بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. و الصّلاة و السّلام على حبيبه و نجيبه و خيرته في خلقه. حافظ سرّه و مبلّغ رسالاته بشير رحمته و نذير نقمته. سيّدنا و نبيّنا و حبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين، سيّما بقية الله في الأرضين. قال الله الحكيم في كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم: إنا أعطيناك الكوثر. فصلّ لربّك و انحر. إن شانئك هو الأبتر.(1). أوصيكم أيها الإخوة و الأخوات المصلّين الأعزاء جميعاً و نفسي بتقوى الله و العناية بالرضا و الإرادة الإلهية و اجتناب منهيات الشريعة المقدسة و عدم الخروج من دائرة التقوى و الورع.
اليوم يوم عظيم، فهو يوم ولادة سيّدة نساء العالمين، و بنت الرسول الأكرم (ص) العظيمة و قدوة النساء و الرجال على مدى تاريخ الإسلام.. ولادة فاطمة الزهراء و الصديقة الكبرى المجاهدة في سبيل الله و الشهيدة المظلومة، اقترن هذا اليوم مع ذكرى ولادة إحدى أبرز و ألمع الشخصيات التي ظهرت في تاريخ الإسلام من تلك الذرية الطاهرة. فهو يوم ولادة كوثر الزهراء روح الله.
بعد أن توفي أبناء الرسول في مكة الواحد تلو الآخر شمت الأعداء الشامتون بالإسلام و النبي - الذين انحصرت القيم عندهم في المال و الثروة و الأولاد و الجاه و الجلال الدنيوي - برسول الله و قالوا إنك أبتر- أي الذي لا خلف له و لا ذرية - و ستندثر بموتك كل معالمك و آثارك! فأنزل الله هذه السورة على النبي، مواساة لقلب الرسول، و لتوضيح حقيقة كبرى لذلك العظيم و للمسلمين. فقال سبحانه: (إنا أعطيناك الكوثر)، أي تلك الحقيقة العظيمة و الكثيرة و المتزايدة.
مصداق الكوثر بالنسبة للنبي الأكرم أشياء مختلفة. أحد أبرز مصاديق الكوثر، هو الوجود المقدس لفاطمة الزهراء التي جعلها الله تعالى خلفاً مادياً و معنوياَ للرسول. خلافاً لأوهام الأعداء الشامتين، أصبحت هذه البنت المباركة و الوجود السخي سبباً لتخليد اسم الرسول و ذكره و نهجه و معارفه بشكل لا نظير له في أي ولد بارز و عظيم. أوّلاً كان من ذريتها أحد عشر إماماً و كوكباً شعّوا بالمعارف الإسلامية على قلوب أبناء البشرية و أحيوا الإسلام و قاموا بتبيين القرآن و نشر المعارف الإلهية، و أزالوا التحريف عنها و أغلقوا سبل استغلالها. أحد هؤلاء الأئمة الأحد عشر هو الإمام الحسين بن علي الذي قال عنه رسول الله: حسين مني وأنا من حسين (2)، و حسين سفينة النجاة و مصباح الهدى (3). و الذي ترتبت على شخصيته و ثورته و شهادته آثار و بركات جمة في تاريخ الإسلام. هو أحد ذراري فاطمة الزهراء. و من جملة تلك الشموس المتألقة، الإمام الباقر (ع) و الإمام الصادق عليهما السلام و المعارف الإسلامية هي رهن جهودهم. لا المعارف الشيعية فحسب، بل حتى أن مشاهير أئمة أهل السنة قد اقتبسوا من فيض علومهم بشكل مباشر أو غير مباشر أخذ هذا الكوثر المتدفّق الذي يزداد تألقاً يملأ أقطار العالم الإسلامي بنسل الرسول العظيم، حيث توجد اليوم آلاف بل آلاف الآلاف من الأسر البارزة المعروفة في العالم الإسلامي كله، تعكس بقاء ذرية ذلك العظيم، كما أن وجود الآلاف من مشاعل الهداية في العالم يجسّد البقاء المعنوي لذلك النهج و ذلك الوجود المقدس. هذا الكوثر هو فاطمة الزهراء. فسلام الله و أنبيائه و أوليائه و ملائكته و خلقه عليها إلى قيام يوم الدين.
كما أن هذا الولد العزيز الجليل أصبح هو الآخر كوثر الروح اللهي . إذ أنه نزل إلى الساحة وحده، و استطاع أن يجلب إليه القلوب بفضل الجاذبيات الكبرى التي منّ الله بها عليه انطلاقاً مما كان يتمتع به من خصال ذاتية و مكتسبة. و أجبر الأيدي و الأرجل على الحركة. و دفع العقول إلى التفكير و أحدث هذه الحركة العظيمة في هذا البلد إضافة إلى النهضة العالمية العظيمة و الصحوة الإسلامية. إن نهج الإمام و حكمته و مدرسته و فكره سيكون له من بعد هذا دور فاعل في العالم و ستجربه الأجيال.
أريد اليوم في الخطبة الأولى أبحث من زاوية أخرى في أبعاد و بواطن هذه الشخصية العظيمة و أن أذكر لكم بعض المواضيع باختصار. لقد قيل الكثير من الكلام في هذا المجال و من زوايا مختلفة و أنا أيضاً ذكرت مواضيعاً، و أريد اليوم أيضاً أن أتحدث من زاوية أخرى حول هذه الشخصية التي قلّما تجد لها نظيراً في العالم الإسلامي، أعني إمامنا العظيم.
فضلاً عن جميع الخصال التي كانت في ذلك العظيم، تميّزت شخصيته بثلاث خصال ممتازة مترابطة فيما بينها و متداخلة للغاية، حيث جعلت من هذا الرجل العظيم شخصية جذابة و ذات تأثير عجيب.
الميزة الأولى هي عبارة عن الحكمة و المعرفة، فقد كان رجلاً عارفاً و حكيماً و عاقلاً و عميقاً، إذ كانت تتوفر فيه جواهر المعرفة بالمعنى الحقيقي للكلمة. لهذا السبب حيثما برز شيء عنه، لوحظت معالم هذه الحكمة و المعرفة. فقد برزت هذه المعرفة و العمق و هذا الجوهر الساطع من الحكمة في حقل اختصاصاته العلمية، أي الفلسفة و الفقه و العرفان و الأصول و الأخلاق و لم يكتف بتكرار كلمات القدماء، بل طرح آراءً جديدة في هذه المجالات .
الميزة الثانية هي التدين و الإيمان و الوعي. فقد كان رجلاً متعبداً، إلّا أن تعبّده كان بعيداً عن الجمود و التحجّر. كان واعياً و متنوراً و مبدعاً في المباحث الدينية، لكن تجديده كان بعيداً عن الانفلات الذي يتميز به المجددون. هناك الكثيرون يطرحون آراء جديدة في الساحة، لكن هذه الآراء الجديدة دليل على انفلات و عدم تقيّد و لاأبالية في تمسّكهم بالنصوص الإسلامية. فكلامهم تعبير عن آرائهم الشخصية، لا عن رأي الدين! لكن بصيرة الإمام و تجديداته كانت مرتكزة على الدين و الأسس الدينية. لذلك جاءت آراؤه التجديدية في العقائد و الأخلاق و الفقه الإسلامي بشكل أذعن له أكثر الناس معرفة و تبحّراً في هذه العلوم و تقبلوها آراءً قائمة على أسس رصينة، و ليس كلاماً مجرداً عن الأسس و الأصول. لذلك فقد كان متديناً و متعبّداً و لكنه في نفس الوقت، كان يتمتع بالبصيرة و الوعي و التعقل و نظرة واسعة الآفاق في القضايا العقيدية و العلمية. تدينه يعيد إلى الأذهان أنماط التدين التي كانت موجودة في عصر الرسول أو كانت تجليات من عهد المعصومين عليهم السّلام.
الميزة الثالثة هي شجاعته و تضحيته. فقد كان مستعدّاً لمواجهة العالم حيثما يقول هو كلمة الحق و الدنيا تقول كلمة الباطل. كلمته المعروفة التي قال فيها إن الاستكبار لو أراد الوقوف أمام ديننا فإننا سوف نقف بوجه دنياه، كلمة صحيحة. كان بإمكانه الوقوف بوجه العالم كله، كما أنه عندما نادى بتلك الصرخة في قم عام 1341هـ ش في البداية لم يكن معه أحد، ثم التحقت الجماهير المؤمنة و القلوب الطاهرة به بعد ذلك أفواجاً أفواجاً من كل مكان، لكنه حينما نزل إلى الساحة لأوّل مرّة كان وحيداً و كان يشعر بالوحدة، لكنه مع ذلك كان يملك شجاعة النزول إلى الساحة. أن يدخل المرء ساحة تكون في طرفه المقابل القوى الكبرى و القوات العسكرية و الأمنية و شرطة مدجّجة بالسّلاح و هي لا تحمل شيئاً من معاني الضمير و الدين و التسامح من جهة، و تحظي بدعم السياسات العالمية و الاستكبارية من جهة أخرى، فالشرط الأول للدخول في هذه الساحة هو الاستعداد للتضحية. كان الإمام مستعدّاً للتضحية و كان مستعداً لتحمّل جميع المخاطر. أي إن نفسه و ميزاته الأخرى لم تكن تحظى بالأهمية بالنسبة له. قد يدّعي البعض أنه مستعد للتضحية بنفسه، لكن تراه عند العمل يتنازل حتى عن الجاه و الاحترام الفارغ، فكيف يبذل نفسه؟ لا يضحى حتى بشيء من المال أو اللذّات، فكيف يفدي بنفسه،! لكن الإمام الخميني كان صادقاً، فقدّمَ نفسه و كان مستعدّاً و نزل الساحة.
دخل الإمام الساحة بهذه الميزات الثلاثة المنسوجة في كيانه. طبعاً النقاط الإيجابية التي كان يحملها الإمام تشكّل قائمة طويلة. لكنني اخترت هذه الميزات الثلاث بسبب تأثيرها البارز و المتّسق و ترابطها فيما بينها.
اجتاز الإمام هذه الساحة إلى أن بلغ نقطة قريبة من الانتصار أي عام 1357هـ.ِش و هناك واجه الإمام حادثة عجيبة هي انتصار الثورة الإسلامية بفضل مساندة الشعب له بكل وجوده. لم يكن ذلك الانتصار مجرّد انتصار على نظام رجعي و فاسد، فبما أن ذلك النظام الفاسد كان يتمتع آنذاك بدعم جميع القوى الاستكبارية تقريباً، لذلك كان ذلك الانتصار بمثابة انتصار على جميع تلك القوى الاستكبارية. إنه كان يريد أن يدير هذا البلد وفق رؤية و نظريات و تعاليم الإسلام. فماذا كان أمامه؟ بلد مارسوا ضدّه الضغوط على مدى مائتي عام من مختلف الجوانب لتحطيم جميع الخصال البارزة في شعب عظيم و تضعيفه و قمعه. لو راجعتم تاريخ الأعوام المائتين الأخيرة لأدركتم بشكل أفضل عظمة ما قام به الإمام. إنني أؤكّد للشباب على قراءة هذه المرحلة التاريخية. على الأجهزة الإعلامية أن تبيّن للشعب حقيقة ما جرى عليه على مدى هذه المدة.برأيي ما أنجز في هذا المجال قليل جداً.
منذ أوائل القرن التاسع عشر للميلاد، حيث عبر الضابط البريطاني السرجون ملكوم الحدود الهندية إلى إيران، أي في عهد حكومة فتح علي شاه القاجاري، حاملاً معه الكثير من الهدايا المغرية و النفيسة إلى رجال البلاط و دخل الساسة الفاسدون إلى إيران، منذ ذلك الحين سيطر الاستعمار البريطاني أو بتعبير آخر النفوذ البريطاني المدمّر - لأن الاستعمار بالمعنى المتداول للكلمة لم يحصل في إيران، لكن حصل ما هو أسوأ منه - على الحكومات الإيرانية بشدة و نفّذ عن طريقها ما شاء تنفيذه، منذ ذلك اليوم و إلى حين انتصار الثروة الإسلامية استغرق الأمر ما يقارب مائة و سبعين أو مائة و ثمانين سنة. فقد عملت على مدى تلك الفترة جميع عناصر السلطة - القوى العظمى العالمية و القوى العسكرية و السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الأخلاقية في العالم - لتضعف و تحطّم هذا الشعب العريق الأصيل الشجاع العظيم، و لتبث اليأس فيه لكي لا يكون مصدر خطر على القوى الكبرى بأي شكل من الأشكال. وجد الإمام نفسه حيال مثل هذه الحقيقة. طبعاً على مدى مائة و سبعين أو مائة و ثمانين سنة كان الدور في أغلب تلك الفترة للإنجليز، ثم انتقل إلى الحكومة الأمريكية منذ عام 1332هـ.ش و في أواسط تلك الحقبة كان النفوذ للحكومة الروسية و للصراع بين الروس و الإنجليز في عهد القاجار بشكل و بشكل أصعب و أكثر خطورة في العهد البهلوي.
لقد فعلوا بهذا الشعب كل ما استطاعوا. هكذا وجد الإمام نفسه أمام بلد تابع من الناحية السياسية. كل ما أرادت فعله الحكومة الأمريكية كان يتم تنفيذه في إيران. كان بوسعهم أن يفعلوا كل ما كانوا يريدون فعله، سواء في المجال الاقتصادي أو في مجال النفط أو في مجال التنصيب أو في مجال الحكومات - لتذهب الحكومة الفلانية و لتأتي الحكومة الفلانية - و في مجال العلاقات الدولية و في مجال العادات و التقاليد التي كانوا يفرضونها على أبناء الشعب و في مجال الجامعات. لذا كان بإمكانهم فعل كل ما كانوا يريدون في إيران. و كنا قد أصبحنا تابعين. فعلى الصعيد الاقتصادي كنا بلداً مستهلكاً و فقيراً، و كان علينا أن نستورد كل شيء من الخارج. لقد ذكرت ذات مرة، لكن البعض لم يكن يصدق هذا، و لكن صدّقوا أنتم، كانوا يستوردون لبلدنا المسحاة و الإبرة و أنواع الأطعمة و أنواع المنتجات الصناعية! كان كل شيء يذهب للاستهلاك. أي إن هذا الشعب بكل ما لديه من قدرات و خيرات و طاقات و هؤلاء الشباب و الأدمغة، لم تكن لديها القدرة أو الفرصة لإنتاج بعض احتياجاتهم الرئيسية، حتّى يقولوا إنّنا في غنى عن الخارج. و حينما كانوا ينقلون بعض الصناعات إلى الداخل - كصناعة السيارات أو صهر الحديد و ما شابه ذلك من الصناعات التي كانت تنقل إلى البلاد بشكل ناقص للغاية - كانت تلك الصناعة مرتبطة من أولها إلى آخرها بالخارج. في الأجهزة و المعدّات المتطوّرة التي كانوا يبيعونها لإيران - كالطائرات الحربية مثلاً - لم يسمحوا حتى بتصليحها في الداخل و إنما يجب تصليحها في الخارج! إن بلدنا كان في حالة تبعية اقتصادية تامة و كان بلداً مستهلكاً، أما على الصعيد العلمي فقد كنا في مستوى الصفر تقريباً، و لم يكن لهذا الشعب أي شيء جديد يقدمه للعالم في مجال العلوم العالمية الحديثة. أما بالنسبة إلى الجامعات - التي كانت قليلة من حيث العدد و كان عدد طلبة الجامعات في السنوات الأخيرة من العهد البهلوي لا يتجاوز عشر العدد الحالي - فالدروس التي كانت تدرّس فيها - سواء على صعيد العلوم الإنسانية أو العلوم الفنية و الصناعية أو العلوم الطبيعة - كانت نفس منتوجات الآخرين و لم يكن هناك شيء جديد في المجال العلمي! في مجال الثروة الوطنية كان بلدنا عرضة للنهب، حيث كانوا ينهبون النفط و المعادن و كل شيء و بالأسعار التي كانوا يريدونها ! و على الصعيد الاجتماعي كانت حالة الفقر و الغني، و كان البلد بائساً جدّاً، أي كان هناك الآلاف بل عشرات الآلاف من القرى في هذا البلد لم تر الكهرباء و لا الماء الصالح للشرب و لم تكن تأمل بذلك! كانوا يهتمون بطهران و عدد من المدن الكبرى فحسب. و مع ذلك كانت طهران تعتبر واحدة من أقذر و أسوأ العواصم في العالم! كانوا يهتمون بأنفسهم فحسب، فحيثما كان لهم موطئ قدم تجد هناك مطاراً و وسائل راحة، أما الأماكن التي لم تكن ترتبط بهم كانت مهملة تماماً، فكانت الفوارق الطبقية على أشدها.
و على الصعيد الأخلاقي كانت هناك إشاعة الفساد. في فترة قبل انتصار الثورة - أي في عقدي الأربعينات و الخمسينات - كثيراً ما كنت أقول في الاجتماعات التي كانت تعقد للشباب و استناداً إلى الشواهد و الأدلة، إن حالة الفساد و السفور و الفحشاء الموجود في بلدنا، لا توجد حتى في البلدان الأوربية! و كان هذا هو الحال حقّاً و قد كنت على علم بذلك. طبعاً من الممكن أن يكون هناك مركز فلاني للفساد في البلدان الأوربية لكن أعراف الناس هناك - على سبيل المثال وضع و سلوك و حجاب النساء - كانت أفضل مما كان يلاحظه المرء في بعض مدننا! فقد كان الناس مصابين بأنواع الأوبئة الأخلاقية و ليس ما يتعلق بالشهوات فحسب. لقد عملوا على تخريب علاقات الناس فيما بينهم و سلب الثقة المتبادلة بينهم و كان كل ذلك يجري عن عمد. كانوا يريدون أن يكون الشعب يائساً و خاملاً و قانطاً. الخصال التي تعمل على تقدم الشعب هي الأمل و النشاط و الجد. الشعب الذي يشعر باليأس من مستقبله و يحقّر نفسه، لا يتقدم. و أيما سلعة يقال أنها أنتجت محلياً فهذا يعني أن لا قيمه لها بسبب إنتاجها في الداخل! مختلف الأشخاص من متعلمين أو سواهم، كان أحدهم يقول للآخر إن الإيراني لا يستطيع أن يصنع إبريقاً من خزف! أي حتى الجيل المتطوّر علمياً كان يائساً من المستقبل العلمي لهذا البلد. هذه هي المشكلة الأخلاقية.
كنا متخلفين عن قافلة التقدم العلمي و الحضارة العالمية. من حيث النظام الحكومي و الحكام الذين كانوا يسيطرون على هذا البلد، كانت الحكومة في إيران أكثر الحكومات رجعية. كان الحكم وراثياً، فإذا مات شخص، كان الشعب مرغماً على قبول ابنه كملك مطلق لهم، بغض النظر عن سنه و مؤهلاته و خصاله، فلم يكن هناك معيار و لا علم و لا تقوى و لا عقل أو أي شيء آخر! اقرّوا هذا النظام حتى في الدستور، ذلك الدستور الذي تمت المصادقة عليه في طهران تحت وطأة أقدام رضاخان و تحت إشراف جلاوزته. كانت إيران ذليلة في العالم. في الأوساط الدولية، لم يكن هناك ذكر لإيران ككيان مستقل و شخصية مستقلة، إنما كان ينظر إليه كبلد يتلقى الصدقات و كموضع اختبار الآخرين! حيث كانوا يطبقّون فيها بعض الآراء و النظريات الاقتصادية ليروا مدى فاعليتها! كانت إيران بلداً فقيراً مادياً و شخصياً و سياسياً! وجد الإمام نفسه مقابل مثل هذا المجتمع و البلد.
طبعاً النقطة المهمة للغاية التي يجب الإشارة إليها هنا، هي أن الشعب الإيراني شعب عظيم و ذو مواهب. الوضع الذي أوجدوه كان عارضاً. لذا حينما ارتفعت صرخة الإمام، تحرّك الشعب نفسه. طبعاً منذ أن تحرك الإمام إلى أن انطلق هذا المحيط المتلاطم العظيم استغرق الأمر مدة خمس عشرة سنة كانت زاخرة بالآلام. لكن الشعب كان شعباً عريقاً و كفوءاً و أصيلاً و مثقفاً و غيوراً و متديناً و استطاع أن ينهض و ينقذ نفسه من حالة الخدر و السبات، و تمكّن من إبراز شخصيته خلال عهد النهضة لا سيما في العامين الأخيرين قبل انتصار الثورة. هذه هي نقطة قوته، لكن الحقائق التي فرضت على هذا البلد على مدى الأعوام المتمادية و تركت آثارها على حياته كانت مقابل الأمام. و الآن يريد الإمام أن يبني هذا المجتمع على النحو المطلوب و المثالي! ماذا كان ينبغي عليه؟ لاحظوا كم يحظي هذا الأمر بالأهمية،فالأمر ليس مزاحاً. على سبيل المثال تذهبون إلى المكان الذي توجد فيه مواد إنشائية و إمكانيات و مساحة وافية و تريدون أن تشيّدوا بناءاً عظيماً و راسخاً و خالداً من هذه المواد، ليس بوسع أي مهندس القيام بهذا العمل. هنا تبرز تلك الهوية و الشخصية العظيمة. لقد نظر الإمام إلى هذا الشعب و هذه الساحة و هذه الإمكانيات. كان يعرف الإسلام و المبادئ الإسلامية و الأحكام الإسلامية و كان يريد أن يبني بلبنات إسلامية و بأيدي هذا الشعب بناء شامخاً لحكومة عظيمة، مستقلة، شامخة، تجلب السعادة و التقدم و تعوض نقاط الضعف التي كانت موجودة في الماضي. فما الذي يجب عليه متابعته في هذا الشعب أكثر من غيره؟ و ما هي الأولويات؟
لقد حدّد الإمام الأولويات و أختارها و تابعها. و أعتقد أن تلك الأولويات تلخّصت في شيئين بالدرجة الأولى. إننا نستطيع أن نفهم الأمر بشكل صحيح لأننا كنا نلاحظ عن كثب منذ اليوم الأول الكثير من توجيهاته و أفكاره و أحكامه و كيفية تعامله مع القضايا. و لو نظرتم اليوم إلى كلمات الإمام و سلوكه و وضعتم أمامكم ما تعرفونه عنه فستلاحظون أيضاً هذين الأمرين بشكل بارز.
الأمر الأول، هو إحياء روح الاستقلال و الثقة بالنفس في نفوس أبناء الشعب. على مدى أعوام متمادية ألهموا الشعب و لقّنوه بأنكم لا تستطيعون، و لا فائدة من أي عمل تقومون به. كان يجب تغيير هذه الروحية. مثل هذه الخصال الاجتماعية ليست كالخصال الفردية. صحيح أن الخصال الفردية لا تتغيّر بسهولة، إلّا أن الصفات الاجتماعية أصعب منها بكثير. كان يجب على الإمام أن يستبدل هذه الحالة بالثقة بالنفس و روح الاستقلال و الاعتماد على الذات و النهج المستقل. و من أجل هذه الميزة كان يجب على الإمام عدم تحمّل أي تدخّل أو نفوذ من غير هذا الشعب في هذا الشعب، و لم يتحمّل. و هذا هو سبب وقوف الإمام بهذا الشكل بوجه أمريكا و بوجه الاتحاد السوفيتي آنذاك. فالأمريكيون جاءوا إلى هنا و تكالبوا على مائدة ممدودة أمامهم مدة خمسة و عشرين سنة، حيث قام هؤلاء و شرذمة من العملاء بكل ما يحلو لهم، و لم ينقطع أملهم حتّى الأشهر الأولى بعد انتصار الثورة! لا زلت أتذكر قضايا كثيرة حول هذا الموضوع و لكن الوقت لا يسمح بالتحدث حولها، فالإمام قد كسر مخالب جميع المتبجّحين! و لو صدرت أدنى غفلة عن الإمام لعاد نفس أولئك الأشخاص الذين أخرجوا من البلاد من نوافذ متعددة و طرق مختلفة. لكنّ الإمام وقف بصلابة أمام أي نفوذ و هيمنة للأجنبي على أي نحو كان. هذه هي النقطة الأولى.
القضية الثانية التي أهتم بها الإمام غاية الاهتمام، هي احياء الروح الدينية و تقوية إيمان أبناء الشعب، أي ذلك الإيمان الذي كان لديه. لذا كان يبذل كل جهده لقضايا الدين - التعبد و كل ما كان يتعلق بالدين - و كان يركّز عليه و لم يكن مستعدّاً للتساهل في هذا المجال، لأن الدين هو المعالج. عندما تكون الروح الدينية في نفوس شعب، فأثرها لا ينحصر في أن يكون أبناء الشعب متمتعين بالطهارة و التقوى و الصلاح الشخصي فحسب، بل ينعكس أثر الروح الدينية على الحياة الاجتماعية، إذا كان الدين صحيحاً. لهذا السبب أخذ جميع الأعداء الألداء في العالم و أذنابهم في الداخل يعارضون الدين الذي كان يروجه الإمام و الإسلام الذي كان يسميه الإمام الإسلام الأصيل، بصفته ديناً للسياسة و للحكم. أحياناً كانوا يصبحون ملكيين أكثر من الملك - و الآن أيضاً يصبحون هكذا أحياناً - فيقولون: سيدي إنكم حينما تطرحون الدين السياسي و الدين الحكومي فسيضعف الدين في أعين الشعب و سيضعف إيمان الناس الديني! و هذا على العكس من الواقع. حينما يكون الدين في المجتمع ففيه أيضاً روح التضحية. و حينما يكون الدين في المجتمع، ففيه أيضاً الوعي و اليقظة و الشعور بالمسؤولية. ما تلاحظونه اليوم في مجتمعنا و بلدنا من شعور بالمسؤولية و غيرة إزاء القضايا الدينية - إلى الحد الذي يطلّع الشعب عليه -يعود كلّه إلى الروح الدينية. يريد العدو إضعاف هذه الروح. كان الإمام يعزّز بشدّة هذه الروح في جميع أركان المجتمع - سواء الأركان الحكومية أو لدى كافة أبناء الشعب - أي في الحكومة، و في مجلس الشورى الإسلامي، و في السلطة القضائية و في القوانين، و في مجلس صيانة الدستور، و في الانتخابات و في كل شيء، و كان يركّز على الإيمان الديني و التعبد الديني و التقيّد الديني. جعل الإمام هاتين الميزتين في الأولوية الأولى. غالبية ما وجّهه الإمام لهذا الشعب من تعليمات و أوامر يتعلق بهذين الأمرين.
طرح الإمام الجمهورية الإسلامية. الجمهورية الإسلامية تعني نظام حكومي جديد لا يشبه أيّاً من الأنظمة الدارجة في العالم، لكنه يحمل كافة الخصال الإيجابية الموجودة في أي نظام، ففيه الإسلام و فيه أصوات الشعب و إيمانه، و التعبّد، و الشعور بالعزة، و أحكام الإسلام و القوانين الإسلامية التي تحيى حياة الإنسان. أجل، لو أننا طبّقنا الإسلام بالمعنى الذي فهمه الإمام - أي بالمعنى الصحيح و الأصيل و المستند إلى الأصول و المبادئ - فستكون النتائج إيجابية في كل مكان، كما أنه آتى مثل هذه النتائج الإيجابية حيثما دخلنا الساحة و دافعنا و أبدينا الصبر و الإصرار. لقد لبى الإسلام المتطلبات على صعيد النظام الحكومي. لا يوجد ا الآن مجال لأقول لكم إن هيكلية النظام الحكومي الموجودة في إيران اليوم أنسب لحرّية الشعب و تقدّمه أكثر من أي نظام حكومي موجود في العالم، سواء الأنظمة الديمقراطية الغربية أو أنواع النظم الحكومية الأخرى، فما بالك، بالنظم الاستبدادية المنغلقة التي لا كلام عنها على الإطلاق. حيثما تمّ العمل بتعليمات النظام الإسلامي و اقتراحاته - مهما كانت - جاءت النتائج إيجابية طيّبة. سواء في مجال التمسّك بالقضايا الثقافية أو مواجهة العدو. إلى ذلك اليوم كان شعبنا و بلدنا يتلقّى الثقافة من الغرب. لكن ببركة حركة الإمام، أصبح التيار الثقافي متبادلاً، و بدأ تيار ثقافي يتحرك من مركزنا - أي من المجتمع الإسلامي - إلى خارج هذا المجتمع، بشكل بعث الرعب مرّات عديدة في قلوب قادة الاستكبار، و لا يزالون يعبرون عن رعبهم إلى يومنا هذا، طبعاً اليوم أقل من الماضي. كانوا يصرخون إنكم تريدون أن تصدروا ثورتكم، في الوقت الذي لم نكن نعلّب ثورتنا لنصدّرها إلى مكان ما! و معنى تصدير الثورة هو هذا التيار الثقافي المتبادل الذي كان يذهب إلى البلدان الإسلامية و حتى البلدان غير الإسلامية، و يثير الوعي و اليقظة في نفوس الناس.
علي أن أذكر نقطة واحدة في المجال الاقتصادي. لو أننا طبّقنا تعاليم الإسلام بشكل دقيق في المجال الاقتصادي و التنظيمات الإدارية، لكان وضعنا أفضل مما نحن عليه الآن حتماً. للأسف ما فعلنا في المجالات الاقتصادية كان وصفة مخلوطة، فيها أشياء من الإسلام، لكن فيها أشياء أخرى مختلطة. و ذلك القسم الخليط لم يعد علينا بأي خير أو فائدة و اليوم فإنّ النظريات الاقتصادية الغربية التي كانت تعتبر إلى ما قبل فترة وجيزة من المسلمات، أصبحت موضع نقاش بينهم. ما هو ذنب الشعوب حقيقة؟ ما هو ذنب الشعوب حتّى يرغمها زعماؤها على اتباع تلك الأساليب الاقتصادية؟ لقد أسسنا في أواخر حياة الإمام مصرفاً إسلامياً لاربوياً، و لكن بشكل ناقص! هذه واحدة من مساعي الحكومة الحالية و نسأل الله أن ينجحوا في تطبيق المصرف الإسلامي اللاربوي بشكل كامل. طبعاً تم تنفيذ الكثير من الأعمال لكن ينبغي المضي في الخطوات اللاحقة.
هذا هو الأساس الذي يدفعنا اليوم إلى أن ننادي بنهج الإمام و وصية الإمام و توصية الإمام. القضية ليست أننا تمسّكنا بشيء ما عن جمود و تحجّر و بعيداً عن التعقّل، كلّا، ذلك الرجل الحكيم و العالم و الخبير بالإسلام و المطّلع على شؤون الدنيا، أختار لهذا الشعب طريقاً يتناسب مع متطلبات الشعب و وضع له معالم و أصدر توصيات آتت أكلها الطيّب حيثما جرى العمل بها. و اليوم أيضاً بلدنا بحاجة إلى نفس الطريق و نفس تلك المعالم و الخطوط. و الحمد لله انعقد عزم الشعب و المسؤولين الراسخ على متابعة هذا الطريق. بفضل الله سنواصل هذا الطريق - و هو طريق الله و النبي (ص) و طريق تحقيق الكوثر و طريق الإنقاذ و العزة و الرفعة و معالجة مشاكل البلد - بكل قوة، و بالرغم من إرادة الأعداء و عدائهم، و على الرغم من كلام قصار النظر .
بسم الله الرحمن الرحيم
و العصر. إن الإنسان لفي خسر. إلّا الذين آمنوا و عملوا الصّالحات. و تواصوا بالحقّ و تواصوا بالصّبر (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. و الصّلاة و السّلام على سيّدنا و نبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين. سيّما بقية الله في الأرضين و على أئمة المسلمين علي أمير المؤمنين و الصديقة الطاهرة و الحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنة و علي بن الحسين و محمّد بن علي و جعفر بن محمّد و موسى بن جعفر و علي بن موسى و محمّد بن علي و علي بن محمد و الحسن بن علي و الخلف القائم المهدي، حججك على عبادك و امنائك في بلادك. و صلّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداه المعصوميين. أوصيكم بتقوى الله و استغفر الله لي و لكم.
هناك مواضيع متعددة في الخطبة الثانية من المناسب أن أحدثكم أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء المصلّين عنها، و لكن بسبب ضيق الوقت، فإنني أتحدث عن هذه القضية التي وقعت أخيراً في بلدنا و هي قضية مؤلمة طبعاً - أي الاستهانة بولي العصر ( أرواحنا فداه)، و أذكر بعض النقاط الضرورية و المهمة عنها. و إذا بقي لدينا وقت، سنتحدّث فيه عن سائر المواضيع.
الموضوع الأول هو أن أصل القضية كانت قضية مرة حقيقة. علي أن أقول بأنني شعرت بالخجل أمام ولي العصر أرواحنا فداه، بسبب استهانة إحدى الصحف به. لقد شعرت بالخجل. لقد توجّهت إلى الله تعالى و قلت له: ربّاه، إذا كان القلب المقدّس للإمام المهدي قد تألّم و تأذّى منّا بسبب هذه القضية، فإنني أتضرّع إليك و أسألك أن ترضي قلبه المبارك عنا من جديد. في بلد إمام الزمان و بين الناس الذين هم محبو و عشّاق ولي العصر (أرواحنا فداه) فإن مثل هذا العمل يعتبر أمراً قبيحاً و مؤلماً للغاية. طبعاً اتخذ الشعب و العلماء الأعلام و مسؤولوا البلد، موقفاً مناسباً إزاءها كل واحد من موقعه و حسب مسؤوليته، و أعلنوا عن براءتهم منها. في الكثير من الأوقات، الأشخاص الذين يريدون أن يحطوا من مكانة المقدسات في أعين الناس و إبعادها عن أذهانهم، يبدأون من الأعمال الصغيرة على الظاهر، لكي يقيّموا ردة فعل الجماهير، فإن لم يتخذ العلماء و مسؤولوا البلد مواقفهم و لم يعبّر الناس عن غضبهم و استنكارهم، فمن المحتمل أن تستتبع الخطوة الأولى خطوة ثانية تكون أسوأ منها، و هكذا يتطوّر الأمر و يتفاقم. هنا أبدت الغيرة الدينية عند الناس ردة الفعل في الوقت المناسب و بشكل مناسب حقّاً. و الكثير من الأشخاص يضيقون ذرعاً لمثل هذه الأمور و يعبّرون عن مشاعرهم الدينية على نحو بارز، مثلما لاحظتم ذلك في كافة أنحاء البلد. إنني بدوري أعلن هنا عن تقديري لكل من اتخذ موقفه - سواء من أبناء الشعب أو العلماء الأعلام، أو العظماء و مسؤولي البلد، و رئيس الجمهورية المحترم و رئيس مجلس الشورى المحترم و رئيس السلطة القضائية المحترم، إن هذا العمل كان ضرورياً و جيداً. هؤلاء الأشخاص الذين يريدون إبعاد هذا البلد عن عقائده و عواطفه الطاهرة و المنطقية و المعبّرة عن عمق إيمانه، ليعلموا أنهم لن ينالوا مآربهم. إن أبناء الشعب واعون و متمسّكون بالإسلام و متمسكون بمحبة أهل البيت. هؤلاء الجماهير الذين قدّموا كل هذه التضحيات في سبيل الإسلام، لن يفسحوا المجال لبعض الأشخاص الذين يريدون محاربة الإسلام بكل علانية في هذا البلد مستخدمين في ذلك الأساليب الثقافية و في الساحات الثقافية.
النقطة الثانية هي إنني شاهدت في بعض البيانات و في بعض التصريحات أن صحيفة طلابية نشرت هذا الموضوع. لماذا تقحمون اسم الطلبة الجامعيين في هذا الموضوع؟! و كم طالب جامعي تدخّل في الموضوع حتّى يبيح البعض لأنفسهم أن يحشروا اسم الطلبة الجامعيين فيه؟! من جملة الشرائح التي عبّرت عن براءتها من هذه القضية بشكل صريح و قاطع، هم طلبتنا الجامعيون. لنفترض أن هناك بضعة طلاب جامعيين قاموا بعمل في مكان ما، فلا يمكن إلقاء تبعات ذلك العمل على الطلبة الجامعيين. عليكم أن تكونوا حذرين، لأن العدو حساس جداً تجاه هذه الأمور. يركّزون على اسم الطلبة الجامعيين دوماً لكي يجعلوا الأذهان سيئة الظن بشريحة الطلبة الجامعيين. هذه هي نفس الحالة التي كانت سائدة قبل انتصار الثورة. في فترة ما قبل الثورة، كانوا يذهبون إلى العلماء و كبار الحوزات الدينية و يسمون الجامعة بالمركز اللا ديني. و يطرحون أمام الجامعيين اسم الحوزة العلمية كمركز للتحجّر و الجهل، و كانوا يقومون بإبعاد هاتين الشريحتين عن بعضهم! كلّا، إن الطالب الجامعي شأنه شأن طالب العلوم الدينية و الكاسب و العامل و القروي و المدني، فالكل هم أبناء الشعب الإيراني. ما نقوله عن الشعب الإيراني يتعلّق بالجميع. شريحة طلبتنا الجامعيين، شريحة متميزة و بارزة و متدينة كسائر أبناء الشعب. لاحظوا مدى كم‍ّية معالم الدين في الجامعات و الحمد لله.
النقطة الأخرى هي أن البعض جرّوا القضية إلى مواضع أخرى و أثاروا فيها أسماء بعض مسؤولي البلد و بعض الكبار، هذا غير صحيح. لم نقوم بإثارة سوء الظن بالمسؤولين و رؤساء البلد، في حين أنه لا صحة لهذا على أرض الواقع؟ إن مسؤولي البلد اليوم متدينون و الحمد لله و يكرّسون حياتهم في خدمة الشعب و الإسلام. فرئيس الجمهورية رجل دين متمسّك بالدين و محب لأهل البيت و يعمل في سبيل الله. رئيس المجلس و رئيس السلطة القضائية و نواب الشعب و سائر المسؤولين يعملون من أجل تقدم البلد و إعلاء كلمة الإسلام و إحياء اسم الإمام. لا ينبغي أبداً ربط مثل هذه القضايا بهذه التصريحات البعيدة تماماً عن المنطق و عن حد القبول و اللياقة. وقعت حادثة و على المسؤولين تقييمها و محاسبة الأشخاص المرتبطين بهذه القضية. طبعاً كان يجب على الشعب التعبير عن موقفه و قد عبّر عن ذلك الموقف و كان موقفاً جيداً للغاية و كان موقف العلماء و المسؤولين في محلّه تماماً.
النقطة الأخرى التي أرى لزاماً علي الإشارة إليها، هي أن التيارات السياسية يجب أن لا تطرح هذه القضايا في وسط ساحة الأعمال السياسية حيث تصبح ذريعة للصراع فيما بينهم. و اليوم فإن مصلحة البلد و مصلحة الشعب و مصلحة الثورة هي وحدة الكلمة و اتحاد الأفئدة. بعد الكلمة التي ألقيتها في خطبة صلاة يوم الجمعة قبل حوالي شهرين كتوصية بالوحدة، كتب بعض الشخصيات السياسية رسائل و بعثوا برقيات يعلنوا فيها عن استعدادهم. إنني أيضاً طلبت من السادة، ثمّ جاءوا شيئاً فشيئاً و تحدثنا مع بعض هؤلاء المسؤولين و الشخصيات البارزة في بعض الفصائل و التيارات السياسية - الذين توجد بينهم شخصيات محترمة و علماء كبار و أشخاص سياسيون عريقون - و أعلن الجميع عن موافقتهم، كما قاموا بأعمال على الصعيد العملي و خرج المناخ السياسي في المجتمع من حدة التوتر الذي كان يحبّه الأعداء، و اقتربت القلوب من بعضها، و إنني أقدّم وافر شكري. و الآن لو تحدث البعض عن هذه القضية و قال البعض شيئاً آخر في الجواب عنه - ضجيج أمام ضجيج - و لو أثاروا ضجيجاً، أكرر من جديد و أرجو الذين يعملون في التيارات و الفئات السياسية في مجتمعنا أن ينظروا إلى عامة الشعب و إلى إخلاصه و نقائه و إلى طبيعته. يجب عدم القيام بعمل يبعث في الناس الحزن و الألم و يزلزل قلوبهم على أساس التصوّر بأن التيارات السياسية في المركز في حالة صراع فيما بينها. يجب عليها التعاطف فيما بينها.
إنني قلت حينها، يمكن أن تكون هناك بعض نقاط الاختلاف في وجهات النظر بين الأشخاص حول القضايا السياسية و غيرها - فليكن - فاختلاف الرأي حتى في القضايا الدينية قد لا يؤدي أحياناً إلى الصراع. أنظروا إلى سيرة فقهاء الإسلام، تجدون أن لأحدهم رأياً في قضية ما و للآخر رأي مخالف مائة بالمائة، لكن أحدهم يقتدي بالآخر في الصلاة، و يعتبر كل واحد منهما الآخر عادلاً. يجب التحرك هكذا في القضايا. إذا لم یكن هناك هوى النفس و لم تکن هناك أنانية و مصالح فئوية، و أخذت مصلحة البلاد و النظام و النظرة المستقبلية البعيدة المدى بنظر الاعتبار، فإن هذا الضجیج و النقاش لا يمكنه بث النزاع و الصراع بين جماعتين أو شخصين أو شخصين ثوريين. إنني أقول الآن، على الفصائل الصديقة أن تعمل على تقليل الهوة الموجودة بينها. الفصائل الصديقة كما عرّفتها في صلاة الجمعة السابقة، تعني جميع الذين يؤيدون الإسلام و الحكومة الإسلامية و هذا الرجل العظيم - الذي تلاحظ معالمه بكثرة بيننا - و يؤيدون طريقه و خطه. بهذا المعنى، لو كانت هذه الفصائل تمثّل أبناء الشعب، فهي تمثّل الغالبية الساحقة منهم، و إذا لم تكن تمثّل أبناء الشعب، فعليها أن تعلم أن الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب يسيرون في هذا الطريق. يمكن أن توجد هنا و هناك زمرة ممّن تضرّروا من هذه الثورة و من التابعين للعدو و من ضعاف النفوس الذين غيّرهم الزمن، لا تؤيد هذه الأمور. لكن على هذه الفئات الصديقة تقليل و خفض الخطوط الفاصلة بينهم. و عندئذ ستتضح الفاصلة بينها و بين الغرباء، هؤلاء الأشخاص الذين قال الإمام في وصيته و بيانه عنهم: لا تسمحوا لأن يؤثر الغرباء في مصير هذا البلد. تأثير الغرباء لا ينحصر في تسلّم مسؤولية و منصب، بل قد يتغلغل الغرباء عن طريق أساليب أخرى. على الأصدقاء أن لا يسمحوا بذلك. عليهم التقرّب من بعضهم لتتضح الفاصلة بينهم و بين الغرباء. هؤلاء الأشخاص الذين لا يقبلون الإسلام و الحكومة الإسلامية - طبعاً ليس المقصود بأصل الإسلام و المذهب، فهناك الكثير من الأقليات الدينية في بلدنا لا تقبل الإسلام، لكنها تؤيد طريق الشعب الإيراني و تسايره - و لا يؤيدون معايير الثورة و لا معايير منهج الإمام و ينكرون و يترقبون أن يأتي أحد من خارج الحدود و يمسك بزمام أمور البلد، و أن يأتي الأجانب و تتكرر أوضاع ما قبل الثورة، هؤلاء هم الغرباء. كلما ازداد التكاتف و التآلف بينكم أيها الأصدقاء، ازداد الغرباء عنكم بعداً.
لدينا قضايا أخرى في المستقبل. ستكون هناك انتخابات خلال الأشهر القادمة، و تأتي من بعدها انتخابات أخرى. ينبغي عدم النظر للمستقبل بمداه القريب جدّاً. فهذا البلد بحاجة إلى عمل كثير. عليكم أن تبذلوا جهودکم لتتمكنوا من التعويض عن التخلف الذي فرضوه عليه سواء في المجال العلمي أو في المجال الاقتصادي أو في المجالات الأخرى. يجب منح الفرصة للمسؤولين و الذين يريدون أن يعملوا.
أرى لزاماً علي أن أقول نقطة أخرى: سُمع هنا و هناك حول هذا الموضوع الذي كتب، أن البعض قالوا إننا نبادر و نعاقب، كلّا أبداً. في النظام الإسلامي يرتبط هذا الأمر بالمسؤولين. طبعاً أحياناً قد يكون هناك نظام طاغوتي و نظام كفر و يوجد على رأس البلد أشخاص مناهضون للإسلام كما في العهد البهلوي لا يفهمون أي شيء عن الدين، و يكون على رأس السلطة القضائية أناس فاسقون و فاجرون، و يكون في المجلس - كالمجلس الشورى الوطني آنذاك - تابعون و ضعفاء النفوس أو فاسقون و فاجرون، إذا شعر الإنسان بالتكليف في مثل تلك الظروف فهذا موضوع آخر. أمّا في النظام الإسلامي فإن مسؤولية متابعة هذه الأعمال تقع على عاتق الحكومة. أوّلاً يجب على السلطة القضائية تشخيص الحالة، فأحياناً هناك شخص يكتب من الغفلة، أو لا يعلم أحياناً إن كتابته تعتبر إهانة، أو قد يكون تسامح و تساهل، أو قد يكون تعمّد. لكل واحدة من هذه الحالات أحكامها. إن الأشخاص المسؤولين عن العمل القضائي، لا ریب أنّ حبّهم للإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) و للإسلام و لهذه القضايا ليس بأقل من الذين يطلقون هذه التصريحات. كما أن هناك غيرة دينية لدى أولئك فلدى هؤلاء أيضاً غيرة دينية. إضافة إلى هذا، فإن هؤلاء عليهم مسؤولية أمام الله و أمام الشعب. لذلك ينبغي النظر في كيفية القضية، فإن لها حكمها بأي شكل كان. الشيء الذي كان مهماً تمّ القيام به، و هو ردّة فعل الشعب الإيراني. لقد أثبت الشعب الإيراني أنه يغضب لمثل هذه الأمور، هذا صحيح. أثبت كبار العلماء و الشخصيات البارزة جميعاً، أن مشاعرهم و إيمانهم و عقلهم تغلي إزاء مثل هذه القضايا و هذا أمر جيد. لكن من الذي يجب معاقبته، و ما هي عقوبته، و كيف يجب معاقبته، و من الذي عليه أن يعاقب؟ فهذه أمور لا ترتبط بكل واحد من أبناء الشعب، و إنّما هي أمور تتعلّق بالمسؤولين. طبعاً نحن أيضاً نراقب الأمور لكي لا يقع تقاعس في جانب أو تشدد في جانب آخر. و عليكم أن تعلموا إن التهاون و التشدد خطأ في الإسلام. هناك خط صحيح و هو خط الإسلام الذي يجب تطبيقه بلا زيادة و لا نقصان. هذا هو ما يريده الله. فالذي يجب معاقبته بعشر جلدات لا يجوز أن يضرب تسعاً و لا إحدى عشرة. على الجميع أن لا يتشددوا على الإطلاق كما عليهم أن يسيطروا على مشاعرهم. لو كانت لدى شخص مشاعر معيّنة، فإنها أمر جيد للغاية، و لهذه المشاعر أجرها عند الله تعالى قطعاً، لكن إذا صدر عن أبناء الشعب عمل أو حركة بخلاف الموازين فلا أجر له عند الله يقيناً. و بما أنني نهيت الآن عن ذلك فإضافة إلى المخالفة القانونية، ستكون لهذا العمل حرمة شرعية أيضاً. عليكم أن تكونوا حذرين. و حتّى لو افترضنا أن شخصاً كان مقلّداً لمجتهد آخر، فطالما نهيتُ الآن يحرم عليه القيام بأي عمل في هذا الصدد. و هذه فتوى جميع العلماء. لا يحق لأي شخص القيام بأي عمل غير مدروس.
النقطة الأخيرة في هذه القضية هي أن توقعي من مدراء القطاع الثقافي في البلد أكبر من هذا. آمل أن يكون المناخ الثقافي بشكل لا يمكن معه لأحد ارتكاب مثل هذا العمل الوقح أو الغفلة بخصوص ما يتعلّق بإمام الزمان. لاحظوا أن هناك مئات الآلاف أو الملايين من الذين يقرأون دعاء الندبة، و يذرف الشباب الدموع في كل يوم جمعة في كافة أنحاء البلد. لاحظوا ماذا يفعل الناس في النصف من شعبان! فلابد أن هناك خللاً في الجو الثقافي للبلد حتى يتجرأ أحد أو يغفل و يوجّه مثل هذه الإهانة للإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) و لعقيدة بمثل هذه الأهمية. و توقّعي من مسؤولي الشؤون الثقافية الرسميين أن يعيدوا النظر بشكل جاد و يلاحظوا مواضع الخلل في أعمالهم.
أسأل الله أن يشملنا جميعاً و المسلمين المؤمنين الأعزاء في هذا البلد - الذين أحيوا الإسلام و جعلوه عزيزاً على مدى هذه العشرين سنة - بلطفه و يوفقنا جميعاً للتحلّي بالتقوى. أوصيكم أيها الإخوة و الأخوات المصلين جميعاً بالتقوى في أعمالكم و أقوالكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّا أعطيناك الكوثر. فصلّ لربّك و انحر. إن شانئك هو الأبتر (5).
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
الهوامش:
1- سورة الكوثر، الآيات 1-3.
2- كامل الزيارات، ص 53.
3- ورد في بحار الأنوار، ج 36، ص205، هذا التعبير: إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض. فإنه مكتوب عن يمين عرش الله: مصباح الهدى و سفينة النجاة و إمام غير وهن و..
4- سورة العصر، الآيات 1-4.
5- سورة الكوثر، الآيات 1-3.