الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوكل عليه، و نصلي و نسلم على حبيبه و نجيبه و خيرته في خلقه، حافظ سره و مبلغ رسالاته، بشير رحمته و نذير نقمته سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين المكرمين سيما بقية الله في الأرضين، و نصلي و نسلم على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله.
أوصيكم جميعاً أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء و المصلين الأحباب و نفسي بمراعاة تقوى الله. اليوم يوم استشهاد علي بن موسى الرضا أبي الحسن (عليه آلاف التحية و السلام). و في الأيام السابقة أحيى شعبنا ذكرى رحيل نبي الإسلام المكرم المعظم سيدنا محمد بن عبد الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و ذكرى الاستشهاد المفجع لسبطه الأكبر سيدنا المجتبى. أعزيكم أيها المؤمنون المصلون و كل الشعب الإيراني و كافة الشيعة و جميع مسلمي العالم بهذه المصائب الكبرى و الأحداث التاريخية‌ المفجعة الأليمة. يقول الله تعالى حتى لنبيّه : «يا أيها النبي اتق الله» (1). فالتقوى و ضرورة التقوى و مراعاة التقوى يُخاطب بها حتى الكيان المقدس للرسول الأكرم (ص). لنتذكر الله و لا ننساه، و لنراقب أعمالنا و سلوكنا و أقوالنا و حتى أفكارنا و تصوراتنا. هذا هو معنى التقوى. إذا تحقق هذا فسوف تنفتح كل الطرق المغلقة، و سيعين الله تعالى الشعب الملتزم بالتقوى في كل المراحل و الأطوار.
لعشرة الفجر و الثاني و العشرين من بهمن لهذا العام أجواء و حماس مختلف. فالشعب يشاهد بعد أعوام من الجهاد أن صوته و هتافه المظلوم و المقتدر يسمع اليوم بقوة و قدرة في مناطق أخرى من العالم الإسلامي.
للأحداث الجارية في شمال أفريقيا حالياً، في مصر و تونس و بعض البلدان الأخرى معنى آخر بالنسبة لنا نحن الشعب الإيراني.. لها معنى خاص. هذا هو الشيء الذي كان يطرح دوماً باعتباره صحوة إسلامية بمناسبة انتصار الثورة الإسلامية الكبرى للشعب الإيراني، و هو يفصح عن نفسه اليوم، لذا فإن عشرة الفجر هذه مهمة.
سأذكر في الخطبة الأولى اليوم أموراً حول ثورتنا، و في الخطبة الثانية سأتطرق بعض الشيء لقضايا مصر و تونس، ثم أستأذنكم أيها المصلون المحترمون لأوجّه خطبة باللغة العربية للمسلمين العرب في كل المنطقة إن شاء الله.
ما أريد أن أقوله حول ثورتنا.. هذا الحدث العظيم للشعب الإيراني - و هو مصدر دروس و عبر لنا - هو أولاً صورة لواقع العالم، حتى نرى ماذا كان يريد المستكبرون و المستعمرون و العتاة و القوى المهيمنة‌ في العالم، و ماذا حصل. ما الذي تابعوه و ما الذي وقع على الصعيد العملي. ثم أذكر خصوصيتين من خصوصيات الثورة تتعلق بفترتنا هذه.
بخصوص الشطر الأول المتعلق بصورة‌ الواقع الراهن، و مقارنته بالشيء الذي أراده عتاة و طغاة العالم، أقول إن المنتصرين في الحربين العالميتين الأولى و الثانية، و هم بعض البلدان الأوربية و أمريكا، كانت لهم سياسة ثابتة لمنطقة الشرق الأوسط المهمة. فهذه المنطقة مهمة إنْ من حيث الموقع العسكري حيث هي نقطة اتصال آسيا و أوربا و أفريقيا، و إنْ من حيث كونها أحد أكبر مخازن النفط في العالم، و النفط هو شريان حياة كل القوى الصناعية المتسلطة على العالم، و إن من حيث شعوب المنطقة حيث فيها شعوب عريقة و متجذرة و ذات سوابق تاريخية. لذلك رسموا لهذه المنطقة سياسة معينة، و كانت هذه السياسة عبارة عن أنه يجب أن تكون في هذه المنطقة بلدان و وحدات سياسية‌ لها هذه الخصوصيات: أولاً يجب أن تكون ضعيفة، و ثانياً يجب أن تكون متعادية مع بعضها و متعارضة و غير مجتمعة و لا تستطيع الاتحاد - لذلك لاحظتم سياسة ‌تقوية القومية ‌العربية‌ و القومية التركية و القومية الإيرانية تتابع طوال الأعوام المتمادية - و ثالثاً يجب أن يكون حكام هذه البلدان عملاء و مطيعين و خاضعين للقوى الغربية من الناحية ‌السياسية. و رابعاً يجب أن تكون هذه البلدان من الناحية‌ الاقتصادية مستهلكة، بمعنى أن تنفق أموال النفط الذي ينتزع بالمجان تقريباً من أيديهم للاستيراد و الاستهلاك حتى تزدهر المصانع الغربية. و خامساً يجب أن تكون متخلفة‌ من الناحية‌ العلمية، و لا يسمح لها بالتقدم علمياً. و هذه النقاط التي أذكرها إنما هي رؤوس نقاط، و يمكن حقاً تأليف كتب و ذكر تفاصيل كثيرة لكل واحدة منها. كيف حالوا في بلدنا إيران و في بعض البلدان الأخرى دون تنمية العلوم و تعميقها، و كيف أرادوا أن تكون شعوب هذه المنطقة من الناحية الثقافية مقلدة محضة للأوربيين، و تكون من الناحية العسكرية ذليلة و ضعيفة و هشة. و تكون من الناحية ‌الأخلاقية فاسدة و منحطة بمختلف الأشكال. و من الناحية الدينية ‌سطحية تماماً و قانعة بنوع من التدين الفردي و ربما التشريفاتي. هذه هي الصورة التي رسموها لأنفسهم عن هذه المنطقة، و خططوا سياساتهم على هذا الأساس. ربما اجتمع الخبراء الاستراتيجيون الغربيون آلاف الساعات و درسوا هذه القضايا و فكروا و وضعوا البرامج و عيّنوا عناصرهم هنا في بلدان هذه المنطقة، و نفذوا الأمور و الأعمال بواسطتهم. وفق هذا التحليل يمكن إدراك سلوك رضا خان بصورة ‌صحيحة، و يمكن كذلك إدراك ما قام به مصطفى كمال في تركيا، و آخرون و آخرون. هذه كانت برامجهم و خططهم.
و قد نجحوا.. نجحوا في ذلك قبل انتصار الثورة ‌الإسلامية‌ باستثناء فترات قصيرة ‌من الزمن و في بعض المسائل. باستثناء فترات قصيرة.. في مصر مثلاً باستثناء عدة سنوات تولت فيها الأمور حكومة‌ وطنية، و في إيران بشكل‌ آخر، و في أماكن أخرى بأشكال أخرى، و لكن على العموم، و حين ننظر للأمور على إطلاقها، فقد تقدم هؤلاء على كافة المستويات. و لكن قبل الثورة وقعت فجأة حادثة كبرى و انفجار عظيم غيّر كل أوضاعهم. ظهر في الشعب الإيراني رجل عالم متميز حكيم فقيه مجاهد شجاع مخاطِر نافذ الكلمة باسم الإمام الخميني، و قد كان ظهور هذا الرجل و وجوده و تربية هذا الإنسان الكبير من فعل الله حقاً. كان هذا تقديراً إلهياً أن يقع مثل هذا الحدث. و قد كان الشعب الإيراني مستعداً فتقبّل الأمر و رحّب به و ألقى بنفسه في الأهوال و المخاطر و نزل إلى الساحة و ضحّى بنفسه و ماله و نجح في الامتحان، لذلك كانت الثورة‌ الإسلامية، و تغيّرت كل هذه الحسابات و اضطربت و اختلت. ظهرت الثورة الإسلامية‌ في إيران بقوة و استمرت بقوة. أي لم يكن الأمر بحيث تتصاعد حالة الهياج و الحماس في السنة الأولى و الثانية‌ و الثالثة ثم تنتهي الأمور، لا، بل لقد تواصل الأمر، و لدي ما أقوله بخصوص هذا الاستمرار سأذكره لاحقاً.
وقف الإمام كالجبل و وقف الشعب وراء ‌الإمام كالجبل الشامخ. و بذلت جبهة الأعداء - و لم يكن العدو واحداً، بل كانوا في جبهة واحدة - كل ما استطاعت من الجهود و المساعي، و فعلوا كل ما كانوا يستطيعون فعله، ابتداء من حروب الشوارع، إلى الحروب القومية، إلى الانقلاب العسكري، إلى فرض حرب السنوات الثمانيف إلى الحظر الاقتصادي، إلى إطلاق ماكنة‌ هائلة من الحرب النفسية طوال إثنين و ثلاثين عاماً.. منذ إثنين و ثلاثين عاماً و الحرب النفسية ضد الشعب الإيراني و ضد الثورة‌ و ضد الإمام قائمة‌.. مارسوا الكذب و توجيه التهم و بث الإشاعات، و سعوا لزرع الخلافات و تحريف السبل في الداخل.
الأهداف التي كانوا يسعون لها هي بالدرجة الأولى إسقاط الثورة و نظام الجمهورية الإسلامية. كان هدفهم الأول الإسقاط. و هدفهم الثاني هو أنه إذا لم يتحقق إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية‌ فسيسعون لمسخ الثورة و استحالتها، فتبقى صورة الثورة‌ و يزول باطنها و سيرتها و روحها. حاولوا الكثير في هذا المجال، و كان آخر مسرحياتهم التي عرضت على الخشبة فتنة‌ عام 88 . كانت في الحقيقة مسعى من المساعي. و وقع البعض في الداخل أسرى هذه المؤامرة بسبب حب الذات و حب المناصب و ما إلى ذلك من الأمراض النفسية الخطيرة. و قد قلت مراراً إن المخطط و المصمم و المدير كان و لا يزال خارج الحدود. و قد تعاونوا معهم في الداخل، بعضهم عن علم و البعض الآخر عن غير علم. هذا هو الهدف الثاني.
و كان الهدف الثالث و لا يزال هو أنه لو بقي النظام الإسلامي فيمكن دس عناصر من ضعيفي النفوس فيه، و الاستفادة منهم، و جعلهم أطرافه الأصليين الذين يتعامل معهم في خصوص قضايا البلاد. و بالتالي يريدون أن يكون هناك نظام لا يمتلك القدرة الكافية، و يكون ضعيفاً و مطيعاً - المهم هو أن يكون عميلاً و مطيعاً - و لا يقف في وجه أمريكا. هذه هي أهدافهم.
و قد أخفقت هذه الأهداف و هذه المراحل لحد الآن و لم يستطيعوا تحقيقها. طبعاً بذلوا الكثير من المساعي و تابعوا ممارسات متنوعة - سوف أشير إلى بعضها خلال حديثي - و لم يدخروا أي جهد، لكنهم لم ينجحوا، لأن الشعب كان يقظاً. لدينا في المجتمع نخب جيدة، و شعبنا شعب صالح جيد، و لدينا مسؤولون جيدون. و لم يستطع العدو لحد الآن و الحمد لله تحقيق أهدافه. لقد واصلت الثورة‌ طريقها و تقدمت.
و الآن نسأل:‌ ما الذي حدث في الثورة؟ هذه أمور مهمة. الثورة‌ التي حدثت في إيران أوجدت تغييرات تعتبر مهمة‌ من حيث العمق، فهي تغييرات أساسية. على أساس هذه التغييرات يمكن التقدم بالمجتمع و إيجاد تغييرات واسعة. لقد أرسيت هذه الدعائم الأصلية بشكل متين و محكم.
أذكر هنا بعض التغييرات التي وقعت. و هي طبعاً مما يعلمه الجميع و نعلمه كلنا، فهي أمور مقابل أنظارنا، و لكن، كما يلفت الله تعالى أنظارنا في القرآن الكريم إلى الشمس «و الشمس و ضحاها» (2)، و الشمس مقابل أعيننا، لكنه يقسم بها لننتبه إلى أن هذه الظاهرة و هذه الحادثة و هذا الموجود له كل هذه العظمة.. نحن كذلك يجب علينا التنبّه لهذه الظواهر العظيمة المحيطة بنا. لذلك فإن ذكر هذه الأمور ضروري من حيث أننا يجب أن نتوجّه و ننتبه لها.
أولاً كان النظام الحاكم في البلاد قبل الثورة نظاماً محارباً للإسلام بشدة. لم يكن لهم شأن كبير بالظواهر، و لكن على المستوى العميق كانوا يسعون بجد لاستئصال جذور الإيمان الإسلامي لدى الشعب. و الأمثلة و الشواهد و الخواطر في هذا المجال كثيرة في بالي، و لا فرصة‌ هاهنا لاستعراضها. و جاءت الثورة لتكون على الضد من ذلك مائة‌ و ثمانين درجة، فجعلت الإسلام محوراً لإدارة البلادف فكانت الأحكام و القوانين إسلامية،‌ و كذلك المعايير و الملاكات لقبول القوانين أو رفضها، و معايير عمل الجهات التنفيذية في البلاد.
كان البلد يعيش التبعية من الناحية السياسية قبل الثورة. أي إن الحكومة و محمد رضا نفسه و الأجهزة المختلفة كانت مطيعة لأمريكا و تنتظر إشارات أمريكا. و هنا أيضاً الشواهد كثيرة. شخص يقوم و يذهب من هنا إلى أمريكا - الدكتور أميني - من أجل أن يقنع الأمريكان بأن يكون رئيس وزراء إيران. و عاد و صار رئيساً للوزراء. و بعد سنة‌ أو سنتين ذهب الشاه - و كان غير راغب فيه - إلى أمريكا و أقنع الأمريكان بأن يعزله عن رئاسة الوزراء، و عاد فعزله عن رئاسة‌ الوزراء! كان هذا واقع بلدنا آنذاك. من أجل انتخاب رئيس الوزراء كان الشاه و رئيس البلاد بحاجة لموافقة الأمريكان و رضاهم! في كثير من الأمور كان الشاه يدعو سفير أمريكا و سفير بريطانيا لقصره ليطرح عليهم القرار الذي يريد اتخاذه! و إذا خالفوا فإن القرار لا يجد طريقه للتطبيق العملي! هذه هي التبعية‌ السياسية. كانوا مطيعين لأمريكا، و قبل الفترة الأمريكية كانوا مطيعين لبريطانيا. البريطانيون أنفسهم جاءوا برضا خان إلى السلطة، و حينما وجدوا أنه لم يعد ينفعهم عزلوه عن السلطة و طردوه من البلاد و جاءوا بابنه إلى السلطة. كان هذا قبل الثورة.
و جاءت الثورة فحققت للبلد استقلاله السياسي الكامل. في هذا العالم الكبير اليوم، و بين هذه القوى الكبرى،‌ لا توجد أية قوة تستطيع أن تزعم أن إرادتها لها تأثير على إرادة مسؤولي البلاد أو الشعب الإيراني. و هذه النقطة بالذات - أي الصمود و الاستقلال و العزة السياسية - لها أكبر الجاذبية في نفوس الشعوب. حين ترون أن الشعوب تحترم الشعب الإيراني الكبير فإن الجانب الأكبر من هذا الاحترام يعود لهذا السبب.. الاستقلال السياسي.
قبل الثورة‌ كان نظام الحكم ملكياً. و الطرف المقابل لذلك هو الديمقراطية. الشعب لا شأن له و لا دور في نظام الحكم الملكي. في نظام الحكم الديمقراطي الشعب هو الكل في الكل. كان الحكم وراثياً قبل الثورة. يموت واحد و يعيّن آخر مكانه. أي إن الناس لم يكن لهم أي دور، كانوا مضطرين للقبول شاءوا أم أبوا. و في الجمهورية الإسلامية و ببركة الثورة فإن الدولة منتخبة، و الناس هم الذين ينتخبون، و ذوق الناس و إرادتهم هي الحاسمة. قبل الثورة كانت الدولة ديكتاتورية استخبارية.. ديكتاتورية صعبة سوداء.. لا زلت أتذكر أن أحد أصدقائنا جاءني من باكستان - و قد جاء إلى مشهد بالتهريب - و كان يتحدث فقال: كنا نقرأ المنشور الفلاني في المتنزه مع الأصدقاء. فتعجبت، في المتنزه؟! منشور؟! و هل هذا ممكن!؟ لم يكن يخطر ببالنا إطلاقاً أن يكون هناك منشور في جيب أحد، و يكون في ذلك المنشور شيء من النقد للجهاز الحاكم آنذاك، و يمكن لذلك الشخص أن يمشي في الأزقة. هكذا كان وضع الديكتاتورية الاستخبارية‌ في ذلك الحين. و جاءت الثورة فجعلت الأجواء حرة.. أجواء النقد و الإصلاح و التذكير و التنبيه، و حتى أجواء المخالفة و الاعتراض فتحتها الثورة أمام الناس. هكذا كان الوضع طوال هذه الأعوام الإثنين و الثلاثين بما في ذلك سنوات بداية الثورة.
قبل الثورة كان اعتماد البلد في العلوم و التقنيات على الغرب تماماً. و قد قلت مراراً إن بعض قطع طائراتنا العسكرية حينما كانت تعطل أو تستهلك، و كان يراد إصلاحها لم يكونوا يسمحون للمهندسين الداخليين في القوة الجوية بفتح هذه القطعة ليروا ما هي، ناهيك عن أن يفكروا في تصليحها. كانوا يضعون القطعة في طائرة و يأخذونها إلى أمريكا و يأتون بغيرها مكانها، أو إذا كان المقرر تعميرها كانوا يعمّرونها. لم تكن هناك صناعة، كانت الصناعة تجميعية‌ محضة من دون أي ابتكار. و بعد الثورة توفرت الثقة بالذات العلمية،‌ و الاعتماد على النفس الوطني. و هاهم كل هؤلاء العلماء البارزين و الكبار في مختلف حقول العلم. لدينا اليوم علماء في داخل البلاد أمثالهم في العالم معدودون و قليلون جداً. لقد تقدم علماؤنا و معظمهم من الشباب.
قبل الثورة لم يكن لإيران أي تأثير في القضايا العالمية، و حتى في قضايا المنطقة. كان البلد مهاناً، و ليس بمقدوره ترك أي تأثير في القضايا المختلفة. و بعد الثورة تحققت للشعب عزة و عظمة في أنظار شعوب العالم، و أصبح له تأثير في قضايا المنطقة إلى درجة بهرت الأعداء و فرضت عليهم الاعتراف بذلك. لاحظوا اليوم المواقع الالكترونية التي تورد الأخبار الأجنبية، يتحدثون فيها دوماً عن نفوذ إيران و تمكنها و تواجدها و حضورها في قضايا المنطقة. يذكرون ذلك حتى بدوافع مغرضة أحياناً، لكنهم يعترفون على كل حال.
و على الصعيد الثقافي كنا قبل الثورة محض مقلدين، و بعد الثورة جرت معرفة‌ الغزو الثقافي كخطر. و النقاط من هذا القبيل كثيرة. هذه هي الأمور الأساسية.
حينما يتم إرساء مثل هذه الدعائم في بلد عندئذ يستطيع الشعب أن يكون متفائلاً بأن يستطيع بناء صرح حضارة جديدة و عظيمة على هذه الدعائم. كل واحدة من هذه الخصوصيات تستقطب أنظار الشعوب بنحو من الأنحاء. تنظر الشعوب الأخرى فترى و تنجذب و تثني و تمدح و الأهم من كل شيء طبعاً هو حالة الاستقلال السياسي و الصمود في مقابل عسف الأعداء.
أروي هنا رأياً لعالم غربي. و ليس من دأبي أن أنقل شيئاً من أقوال هؤلاء الساسة الغربيين و ثنائهم. لكن هذه العبارة ملفتة، فهو يقول: شيئان إذا تداولهما المسلمون من يد ليد و تعرفت عليهما الشعوب المسلمة فسوف تتحطم جميع التابوات الغربية - أي الأصول الغربية الجزمية - و تصبح باطلاً. فما هما هذان الشيئان؟ يقول هذا المفكر الغربي: أحدهما دستور الجمهورية الإسلامية، و هو الدستور الذي يوفر نظام حكم جماهيري شعبي تقدمي عصري، و في نفس الوقت ديني، أمام أنظار المسلمين في العالم. إنه دستور يدل على أن بالإمكان تأسيس نظام حكم يتصف بالحداثة و العصرية و التقدم و يكون دينياً تماماً. هذه هي الصورة التي يرسمها الدستور. يقول إن مثل هذا الشيء ممكن. هذا أحد الشيئين و الثاني ملف النجاحات العلمية و الاقتصادية و السياسية‌ و العسكرية للجمهورية الإسلامية و هو ما لو توفر للمسلمين لوجدوا أنه أمر ممكن و قد حصل. يقول: لو أن الشعوب المسلمة اطلعت على هذه الإمكانية و الحصول النسبي، أي إن هذا الشيء ممكن و قد تحقق بنحو نسبي في إيران الإسلامية اليوم، و لو وضع هذا النظام أمام أنظارهم، فلن يعد بالإمكان الحؤول دون سلسلة الثورات.
لقد حصل هذا الشيء اليوم. و هو طبعاً لم يحصل اليوم، بل حدث منذ ثلاثين عاماً. إنها فكرة تتموضع تدريجياً و بصورة هادئة في أذهان الشعوب، و تنمو و تنضج ثم تبرز بهذا الشكل الذي تشاهدونه حالياً في شمال أفريقيا و المناطق الأخرى.
طبعاً ارتكب الغربيون أنفسهم أخطاء سياسية، و قد ساعدت هذه الأخطاء السياسية الجمهورية الإسلامية. لاحظوا أن الغربيين أخطأوا في خصوص الملف النووي الإيراني. فقد ضخموا القضية النووية الإيرانية من أجل أن يواجهوها، و أثاروا حولها الضجيج و مارسوا الضغوط و قالوا إن على الجمهورية الإسلامية التراجع عن قضيتها النووية. و لكن أتضح للناس في العالم طوال هذه الأعوام السبعة - منذ سبعة‌ أعوام و هم يبذلون مساعيهم - شيئان أحدهما هو أن إيران استطاعت تحقيق تقدم لم يكن متوقعاً في الملف النووي. و الثاني هو إن إيران صمدت و لم تتراجع على الرغم من كل هذه الضغوط. و هذا لصالح الشعب الإيراني. و الآن يعلم العالم كله أن أمريكا و أوربا و أعوانهم و أتباعهم رغم كل الضغوط التي مارسوها لم يستطيعوا التغلب على الجمهورية الإسلامية و فرض التراجع عليها. هذا ما تمت معرفته و انتشاره على يد أعداء‌ الشعب الإيراني أنفسهم، أي إنهم ساعدوا على تعريف الشعب الإيراني.
و کذا الحال في القضایا الأخرى. أثاروا الضجيج بأننا نريد حظر البنزين على إيران فلا يصدّر البنزين إلى إيران. حسناً، لقد كنا و لا نزال من مستوردي البنزين. قالوا نريد منع دخول البنزين إلى إيران. و أثاروا الضجيج حول هذا الموضوع. و راح محللوهم يخمّنون أن البلاد ستضطرب و الناس ستفعل كذا و كذا. لكن هذا أدى إلى أن يفكر المسؤولون هنا بإنتاج مزيد من البنزين. و اليوم حسب التقرير الذي عندي - طبعاً حتى الثاني و العشرين من بهمن بتوفيق من الله - سوف تستغني بلادنا عن استيراد البنزين تماماً.. حسب التقرير الذي رفعوه لي سوف نستطيع بعد الآن حتى أن نصدر البنزين، و قد أصدروا الأوامر بذلك. هنا انتهى ضجيجهم لصالح شعب إيران. و قد شاهد المراقبون الدوليون ذلك. هكذا الحال في جميع القضايا. هكذا كان الحال بالنسبة لحظر الأسلحة في فترة الحرب. و كذا في قضية خلق تيار إسلامي متطرف و موازٍ. خلقوا في جوارنا تياراً إسلامياً متطرفاً من أجل مزاحمة الجمهورية الإسلامية و الإضرار بها فأصبح الآن آفة عليهم، و لا يستطيعون السيطرة عليه و الحؤول دونه، و لا يدرون كيف يعالجون الأمر. و كذا الحال بالنسبة لبثهم الخلافات الطائفية. و كذا الحال في فتنة سنة 88 حيث أثاروا الضجيج و الصخب و قالوا إن الجمهورية الإسلامية انتهت و الخلافات انتشرت و حدث كذا و كذا. ثم نظروا فوجدوا أن الشعب الإيراني قد تغلب، و قد كان التاسع من دي و الثاني و العشرين من بهمن العام الماضي من أيام الله بالمعنى الحقيقي للكلمة. القلوب بيد الله، و قد جاء الله تعالى بهذه القلوب إلى وسط الساحة، و أبدى الشعب الإيراني عظمته و أثبتها. كل ما فعلوا شيئاً أنتهى بضررهم، و سيكون الأمر كذلك بعد الآن أيضاً. هذا واقع مشهود في العالم حالياً. أرادوا شيئاً و حصل شيء آخر.
و أما النقطة الثانية التي ذكرت أنني يجب أن أقولها فهي إننا لو أردنا تشخيص أهمية أية ظاهرة و تشخيص نجاحها فيجب أن ننظر كم استطاعت هذه الظاهرة أن تكون نموذجية و مثالاً يحتذى، و كم استطاعت الصمود و الاستقامة و الثبات و البقاء على مبادئها و كلامها. و هكذا هو الحال بالنسبة‌ للثورات. إذا أرادت الثورة التأثير على أذهان الآخرين و ممارساتهم و التحول إلى نموذج لهم فيجب أن تتحلى بخصوصيات أهمها الثبات و الاستقامة و الصمود. إذا كان هذا كانت الثورة نموذجاً للآخرين، و إلا فالبرق الذي يقدح في مكان ثم ينطفئ لا يمكنه أن يعدّ نموذجاً و مثالاً، و لا يمكنه ترغيب الآخرين بأن يتبعوه. و قد استطاعت ثورتنا أن تكون ملهمة، و أن توفر نموذجاً و مثالاً، و قد كان هذا نتيجة الثبات و الاستقامة و الصمود على الأصول و الأركان الرئيسية التي أعلنها الإمام الخميني لهذه الثورة.
لقد صمدت هذه الثورة. و يمكن أن أذكر عدة أمثلة في هذا الباب. من الأمثلة الصفة الإسلامية. قال الإمام منذ البداية إن ثورتنا إسلامية، و تقوم على أساس الإسلام، و ثار ضجيج كبير في العالم فقالوا إن الإسلامية لا تجتمع مع الديمقراطية، و الإسلامية رجعية و تأخر، و الأحكام الإسلامية لا يمكن تطبيقها و كذا و كذا و كذا. و راح البعض يكرر أصواتهم في الداخل، فكتبوا الكتب و المقالات، و بثوا الإشاعات من أجل فرض التراجع عن الالتزام بالإسلام على الجمهورية الإسلامية. لكن الجمهورية الإسلامية صمدت و ثبتت و لم تستسلم للضجيج و الصخب. نعم نحن إسلاميون و نفخر بهذا و نثبت أن هذا هو سبيل إنقاذ البشرية. هذا ما أعلنته الجمهورية الإسلامية بصوت عال للعالم كله.
انظروا إلى مجتمعنا اليوم بعد 32 سنة‌. السلوكيات إذا لم تكن إكثر إسلامية من اليوم الأول فهي على الأقل بنفس إسلامية اليوم الأول لانتصار الثورة. الشباب الذين لم يروا الإمام و لم يعاصروا فترة‌الحرب و لا يتذكرون شيئاً عن الثورة نرى أن التزامهم بمباني الإسلام أفضل و أقوى من بعضنا نحن الشيوخ. مسؤولو البلاد يفخرون بالإسلامية. طبعاً طوال هذه الأعوام الـ 32 جرت محاولات عديدة، و قد كان هناك بعض الأشخاص حتى داخل المنظومة ‌الحكومية يحاولون أن يسلكون سبلاً ملتوية ليبتعدوا تدريجياً، لكنهم لم يستطيعوا. ثبتت الجمهورية الإسلامية على مبادئها و إسلاميتها.. هذا نموذج.
و النموذج أو المثال الآخر قضية الديمقراطية. أعلن الإمام الخميني منذ اليوم الأول أن الشعب يجب أن يدلي برأيه سواء‌ في أصل انتخاب الجمهورية الإسلامية، أو في تدوين الدستور، أو في قبول الدستور الذي تمت المصادقة عليه في مجلس الخبراء، أو في انتخاب رئيس الجمهورية، أو في انتخاب المجلس.. ثبت الإمام.. مضت على الثورة‌ 32 سنة، و إذا حسبنا الانتخابات و الاستفتاءات المقامة لكان لنا 32 مشاركة انتخابية جماهيرية - بمعنى انتخابات واحدة كل عام كمعدل - حيث توجهت الجماهير لصناديق الاقتراع و أدلت بأصواتها و انتخبت. انتخاب الشعب مهم جداً. كانت طهران في فترة الحرب المفروضة تحت القصف، لكن الانتخابات لم تتعطل. لم تتعطل الانتخابات في المدن التي كانت تحت القصف الصاروخي لنظام صدام خلال فترة الحرب. و في إحدى دورات مجلس الشورى ضغطوا لتأخير الانتخابات لأسباب سياسية تتعلق بهم، لكنهم لم ينجحوا. لم يحصل تأخير حتى يوم واحد في انتخابات الجمهورية الإسلامية و مشاركة الجماهير لحد الآن. هذه هي الديمقراطية. قالها الإمام الخميني منذ اليوم الأول، و بقيت الجمهورية الإسلامية‌ ثابتة على هذه الديمقراطية. لم يوافق على تجاوز الديمقراطية. و اليوم فإن مسؤولي البلاد ابتداء من خبراء القيادة الذين ينصبون القائد و يعزلونه، إلى رئاسة الجمهورية، إلى مجلس الشورى، إلى المجالس البلدية هم من المنتخبين من قبل الشعب. و قد تولت الأمور تيارات متنوعة و لم يتولّ الأمور تيار واحد، منذ اليوم الأول و إلى الآن تولى الأمور عدة رؤساء جمهورية، و كان لكل واحد منهم توجه و ميول سياسية معينة لكنهم تولوا الأمور كلهم بانتخاب الشعب.
المثال الآخر هو العدالة الاجتماعية. أعلن الإمام الخميني مبدأ العدالة‌ منذ اليوم الأول. و العدالة الاجتماعية أصعب من كل هذه الأمور و المهمات. أقول لكم إن تكريس العدالة الاجتماعية أصعب من الحفاظ على الديمقراطية، و سائر المهمات في الجمهورية الإسلامية. إنها عملية صعبة جداً. و لا نقول إننا استطعنا إلى اليوم تكريس و تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل كامل، لا، لا تزال المسافة بعيدة جداً. لا تزال المسافة كبيرة بين العدالة التي أرادها منا الإسلام و ما هو موجود اليوم في مجتمعنا، بيد أن المسيرة نحو العدالة الاجتماعية لم تتوقف و هي مستمرة و تتصاعد يوماً بعد يوم. التحرك باتجاه العدالة الاجتماعية أشد حالياً من الأعوام و الدورات الماضية. من المصاديق المهمة للعدالة الاجتماعية التقسيم و التوزيع المناسب للفرص في البلاد. في الأنظمة الغافلة عن حقيقة العدالة الاجتماعية يجري التشديد على طبقة خاصة و على مناطق خاصة من البلاد، و لكن في الجمهورية الإسلامية‌ كلما مضى الزمن و تقدمنا - و قد مضى لحد الآن 32 عاماً - نجد أن هذا المعنى يتكرس و يقوى أكثر. فالقرى تندرج ضمن مناطق المراقبة و الاهتمام، و كذلك المدن النائية. كل هذا البناء للمساكن في القرى و الأرياف، و كل هذا المدّ للطرق نحو المدن البعيدة و القرى في البلاد.. طرق التواصل، و الاتصالات على اختلاف أشكالها، و توصيل الطاقة الكهربائية و المياه الصالحة‌ للشرب و الهاتف و إمكانيات الحياة.. كل هذه الأمور تم توزيعها في مختلف أنحاء البلاد.
هذه الأسفار و الزيارات التي يقوم بها المسؤولون للمحافظات و المدن، و بعض هذه المدن البعيدة لم يكن أهاليها يتصورون يوماً أن يشاهدوا مسؤولاً من الدرجة الثانية، و يرون اليوم أن مسؤولي البلاد رفيعي المستوى يزورونهم. هذا شيء على جانب كبير من الأهمية و القيمة. حينما يذهب المرء إلى هناك و يشاهد المشكلات فسوف تتوفر المحفزات لمعالجة المشكلات، و هذا هو تحقيق العدالة الاجتماعية. نحن نسير باتجاه العدالة الاجتماعية.
ما يشاهده المرء من حياة المسؤولين في العالم إنما هو حياة باذخة ارستقراطية. الذين يصلون إلى الحكم و يتولون رئاسة الجمهورية أو مناصب رفيعة تنقلب حياتهم رأساً على عقب. لكن الأمر ليس كذلك في بلادنا. طبعاً أمثالي يجب أن يطابقوا حياتهم مع أضعف و أفقر شرائح المجتمع، لكننا لم نستطع و لم نوفق لذلك. هذا شيء لم يحصل، لكن حياة مسؤولي البلاد و الحمد لله كحياة الناس المتوسطين، و بعضهم دون المتوسط. و هذا شيء قيم جداً.
مشاريع أسهم العدالة، و المساكن الريفية، و ترشيد الدعم الحكومي.. هذه أعمال كبيرة. و إذا استطاع مسؤولو البلاد إن شاء الله تطبيقها بنحو جيد فهي على جانب كبير من الأهمية. بالنسبة للدعم الذي كانت الحكومة تمنحه للجميع لقاء الطاقة الكهربائية، أين الذي يستهلك الكثير من الكهرباء في بيته لوجود ثريات عديدة فيه من الذي لا يوجد في بيته سوى مصباح أو مصباحين؟ الشخص الأكثر ثراء كان يستفيد من هذا الدعم أكثر، و هذا ظلم، و يريدون الحؤول دون هذا الظلم. و كذا الحال بالنسبة للخبز و البنزين و غير ذلك. نحن صامدون و النظام صامد على شعار العدالة الاجتماعية.
النقطة الأخرى هي مقارعة الاستكبار و عدم الاستسلام مقابل الضغوط. و نحن صامدون في هذا المجال أيضاً. و قد كانت هذه العملية صعبة لكن الجمهورية الإسلامية استطاعت إنجاز هذه المهمة الصعبة بنجاح. كان هناك الكثيرون يقولون منذ بداية الثورة ما دامت الثورة قد انتصرت فلنكتف و لنذهب و ننهي الأمور مع الأمريكيين! و معنى هذا هو تخطئة شعار مقارعة الظلم في هذه الثورة. كانوا يشجعون على هذا. و قد كان هناك على مرّ الزمن من يريدون هذا الشيء، أن نذهب و نتماشى مع أمريكا، و ننضوي تحت مظلة و رعاية من هم أعداؤنا الأصليون. و معنى هذا الكلام بيع القضية الفلسطينية و غض النظر عن جرائم أمريكا في العراق و أفغانستان و أمثال ذلك. معنى هذا الكلام غض الطرف عن كل هذا الظلم الذي تمارسه أمريكا في العالم. معنى هذا الكلام عدم الاعتراض على هذه الأمور و القضايا. تطبيع العلاقات معناه أن لا يعود الشعب الإيراني و المسؤولون الإيرانيون قادرين على التصريح باعتراضهم و إطلاق كلامهم، و في مرحلة مقبلة سيضطرون تدريجياً لقبول كلام أولئك. و قد كانت هذه الاستقامة صعبة جداً، لكنها كانت مباركة و استجلبت الرحمة الإلهية، و لفتت أنظار الشعوب. صمودكم أيها الشعب الإيراني في هذه الأعوام الإثنين و الثلاثين على الشعارات الأصلية للثورة كانت فيه بركة كبيرة هي أن ينظر لكم العالم الإسلامي اليوم بعين الإعظام و الإجلال. حينما يزور مسؤولو بلادكم البلدان المختلفة يستقبلونهم بكل حفاوة و ترحيب. عندما يحسب المراقبون شعبية الشخصيات السياسية يقف مسؤولو بلادكم في المرتبة الأولى. لقد أصبح ما قام به الشعب الإيراني نموذجاً يحتذى. و تلاحظون اليوم علامات ذلك. هذه البركة الكبرى و هذه الخصوصية من تلك التي لا تتضح إلا بمضي الزمن.
يسمع في مصر اليوم انعكاس أصواتكم. رئيس جمهورية أمريكا في زمن انتصار ثورتنا تحدث قبل أيام في مقابلة و قال إن الأصوات التي تسمع في مصر اليوم معروفة عندي! أي إن ما يسمع في القاهرة اليوم كان يسمع في طهران أيام رئاسة جمهوريته. هذا ما يحكم به العالم و يقوله، لذلك فإن عشرة الفجر في بلادنا لهذا العام مهمة و حساسة و حماسية. و سوف تزيد مظاهرات الثاني و العشرين من بهمن التي تخرجون بها أيها الشعب العزيز إن شاء الله على جميع مفاخركم.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك و انحر، إن شانئك هو الأبتر.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد، و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيما علي أمير المؤمنين، و الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين، و الحسن و الحسين سبطي الرحمة و إمامي الهدى، و علي بن الحسين، و محمد بن علي، و جعفر بن محمد، و موسى بن جعفر، و علي بن موسى، و محمد بن علي، و علي بن محمد، و الحسن بن علي، و الخلف القائم الحجة، حججك على عبادك و أمنائك في بلادك، و صلّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين، و استغفر الله لي و لكم.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله.
أوصيكم جميعاً أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء و نفسي مرة أخرى بمراعاة التقوى. أذكر لدقائق قصيرة بعض النقاط حول الأحداث الجارية في مصر و تونس. إنها أحداث مهمة جداً، و هي زلزال حقيقي. إذا استطاع الشعب المصري بعون الله و توفيقه أن يحقق هذا الشيء فإن ما سيكون بالنسبة للسياسات الأمريكية في المنطقة هو هزيمة لا تعوّض. ربما كان الإسرائيليون اليوم أشد قلقاً من المسؤولين الهاربين من تونس و مصر. الإسرائيليون و الأعداء الصهيانية قلقون أكثر من الجميع. إنهم يعلمون أي حدث عظيم سيقع في هذه المنطقة لو تخلت مصر عن التحالف معهم و تموضعت في موضعها الحقيقي. سوف تتحقق التخمينات و الفراسات التي تنبأ بها إمامنا الجليل. لذا فالأحداث مهمة جداً. في التحليلات العالمية يحاولون تجاهل السبب الأصلي لهذه الانتفاضات. يشيرون إلى الشؤون الاقتصادية و غير الاقتصادية - و هي شؤون مؤثرة بالطبع - لكن العامل و السبب الرئيسي لهذه الحركة الجماهيرية العظيمة في تونس أولاً ثم حين بلغت ذروتها في مصر، هو الشعور بالمهانة لدى الجماهير نتيجة الوضع الذي أوجده رؤساؤهم. الجماهير أهينت و شعرت بأنها أهينت. لامبارك مصر هذا أذلّ الشعب المصري.
و لأذکر أولاً نقطة حول تونس. رئيس جمهورية تونس الهارب بن علي هذا كان تابعاً لأمريكا تماماً، بل لدينا تقارير أنه كان تابعاً للسي آي أي الأمريكي أي لأجهزة التجسس الأمريكية. لاحظوا كم من الصعب على الشعب أن يكون رئيسه - و خصوصاً الرئيس الذي يكون بكل ذلك التبختر و الغرور و التكبر و السوء - خادماً رسمياً للأجهزة الأمريكية. حكم الناس سنين طوالاً بكل شدة و حدّة. حكم ضد مصالح الناس، و من جملة ذلك ضد الدين. في تونس، و هو بلد مسلم و له سابقة إسلامية طويلة و مفاخر و رموز في الثقافة الإسلامية، كان الناس في زمن بن علي إذا أرادوا الذهاب للمسجد وجب عليهم الحصول على بطاقة خاصة.. بطاقة الدخول للمسجد التي تمنحها الحكومة، و لم تكن تمنحها للجميع! لم يكونوا يسمحون للناس بالذهاب إلى المسجد. و قد كانت الصلاة فرادى في المساجد ممنوعة، ناهيك عن صلاة الجماعة.. كانت ممنوعة أمام الأنظار. و الحجاب كان ممنوعاً بشكل رسمي. و قد كان من المحفزات المهمة للناس هو مطالبتهم بالإسلام. لذلك رأيتم أنه بمجرد أن هرب هذا الخائن من بلاده و تغيرت الأوضاع ذهبت الفتيات الجامعيات إلى الجامعات بالحجاب. هذا دليل على الدوافع الإسلامية‌ العميقة. هذا ما يريد المحللون الغربيون كتمانه و إخفاءه. و الحافز الآخر هو رفض التبعية لأمريكا، و هذا شيء على جانب كبير من الأهمية. لا يرغب الأمريكان أن يقال إن التبعية هي سبب نهضة الشعب في تونس أولاً ثم في مصر حيث بلغت النهضة ذروتها. هذه هي حقيقة القضية. طبعاً حدث في تونس تغيير سطحي. هرب بن علي لكن أجهزته بقيت تتولى الأمور. عسى أن يتفطن الشعب في تونس إلى موقعه جيداً لئلا يستطيع العدو - لا سمح الله - أن يخدعه.
و أما مصر.. مصر بلد مهم جداً. إذكر بعض النقاط على وجه الإيجاز. مصر كانت البلد الإسلامي الأول الذي تعرف على الثقافة الغربية. كانت بدايات تعرف مصر على الثقافة الغربية في أواخر القرن الثامن عشر. حدث ذلك لمصر قبل كل البلدان. كانت مصر أول بلد من بين البلدان الإسلامية تعرف على الثقافة الأوربية، كما كان أول بلد إسلامي وقف بوجه تلك الثقافة الأوربية و الغربية و أدرك معايبها و قاومها. السيد جمال الدين الكبير، ذلك الرجل الإسلامي الشجاع المناضل العظيم، وجد أن أفضل مكان لنضاله هو مصر.. و من بعده جاء تلامذته محمد عبده و غيره. الحركات الإسلامية في مصر لها مثل هذه السابقة. لدى المصريين شخصيات كبيرة في المجال السياسي و المجال الثقافي و كلهم من أنصار الحرية. فأضحت مصر قائدة ‌العالم العربي من الناحية ‌الفكرية و السياسية. بقيت البلدان العربية لفترة طويلة تنظر لمصر حيث صارت مصر قائدة العالم العربي. الاستقلال و طلب الحرية كانا يموجان في ذلك البلد. طبعاً لم تتوفر فرص جيدة للشعب المصري، باستثناء‌ فترات قصيرة. كان أول بلد أو أكبر بلد دخل الحرب إلى جانب سورية‌ من أجل القضية الفلسطينية. لم يدخل أي من البلدان الإسلامية‌ الأخرى الحرب في هذه الحروب التي كانت مع إسرائيل. لكن بلد مصر وظف جنوده و جيشه و شعبه و إسناده للحرب، و لم ينجحوا طبعاً.. مرة في سنة 1967 و مرة في سنة 1973 . هكذا هي مصر. لذلك تعتبر مصر ملجأ و ملاذاً للفلسطينيين، بل ملجأ للكثير من الثوريين من البلدان الأخرى. مثل هذا البلد وقع لمدة ثلاثين عاماً في يد شخص ليس من طلاب الحرية و أنصارها، و ليس هذا و حسب بل و عدو للحرية. و ليس غير معاد للصهيونية و حسب، بل مواكب للصهاينة و متعاون معهم و أمينهم و بمعنى من المعاني خادمهم. البلد الذي كانت فيه راية الكفاح ضد الصهيونية ذات يوم تلهم العالم العربي كله وصل به الأمر إلى درجة أن الأعداء‌ الإسرائيليين الصهاينة راحوا يعتمدون في كل أنشطتهم المعادية للفلسطينيين على مساعدة هذا اللامبارك، فقد كان يساعدهم. في قضية غزة لو لم يساعد حسني مبارك الإسرائيليين لما استطاعوا محاصرة‌ غزة. كان الفلسطينيون في غزة محاصرين - و هم محاصرون منذ أربعة أعوام - و في حرب الـ 22 يوماً أحترق رجالهم و نساؤهم و أطفالهم بنيران الإسرائيليين، و ماتوا و تهدمت بيوتهم، لكنهم لم يسمحوا لقوافل المساعدات بمد يد العون لهؤلاء الناس. و ليست القوافل من مصر فقط بل حتى القوافل من البلدان الأخرى التي أرادت العبور من مصر - و منها قوافل شعبنا - لإيصال المساعدات لهم لم يسمح لها حسني مبارك بذلك. مثل هذا الوضع كان سائداً في مصر. هؤلاء الناس طفح بهم الكيل بالتالي. الشعب المصري يشعر بالذلة و المهانة نتيجة مناصرة نظامه الحالي لإسرائيل، و بسبب تبعيته و طاعته المحضة لأمريكا. هذا هو السبب الأصلي للنهضة و التحرك. هؤلاء شعب مسلم و قد انطلق التحرك من صلاة الجمعة و من المساجد. و كانت الشعارات «الله أكبر». الجماهير ترفع شعاراً دينياً، و التيار المناضل الأقوى هناك هو التيار الإسلامي. يريد الشعب المصري تطهير نفسه من هذا الذل. هذا هو السبب. الغربيون لا يسمحون لهذا التحليل بالانتشار بين الشعوب و الرأي العام العالمي. يركزون فقط على المسائل الاقتصادية. نعم، هذه أيضاً حقيقة طبعاً أن خدمة شخص مثل حسني مبارك لأمريكا لم تستطع التقدم بمصر حتى خطوة واحدة نحو الازدهار. أربعون بالمائة من سكان مصر البالغين أكثر من سبعين مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر! في مدينة القاهرة نفسها، كما ورد في تقارير دقيقة وصلتني، يعيش مئات الآلآف - و قد سمعت أن العدد يصل إلى مليونين و ثلاثة ملايين، لكن القدر المسلم به هو مئات الآلآف - من فقراء القاهرة ‌في المقابر! هم مشردون و جوّابو صحاري يلوذون بالمقابر. الناس تعيش معيشة صعبة. أي إن الأمريكيين لم يمنحوا حتى أجور هذه الخدمة. و سوف لن يمنحوه أجره اليوم أيضاً. اليوم أيضاً متى ما هرب من مصر و خرج - بعون الله - ليكن على ثقة أن أول بوابة ستغلق في وجهه هي البوابات الأمريكية. لن يسمحوا له بالدخول، كما لم يسمحوا لبن علي، و كما لم يسمحوا لمحمد رضا.. هكذا هم.. لينظر الذين تخفق قلوبهم لصداقة‌ أمريكا و إطاعتها إلى هذه النماذج. هؤلاء مثل الشيطان.. يقول في دعاء الصحيفة السجادية إن الشيطان حينما يغويني ينظر بعدها هناك - على حد تعبيري - و يضحك عليّ و يدير لي ظهر المجن و لا يأبه لي. هكذا هم هؤلاء.. الأمريكان يسعون وراء مصالحهم بواسطة هؤلاء الأفراد الضعفاء الأذلاء.
طبعاً الأمريكان حالياً مضطربون و متخبطون بشدة. و الإسرائيليون متخبطون أكثر منهم. يبحثون عن علاج لقضية مصر. و سوف لن يجدوا علاجاً إنما يعملون الآن على الخداع فيتحدثوا عن مناصرة الشعب. و قيل الآن أن الأمريكيين أيضاً قالوا له يجب أن يعتزل بسرعة و يغادر. و هذا يعود إلى طريقة عمل الشعب المصري و كيف يتخذون قرارهم.
كتبت بعض النقاط أخاطب بها الإخوة العرب أقرؤها.

الخطبة العربیة في صلاة‌ الجمعة +‌الصوت و الفیدیو [اضغط هنا]

الهوامش:
1 - سورة الأحزاب، الآية 1 .
2 - سورة الشمس، الآية 1 .