بسم الله الرحمن الرحيم
أتقدم بالشكر الجزيل للإخوة و الأخوات الأعزاء، سواء منظمو هذه الاجتماع الجيد جداً أو الإخوة و الأخوات الذين ناقشوا المواضيع و أبدوا آراءهم. الاجتماع اجتماع جيد جداً، و لقد سررت و استفدت حقاً من اللقاء بكم اليوم و من كلماتكم و آرائكم.
طبعاً هذه النقطتان أو الثلاث التي ذكرها الأعزاء، و لا أقصد أنها قضايا صغيرة و قليلة الأهمية، لا، بالتالي كل قضية و كل مسألة و أية‌ مشكلة في أمور أي شخص أو فرد لها أهميتها بحد ذاتها - لا شك في هذا - و أن لا أحمل أي عتاب على أحد لطرحه هذه الأمور، لا، ليس الأمر كذلك على الإطلاق. حتى لو قمتم واحداً واحداً و ذكرتم آراءكم و قضاياكم لاستمعت إليكم و لفرحت بهذا الاستماع. و لكن يجب مراعاة‌ الأولويات. هذا الاجتماع اجتماع القضايا العامة‌ الكبرى.. القضايا الخاصة بالجميع. إذا استطعنا ببركة هذا الاجتماع و مثل هذه الجلسات إيجاد مناخ و أفكار و محفزات عامة في البيئة العامة للبلاد فسوف تعالج هذه المشكلات تدريجياً. و أتمنى أن يحصل هذا الشيء.
الشيء المهم جداً في التخطيط لتنمية البلاد هو أن ننظر أين يجب تركيز أرصدتنا المادية و المعنوية الكبرى، إذ من البديهي أن الأرصدة المادية و المعنوية - أي الهمم و الطاقات البشرية و المحفزات - ليست لامتناهية. إذا أردنا الوصول بالبلاد إلى حالة التنمية - التنمية‌ بمعناها المنشود و الذي نقصده نحن و ليس بالضرورة التنمية‌ بالمعنى الغربي الدارج - فيجب أن ننظر أين يتحتم علينا تركيز هذه الأرصدة أكثر.
أعتقد أننا إذا ركزنا أرصدتنا على قضايا العلم و التقنية و إعداد النخبة نكون قد عملنا بلا شك في إطار إحدى أهم الأولويات. التقدم العلمي و تبعاً لذلك التقدم التقني يمنح البلاد و الشعب إمكانية و فرصة الاقتدار المادي و المعنوي. إذن، بنظرة استراتيجية يتميز العلم بمثل هذه الأهمية. و هذا هو ما نريد التوكؤ عليه. أما قضية ما هو الهدف من هذا العلم، فإذا كان ثمة‌ وقت و تذكرت الأمر ربما ذكرت شيئاً عن الاتجاهات التي يجب أن تتخذها حركتنا العلمية.
و عليه، من أكثر الأعمال أولوية هي قضية العلم و التقنية الضرورية جداً في هذا البلد. إننا نعاني في هذا المجال من تأخر تاريخي مزمن فاحش. و الذنب في هذا التأخر يقع على عاتق الذين فرضوا مثل هذا الداء‌ المزمن على مثل هذا الشعب الكبير بسبب سياساتهم و سلوكهم و أطماعهم و تساهلهم. و نريد الآن إنقاذ أنفسنا من تحت هذه الأعباء و من هذا الكابوس الثقيل. إذن، عليّ أنا و عليكم أنتم و على المسؤولين المعنيين و مسؤولي القطاعات المختلفة في البلاد و على كل إنسان شريف في هذا البلد يستطيع فعل شيء، أن نبذل مساعينا في هذا المجال. كل إنسان بقدر استطاعته و إمكانيته. و الجميع مسؤولون، ابتداء من الطالب الجامعي الذي التحق بالجامعة هذه السنة إلى الطلبة الجامعيين المتفوقين إلى الأساتذة ثم مسؤولي النظام التعليمي و العلمي في البلاد إلى القطاعات المختلفة في سلسلة المراتب الإدارية و العلمية في البلاد. كلنا يجب أن نبذل مساعينا و نعمل و نركض لنستطيع تعويض هذا التأخر التاريخي المفروض علينا. هذه مسألة جادة و مهمة.
حسناً، أودّ أن أقول لكم إن السرعة‌ و النجاح كانا مشهودين طوال هذه الأعوام الماضية. اعلموا - و ربما كنتم تعلمون، و لدي طبعاً إحصائيات أكثر و معلومات أوسع و أكثر تفصيلاً - أنه في الأعوام السبعة أو الثمانية أو العشرة الأخيرة قام البلد بتحرك هائل في هذه الميدان و إنجز أعمالاً كبيرة. طبعاً، ثمة البعض هنا و هناك في الجامعات و خارج الجامعات يبثون اليأس و القنوط و الأفكار السلبية، لكنهم يكذبون و يتكلمون اعتباطاً. البعض يفعلون ذلك عن غفلة، و البعض عن ما هو أسوء‌ من الغفلة. التحرك للإنصاف تحرك ناجح. تم إنجاز أعمال كبيرة في هذه الأعوام. و لقد أثبت الشعب و الشباب و المنظومات العلمية و الجامعات و المدراء العلميين أن هناك مواهب جيدة لهذا التحرك الذي نتغيّاه. و بالتالي فقد تقدمنا إلى الأمام.
و هذا التقدم يستدعي أن نواصل المسيرة بمزيد من التفاؤل. يعتقد عدد ملحوظ من الخبراء الإيرانيين و غير الإيرانيين أن بلادنا ستصل إلى الأهداف المرسومة لها في الأفق العشريني قبل الموعد المحدد، أي قبل سنة 1404 [2025 م] المصادفة لنهاية دورة أفق العشرين سنة. و الهدف هو إحراز المرتبة‌ العلمية الأولى بين البلدان الإسلامية. هذه هي التقديرات و التخمينات. و السبب يعود إلى السرعة التي نسير بها. إذن، يجب أن نكون متفائلين، و لا نفوت اللحظات، و أن نعتمد على طاقاتنا و نواصل المسيرة بجد و صميمية و بالشروط اللازمة. هذه نقطة.
النقطة الثانية هي أنني و أي شخص مطلع في البلاد يفخر بهذه الأعمال العلمية التي يتم إنجازها. كلنا نفخر بالتقدم العلمي في المجال النووي. و جميعنا نفخر بالتقدم المهم جداً الذي تحقق في مجال الخلايا الجذعية - الذي تحدثوا عنه - و الأعمال العظيمة التي أنجزت على هذا الصعيد. في مجال النانو و تقنيات البيئة و غير ذلك تحققت حالات تقدم جيدة و كلنا نفخر بها. هذه ليست بالأشياء الصغيرة، بل هي أمور كبيرة، لكنها ليست أموراً تقنعنا بأن البلاد حققت تقدماً منشوداً و كاملاً من الناحية ‌العلمية.. مع أننا دخلنا إلى بعض هذه الحقول العلمية لتوّنا لكننا مع ذلك ضمن البلدان العشرة الأولى في هذا المجال. لكن هذا لا يكفي.
فما هو اللازم؟ اللازم في البلاد و الذي بوسعه إن يصور لنا ارتفاع البلاد علمياً إلى مواقع مناسبة و باعثة على الفخر هو وجود دورة علمية‌ كاملة‌ في البلاد. لا بد أن توجد في جميع القطاعات دورة مترابطة و مهمة من مختلف‌ العلوم التي يحتاجها البلد لتتكامل الجهود و العلوم و تمدّ لبعضها يد العون. يجب ظهور منظومة علمية كاملة في البلاد. و هذا ما لم يحصل لحد الآن. هذه الجزر يجب أن تترابط مع بعضها تماماً و تشكل مجموعة‌ واحدة يساعد بعضها بعضاً و تتعاون أجزاؤها على التقدم و التكامل و فتح الطرق للبحث و تشخيص المناطق العلميه‌ الجديدة في الخلقة الإلهية الواسعة، و يجب أن تطرح الأسئلة و تجيب عنها. هذه كلها أمور لازمة.
كانت لدينا الكثير من الاستثمارات المقطعية المؤقتة، و قد حققنا الكثير من التقدم المقطعي القائم على الأشخاص و المجاميع الخاصة، و ينبغي توسيع هذه الحالات لتشمل كافة القطاعات و الفروع و الحقول ليظهر تيار عام لامتناه في مجال العلم و في كل الفروع العلمية، و لا مندوحة‌ من أن نشاهد هذه الظاهرة‌ في جميع الحقول العلمية ابتداء من العلوم الإنسانية إلى العلوم التجريبية و مختلف أنواع العلوم. و هذا ما يحتاج إلى العمل و السعي، و هو ما سميته في أحد اجتماعاتي بالعلماء و الجامعيين - و أظن أن ذلك كان في شهر رمضان - بالجهاد العلمي. لا بد من الجهاد.
حسناً، إذا إردنا القيام بهذا الجهاد بنحو كامل فلا بد من الاهتمام بالجامعات على نحو خاص، إذ أن الجامعة هي بيئة حياة و تنامي المواهب و النخب. هنا تقع بعض الواجبات على المركز الوطني للنخبة، و تقع بعض الواجبات الأخرى على المدراء و رؤساء الجامعات و الوزارات المختصة بالجامعات. نظرة المركز الوطني للنخبة إلى النخبة يجب أن لا تجعله غافلاً عن الجامعات. إي يجب أن تكون له نظرة لجانية للجامعات، و لا بد من تمتين العلاقة بين المركز الوطني للنخبة و الجامعات. و من جانب آخر لا بد من توفر نظرة متطلعة لتشخيص النخبة و إعدادهم و تربيتهم في الجامعات و في مجمل العمل الطلابي و الجامعي، و بالطبع فإن هذه الحالة ستكون أوضح في مجالات الدراسات العليا. هذه أيضاً نقطة.
حسناً، كيف يمكن دعم النخبة؟ و هذا ما أشاهده في الكلمات التي ألقاها الأعزاء. أرى أن أهم دعم يمكن تقديمه للنخبة هو توفير أرضية العمل و مقدماته لهم . ذهنية النخبة و أدمغتهم تنشد العمل و التعمق و الإنتاج و الإبداع و فتح الأبواب الجديدة و السير في الطرق الجديدة. ينبغي توفير الإمكانيات الصلائدية ‌لهم. و في بعض الحالات لا بد من توفير الإمكانيات الصلائدية و الرقائقية لهم ليستطيعوا العمل و السعي. طبعاً ينبغي أن يكون هذا السعي باتجاه احتياجات البلد. حسب ما قدموا لي من تقارير فإن الخارطة العلمية الشاملة أخذت بنظر الاعتبار جزءاً مهماً من هذه الاحتياجات. بالطبع لم يصلني لحد الآن تقرير نهائي عن الخارطة الشاملة، و الأعزاء يتابعون الأمر بمنتهى الجد، و هناك آراء متنوعة و عديدة في هذا الخصوص. و أتقدم هنا بالشكر لبعض الشباب الأعزاء الذين قالوا لنا في لقائنا بهم في شهر رمضان إننا رسمنا الخارطة‌ العلمية‌ الشاملة للبلاد بأنفسنا بشكل مستقل عن المسؤولين. و طلبت منهم أن يأتونا بهذه الخارطة فجاءونا بها. و طلبت أن تعدّ خلاصة لها لكي أستطيع الاطلاع عليها فأعدوا تلك الخلاصة و جاءونا بها. و بعثنا هذا الشيء إلى الأمانة العامة للمجلس الأعلى للثورة‌ الثقافية ليتابعوه هناك، لكنني يجب أن أطلع بنفسي على تلك الخلاصة و لم أوفق لحد الآن و لم تسنح لي الفرصة للاطلاع عليها. إنني أرحب بهذا الاهتمام و هذه الآمال المجنحة لدى‌ الشباب.. أن يجتمع عدد من الشباب حول بعضهم و يقولون إننا نريد إعداد الخارطة العلمية‌ الشاملة للبلاد على أساس نظرتنا الخاصة. طبعاً لا نضمن أن تكون تلك الخارطة هي ما يلبّي بالتأكيد احتياجنا إلى الخارطة الشاملة - قد تكون معلوماتهم محدودة - لكن هذه الجرأة و الطموحات المجنحة و الهمّة و الثقة بالنفس شيء محبذ و منشود و جذاب جداً بالنسبة لنا.
و عليه فهذه الدورة العلمية الكاملة‌ ضرورية جداً. بالإضافة إلى ذلك فإن هناك دورة أخرى ضرورية تبدأ من ظهور الفكرة في ذهن النخبة أو النابغة إلى تسليمها إلى مركز علمي و إجراء الأنشطة العلمية بخصوصها و تبديلها إلى فكرة أو علم أو فرع من علم إلى عبور هذه المرحلة و الدخول في حقل التقنية و عمل التقنيين و الصناعيين على هذا الإنجاز العلمي و من ثم تحويلها إلى حالة تجارية - و هذا ما سوف أتطرق له أيضاً - هذه المراحل كلها تمثل دورة أخرى. إذن، بالإضافة إلى ضرورة انبثاق دورة‌ علمية تتكامل فيها العلوم و تتعاضد و تشكل منظومة، لا مندوحة‌ من وجود دورة و سلسلة أخرى تبدأ من إنتاج الفكرة العلمية و تمتد إلى تشكيل منظومة علمية ذهنية ثم الانتقال إلى حقل التقنية و الصناعة، و من ثم السوق و تحويل الأمر إلى بضاعة. و هذا ما يستدعي بدوره هممكم، و أيضاً حسن إدارة الأجهزة المسؤولة. على الجميع المشاركة بمساعيهم و جهودهم لحصول هذا الأمر في البلاد.
قضية التحويل التجاري على جانب كبير من الأهمية. يجب أن يكون بمقدور الإنجازات العلمية و الصناعية أن تنتج الثروة للبلاد. قام الإخوة المسؤولون في مكتبنا بحسبة معينة و كان من رأيهم أننا يجب أن نستطيع حتى عام 1404 تأمين ما لا يقل عن عشرين بالمائة من دخل البلاد عن طريق الصناعات علمية المحور و الأنشطة التجارية علمية المحور. إي من جدول بيع المنتوجات العلمية. هذا شيء يفترض أن لا يكون بعيد المنال جداً. العلم مصدر لإنتاج الثروة. طبعاً بالشكل الصحيح و النظيف و النزيه، لا كما يستخدم العلم في العالم الغربي للحصول على الثروة. و هذا ما سوف أشير إليه لاحقاً على وجه الاختصار إن شاء الله. طبعاً إذا كان التحويل التجاري في ذهن الأجهزة المسؤولة فيجب أن نفكر في هذا التحويل التجاري منذ البداية، إي منذ أن نبدأ المشروع العلمي أو الصناعي، و لا ندع هذا التفكير و التخطيط لمرحلة ما بعد انتهاء العمل، حيث نبدأ بعد ذلك بالتفكير للتسويق. ينبغي التفكير بهذا الأمر و أخذه في الحسابات منذ البداية و هذا ما يرتبط طبعاً بالأجهزة المسؤولة في البلاد و ينبغي عليها متابعته.
اقترحوا - و قد سجلت هذا الاقتراح هنا - توفير الظروف لتأسيس نوع جديد من الشركات في البلاد هي الشركات العلمية - التقنية. هناك كثيرون يرغبون في العمل و البحث العلمي الجماعي. هذه المساعدات التي تقدمها الحكومة و المسؤولون للتقدم العلمي و التقني يجب أن لا تنحصر في مساعدة الأشخاص بل يجب مساعدة الشركات. طبعاً يجب عدم الخلط بين هذه و بين الشركات التجارية التي تحصل على التسهيلات المصرفية الدارجة، إنما ينبغي تقديم مساعدات خاصة لهذه الشركات. أعتقد أن هذا الأمر لازم و مهم. الحكومة يجب أن تبدي عن نفسها في هذا المجال أداء إدارياً ذكياً.
قضية أخرى على جانب كبير من الأهمية‌ هي تأسيس مراكز البحث العلمي. مضافاً إلى مراكز البحث المستلقة الموجودة ينبغي في كل جامعة إيجاد مركز بحثي واحد على الأقل. على الجامعات نفسها الاهتمام بشؤون البحث العلمي في داخلها. ليتجه نخبتنا نحو مراكز البحث العلمي، و لا أعني أن تنقطع صلاتهم بالعلم و التعليم و التعلم، بل أقصد أن يتجهوا نحو مراكز البحث و يمارسوا البحث العلمي هناك كما هي رغبتهم. و كما قلت سابقاً يتوجب وضع المراكز البحثية تحت تصرفهم ليستطيعوا القيام ببحوثهم. هذا هو ما يرضي النخبة و يقنعهم و يفجر مواهبهم و يفعّلها فيشعروا أن بمقدورهم العمل، و من ناحية‌ أخرى تتبدد الوساوس و الإيحاءات بعدم إمكانية العمل في البلاد، و هي إيحاءات تزداد انتشاراً في البلاد يوماً بعد يوم.
تتوفر في هذه المراكز البحثية إمكانية الاستفادة من التجارب العلمية للأساتذة الجامعيين المتقاعدين بعد انتهاء دورات خدمتهم. و في هذه الحالة سيكونون حلقة وصل بين الجيل الجديد من الباحثين - و هم هؤلاء الشباب - و أصحاب التجربة الذين أمضوا فترات طويلة في الجامعات.
تم تقديم مساعدات كثيرة للنخبة. طبعاً توجد بعض حالات العتاب هنا و هناك و أنا أسمعها. ما عدا الأمور التي طرحت في هذه الجلسة تكتبون لي الرسائل و التقارير و يعتبون. إذن، يوجد مثل هذا العتاب و هو حق و يجب رفعه و معالجة الأمور، لا شك في هذا. و لكن أنظروا أين كنا قبل خمسة أو ستة أعوام و أين وصلنا الآن. بخصوص مساعدة النخبة و الاهتمام بهم كنا قبل خمسة أو ستة أعوام في نقطة الصفر إذ لم يكن ثمة‌ شيء بهذا العنوان، أو عمل في هذا الاتجاه، أو تحرك على هذا الشكل. اليوم تم إنجاز الكثير من الأعمال.. الاهتمام بالنخبة و جمعهم و الاستماع إلى كلامهم و الاستفادة من ذهنياتهم و أفكارهم و ما ينقدح في إذهانهم.. هذه حالات جديدة يجب أن نعرف قدرها و نشكرها. و ينبغي عدم النظر فقط للجوانب السلبية.
من طباع الإنسان طلب المزيد. هذه السمة ليست سلبية. طلب المزيد كباقي خصوصيات الإنسان و غرائزه إذا استخدمت في موضعها و في اتجاهها الصحيح كانت من أسباب عروجه و تحليقه إلى الأعالي. في مجال المعنويات يجب أن يطلب الإنسان المزيد ما استطاع. و العمل العلمي و العمل الفكري و العمل البحثي جزء من المعنويات. إذن، يوجد في طبع الإنسان مثل هذا الجنوح نحو المزيد. و مهما كان عند الإنسان تبقى هناك نواقص أمامه، فهذه مسيرة لا تنتهي. يجب النظر ما هي الأمور التي أنجزت. تم إنجاز الكثير من الأمور.
أريد أن أقول لكم: بهذه المساعدات الكثيرة التي تم تقديمها و بهذه الأعمال الجيدة التي يتم إنجازها و هي أعمال قيمة‌ حقاً و ينبغي تقديم الشكر للمسؤولين عليها ينبغي أن لا نسمح بتبديل حلاوة‌ هذه الأعمال إلى مرارة في نفوس النخبة عن طريق البيروقراطية و التعقيدات الإدارية. هذا ما أوصي به المسؤولين المعنيين بكل جد. حاولوا أن تجدوا طرقاً مختصرة بعيداً عن هذه البيروقراطيات الدارجة و التعقيدات و التلافيف المتنوعة حتى يتسنى للنخبة التقدم بالأمور و المشاريع بسهولة أكبر.
طبعاً يجب من ناحية‌ أخرى أن لا نجانب الإنصاف، و لا نتنكر للجميل، فقد تم العمل و تقديم الخدمة حقاً. و ثمة نية لتقديم مزيد من الخدمة. يقول: «نية المؤمن خير من عمله» (1). أي إن نية المؤمن دوماً أكثر من سعة عمله. القصد و النية كبيران جداً. و ليس بوسع الإنسان القيام بكل ما في نيته على المستوى العملي. كل ما تقومون به من عمل يجب أن تكون نيتكم أضعافه. هكذا هو المؤمن، فنيّته دائماً خير من عمله. و الأجهزة المسؤولة في هذا المجال هكذا أيضاً، إذ أن النوايا أكبر حقاً، و لكن تعترضها على مستوى العمل بعض المشكلات طبعاً.
و ثمة‌ نقطة يجب أن لا تنسى هي أننا بحاجة إلى نظام رصد. يجب أن نرصد دائماً و نرى ما هي حصائل هذه الجهود التي تبذل في مجال النخبة، و كم هي متناسبة مع الأرصدة المخصصة. يجب أن لا نرصد كل هذه الأرصدة ثم لا تكون هناك حصائل. إذا كانت الحصيلة قليلة أو غير متناسبة فمعنى هذا وجود إشكال في الأساليب و أن الأساليب خاطئة. و بالتالي لا بد من الرصد الدائم.
و الرصد بحد ذاته غير كاف، بل ينبغي رصد البلدان التي نريد و نعقد الهمم على سبقها و التقدم عليها. ينبغي عدم التصور أن البلدان الأخرى بما في ذلك البلدان الجارة و البلدان الإسلامية تقف و تقول لنا تفضلوا و تقدموا علينا لنتقدم عليها، لا، فهي بدورها تبذل مساعيها. هذا الرصد ضروري بدوره. إذا أردنا أن نتقدم و نسبق فعلينا معرفة ما حولنا و رصد سائر اللاعبين في هذه الساحة، و أن نعلم ما الذي يحصل و عندئذ نقارن حركتنا و هممنا و نعلم هل هي بالمستوى المطلوب أم لا.
سجلت عدة نقاط أخرى أغض الطرف عنها. إننا نؤكد على العلم، و هذا التأكيد جاد و ليس بالأمر المتعارف و لا هو نابع من شعور كاذب تشريفي موسمي، إنما هو وليد تشخيص عميق و مدروس. منطق القوة و العسف كثير الانتشار في العالم. و العتاة و المتعسفون يعتمدون على قدراتهم، و تلك القدرات و الثروة و الإمكانيات قائمة على ما يمتلكونه من علوم. و لا يمكن المواجهة‌ من دون التوفر على العلم. ذات مرة قرأت الحديث القائل: «العلم سلطان» (2). العلم اقتدار.. العلم بحد ذاته اقتدار. كل من يمتلك هذا الاقتدار يمكنه أن يتحرك و يسير، و كل شخص أو شعب أو مجتمع لا يتوفر على العلم مضطر لاتباع اقتدار الآخرين. إذن، فهذه حسابات دقيقة.
حسناً، هذا العلم يمكن أن يكون له هدفان. أحد الهدفين هو الهدف الذي يحمله أصحاب العلم الحاليون في العالم و هو هدف غير نزيه و غير مقدس. لا تنظروا إلى الإدعاءات، فحقيقة القضية في التقدم العلمي الغربي حقيقة جد مريرة و مؤسفة. حقيقة لا يمكن للإنسان السير نحوها مهما كان الثمن. التقدم العلمي في العالم الغربي سواء حينما بدأ التحرك العلمي الغربي - و يجب القول التحرك الفكري الذي كان مقدمة‌ للتحرك العلمي - و الذي بدأ في القرن السادس عشر للميلاد في إيطاليا و بريطانيا و أماكن أخرى، أو عندما انطلقت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر في بريطانيا أولاً، و أنشئت المعامل الكبيرة و المكائن العظيمة‌ طوال عشرات الأعوام، و من ثم جرى إنتاج الثروة عن هذا الطريق - و لا نتطرق الآن لما حصل في تلك البلدان من سحق للحقوق و الفقراء من أجل إنتاج الثروة، و الطبقة‌ التي انبثقت عن هذه المكائن الكبيرة، و الظلم الذي جرى على الناس - و من ثم اتساع رقعة هذا العلم و التقنية بالتدريج و انتشارهما في سائر البلاد الأوربية، كان ثمنه سحق حرية العديد من الشعوب و تهديد هوية الكثير من الأمم و ممارسة‌ ظلم عظيم و عسف فظيع ضد الكثير من البلدان و الشعوب. شعر أولئك أنهم بحاجة‌ إلى المواد الأولية و أسواق تصريف البضائع، و كان ذلك في بلدان أخرى، لذلك استخدموا هذا العلم و أنتجوا المدافع في مقابل السيوف و الرماح، ثم سار البريطانيون و الهولنديون و البرتغاليون و الفرنسيون و غيرهم من الشعوب الأوربية إلى أطراف العالم، و ارتكبوا من الفجائع في العالم بأدوات العلم و التقنية ما لو جُمع لكان موسوعة هائلة مبكية من عشرات المجلدات...(3). ثم التحقت أمريكا بعد ذلك بهذا الركب.
لاحظوا ما الذي فعله هؤلاء في الهند و ما الذي فعلوه في الصين. ارتكب الإنجليز في القرن التاسع عشر من الفجائع في الهند ما أنا على يقين من أنكم أيها الشباب لم تسمعوا بواحد من الألف منه في الإعلام و الكلام هنا و هناك، و أنتم الشباب قل ما تهتمون للتاريخ و ما شابه. يكتب نهرو في كتابه إنهم جاءوا إلى الهند في الفترة التي - حسب تعبيره - لم تكن الثورة‌ الصناعية قد انطلقت بعد، و لم يجر إنتاج المكائن الكبرى، و كانت شبه القارة‌ الهندية من البلدان المتقدمة‌ صناعياً في العالم. و من أجل أن يمرّر أولئك نواياهم و مشاريعهم قضوا على الصناعة في الهند و سحقوا الطبقة المتوسطة هناك، و أوقفوا انبثاق المسيرة نحو العلم و الصناعة بمختلف الضغوط و التضييقات، و أوجدوا و زرعوا مرضاً مزمناً في جسد شعب من الشعوب، و لا يزال هذا الداء‌ غير معالج لحد الآن بعد مضي نحو مائة و خمسين عاماً على بدء‌ تلك الأمور في الهند. و فعلوا مثل هذا في الصين أيضاً. فارتكبوا الفجائع و الويلات هناك و مارسوا مختلف أنواع الضغوط ضد الشعب الصيني.. كان هذا في القرن التاسع عشر. و فعلوا ما فعلوا في أفريقيا بأدوات العلم، و في القارة الأمريكية نفسها ارتكبوا ما ارتكبوه من فجائع. و في أفريقيا و أمريكا اللاتينية استعبدوا الناس الأحرار و دمروا الكثير من العوائل. هكذا استخدموا العلم.
و عليه فإن هذا الاتجاه في العلم كان عبارة عن الاتجاه نحو الثروة من دون مراعاة ذرة من الأخلاق و الإيمان و المعنوية. و في الوقت ذاته كان الأوربيون يدعون التحضر، لكن سلوكهم كان أكثر وحشية حتى من أشرس القبائل. و هذا الذي أقوله ليس شعارات إنما لكل منه وثائقه و أسناده الدقيقة الدالة على ما قاموا به، و ليس هنا مجال للشرح و الإيضاح. لو ذكرت جانباً من ذلك لعلمتم ما الذي فعله هؤلاء الأوربيون و الغربيون بأدوات العلم في آسيا الشرقية و في أفريقيا و في مناطق أخرى من العالم. فالهدف كان الثروة، لذلك لم تكن هناك أخلاق و لا دين و لا إله.
إننا لا نروم مثل هذا العلم. حينما ينمو مثل هذا العلم و يصل درجاته القصوى يصبح كالشيء الذي تمتلكه البلدان الغربية اليوم، يصبح قنبلة ذرية، و يصبح كل هذا الظلم و الجور و سحق الديمقراطية في أكثر البلدان تبجحاً بالديمقراطية - أي أمريكا - و يصبح تباينات طبقية متفاقمة، و يصبح ملايين المتسولين و من هم تحت خط الفقر في بلد ثري متقدم. لا فائدة من هذا العلم و لسنا نسعى وراء هذا العلم، فلا تعاليم الأنبياء و لا تعاليم الإسلام و لا الضمير الإنساني يدعونا إلى مثل هذا الطريق الذي لا يخلق أي شوق و رغبة في الإنسان.
العلم الذي نطالب به مصحوب بالتزكية. هذه الآيات التي تليت في بداية الجلسة تشير إلى هذه النقطة: «هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة» (4). التزكية في البداية، و كذلك التربية الدينية و القرآنية و الإسلامية. لماذا كانت التزكية في البداية؟ لأنه ما لم تكن هناك التزكية انحرف العلم. العلم أداة و سلاح. إذا وقع هذا السلاح بيد إنسان شرير أسود القلب خبيث قاتل لما كانت نتيجته سوى الفاجعة. و لكن يمكن أن يكون هذا السلاح بيد إنسان صالح كوسيلة للدفاع عن الناس و حقوقهم و الدفاع عن العائلة. يجب الأخذ بهذا العلم حينما يترافق مع التزكية. هذه وصيتي لكم.
أنتم و الحمد لله شباب وفقكم الله تعالى للتربية في بيئة دينية و إسلامية. هذه فرصة جيدة جداً. و هي تشبه ما قاله الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة حيث شكر الله تعالى على أن خلقه في زمن دولة الإسلام و الرسول. طبعاً الفرق بيننا و بينه كبير جداً، و هو كالفرق بين السماء و الأرض، لكننا في نفس الاتجاه، و هذا توفيق بالنسبة لنا و بالنسبة لكم أيها الشباب.
علينا أن نكسب العلم من أجل الخدمة و المعنوية و التقدم في الفضائل الإنسانية و الدفاع الحقيقي عن حقوق الإنسان. الثروة الوطنية و الاقتدار الوطني يجب أن يكون من أجل أن يستطيع هذا الشعب - و خلافاً للعرف الدارج في العالم - رفع راية العدالة. لا نتعسف مع أحد، و نعين المظلوم، و نواجه الظالم و نصدّه عن الظلم.
تصوروا في هذا العالم الذي يسوده الظلم و العسف و الاستكبار و الاستعمار و استغلال الشعوب، و كل من يضع أقدامه في سبيل العلم و التقدم ينتهج هذا الطريق - البعض يتعسفون و يجورون و البعض يتقبلون الظلم و الجور و يخضعون له، و هناك مهيمن و خاضع للهيمنة، مما يشكل على العموم نظام الهيمنة - إذا نهض شعب و كان شعباً عالماً مقتدراً له رسالته و أفكاره، و استطاع إيصال صوته للعالم، و توفر على التقنيات المتطورة و أدوات الاتصال المتنوعة، و كانت له قدراته الإعلامية و طاقاته البشرية المتحلية بثقة عالية بالنفس، و جابه نظام الهيمنة هذا، و حينما يتعاضد الجميع لممارسة الظلم ضد شعب و سحقه تحت الأقدام، يهبّ للدفاع عن ذلك الشعب المظلوم، لاحظوا أي حدث عجيب سيقع عندها في العالم، سوف يتغير وضع العالم.
أعملوا من أجل هذا الهدف، و اكسبوا العلم لأجل هذا الهدف، و اسعوا من أجل هذا الشيء فهو ضروري، و إلا لن تكون ميزة لنا إن نقف في آخر الطابور لنسير على نفس الطريق الذي سار فيه أصحاب العلم في العالم طوال الأعوام المائتين أو الثلاثمائة‌ الماضية. هذا ليس هدفاً ينفق الإنسان لأجله من روحه. علينا فتح طريق جديد، و الطريق الجديد هو أن يرفع الشعب المتمكن من أدوات العلم و الاقتدار العلمي - و هو اقتدار يستدعي كل شيء من بعده - راية الدوافع و القيم و الأخلاق الإلهية. هذا هو ما نتوقعه منكم.
اللهم اهد و أعن شبابنا الأعزاء في طريق المفاخر هذا أكثر فأكثر يوماً بعد يوم.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - الكافي، ج 2، ص 84 .
2 - شرح نهج البلاغة، ج 20، ص 319 .
3 - شعار أحد الحضور: «الموت لأمريكا».
4 - سورة الجمعة، الآية 2 .