مجلس الأمن و يوقعون هذه القرارات، نحن نعلم أنه حتى بعض هذه الحكومات غير راضية بالحظر. إنما هي عملية قسرية جبرية بالنسبة لهم، و نوع من الإحراج السياسي. هذا هو الواقع.
إذن، أحداث من قبيل ما وقع لنا خلال هذه المدة - سواء القرار رقم 1929، أو قضية إهانة القرآن الكريم، أو التصريحات العدائية صراحة ضد الجمهورية الإسلامية، أو ما حدث في سنة 88، و قد كانت أيدي الأعداء المستكبرين مشهودة بوضوح و بلا شك في هذه الأحداث - كلها بسبب أن الطرف الآخر يشعر بأن هذا الطرف بات قوياً. القوة و الاقتدار و المتانة التي توفرت لهذا الطرف باتت تخيف ذلك الطرف. هذا ما يلاحظ على تصريحاتهم و ما يقولونه بأنفسهم: إذا لم نفعل كذا و كذا ستغدو إيران قوة في الشرق الأوسط، و إذا لم نفعل كيت و كيت ازداد نفوذ إيران في الشرق الأوسط. يطلقون مثل هذه الكلمات. هذه كانت النقطة الأولى.
النقطة الثانية هي أن هذه الأحداث يجب أن تبقينا يقظين. يجب أن لا نغفو و لا ننام و لا يأخذنا النوم. هذه الأحداث التي أتكلم عنها و هذه القوة و القدرة و المتانة المطردة التي تلاحظ على الجبهة الإسلامية و نظام الجمهورية الإسلامية المقدس، إذا جعلتنا مطمئنين غير مبالين، و أدت إلى نومنا و غفلتنا و غرورنا فستكون خطراً دائمياً علينا. ما الذي يجب أن نفعله؟ يجب أن نصلح دواخلنا. الإصلاح الدائمي من الواجبات الدائمية. كيف نصلح الداخل؟ يجب أن نبدأ من أنفسنا. أنا العبد الصغير المذنب العاصي يجب أن أبدأ من نفسي. و كذلك الآخرون. أولاً يجب أن نصلح علاقتنا بالله و نفكر بما سيسألنا عنه الله تعالى: »و استعملني بما تسألني غداً عنه«.(4) هذه من الأمور التي يجب أن تتفاعل دوماً في أذهاننا. لا أقول إننا يجب أن لا نهتم بإصلاح الناس إلا بعد أن نصلح أنفسنا تماماً - فقد لا يتهيّأ هذا بسهولة - حينما نبدأ بإصلاح أنفسنا سيكون إصلاح المجتمع سهلاً علينا. بل سيكون إصلاح المجتمع أسهل من إصلاح النفس. يرى الإنسان القلوب المستوعبة و المستعدة و التي تتقبل الكلام و المنطق في مجتمعنا الإيراني الكبير، هؤلاء الشباب، و هؤلاء الرجال و النساء المؤمنين في أقصى أنحاء إيران، ابتداءً من أكثرهم ثقافة و علماً و فهماً و حتى الطبقات العادية في شتى أرجاء البلاد، يرى الإنسان أنهم يستمعون الكلام، و يصغون إذا قلنا لهم شيئاً. إذا استمعوا فمن المحتمل جداً أنهم سيتأثرون و سيظهر تأثرهم هذا في أعمالهم. هذه أيضاً قضية، هي قضية إصلاح الداخل.
و من القضايا المهمة أيضاً قضية تعزيز الروح الداخلية - و سوف أذكر هذا الأمر إذا لم يطل الكلام و لم أسبب لكم إزعاجاً كثيراً - و هي من واجباتنا. تعزيز المعنويات من واجباتنا الرئيسية، سواء المسؤولون أو علماء الدين و المعممون. هذه من الأمور التي يجب أن لا ننساها أبداً.
الاتحاد الحقيقي.. جميع السادة يتحدثون و نتحدث عن الاتحاد و الوحدة. كلنا نقول الوحدة، لكن علينا تحقيق الوحدة على المستوى العملي. الوحدة هي أن نعزز القواسم المشتركة بيننا و هي أكثر من مواطن الاختلاف، و نضعها أمام الأنظار و نصب أعيننا. يجب أن لا يؤدي بنا الامتعاض من شخص معين إلى فعل شيء أو قول شيء أو القيام بتصرف هو على الضد من مصالح البلاد. و هذا ما يشاهده المرء أحياناً! ننـزعج من شخص ما بسبب فعل معين أو لشخصه أو بسبب تصريح من تصريحاته، ثم يخيّم هذا الانزعاج على جميع سلوكنا.. هذا غير صحيح. ينبغي النظر للمشتركات و التركيز على المواطن الرئيسية. بعض المسائل التي نطرحها و نشدد عليها هي للحق و الإنصاف ليست من المسائل الأصلية. ثمة مسائل أهم و أخطر يجب التشديد عليها. ترون ما الذي يستهدفه الأعداء، و سوف أتطرق لهذا الأمر.
النقطة الثالثة التي يمكن استلهامها من هذا الوضع القائم هي معرفة العدو و أساليبه و العمل الذي يقوم به. ما الذي يفعله العدو الآن؟ من الأمور التي يقوم بها العدو، و ربما جاز لي القول من أهم ما يقوم به العدو أمران: الأول فصل الشعب عن النظام، و الثاني فصل الشعب عن بينات الدين و أصوله و واضحات الأحكام و الشريعة الإسلامية. هذان هما الفعلان الذان يقوم بهما العدو. و لقد فهم العدو الأمر بشكل صحيح، فالشعب هو رصيد النظام، و يعلمون أن الشعب إذا انفصل عن النظام بقي النظام بلا رصيد و لا سند و لا دعامة. لذلك يحاولون فصل الشعب عن النظام. كيف؟ بسلب الثقة. من الممارسات الواضحة سلب الثقة: يجعلون الناس عديمي الثقة بالمسؤولين. كلما عمل المسؤولون و جهدوا و سعوا و تحركوا و كلما انجزوا من الأعمال الجيدة، يقدمون لذلك تفاسير سيئة في الإذاعات الأجنبية و الإعلام الأجنبي بحيث لو استمع المرء لتلك الإذاعات لشاهد ذلك بكل وضوح. طبعاً، هذه حالة كانت قائمة على الدوام. دائماً و في كل الفترات كان من ممارسات العدو فصل الجماهير عن المدراء و المسؤولين و نزع ثقتهم بهم. طوال فترة العشرين سنة أو أكثر بعد رحيل الإمام، و خلال فترة الحياة المباركة للإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) كانت هذه من ممارساتهم. لذلك كان الإمام يقف موقف المدافع عن المسؤولين و المدراء في البلاد على الرغم من وجود اعتراضات و نقود على جوانب من أدائهم وأعمالهم. هذا لا يعني أن الإمام كان يدافع عن تفاصيل الأمور، لا، لكن الإمام كان يدافع عنهم و يحميهم. كان الإمام يقف إلى جانب مدراء النظام و مسؤوليه حينما يشاغب عليهم أحد و يحاول سلب ثقة الناس بهم. و أنا أيضاً كذلك. أنا أيضاً دافعت عن جميع الحكومات من هذه الناحية، و سأبقى أدافع. يجب عدم تسقيط مسؤولي النظام سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية في أعين الناس بسبب عمل ما في زاوية من الزوايا. فالناس سوف يفقدون أملهم إذا شعروا أن هذه الأجهزة و المؤسسات العظيمة مما لا يمكن الثقة به. ينبغي التفكير بهذا. و ما يقال هو بخلاف الحق للإنصاف. أي إن الأمور التي تطرح أحياناً بخلاف الحق. إننا نرى الوضع و الأحوال و على معرفة ببطون الأمور. تبذل الكثير من الجهود المؤمنة المخلصة. هذا ما يشاهده الإنسان. و التقدم الذي يشاهد و يقال دوماً: تقدم البلاد وتقدم البلاد، هذا التقدم لا يتأتى بالجلوس في زاوية البيت أو بعطل المسؤولين و قعودهم، إنما يحصل بجهود المسؤولين. هناك جهود تبذل للحق و الإنصاف. يريد العدو إزالة هذه الحالة. يروم العدو زعزعة ثقة الناس بمسؤولي النظام ليشعروا أنهم لا يستطيعون الثقة بحكومتهم، و بسلطتهم القضائية، و بمجلسهم. يريدون تخريب هذه المؤسسات في أعين الناس. هذا خطأ. هذا نوع من أنواع عمل العدو يجب فهمه و إدراكه. ينبغي عدم التناغم مع العدو و عدم ملء جدوله أو تكميل »پازله«، أو تكرار صوته في الداخل. يتوجب مراقبة هذه الأمور.
و هناك قضية الدين و بينات الإسلام و الثورة الإسلامية. من التوحيد و النبوة و الإمامة و الولاية و ما شاكل، إلى الأحكام و الحجاب و الحدود الشرعية و سائر الأمور. يبثون الشبهات باستمرار. ينبغي أن نتنبه و نتيقظ و نعلم أن هذا أسلوب من أساليب العدو. يجب أن تكون لنا تدابيرنا حيال هذه الأمور. طبعاً للكل واجباتهم هنا و أمام هذه الشبهات التي تطرح بأشكال و طرق مختلفة. من واجب الجميع الوقوف أمام هذا التخريب ضد القيم الدينية في المواقع الالكترونية، و في التصريحات، و في صناعة الفرق، و حيال هذا التخريب الأخلاقي و الجنسي الذي يشاهده المرء، و ما إلى ذلك من الأمور. هذه أمور لا أن العدو يقوم بها كلها من الخارج، لا، ثمة محفزات داخلية أيضاً، لكن العدو يعززها و يوجهها و يساعدها و يدفعها إلى الأمام، و العدو راضٍ عن هذه الأمور. ينبغي الحذر من هذه الأمور.. ينبغي الحذر. من الذي تقع عليه المسؤولية؟ هل تقع المسؤولية على عاتق الحكومة؟ ليس لوحدها. للحكومة طبعاً مسؤولياتها. قلت مراراً لمجلس الثورة الثقافية في دوراته المختلفة إنكم لا تستطيعون عزل أنفسكم عن جعل الناس متدينين و الواجب الذي تتحملونه في هذا السبيل. التيارات السيئة الأخلاق كانت تعارض و تقول: لا، سيكون هذا ديناً حكومياً. أنا اعتقد أن للحكومة واجبها على هذا الصعيد، و لكن ما هو واجب الحكومة؟ هل واجب الحكومة تصحيح عقائد الناس و بناءها؟ لا، واجب الحكومة تمهيد الأرضية، و الواجب الميداني و العملياتي يقع على عاتق رجال الدين و النخبة في الحوزات و الجامعات. هذه هي الواجبات الميدانية. أنظر اليوم فأرى فراغ هذه المنظومة الدينية و العلمية المكرمة واضحاً في الكثير من المواضع.
حينما نعترض على أجهزتنا الإعلامية أحياناً، نجد أنهم يقومون بسبب اعتراضاتنا و مؤاخذاتنا بخطوة دينية معينة تكون نتائجها سيئة. و أحياناً ينجزون بعض الأعمال فتأتي المضامين غير سليمة، و السبب هو عدم وجود التمكّن العلمي الخاص برجال الدين وحدهم.
ليس دور الحوزات العلمية في الإذاعة و التلفزيون مجرد أن يأتي واعظ لبق ينصح الناس، لا، على الحوزة العلمية تشكيل لجان و مجاميع و غرف تفكير ديني و أن يكتبوا حول القضايا المختلفة و يبحثوا و يحللوا و يحققوا، و ينتجوا ثماراً معينة. حينما تتألف الأجواء و تتكوّن فإنها سوف تترك تأثيراتها دون شك، و ستترك آثارها على تمثيل الفنان أيضاً.
جاء إلى هنا مائتان أو ثلاثمائة من فناني البلاد المعروفين في المجالات المختلفة - كان ذلك العام الماضي أو في وقت آخر - و ألتقوا بي. تحدثوا هم بمقدار معين و تحدثنا نحن بمقدار معين. ثم لاحظت نقطة في ذلك الاجتماع و قلت حينها إذا سألتموني أنتم المخرجين أو الفنانين أو الممثلين أو المنتجين ما هو الموضوع الذي نختاره إذا أردنا إنتاج فيلم ديني؟ لنفترض أننا نريد إنتاج فيلم عن الحجاب فما سيكون محتواه، و من أين نبدأ و ما الذي نقوله للناس؟ نريد تقوية عقيدة الناس حول مسألة التوحيد، أو النبوة، أو الولاية، أو قضية ولاية الفقيه، أو قضية الإمام (رضوان الله عليه) فما يجب أن يكون الموضوع و المحتوى؟ الشخص الذي نشأ في بيئة غير دينية، و لم يقرأ علوم الدين يوماً، و الكثير منهم غير عارفين بالقرآن، و لا بنهج البلاغة أو الأحاديث، ما يدريهم ما الذي يجب أن يدرج في مضامين الفيلم؟ نحن الذين نعلم و يجب أن نعدّ ما نعلم و نقدم المساعدة. حينما نستطيع تنظيم هذه الأفكار و ترتيبها و جعلها منطقية قابلة للفهم و مقبولة لدى العقل، و ننظمها على شكل مجاميع فسوف يتأثر بها الفنان حينما يقرأها. لذلك نجد أن الفنان الذي يحمل سابقة و جذوراً دينية سينتج فيلماً جيداً، و هذا ما يحصل نادراً بالطبع. إذن، المهمة مهمتنا.. مهمة رجال الدين أن يرفعوا النواقص في هذه المجالات.
كانت هذه نقاطاً تتعلق بالشؤون الخارجية و أهمها جبهة الأعداء المتخبطين في مقابلنا، و ما يقومون به من أعمال و ممارسات. طبعاً، الكلام في هذا المجال كثير لو أراد الإنسان استعراض الأمور و ذكرها.
لنلقِ نظرة على وضعنا الداخلي أي وضع الجمهورية الإسلامية سواء في الداخل أو في الخارج. أرى أنه شنّت ضدنا الكثير من الهجمات إبان هذه العقود الثلاثة المجيدة التي مرّت على نظام الجمهورية الإسلامية. هجمات لتحطيم الأسس، و هجمات معارضة جادة ضد الهوية الإسلامية و الروح الإسلامية و الثورية. شنت ضدها الكثير من الهجمات خلال هذه الأعوام الثلاثين. تطاولوا على شعاراتنا و حرفوها، و في كثير من الأحيان فسروا شعاراتنا بشكل مغلوط. جرت في كثير من الأحيان مساع - مساع منظمة و ليست فردية - للإيقاع بين الجماهير و أصل الثورة. خرقوا القوانين في الماضي غير البعيد، و نحتوا في كثير من الأحيان عناوين و ظواهر و ذرائع براقة لخروقاتهم. حصلت و جرت الكثير من الأعمال و الممارسات. بيد أن الجماهير و الثورة وقفت و صمدت. صمدت الثورة، و صمدت الجماهير، و صمد المسؤولون المؤمنون الذين كان لهم تواجدهم الفاعل في هذه المنظومة الهائلة، و كشفوا عن الحقائق، و تقدمت الثورة إلى الأمام و الحمد لله، و لم يستطع الأعداء فعل شيء. لذلك لاحظتم أن الجماهير لم ينجذبوا في الانتخابات الأخيرة للطروحات ذات الصبغة غير الإسلامية و غير الدينية. هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية. توجّه الناس صوب الشخص الذي كان يرفع الشعارات الثورية و الإسلامية و المناوئة للارستقراطية، شعارات العدالة الاجتماعية. هذا مؤشر صحوة الشعب. الناس يحبون هذه الأمور و يحترمونها لأنهم يحبون الإسلام، و يعلموننا مظهراً للإسلام و شرّاحاً للإسلام.
هذه هي سمة الناس و هي مسألة على جانب كبير من الأهمية. جرى العمل ضد الثورة منذ أكثر من ثلاثين سنة، و مع ذلك وقف الناس و شعارات الثورة اليوم حيّة. كلام الإمام هو الكلام الشائع اليوم و هو العملة الدارجة. الذين يريدون أن يحظوا بمكانة بين الناس يكررون كلام الناس و ينسبون أنفسهم إليه. ذات يوم كان الأمر على الضد من هذا. ذات يوم غير بعيد عنّا كثيراً كان هناك من يتظاهرون بمعارضة الإمام، و قد قالوا إن الثورة دفنت! أعلنوا ذلك صراحة. و قال البعض يجب فصل الناس عن الله! كانوا يقولون هذا صراحةً من منابرهم و مكبرات صوتهم. و هم لا يتجرأون اليوم على التفوّه بمثل هذا الكلام. الذين يستطيعون التحدث مع الناس اليوم و لهم منابرهم - أو أنهم يستخدمون أية وسيلة لذلك - يتحدثون عن الإمام الخميني و الثورة و شعارات الإمام، طبعاً بأساليب خاصة. هذا شيء على جانب كبير من الأهمية. إنه دليل على أن العملة الدارجة في البلاد و المنهج المقبول هو منهج الإمام و طريق الثورة. هذا شيء مهم جداً.
طبعاً ذكرنا أن الجماهير صمدت، و كان النموذج الأخير لذلك فتنة سنة 88 حيث وقف الناس و صمدوا. حتى الذين منحوا أصواتهم لأشخاص غير الشخص المنتخب وقفوا مقابل أولئك. لذلك لاحظتم أن الجميع شاركوا في التاسع من دي و الثاني و العشرين من بهمن. و في هذا دلالة على أن أرباب الفتنة و مثيريها أقلية محدودة، لكنهم كذبوا و أرادوا جرّ الناس وراءهم. و قد نجحوا في بداية الأمر، و لكن حين انكشف وجههم و سقط القناع عن وجوههم أثناء الكلام و المواقف و التصرفات المختلفة تنكّر الناس لهم. و بالتالي فقد وقف الناس و صمدوا. هذه نقطة تتعلق بوضع البلاد.
و النقطة الأخرى هي تقدم البلد و تطوره. لقد تحدثوا و تحدثنا و تحدث الآخرون عن التقدم العلمي للبلد، و هذا ما تعلمونه. الحق أنه تم إنجاز تقدم مذهل في الميادين العلمية و مجالات التقانة. بعض هذه الأمور التي يمرون بها في التلفاز مرور الكرام و يقولون إنه حدث كذا و أنجز العمل كذا و افتتح المركز كذا، توجد خلفها أعمال جسيمة و مهمة جداً، و تقف وراءها الكثير من الجهود العلمية العميقة و الكثير من القدرات التي تفاعلت إلى أن وصلت إلى ظهور الشيء الفلاني أو اختراع كذا و كذا أو إنتاج كذا في شتى الميادين الصناعية و العلمية و التقنية. هذا أمر مفروغ منه، لكن ما أعتقد أنه فوق هذا التقدم العلمي و التقني هو روح الثبات و الشعور بالاقتدار لدى شعبنا. لقد استيقظت هذه الروح لدى الذين يجب أن يقوموا بهذه الأعمال.
و كان هذا تحديداً من بركات اجتماعاتنا في شهر رمضان بالنسبة لي شخصياً. كان هناك الطلبة الجامعيون، و الأساتذة، و المثقفون، و النخبة، و المسؤولون و المدراء، و أرباب الصناعة، و مختلف الناشطين في البلاد، و لم يقل أحد لهم ما يقولوا، بل كانوا يقولون كلامهم، و قد دلت كلماتهم على روح الثقة بالذات و الاعتماد على النفس، و الثقة بأنهم يستطيعون إنجاز أضعاف ما أنجزوه لحد الآن. هذا شيء مهم جداً. هذه هي الروح التي كان الإمام الخميني (رضوان الله عليه) يريد إيقاظها فينا. لقد استيقظت هذه الروح لدى الشعب. يأتي الشباب و يتحدثون. جاء أحد الشباب و قال إنني وضعت خارطة علمية شاملة سأزودكم بها و إن الخارطة العلمية الشاملة التي تم إعدادها في المجلس الأعلى للثورة الثقافية تنطوي على إشكالات و مؤاخذات. هذه روح عالية جداً من الثقة بالذات، و قد استمتعتُ لذلك كثيراً. قد لا يكون ما أعده ذلك الشاب مقبولاً مائة بالمائة كما يتصور، لكن هذه الروح بأن يأتي شاب جامعي مع اثنين أو ثلاثة من زملائه و يضعون خارطة علمية شاملة للبلاد، ثم لا يخفونها في زاوية من الزوايا بل يعطونني إياها في الملأ العام، و يقول أعطيك هذه الخارطة، هذه الروح تمثل شيئاً على جانب كبير من الأهمية. توجد مثل هذه المعنويات لدى طلبتنا الجامعيين و شبابنا و لدى أساتذتنا الجيدين المؤمنين.. هذا شيء مهم.
إذا كنا نشاهد المرارات و الإخفاقات و نقاط الضعف، فيجب أن نشاهد هذه الأمور أيضاً فهي مهمة للغاية و بوسعها أن ترسم لنا الاتجاه الصحيح. و إلا متى لم يكن هناك بيننا أناس سيئون و جانحون و ضعفاء و متململون؟ كان مثل هؤلاء الناس دوماً. لكن الشيء الذي يتقدم بالبلاد إلى الأمام هو المحرك الرئيسي أو الداينمو. و قد يكون في داخل القطار بضعة أشخاص يتشاجرون فيما بينهم أو يرمون الأوساخ و يلوثون الأجواء، بيد أن القطار يتحرك و يتقدم إلى الأمام. و توجد أيضاً هذه الاختلافات، فلتكن. و هناك تصرفات سيئة، و هناك أيضاً شخص يصلي صلاة الليل و صلاة جعفر الطيار. توجد كل الأنواع. لكن المسيرة مسيرة إلى الأمام.. مسيرة مفعمة بالأمل و لها اتجاهها و هدفها. يجب النظر لهذه الحقائق. ثمة عمل، و ثمة بناء، و ثمة إبداعات، و ثمة روح استغناء، هذا ما يشاهده المرء في الوقت الراهن. أنجزت على كل حال أعمال مهمة أعتقد أنها قيمة و ذات شأن. في حدود علمي و إطلاعي يتم إنجاز أعمال جيدة جداً في البلاد.
هذه الصورة التي أحملها للوضع في البلاد و التي ذكرتها للإخوة و السادة المحترمين، و ما أفهمه من واقع البلاد - و أنا لست عديم الإطلاع بل على اطلاع و علم بكافة هذه القضايا المختلفة التي تطرح. و أعلم الكثير من التفاصيل - تترتّب عليها عدة نقاط:
النقطة الأولى هي أن ضغوط الأعداء و الظروف الصعبة لم تزدنا ضعفاً. الصعوبات و المضايقات لم تنل منا و لم تسبب لنا الضعف طوال هذه الأعوام الثلاثين، بل جعلتنا أقوياء مقاومين. يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه سلام الله و الملائكة أجمعين): »ألا و إن الشجرة البريّة أصلب عوداً.. و أقوى وقوداً«.(5) الشجرة البرية أقوى و أصلب، و حينما تحرقها تبقى نيرانها فترة أطول. هذه من خصوصيات الظروف الصعبة. الظروف العصيبة المليئة بالتحديات تزيد الشعوب مقاومة. تزيد الرؤساء و المدراء و المسؤولين و قادة البلدان مقاومة. إنها تقوّيهم كما تقوّيهم الرياضة و تزيد من طاقاتهم و قدراتهم و تضاعف من هممهم و تجعلهم يتجهون صوب الأعمال و المشاريع الأكبر. و هذا ما حدث و الحمد لله. هذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية هي أن هذه الضغوط التي تمارس في العالم محكومة بالفشل و الهزيمة. سوف تهزم هذه الضغوط. هذا شيء أكدته لنا التجارب، ما عدا الوعد الإلهي: »... وَ لَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ...«(6)، و الكثير من الآيات الأخرى في هذا الاتجاه. غالباً ما تكون الضغوط محكومة بالإخفاق. يضغطون لفترة ما و حينما يشاهدون ثباتاً و صموداً من الجانب الآخر تنتهي الضغوط. الحرب حرب إرادات، حرب العزائم الراسخة. ينتصر فيها من تكون عزيمته أكبر. لذلك سيُهزم هؤلاء. لو كان من المفترض أن يهزم النظام الإسلامي بهذه الضغوط لكان قد هزم في العقد الأول في ذلك الحين و كما أسلفنا كان العدو أقوى و كنا أضعف، و كانت قدراتنا أقل، و إمكاناتنا أقل، و معرفتنا بالعالم أقل، و تجاربنا أقل. و قد تم الآن و الحمد لله تلافي هذه النواقص و الثغرات التي كانت يومذاك، و لم تعد توجد اليوم المشكلات التي كانت في ذلك الحين. و الجماهير معنوياتها جيدة. المحفزات و الدوافع في الوقت الحاضر عالية جداً. إذا وقعت لا سمح الله في حين من الأحيان حرب تستدعي تواجد الجماهير و الشباب في الجبهات فسوف ترون كيف أن همم و تضحيات شبابنا اليوم و هم جيل الثورة الثالث ليست بأقل من شبان ذلك اليوم، بل ربما أكثر. توجد مثل هذه الحالة. و بالتالي فهذه الضغوط محكوم عليها بالهزيمة، لكن المهم أن نكون يقظين، شريطة أن نكون يقظين. شريطة أن لا يغلب علينا النعاس و الغفلة، و أن تبقينا أجراس التوعية و اليقظة منتبهين.. هذا هو الشرط.
النقطة الثالثة هي أن هناك مفتاحاً أصلياً هو بث الأمل و الطمأنينة في نفوس الناس. هذه هي المهمة التي تقع على عواتقنا أنا و أنتم.. نحن المعممين، و المسؤولين، و أئمة الجمعة. يجب أن تتركز هممكم على نشر الأمل و الطمأنينة بين الناس. إذا فقد الناس أملهم و فقدوا ثقتهم وتزلزلوا فالهزيمة أكيدة. الشيء الذي يثبت الجندي المقاتل في الجبهة هو الأمل. يجب أن يكون له أمله و أن يعلم أنه يستطيع الانتصار. ينبغي الحفاظ على هذا الأمل حياً. العامل الأصلي للانتصار هو تواجد الجماهير في الساحة. و العامل الرئيس لتواجد الجماهير في الساحة هو الأمل و الطمأنينة. يتعيّن تعزيز هذا الأمل لدى الجماهير.. ينبغي عدم إرعاب الناس و عدم جعلهم سيئي الثقة و عديمي الثقة. لاحظوا قول القرآن الكريم: »الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ...«.(7) هذا الشيء من جانب العدو فاخشوه »قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ...«.. ينسب الشيء إلى العدو. و في آية أخرى: »إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ...«.(8) »لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...«.(9) لاحظوا هذا. أي إن القرآن ذمّ إخافة الناس و نزع الأمل من قلوبهم و تحطيم ثقتهم. و في المقابل هناك: »وَ الْعَصْرِ ** إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ** إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ** «.(10) ينبغي أن نوصي بعضنا بالصبر و الصمود و اتباع الحق و نثبّت بعضنا. »وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...«.(11) الأولياء بمعنى الأتباع و المرتبطين ببعضهم.. هذا هو واجبنا. إذن، يجب الاهتمام بالأمل و الطمأنينة و الثقة.
يجب معرفة القضايا الأصلية، و عدم جعل القضايا الفرعية أصلية. لا أن تبقى القضايا الفرعية غير مطروحة، لا، يجب طرح القضايا الفرعية أيضاً. يجب طرح جميع التفاصيل، و لكن ينبغي في الوقت ذاته عدم جعلها أصلية و ملاكاً للمعارضة و التأييد. ملاك الموافقة و المعارضة هو صراط الحق المستقيم، و هو الإسلام، و التشرع، و التدين، و الالتزام بمباني الثورة، و الالتزام بآمال الإمام الخميني و الأهداف التي رسمها، و مجابهة المستكبرين، و إساءة الظن بهم. بمعنى أن نعلم من هو عدونا. لا أن نعارض و نخالف أخانا و صديقنا المرافق لنا في الدرب، بينما تكون قلوبنا متماشية مع المستكبر عديم الحياء فنطلب العون منه و نعتمد عليه و نثق به. يجب أن لا نكون على هذه الشاكلة.
القضية المهمة التي تعتمل في ذهني دوماً - كما تفضلوا و ذكروها و طرحت في الجلسة - و تمثل همّاً بالنسبة للسادة، هي قضية الثقافة و هي قضية على جانب كبير من الأهمية. قضية الثقافة أهم من القضايا الاقتصادية و من القضايا السياسية: ما هي الثقافة؟ الثقافة عبارة عن الإدراك و التصورات و الفهم و المعتقدات التي يحملها الناس و روحياتهم و أخلاقهم في الحياة، و هي التي تحضّهم على العمل و النشاط. إذا كانت الثقافة السائدة في بلد من البلدان ثقافة تحمّل المسؤولية مثلاً فسوف توجِّه هذه الثقافة أعمال الناس و ممارساتهم. و الموقف المضاد هو حالة اللامسؤولية حيث لا يشعر الإنسان بالمسؤولية حيال الأحداث و القضايا و المستقبل و الأعداء و الأصدقاء. بث روح تحمّل المسؤولية و إهداؤها للناس و للرأي العام هذا هو تعزيز الثقافة. و الثقافة أيضاً هي التضحية، و الضمير المهني، و الانضباط، و التعاون الاجتماعي، و الانسجام الاجتماعي، و تجنب الإسراف، و إصلاح نموذج الاستهلاك، و روح القناعة، و تمتين و تجويد المنتوجات الداخلية.. هذه هي الثقافة. هذا ما يجب تقويته و تعزيزه لدى الجماهير. العمل الصالح و إحياء أفكار الإمام و الثورة، و روح الانسجام و الاتحاد الإسلامي - الشيء الذي يأمرنا به القرآن و تأمرنا به أفكارنا، و تحضنا عليه و تأمرنا به الثورة - و الاتحاد و الانسجام مع الإخوة المسلمين و أبناء وطننا، و التعصب المتقابل لبعضنا و على امتداد رقعة الأمة الإسلامية. هذه هي الثقافة. و من ذلك أيضاً ثقافة العفاف و التبسط في المعيشة.
على عاتق من تقع هذه المهمات و الأعمال؟ لوسائل الإعلام دور كبير في ذلك، بيد أن وسائل الإعلام قوالب، و المحتوى و المضامين في أيدينا، و لهذه الموضوعة كلام طويل ليس هذا موضعه. و سوف أتحدث عن هذا الجانب في موضعه إن شاء الله. تقع على عواتقنا مهمات جسيمة، و على عاتق الحوزات العلمية، و سوف ننهض بهذه المهمات إن شاء الله. لقد طال بنا الكلام. نسأل الله أن يحفظنا جميعاً على درب الثورة و الإسلام، و يجعل حياتنا وقفاً للإسلام، و موتنا في سبيل الإسلام و لأجل الإسلام، و لأجله عزّ و جلّ. و أن يجعل له و في سبيله كل ما قلناه و نقوله و نسمعه و نفعله.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الهوامش:
1 - سورة الفتح، الآيات 4 - 7.
2 - سورة الرعد، الآية 38.
3 - نهج البلاغة، الرسالة رقم 62.
4 - الصحيفة السجادية، الدعاء العشرون.
5 - نهج البلاغة، الرسالة رقم 45.
6 - سورة الحج، الآية 40.
7 - سورة آل عمران، الآية 173.
8 - سورة آل عمران، الآية 175.
9 - سورة الأحزاب، الآية 60.
10 - سورة العصر، الآيات 1 - 3.
11 - سورة التوبة، الآية 71.