بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. أحمده و استعينه و استغفره و أتوكّل عليه و أصلّي و أسلّم على حبيبه و نجيبه و خيرته في خلقه و حافظ سرّه و مبلّغ رسالاته، بشير رحمته و نذير نقمته، سيّدنا و نبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين المظلومين المعصومين، سيّما أبي عبد الله الحسين عليه السّلام، و سيّما بقية الله في الأرضين. أوصيكم عباد الله بتقوى الله.
أوصيكم و أدعوكم أيها الأعزاء و الإخوة و الأخوات المصلون بتقوى الله. أدعوكم للتقوى أوّلاً و آخراً و توصيتي الرئيسية هي التزوّد بزاد التقوى. حتى البحوث التي نقدّمها، إنما نستهدف من ورائها تقوية التقوى بعون الله في أنفسنا و تركيز دواعيها لدى الناس و لدى مستمعي صلاة الجمعة إن شاء الله.
أكرّس خطبتي الأولى في هذا اليوم للبحث حول واقعة عاشوراء. بالرغم من أن أحاديث كثيرة قيلت في هذا المجال و ألقينا نحن أيضاً بحوثاً و دراسات حوله، إلّا إن جوانب و آفاق هذه الحادثة العظيمة الخالدة مهما بُحثت تبقى تشع منها أبعاد جديدة و تشرق منها مزيد من الأنوار فتسطع على حياتنا.
هناك في ما يتعلّق بمباحث واقعة عاشوراء ثلاثة محاور أساسية:
الأول دراسة علل و دوافع ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) و الأسباب التي أدّت إلى ثورته؛ أي تحليل الدوافع الدينية و العلمية و السياسية لهذه الثورة. و سبق لنا و أن تحدّثنا فيما مضى عن هذا الموضوع بالتفصيل؛ إضافة إلى أن الفضلاء و الأكابر قاموا بدراسات قيّمة فيه. و لهذا فلا نتحدّث اليوم عن هذا الجانب.
المحور الثاني هو البحث في دروس عاشوراء. و هو طبعاً بحث حيّ و خالد و لا يختص بزمن معيّن. فدروس عاشوراء هي دروس التضحية و التديّن و الشجاعة و المواساة و دروس القيام لله و الإيثار و المحبة. أحد دروس عاشوراء هي هذه الثورة العظيمة الكبرى التي فجّرتموها أنتم أيها الشعب الإيراني امتثالاً لنداء حسين العصر و حفيد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). هذا بحد ذاته يمثل واحداً من دروس عاشوراء. و لا أريد الآن الدخول في أي حديث عن هذا الموضوع.
المحور الثالث هو العبر المستقاة من عاشوراء، حيث سبق لنا طرح هذا الموضوع قبل عدّة سنوات و أشرنا إلى أن لعاشوراء - إضافة إلى الدروس المستقاة منه - عبراً أيضاً. و البحث في عبر عاشوراء يختص بالزمن الذي تكون فيه السيادة للإسلام. و يمكن القول - على أدنى الاحتمالات - إن مثل هذا البحث يختص في الجانب الرئيسي منه بمثل هذا الزمن، الذي يوجب علينا و على بلدنا استلهام العبر.
و لقد طرحنا القضية على النحو التالي: كيف يمكن للمجتمع الإسلامي الذي تشكّل حول محورية النبي الأعظم و حب الناس له و إيمانهم العميق به... ذلك المجتمع المليء بالملاحم و الحماس و الحب الديني و تلك الأحكام التي سأتحدّث عنه لاحقاً باختصار، المجتمع و هؤلاء الناس، و فيه حتى البعض من الذين أدركوا عصر النبي (ص)، كيف وصل بهم الأمر بعد خمسين سنة أن يجتمعوا و يقتلوا سبط الرسول (ص) بأبشع ما يمكن؟! و هل هناك انحراف و ارتداد و رجوع أشد من هذا؟!
ألقت زينب الكبرى (سلام الله عليها) في سوق الكوفة تلك الخطبة البليغة حول هذا المحور: فقالت فيها: ألا يا أهل الكوفة، يا أهل الختل و الغدر، أتبكون؟!(1) إن أهالي كوفة حينما شاهدوا رأس الحسين المبارك على الرمح، و بنت علي مسبية، و لمسوا الفاجعة عن كثب ضجّوا بالبكاء. قالت: أتبكون؟! فلا رقات الدمعة و لا هدئت الرنة...(2) ثم قالت: إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم(3). هذا هو النكوص و الارتداد و التراجع القهقرائي. فأنتم كالمرأة التي غزلت الصوف بالمغزل، ثمّ نقضت الغزل فعادت إلى ما كانت عليه! و أنتم في الحقيقة نقضتم غزلكم و أعدتموه صوفاً. و هذا هو التراجع و النكوص. و هذه عبرة. و كل مجتمع إسلامي يمكن أن يتعرض لمثل هذا الخطر.
لقد كانت أكبر مفخرة لإمامنا الخميني الكبير العظيم، أنه حفّز الأمة على العمل بأحاديث الرسول (ص). و هل يمكن مقارنة غير الأنبياء و غير المعصومين بتلك الشخصية العظيمة؟ إنه بنى ذلك المجتمع و لكن انتهى الحال بذلك المجتمع إلى ذلك المصير. فهل كل مجتمع إسلامي يتعرّض لمثل هذا المصير؟ طبعاً إذا استعبر لا ينتهي إلى مثل هذا المصير، و لكنه إذا لم يستعبر ينتهي إلى مثله. هذه عبر عاشوراء.
أما نحن كأناس هذا الزمن، وفّقنا بحمد لله و فضله لأن نسير في ذلك الطريق من جديد، و أن نحيي اسم الإسلام في العالم، و أن نرفع راية الإسلام و القرآن عالية. كانت هذه المفخرة في العالم من نصيبكم أيها الشعب. هذا الشعب الذي مرّت على ثورته عشرون سنة تقريباً و لا يزال صامداً على هذا النهج. لكن إذا انتابتنا الغفلة و لم نحترس أو نحاذر، و لم نثبت على هذا الطريق كما ينبغي له، فمن الممكن أن ننتهي إلى نفس ذلك المصير. و هنا يتّضخ معنى استلهام العبر من عاشوراء.
أريد الآن التوسّع بعض الشيء في الحديث في الموضوع الذي طرحته قبل عدة سنوات، و لاحظت و الحمد لله أن الفضلاء قاموا بدراسته و ألقوا كلمات حوله و كتبوا فيه. طبعاً البحث الكامل في هذا المجال، لا يستوعبه الوقت المخصص لخطبة صلاة الجمعة، فهو بحث مطوّل، و سأتناول هذا البحث بشكل تفصيلي و بكل خصائصه في اجتماع غير اجتماع صلاة الجمعة، إذا رزقني الله عمراً و وفّقني لذلك. أريد اليوم أن ألقي نظرة إجمالية على هذه القضية، و إذا وفّقني الله فسأعمل على إخراجه في كتاب على شكل خطبة ليكون بين أيديكم.
أوّلا يجب إدراك مدى عظمة هذه الحادثة حتى نبحث عن أسبابها. يجب أن لا يقول أحد إن حادثة عاشوراء كانت مجرد مذبحة قتلوا فيها بضعة أشخاص. بل كما نقرأ في زيارة عاشوراء: لقد عظمت الرّزيّة و جلّت و عظمت المصيبة(4)، فإن المصيبة عظيمة للغاية. الرزيّة تعني الحادثة العظيمة للغاية. و هذه الحادثة عظيمة للغاية و فاجعة فريدة للغاية و ذات أثر شديد.
و لأجل أن يتّضح مدى عظم تلك الفاجعة، أتحدّث بصورة إجمالية عن ثلاثة مراحل قصيرة من حياة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام). لاحظوا، هذه الشخصية التي يعرفها المرء في هذه المراحل الثلاث، هل من الممكن أن يحتمل أحد أنه ينتهي بها المآل يوم عاشوراء إلى أن تحاصره حشود من أمّة جدّه و تقتله و جميع أصحابه و أهل بيته بأبشع ما يمكن و تسبي عيالهم؟
هذه المراحل الثلاث من حياة الإمام الحسين (ع) هي أوّلا مرحلة حياة النبي الأكرم (ص). ثانياً، فترة شبابه أي خمساً و عشرين سنة حتّى خلافة أمير المؤمنين (ع). ثالثاً المرحلة التي استمرّت عشرين سنة من بعد استشهاد أمير المؤمنين إلى واقعة كربلاء.
في مرحلة حياة النبي الأكرم، كان الإمام الحسين طفلاً مدلّلاً و محبوباً عند الرسول. فقد كان للنبي الأكرم بنت اسمها فاطمة و كان المسلمون يعلمون جميعاً في ذلك اليوم إنه قال: إن الله ليغضب لغضب فاطمة (5) و و يرضى لرضاها (6) فلاحظوا مدى عظمة هذه البنت بحيث أن النبي الأكرم يتحدث عنها بهذه الكلمات و أمثالها في محضر الناس و الملأ العام. ليس هذا بالأمر العادي.
و زوّجها الرسول الأكرم في المجتمع الإسلامي لشخصية كانت ذروة في المفاخر، و هو علي بن أبي طالب (عليه السلام). لقد كان شابّاً شجاعاً شريفاً و من أكثر الناس إيماناً و أسبقهم و أكثرهم شجاعة و مشاركة في كل الساحات. من قام الإسلام بسيفه، من كان يتقدّم حيثما يحجم الآخرون و يفتح العقد و يجتاح الطرق المسدودة. هذا الصهر العزيز المحبوب الذي لم تكن محبته منطلقة من أواصر القرابة، بل كانت انطلاقاً من عظمة شخصيته، وهو زوج كوثر النبي، ولد من نسلهما طفل هو الحسين بن علي.
طبعاً هذا الكلام يصدّق كله أيضاً على الإمام الحسن عليه السّلام، إلّا أن كلامي هنا يدور حول الإمام الحسين(ع)؛ أعز عزيز عند الرسول، و الذي كان زعيم العالم الإسلامي و حاكم المجتمع الإسلامي و محبوب قلوب جميع الناس، يضمّه بين ذراعيه و يذهبه به إلى المسجد. كان يعلم الجميع أن هذا الطفل هو محبوب قلب الرسول الذي هو نفسه محبوب قلوب الجميع أيضاً. حينما كان الرسول يلقي خطبة من المنبر علقّت رجل هذا الطفل بعائق و سقط على الأرض، فنزل الرسول من فوق المنبر و عانقه و لاطفه. لاحظوا هذه هي القضية.
قال الرسول عن الحسن و الحسين و هما آنذاك في السابعة و السادسة من عمريهما: سيّدي شباب أهل الجنّة(7). هما لا زالا طفلين و ليسا شابين؛ لكن النبي يقول إنهما سيدا شباب أهل الجنّة. أي إن إنهما و إن كانا في تلك السن إلّا أنهما يفهمان و يدركان و يعملان كمن هو في سن الشباب و يفوح الأدب و الشرف من وجودهما. لو قائل ذلك اليوم إن هذا الطفل سيقتل على يد أمة هذا الرسول، بلا أي جرم و جريمة، لما صدّقه أحد. مثلما صرّح رسول الله نفسه بتلك الحقيقة المرّة و بكى لها. و تعجّب في وقتها الجميع، و قالوا هل يمكن وقوع مثل هذه الحادثة؟!
المرحلة الثانية، هي الفترة التي استمرت خمساً و عشرين سنة من وفاة الرسول إلى خلافة أمير المؤمنين، إذ كان حسين (عليه السلام) شابّاً متوثّباً و عالماً و شجاعاً، يشارك في الحروب، و يتدخّل في الأمور العظيمة، كان معروفاً عند الجميع بالعظمة، و عندما يأتي ذكر الكرام تشخّص إليه العيون. و اسمه يسطع كالشمس بين جميع مسلمي مكة و المدينة و حيثما امتد الإسلام. و الكل ينظرون إليه بتكريم، و حتى خلفاء ذلك العصر كانوا يبدون له و لأخيه التكريم و التعظيم و الإجلال. و كان مثالاً و مقتدىً للجميع. و لو قال أحد آنذاك إن هذا الشخص سيقتل على يد هذه الأمة، لما صدقه أحد.
المرحلة الثالثة هي مرحلة ما بعد استشهاد أمير المؤمنين؛ أي مرحلة غربة أهل البيت. حيث كان الإمامان الحسن و الحسين عليهما السّلام يقيمان في المدينة. أقام الإمام الحسين عشرين سنة من بعد رحلة أمير المؤمنين في المدينة، و أصبح الإمام المعنوي لجميع المسلمين و المفتي العظيم لجميع المسلمين و حظي بالتكريم من قبل جميع المسلمين و أضحى أسوة يتمسّك بها كل من يريد إبداء حبه لأهل البيت. فكان شخصية محبوبة و عظيمة و شريفة و نجيبة و أصيلة و عالمة. لقد وجّه وجّه رسالة لمعاوية، لو كان غيره كتبها لأي حاكم لكان جزاؤه القتل. إلّا أن معاوية حينما وصلته الرسالة تلقاها بكل تكريم و قرأها متغاضياً عمّا جاء فيها. لو أن أحداً كان يقول في ذلك الوقت إن هذا الرجل الشريف الكريم العظيم النجيب الذي يجسّد الإسلام و القرآن في نظر كل ناظر، سيقتل عمّا قريب على يد أمة القرآن و الإسلام و ذلك بهذا الوضع الفجيع، لما استطاع أحد أن يتصور صحّة ذلك، إلا أن هذه الواقعة التي لا يمكن تصديقها و هذه الواقعة العجيبة و المدهشة حدثت. من الذين فعلوا ذلك؟ أولئك الذين كانوا يترددون عليه و يسلّمون عليه و يعربون له عن محبّتهم. فما معنى هذا؟ معناه أن المجتمع الإسلامي أفرغ طوال هذه الخمسين سنة من قيمه المعنوية و جُرّد من حقيقة الإسلام، فكان ظاهره إسلامياً و باطنه هشّاً خاوياً. و هنا مكمن الخطر. فالصلوات تقام و صلاة الجماعة موجودة، و الأمة توصف بالأمة المسلمة و حتى أن البعض منها يوالي أهل البيت!
طبعاً علي أن أقول لكم إن العالم الإسلامي كله لا زال يعتقد بأهل البيت، و لا أحد يشك في هذا. إن حب أهل البيت ظاهرة مشتركة بين جميع المسلمين في الماضي و الحاضر، و هكذا هو الوضع الآن أيضاً. حيثما تذهب اليوم في أرجاء العالم الإسلامي، تجد المسلمين يحبّون أهل البيت. فالمسجد المسمى باسم الإمام الحسين عليه السّلام و المسجد الآخر المسمى باسم السيدة زينب في القاهرة تجدهما حاشدين على الدوام بجموع الزوار حيث يرتادهما المسلمون و يزورون القبر و يقبّلونه و يتوسّلون به إلى الله.
جاءوني في الفترة الأخيرة، أي قبل سنة أو سنتين بكتاب جديد - و ليس قديم، لأن الكتب القديمة مشحونه بهذا المعنى - عن أهل بيت. أحد كتاب الحجاز الحاليين قام بدراسة يثبت فيها أن أهل البيت هم علي، و فاطمة، و الحسن و الحسين. طبعاً هذا الاعتقاد جزء من أرواحنا نحن الشيعة، إلّا أن هذا الأخ المسلم غير الشيعي كتب هذا الكتاب و نشره. و الكتاب موجود و لدي نسخة منه، و لا بد أن آلاف النسخ منه طبعت و وزعت.
لذلك، كان أهل البيت يحظون بالاحترام، و كانوا في ذلك الزمن يلقون غاية التكريم و المحبّة. و لكن في الوقت ذاته حينما يصبح المجتمع خاوياً تقع مثل تلك الحادثة. و لكن أين العبرة من هذا؟ تكمن العبرة في ما ينبغي أن نقوم به لكي لا يصبح المجتمع هكذا. يجب علينا أن نفهم ما حدث آنذاك حتى وصل الأمر بالمجتمع إلى ذلك المصير. هذا هو البحث المطوّل الذي أريد أن أقدّم لكم موجزه.
علي أن أذكر أوّلاً مقدّمة: إن الرسول بنى نظاماً كانت بناه الأساسية تقوم على عدّة ركائز. إنني وجدت أربعة أشياء مهمّة جدّاً بين هذه الركائز: الأول المعرفة المتقنة الخالية من الغموض... معرفة الدين و معرفة الأحكام و معرفة المجتمع و معرفة الواجب و معرفة الله و معرفة النبي و معرفة الطبيعة. هذه هي المعرفة التي انتهت إلى تراكم العلوم و بلغت بالمجتمع الإسلامي في القرن الرابع للهجرة ذروة المدنية و الحضارة العلمية. فالرسول الكريم لم يترك أي إبهام. لدينا في هذا الصدد آيات مدهشة من القرآن الكريم لا مجال هنا لذكرها. و حيثما كان غموض كانت تنزل آية تزيل ذلك الغموض و الالتباس.
الخط الرئيسي الثاني هو العدالة المطلقة التي لا تسامح فيها. سواء العدالة في القضاء أو في حقل الامتيازات العامة و ليست الشخصية - أي الإمكانات التي تتعلق بجميع الناس و يجب تقسيمها بينهم بالعدل - أو العدالة في تطبيق الحدود الإلهية، أو العدالة في توزيع المناصب و تفويض المسؤوليات و تحمّل المسؤولية. طبعاً العدالة تختلف عن المساواة، فلا يلتبس الأمر عليكم، فقد يكون في المساواة ظلم أحياناً. بينما العدالة تعني وضع كل شيء في نصابه، و إعطاء كل شخص حقه. فقد كان العدل حينذاك العدل المطلق الذي ليس فيه أي تسامح أو محاباة. و لم يكن في زمن الرسول أي شخص في المجتمع الإسلامي خارجاً عن إطار العدالة.
الخط الثالث هو خطّ العبودية الكاملة لله و الخالية من أي شرك، أي العبودية لله في العمل الفردي، و العبودية في الصلاة حيث يجب أن يكون فيها قصد التقرّب إليه، و العبودية له في بناء المجتمع و في نظام الحكومة و في نظام الحياة، و العلاقات الاجتماعية بين الناس، و هذا موضوع يستلزم بحد ذاته شرحاً كثيراً.
الخطّ الرابع هو المحبة الغامرة و العاطفة الفيّاضة. و هذه من الميزات الرئيسية للمجتمع الإسلامي؛ حبّ الله، و حبّه تعالى للناس ( يحبّهم و يحبّونه)(8)، (إن الله يحب التوابين و يحب المتطهّرين)(9)، (قل إن كنتم تحبون الله فاتبّعوني يحببكم الله)(10). الحب، حب الزوجة و حب الأولاد، و من المستحب تقبيل الأولاد، و تستحب محبتهم، و يستحب حب الزوجة، و يستحب حبّ الإخوة المسلمين و التحبّب إليهم، و حب الرسول و أهل البيت؛( إلّا المودة في القربى)(11).
لقد رسم الرسول هذه الخطوط و بنى المجتمع على هذه الخطوط. وضع النبي معالم الحكومة عشر سنوات على هذا المنوال. طبعاً تربية الناس عمل تدريجي و ليس دفعي. كان يبذل النبي قصارى جهده على مدى هذه السنوات العشر لترسيخ هذه الأسس و مدّ جذورها في أعماق الأرض. لكن فترة العشر سنوات تعتبر قصيرة جدّاً إذا ما أريد بها تغيير الناس الذين ترعرعوا على خلاف هذه الخصال تماماً.. زمن قصير جدّاً.
فقد كان المجتمع الجاهلي في كل شؤونه ضد هذه المواضيع الأربعة، لأن الناس كانوا فارغين من أيّة معرفة، و كانوا يعيشون في حيرة الجهل و الضلال، و لم تكن لديهم أية عبودية لله، بل كان المجتمع مجتمع الطاغوت و التجبّر، و كان خالياً من العدالة و مليئاً بالظلم و التمييز - رسم أمير المؤمنين (ع) في الخطبة الثانية من نهج البلاغة صورة فنية رائعة للظلم و التمييز في فترة الجاهلية، و هي لافتة فنية، حيث يقول: في فتن داستهم بأخفافها و وطأتهم بأظلافها(12) - كان المجتمع الجاهلي خالياً من المحبّة، كانوا يئدون بناتهم، و كانوا يقتلون شخصاً من القبيلة الفلانية دون أن يرتكب أي جرم - إنك قتلت واحداً من أبناء قبيلتنا، و يجب أن نقتل أيضاً واحداً منكم! - سواء أ كان قاتلاً أم لا، و سواء كان مجرماً أم بريئاً، و سواء كان عالماً بتلك القضية أم لا، كان يسودهم الاضطهاد و القسوة و الظلم و الغلظة و الفضفاضة المطلقة.
الناس الذين نشأوا في ذلك المناخ، يمكن أن يصلّوا و يهذّبوا على مدى عشرة أعوام، و يمكن تحويلهم إلى إنسان كامل و مسلم، و لكن لا يمكن غرس هذه القيم و المفاهيم في أعماق نفوسهم إلى الحد الذي يكون بوسعهم إيجاد هذا التأثير على الآخرين.
دخل الناس في الإسلام أفواجاً أفواجاً. إنهم لم يروا الرسول و لم يدركوا تلك السنوات العشرة. هنا تتضح قضية الولاية التي يعتقد بها الشيعة. هنا يكمن منشأ الوصية و النص الإلهي، من أجل مواصلة ذلك النهج التربوي، و إلّا فمن الواضح أن هذه الوصية ليست من سنخ أنواع الوصايا الأخرى المتداولة في هذا العالم، فكل إنسان يوصي قبل وفاته لابنه. فالقضية هي أنه يجب استمرار برنامجه.
طبعا لا نريد الدخول في المباحث الكلامية. بل أريد أن أذكر التاريخ و أحلله بشكل مختصر، و عليكم أن تتناولواه بمزيد من التحليل. هذا البحث يتعلق بالجميع، و لا يختص بالشيعة، فهو للشيعة و للسنة و لجميع الفرق الإسلامية على حد سواء. على الجميع أن ينتبه إلى هذا البحث؛ لأن هذا البحث يحظي بالأهمية بالنسبة للجميع.
و أما عن الوقائع التي جرت من بعد رحيل الرسول، فما الذي حدث بحيث تحوّل مجتمع الإسلامي من تلك الحالة إلى هذه الحالة؟ هذا هو أصل القضية، يجب النظر إلى نص التاريخ هنا. طبعاً البناء الذي شيّده الرسول، ما كان بناءاً لينهار بسهولة، لهذا حينما تنظرون إلى ا بعد رحيل الرسول، تجدون أنّه قد استمرت عامة الأمور - باستثناء قضية الولاية - على ما كانت عليه. فكانت العدالة في وضع حسن، و الذكر في حالة حسنة، و العبودية على ما يرام. و إذا نظر أحد إلى الهيكلية العامة للمجتمع الإسلامي في تلك السنوات الأولى، فإنه يلاحظ الأمور كما كانت، و لم يرجع شيء القهقرى. طبعاً كانت تقع بعض الأحداث بين حين و آخر، لكن ظواهر الأمور كانت تعكس بقاء نفس الأسس و الركائز التي وضعها الرسول. بيد أن ذلك الوضع لم يستمر. فكلّما كان الوقت يمضي كان المجتمع الإسلامي ينحدر تدريجياً صوب الضعف و الخواء.
لاحظوا، ثمة نقطة في سورة الحمد المباركة أشرت إليها في اجتماعات مختلفة. فحينما يدعو الإنسان ربّه: (إهدنا الصّراط المستقيم)(13) يوضح بعدها معنى ذلك الصراط المستقيم في قوله (صراط الّذين أنعمت عليهم)(14) فالله تعالى قد أنعم على كثير من الأقوام و الأمم؛ و أنعم على بني إسرائيل أيضاً (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)(15). و النعمة الإلهية لا تختص بالأنبياء و الصالحين و الشهداء (فأولئك مع الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و الصديقين)(16). هؤلاء أيضا نالوا النعمة، و كذلك بني إسرائيل نالوا النعمة.
و الذين يُنعم عليهم فريقان:
فريق حينما ينال النعمة لا يتعرض لغضب الله و لا يحقق دواعي الغضب الإلهي و لا يضل سبيل الهداية. هؤلاء هم الذين ندعوا الله أن يهدينا سبلهم. ( غير المغضوب عليهم) تمثل في الحقيقة صفة (الّذين أنعمت عليهم) أي إن صفة الذين أنعمت عليهم هي (غير المغضوب عليهم و لا الضّالّين)(17).
أما الفريق الآخر فهم الذين حينما أنعم الله عليهم، بدلوا نعمة الله و تمرّدوا عليها، لذا حلّ عليهم غضب الله. أو إنهم اتبعوا أولئك فضلّوا السبيل. طبعاً تشير رواياتنا إلى أن المراد من (المغضوب عليهم) هم اليهود، و هذا البيان مصداق لتلك الحقيقة، لأن اليهود و حتى زمن النبي عيسى، كانوا يحاربون النبي موسى و أوصياءه عن علم و قصد. و (الضالّين) هم النصارى لأنهم ضلّوا. فإن النصارى ضلّوا في بداية الأمر - أو ضلّ أكثرهم على أدنى الاحتمالات - لكن المسلمين أنزل الله عليهم نعمته. لكن النعمة تبدّلت صوب المغضوب عليهم و صوب الضالّين. لذلك حينما استشهد الإمام الحسين (عليه السّلام) ورد في رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام إنه قال: فلمّا أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتدّ غضب الله تعالى على أهل الأرض(18)، و ذلك لأنه معصوم. لذلك فالمجتمع الذي ينال النعمة الإلهية قد يسير في اتجاه يجلب عليه الغضب الإلهي، و لهذا يجب النظر إلى هذا المسير. و هو أمر مهم و عسير للغاية و بحاجة إلى أقصى درجات الدقة و الحذر.
الآن، أريد أن أشير إلى بعض الأمثلة. فالخواص و العوام أصبح لكل منهما وضعه الخاص به. طبعاً حينما يضلّ الخواص قد يدخلون في زمرة المغضوب عليهم، أما العوام فقد يصبحون في فئة الضالّين. طبعا كتب التاريخ زاخرة بالأمثلة. و سأنقل لكم من هنا فصاعداً مما جاء في تاريخ ابن الأثير، و اجتنب النقل من أي مصدر شيعي، بل و لا أنقل حتى من مصادر التاريخ السنّية التي يشكك السنّة في رواياتها، مثل ابن قتيبة الدينوري، إذ جاء في كتابه الإمامة و السياسة أمور و قضايا تثير الحيرة، و أنا أتجنّب نقلها.
حينما ينظر المرء إلى مضامين كتاب ابن الأثير الموسوم بـ كامل التواريخ يشعر بوجود عصبية أموية و عثمانية فيه. طبعاً احتمل أنه انتهج ذلك الأسلوب مداراة لبعض الاعتبارات. فقد نقل عن قضايا يوم الدار(19)، حيث قُتل عثمان على يد أهل مصر و الكوفة و البصرة و المدينة و غيرهم، و بعد أن ينقل روايات مختلفة، يقول إن سبب هذه الحادثة أشياء لا نذكرها. لعلل. لهذه الحادثة علل لا نريد ذكرها. و عند نقله لقصة أبي ذر و كيف أن معاوية حمله إلى المدينة من الشام على بعير بغير جهاز، ثم نفي من المدينة إلى الربذة، قال و قد حدثت وقائع لا أستطيع أن أنقلها(20). فإمّا أن يكون هذا المؤرخ قد انتهج أسلوب الرقابة الذاتية حسب التعبير المتداول في وقتنا الحاضر، و إمّا أن يكون متعصّباً. على كل حال لم يكن شيعياً و لا يميل إلى التشيع، بل يحتمل إنه شخص يميل إلى الخطّ الأموي و العثماني. كل ما أنقله من الآن فصاعداً، إنّما أنقله عن ابن الأثير.
أذكر بعض الأمثلة عن الخواص: كيف أصبح الخواص على مدى هذه الأعوام الخمسين بحيث وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ حينما أدقق النظر، ألاحظ أن تلك الركائز الأربع: أعني العبودية، و المعرفة، و العدالة، و المحبّة قد تزعزعت. و أضرب لكم بعض الأمثلة التي وردت في التاريخ عيناً.
كان سعيد بن عاص من بني أمية و من أقارب عثمان. و قد تولى بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط - و الوليد هو الشخص الذي شاهدتم مقتطفات من حياته في مسلسل الإمام علي، و الذي وقع مقتل الساحر في محضره - ليصلح ما كان قد أفسده الوليد. قال شخص في مجلسه: ما أجود طلحة؟ و لا بد أن طلحة كان قد وهب أحداً مالاً أو تكرّم على شخص و إنه كان على علم بذلك. فقال السعيد: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً(21). و كانت النشاستج ضيعة كبيرة قرب الكوفة - ربّما أصل كلمة نشاسته عندنا يعود إلى هذه الكلمة - كان هناك أراضي خصبة و عامرة على قرب من الكوفة حيث كان يملك طلحة صحابي الرسول تلك الضيعة، و كان يعيش في المدينة. قال سعيد بن عاص: من يكون له مثل هذا الملك، فلا بد أن يكون جواداً! و الله لو أن لي مثله(22) لأعاشكم الله به عيشاً رغداً (23). قارنوا بين هذا الوضع و بين حالة الزهد في عهد رسول الله و الفترة الأولى من بعد رحيله، و لاحظوا كيف كان يعيش الأكابر و الأمراء و الصحابة في تلك السنوات، و كيف كانوا ينظرون إلى العالم. لقد وصلت الأمور إلى هذا الحد بعد مضي عشرة أعوام أو خمس عشرة سنة فقط.
المثال الآخر هو أبو موسى الأشعري والي البصرة، و هو أبو موسى المشهور في قضية التحكيم. كان الناس يريدون الذهاب للجهاد، فصعد المنبر و حضّهم على الجهاد. و ذكر أحاديث كثيرة عن فضل الجهاد و التضحية. إن الكثير من الناس لم يكن لديهم الخيول ليركبوها، و على كل شخص أن يركب فرسه و يذهب. فتحدّث بعض الشيء عن فضل الجهاد مشياً، و قال إن الجهاد مشياً له الكثير من الفضل و له هذا الثواب و ذاك! و كانت أنفاسه حارة في هذا الحديث إلى درجة أن الذين كان لديهم الخيول قالوا أيضاً إننا سنذهب مشياً؛فحملوا إلى فرسهم(24)، أي طردوها من أمام عيونهم لأنها تحرمهم من الثواب. إلّا أن جماعة غيرهم قالوا علينا أن نصبر و لا نعجل حتى نرى هذا الحاكم الذي يتحدث هكذا عن الجهاد مشياً، كيف يخرج هو نفسه للجهاد؟ فلننظر هل يشبه قوله فعله، بعد ذلك نتخذ القرار حول ذهابنا مشياً أم على الخيول. هذا هو عين قول ابن الأثير. إنه يقول: فلما أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلاً (25)، كانت تلك ممتلكاته الثمينة و قد حملها على أربعين بغلاً و خرج إلى ميدان الجهاد. و سبب ذلك إنه لم تكن هناك مصارف أو بنوك في ذلك العصر، إضافة إلى أن الحكومات لم تكن معتبرة و موثوقة. فقد يأتيك الأمر من الخليفة و أنت في ساحة الجهاد بعزلك من منصبك. و إذا حصل ذلك فلا يمكنه الرجوع إلى البصرة و أخذ تلك الأموال، لذلك كان مضطرّا لحملها معه. فحمل ممتلكاته الثمينة على أربعين بغلاً و أخذها معه إلى ساحة الجهاد! فلمّا خرج تتعله بعنانه(26) فلما خرج جاءه الذين نزلوا عن مراكبهم و تعلّقوا بعنانه. و قالوا احملنا على بعض هذا الفضول(27)! ما هي هذه الأشياء التي تأخذها معك إلى ساحة الحرب؟ و ارغب في المشي كما رغبتنا(28) فضرب القوم بسوطه(29) و قال اذهبوا، و لا تتحدثوا! فتركوا دابة فمضى(30) لكنهم لم يتحملوا ذلك بالطبع بل ذهبوا إلى المدينة و شكوه إلى عثمان فعزله. أبو موسى الذي كان من صحابة الرسول و من زمرة الخواص و من الأكابر، كان هذا هو وضعه!
المثال الثالث هو سعد بن أبي وقاص الذي عيّن والياً على الكوفة. اقترض مالاً من بيت المال. لم يكن بيت المال آنذاك بيد الوالي. لأنهم كانوا في ذلك العصر ينصبون شخصاً للحكومة و إدارة شؤون الناس، و ينصبون شخصاً غيره للشؤون المالية و هو مسؤول أمام الخليفة مباشرة. ففي الكوفة كان سعد بن أبي وقاص والياً و كان خازن بيت المال عبد الله بن مسعود الذي كان صحابياً عظيماً و جليلاً. بعد ما اقترض سعد من عبد الله بن مسعود من بيت المال مالاً - طبعاً لا أدري مقداره - ثم لم يؤدِ دينه، قاضاه ابن مسعود و طالبه بها فقال سعد بن أبي وقاص ليس عندي مال لكي أؤدي ديني. فارتفع بينهما الكلام، و اشتد النزاع و كان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حاضراً و - هو من أصحاب أمير المؤمنين و كان رجلاً شريفاً - فقال إنكما لصاحبا النبي، و الناس ينظرون إليكما، فلا تتنازعا و حاولا حل القضية بينكما على نحو ما. فخرج عبد الله ابن مسعود و كان رجلاً اميناً على أي حال. رأى بعض الناس و قال لهم إذهبوا و اخرجوا المال من داره - و هذا يعني أن المال كان موجوداً - ثم لمّا علم سعد أرسل أناس أخرين و قالوا اذهبوا و لا تسمحوا لخروج الأموال. بسبب مماطلة أبي وقاص في أداء دينه حدثت منازعة شديدة. كان سعد بن أبي وقاص و هو من أصحاب الشورى الستّة قد وصل به الأمر إلى هذا الحد بعد مضي عدة أعوام. يقول ابن الأثير: فكان أول ما نزغ به بين أهل الكوفة(31). كانت هذه أوّل حادثة يقع فيها النزاع بين أهل الكوفة - بتعبير ابن الأثير - و سببها أحد الخواص تغلّب عليه حب الدنيا إلى هذا الحد. المثال الآخر هو أن المسلمين لمّا فتحوا بلاد أفريقية - أي منطقة تونس و المغرب الحالية - قسّموا الغنائم في الجيش، و كان يجب عليهم أن يرسلوا خمس تلك الأموال إلى المدينة، و كان مقدارها هائلاً. نقل ابن الأثير في موضع آخر أن هذا المبلغ حينما تمّ إرساله إلى المدينة اشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار. و مع أنّ هذا المبلغ كان ضخماً جدّاً إلّا أن قيمة ذلك الخمس كانت أكبر من ذلك المبلغ بكثير (32). و كان هذا مما أخذ على الخليفة عثمان في ما بعد. و كان عثمان يعتذر عن ذلك طبعاً و يقول: إنه رحمي، و أنا أصل رحمي لأنه يعيش في ضنك و أنا أريد مساعدته! خلاصة القول هي أن الخواص كانوا يتهافتون على جمع الأموال.
و القضية الأخرى: استعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة(33). عزل عثمان سعد بن أبي وقّاص عن الكوفة و استعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، و كان الأخير من أقارب الخليفة. و لمّا دخلها تعجّب أهلها من تولية هذا الشخص عليهم لأنّه كان معروفاً بالحماقة و الفساد و فيه نزلت الآية الشريفة: ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا)(34)؛ أي إن القرآن وصفه بالفسق، لأنّه جاء بخبر عاد بالضرر على البعض في عهد الرسول. أنظروا إلى المعايير و المقاييس و تبدّل أحوال الناس! هذا الشخص الذي سمّاه القرآن الذي كان الناس يقرؤونه يومياً فاسقاً أصبح والياً. حتى أن سعد بن أبي وقاص نفسه و عبد الله بن مسعود تعجّبا حين شاهداه قادماً إلى الكوفة والياً! و قال له عبد الله بن مسعود لما وقع بصره عليه: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس(35) و كانت دهشة سعد بن أبي وقّاص من بُعد آخر، حيث قال له: أكسْت بعدنا أم حمقنا بعدك؟(36) قال له الوليد: لا تجزعنّ أبا إسحاق(37) كل ذلك لم يكن(38) .. و إنّما هو الملك(39). و نفس تبديل الحكومة الإلهية و الخلافة و الولاية إلى نظام ملكي قصّة عجيبة .. يتغدّاه قوم و يتعشّاه آخرون(40) فتألم سعد بن أبي وقّاص من هذا الكلام؛ فهو من صحابة الرسول. فقال سعد: أراكم جعلتموها ملكاً(41).
كان عمر قد سأل سلمان ذات مرّة: أملك أنا أم خليفة؟(42). و كان سلمان شخصية كبيرة و محترمة و هو من الصحابة الكبار و لرأيه وزن كبير. فقال له سلمان(43) إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر (44) و وضعته في غير حقه(45) فأنت ملك لا خليفة(46). لقد بيّن له ذلك المعيار. ورد في رواية ابن الأثير فبكى عمر(47). فقد كانت موعظة عميقة المغزى حقّاً. فالقضية قضية خلافة، و الولاية و الخلافة معناها الحكومة المقرونة بالمحبّة و التلاحم مع الجماهير، و المصحوبة بالعطف و الحنو على أبناء الشعب، و هي ليست تسلّط أو تحكّم، في حين لا تحمل الملكية مثل هذا المعنى و لا شأن لها بشؤون الناس؛ فالملك حاكم متسلّط يفعل ما يشاء.
هكذا كان الخواص، و إلى هذا الحد انتهى بهم المآل خلال تلك السنوات. هذا ما حصل طبعاً في عهد الخلفاء الراشدين الذين كانوا يولّون أهمّية للتمسّك بالأحكام، بسبب معايشتهم فترة طويلة لعهد الرسول الذي لا زال صداه (ص) يدوي في المدينة حتّى ذلك الحين، و كان شخص كعلي بن أبي طالب حاضراً في ذلك المجتمع. و لكن بعد انتقال مركز الخلافة إلى دمشق تجاوزت القضية تلك الحدود كثيراً. كانت هذه أمثلة بسيطة لما كانت عليه أحوال الخواص، و لو نقّب شخص في تاريخ ابن الأثير أو المصادر التاريخية الأخرى المعتبرة لدى الإخوة المسلمين لعثر على آلاف - و ليس مئات - الأمثلة من هذا القبيل.
لأنّه من الطبيعي حينما تضيع العدالة، و حينما تزول عبودية الله، يصبح المجتمع مجتمعاً خاوياً و تفسد النفوس. فذلك المجتمع حين يصل به التهافت على حطام الدنيا و اكتناز الثروة إلى ذلك الحد، و الشخص الذي يروي فيه المعارف للناس هو كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم متأخّراً و لم يدرك عهد الرسول؛ فهو لم يدخل الإسلام في عهد الرسول و لا في عهد أبي بكر و إنّما في عهد عمر، و توفّي في عهد عثمان.. فما بالك بذلك المجتمع؟! يسمّيه البعض كعب الأخبار، و هذا خطأ، و الصحيح هو كعب الأحبار، و الأحبار جمع حبر، و الحبر هو عالم اليهود. فهذا الرجل كان قطب علماء اليهود..وثب.. فدخل في الإسلام، ثم أخذ يتحدّث في مسائل الإسلام! و كان ذات يوم جالساً في مجلس عثمان إذ دخل أبو ذر فقال قولاً أغضب أبا ذر، فقال أبو ذر: ما لك ههنا؟ أتعلّمنا الإسلام و أحكامه و نحن سمعناها من رسول الله (ص)(48).
حينما تفتقد المعايير و تضيع المقاييس و تتقوّض القيم، و تفرغ القضايا من المحتوى و تقتصر على الظواهر، و حينما يستولي حبّ الدنيا و جمع الأموال على أناس قضوا عمراً مديداً في العزّة و الزهد في زخارف الدنيا و قُيّض لهم نشر تلك الراية عالياَ، حينها يتصدّى لشؤون الثقافة و المعرفة مثل ذلك الشخص الذي اعتنق الإسلام متأخّراً و يطرح باسم الإسلام ما يراه هو شخصياً لا ما يقوله الإسلام، ثمّ يريد البعض تقديم قوله على قول مسلمٍ له سابقة في الإيمان!
هذا هو حال الخواص. ثم إن العوام يتبعون الخواص و يسيرون وراءهم حيثما ساروا. و لهذا فإن من أكبر الجرائم التي ترتكبها الشخصيات البارزة المتميّزة في المجتمع هو انحرافها؛ لأنّ انحرافها ينتهي إلى انحراف الكثير من الناس الذين إذا رأوا القيم قد خُرقت و الأعمال تناقض الأقوال و تناقض ما جاء في سنة الرسول، تجدهم يسيرون هم أيضاً في هذا المسار أسوةً بالخواص.
و أنقل لكم مثلاً عن عامّة الناس. كتب والي البصرة إلى الخليفة يذكر له كثرة أهل البصرة و عجز خراجهم عن مصارفهم و إنفاقاتهم، و سأله أن يزيد أهل البصرة خراج مدينتين. و لمّا بلغ أهل الكوفة ذلك سألوا واليهم عمّار بن ياسر - الرجل النبيل الذي بقي صامداً كالطود الشامخ.. و لا شكّ في أنّه كان هناك أشخاص لم تهزّهم الهزائز إلّا أن عددهم كان قليلاً - أن يكتب للخليفة يطلب منه أن يزيدهم خراج مدينتين. إلّا أنه رفض تلبية طلبهم فأبغضوه لذلك و شكوه إلى الخليفة، فعزله عن الولاية!(49)
و وقع مثل هذا لأبي ذر و لآخرين، و لعلّ عبد الله بن مسعود كان أحدهم. فحينما لا تراعى مثل هذه الجوانب يتجرّد المجتمع حينها من القيم. و هنا تكمن واحدة من تلك العبر.
اعلموا يا أعزّائي أن المرء لا يقف على حقيقة مثل هذه التطوّرات الاجتماعية إلّا بعد مرور وقت طويل. و هذا ما يوجب علينا الانتباه و الحذر و المراقبة؛ و هو معنى التقوى.. فالتقوى معناها أن يتحرّز على نفسه من ليس له سلطان إلّا على نفسه، و أن يتحرّز على نفسه و على غيره من له سلطان على غيره أيضاً. أمّا الذين يقفون على رأس السلطة فيجب عليهم التحرز على أنفسهم و على المجتمع كلّه لكي لا ينزلق نحو التهافت على الدنيا و التعلّق بزخارفها، و لا يسقط في هاوية حبّ الذات. و هذا لا يعني طبعاً الانصراف عن بناء المجتمع، بل يجب بناء المجتمع و الاستكثار من الثروة، و لكن لا لأنفسهم، فهذا مستقبح. كلّ من لديه قدرة على زيادة ثروة المجتمع و القيام بإنجازات كبرى، يكسب ثواباً عظيماً. لقد استطاع البعض خلال هذه السنوات بناء البلد و رفع راية الإعمار عالياً و إنجاز أعمال كبرى، و هذه مفخرة لهم، و لا يدخل عملهم هذا في إطار حبّ الدنيا. و إنّما يصدق حبّ الدنيا فيما لو كان المرء يطلب النفع لذاته و يعمل لنفسه، أو يفكّر في جمع الثروة لنفسه من بيت مال المسلمين أو من غيره و هذا هو التصرّف القبيح. إذن، يجب الحذر من الوقوع في مثل هذه المنزلقات، و إذا انعدم الحذر ينحدر المجتمع تدريجياً نحو التخلّي عن القيم و يبلغ مرحلة لا تبقى له فيها سوى القشرة الخارجية، و قد يأتيه على حين غرّة و يفاجئه ابتلاء شديد - كالابتلاء الذي تعرّض له ذلك المجتمع حين اندلاع ثورة أبي عبد الله - فلا يخرج منه ظافراً؟
عُرضت على عمر بن سعد ولاية الري(50). و كانت مدينة الري في ذلك الوقت ولاية شاسعة و غنيّة. و لم يكن منصب الإمارة (على عهد بني أميّة) كمنصب المحافظ في الوقت الحاضر؛ فالمحافظون اليوم موظّفون حكوميون يتقاضون مرتبات و يبذلون جهوداً شاقّة. و لم يكن الأمر حينذاك على هذا النحو. الشخص الذي يُنصب والياً على مدينة، كان مطلق اليد في التصرّف بجميع الثروات الموجودة في تلك المدينة يتصرّف فيها كيف يشاء بعد أن يرسل مقداراً منها إلى عاصمة الخلافة، و لهذا كان لمنصب الوالي أهمّية عظمى. طبعاً الإنسان النبيل و صاحب القيم لا يتردد لحظة في رفض مثل هذا العرض، ما قيمة الري و غير الري، و يقول لو وضعت الدنيا بين يدي فلا أعبس بوجه الحسين بن علي.. لا يكفهر بوجه الحسين؛ فما بالك بالنهوض لمحاربة حبيب الزهراء و قتله هو و أطفاله؟! هكذا يقف الإنسان الذي يحمل قيماً. و لكن حينما يكون المجتمع خاوياً و مجرّداً من القيم، و حينما تضعف هذه المبادئ الرئيسية بين أفراد المجتمع، ترتعد الفرائص عند ذاك، و أكثر ما يستطيع المرء عمله في مثل هذا الموقف هو أن يستمهلهم ليلة واحدة للتفكير في الأمر. و حتّى لو أنه فكّر سنة كاملة لوصل إلى نفس النتيجة و لاتّخذ نفس القرار؛ إذ لا قيمة لمثل هذا النمط من التفكير، إلّا إن الرجل فكّر في الأمر ليلة و أعلن في اليوم التالي عن موافقته على ذلك العرض. إلّا أن الله تعالى لم يمكنه من بلوغ تلك الغاية.
أشير هنا في تحليل واقعة عاشوراء إلى أن شخص كالحسين بن علي (ع) الذي يعتبر تجسيداً لكلّ القيم الإلهية و الإنسانية - ينهض بالثورة حتّى يقف بوجه استشراء الانحطاط الذي أخذ يتفشّى في أوصال المجتمع و أوشك أن يأتي على كلّ شيء فيه. بلغ الانحطاط أن لو شاء الناس العيش حياة إسلامية كريمة، فإنّهم يجدون أيديهم خالية من كلّ شيء، و في ظرف كهذا يثبت الإمام الحسين و يقف بكلّ وجوده أمام ذلك الخواء و الفساد المتصاعد، و يضحّي من أجل القيم الإلهية بنفسه و بأحبّائه و بابنيه: علي الأصغر و علي الأكبر، و بأخيه العبّاس.. ثمّ يصل إلى النتيجة المطلوبة.
أحيى الحسين دين جدّه رسول الله و هو معنى قول النبي (ص): و أنا من حسين. هذا هو الوجه الآخر للقضية. فواقعة كربلاء الزاخرة بالحماسة، و هذه الملحمة الخالدة لا يمكن إدراك كنهها إلّا بمنطق العشق و بمنظار الحب. إنّها واقعة لا يتيسّر النظر إليها إلّا بعين العشق ليُفهم ما الذي صنعه الحسين بن علي من بطولة و مجد خلال يوم و ليلة، أي منذ عصر يوم التاسع من المحرّم و حتّى عصر العاشر منه.. بحيث خلّده في هذه الدنيا و سيخلّده إلى الأبد، و لهذا أخفقت جميع الجهود التي بذلت لمحو حادثة الطف من الأذهان و طيّها في أدراج النسيان.
أقرأ عليكم مقتطفات من كتاب المقتل - المعروف باللهوف - لابن طاووس.. نمرّ على بعض تلك المشاهد العظيمة لذكر مصيبة الحسين (ع). و كتاب المقتل هذا كتاب معتبر جدّاً، و مؤلّفه السيّد علي بن طاووس عالم فقيه و عارف كبير، و صدوق موثّق، و موضع احترام لدى الجميع، و أستاذ فقهاء كبار، و كان أديباً و شاعراً و ذا شخصية بارزة، و قد كتب أوّل مقتل مُعتبر و موجز. و قبل كتاب اللهوف كتب الكثير في مقتل الحسين (ع)، و حتّى أستاذه ابن نما (51) له كتاب في المقتل، و الشيخ الطوسي أيضاً له كتاب في المقتل، و غيرهما. إلّا أنه حينما كتب اللهوف غطّى على جميع الكتب الأخرى في المقتل، لأنّه كتاب قيّم اختيرت عباراته بدقّة و إيجاز.
من جملة المشاهد التي يصوّرها في كتابه هذا هو بروز القاسم بن الحسن إلى الميدان، و كان فتى لم يبلغ الحلم (52). ليلة عاشوراء أعلم الحسين أصحابه بأن المعركة ستقع و أنّهم سيقتلون جميعاً، فأحلّهم و أذن لهم بالإنصراف، فأبوا إلّا أن يكونوا إلى جنبه. و في تلك الليلة سأل هذا الفتى عمّه الإمام الحسين (ع)، هل سيقتل هو أيضاً في ساحة المعركة؟ فأراد الإمام الحسين اختباره - على حدّ تعبيرنا - فقال له: كيف ترى الموت؟ قال أحلى من العسل(53). لاحظوا، هذا مؤشّر على طبيعة القيم التي كان يحملها أهل بيت الرسول و من تربّى في حجور أهل البيت. فقد ترعرع هذا الفتى منذ نعومة أظفاره في حجر الإمام الحسين (ع). فكان عمره حين شهادة أبيه ثلاث أو أربع سنوات. فتكفل الإمام الحسين تربيته، و في يوم عاشوراء وقف الفتى إلى جانب عمّه. و جاء في هذا المقتل ذكر هذه الواقعة على النحو التالي: قال الرّاوي: و خرج غلام(54) كان هناك رواة كانوا يكتبون و يسجّلون الأحداث. فهناك عدّة أشخاص تنقل القضايا عنهم. فينقل عن أحدهم و يقول: كنا ننظر، فرأينا فجأة غلاماً خرج من جانب خيام أبي عبد الله: كأن وجهه شقّة القمر (55)، فجعل يقاتل(56).
عليكم أن تعلموا لقد دوّن الرواة كل أحداث و وقائع عاشوراء بتفاصيلها، فذكروا اسم الضارب و المضروب، و من ضرب أوّلاً، و اسم أول من رمى و من سلب و من سرق. فالشخص الذي سرق قطيفة أبي عبد الله ذكروا اسمه، و كان يُطلق عليه فيما بعد، لقب سارق القطيفة! لذلك سجّلت التفاصيل و هي أمر واضح. أي إن أهل البيت و محبيهم لم يتركوا هذه الحادثة تضيع في مجاهيل التاريخ.
فضربه ابن فضيل العضدي على رأسه فطلقه(57) فوقع الغلام لوجهه و صاح يا عماه فجلى الحسين (ع) كما يجلي الصقر.عليكم أن تدققوا في ميزات و جمال التعبير! ثم شد شدة ليث أغضب فضرب ابن فضيل بالسيف. جاء البعض لينقذوا هذا القاتل، لكن الإمام هجم عليهم. دارت معركة عظيمة عند مصرع القاسم بن الحسن. جاءوا و حاربوا، لكن الحسين هزمهم. و تعالى الغبار في الساحة. يقول الراوي:و انجلت الغبرة و حينما يصوّر هذا المشهد، فإنه يحرّق قلب الإنسان: فرأيت الحسين (ع) قائماً على رأس الغلام و ينظر له بعين الحسرة. و هو يفحص برجليه و الحسين عليه السّلام يقول: بعداً لقوم قتلوك. يا له من مشهد مؤثّر يعكس رقّة الحسين و حبّه لهذا الفتى من جهة، و صلابته إذ أذن له في القتال و التضحية من جهة أخرى. كما و يدلّ على ما لهذا الفتى من عظمة روحية، و ما يتّصف به الأعداء من قسوة تجعلهم يتصرّفون مع هذا الفتى بمثل هذا السلوك.
و يصوّر كتاب اللهوف مشهداً آخر من مشاهد تلك الواقعة و هو بروز علي الأكبر للقتال، و قد كان مشهداً مثيراً حقّاً من جميع أبعاده و جوانبه. فهو مثير من جهة الإمام الحسين، و مثير من جهة هذا الشاب - علي الأكبر - و مثير من جهة النساء و خاصّة عمّته زينب الكبرى. ذكروا أنّ عليّاً الأكبر كان بين الثامنة عشرة إلى الخامسة و العشرين سنة من عمره، أي إنّه كان في الثامنة عشرة من عمره على أقل التقادير، أو ما بينها و بين الخامسة و العشرين، أو في الخامسة و العشرين على أعلى التقادير. قال الراوي: خرج علي بن الحسين، و كان أصبح الناس وجهاً و أحسنهم خلقاً، فاستأذن أباه في القتال، فأذن له. لما جاءه القاسم بن الحسن و استأذنه، لم يأذن له في بداية الأمر، و بعد أن ألحّ الغلام أذن له. أمّا بالنسبة لعلي بن الحسين، فبما أنه ابنه، فما أن استأذن حتّى أذن له. ثمّ نظر إليه نظرة آيس منه و أرخى (ع) عينيه و بكى.
هذه هي إحدى الخصائص العاطفية التي يتميّز بها المسلمون، و هي البكاء عند المواقف و الأحداث المثيرة للعواطف. فأنتم تلاحظون أنّه (ع) بكي في مواقف متعددة، و ليس بكاؤه عن جزع و لكنّه لشدّة العاطفة. و الإسلام ينمّي هذه العاطفة لدى الفرد المسلم. ثمّ قال: اللهمّ اشهد فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً و خُلقاً و منطقاً برسولك.
أريد أن أبيّن لكم هنا نقطة و هي أن فترة الطفولة التي عاشها الحسين إلى جنب جدّه، كان النبي يحبّه كثيراً، و كان هو بدوره أيضاً شديد الحب لرسول الله. و كان تقريباً في السادسة أو السابعة من عمره عند وفاة الرسول و بقيت صورته عالقة في ذهنه، و حبّ الرسول متجذّر في أعماق قلبه.. ثمّ رزقه الله في ما بعد ولداً، هو علي الأكبر.. مضت الأيّام و شبّ هذا الفتى و إذا به يشبه في خلقته رسول الله تمام الشبه، فترسّخ حبّه في قلب الحسين كحبّه للنبي، فكان هذا الفتى يشبه النبي في شكله و شمائله و في صوته و كلامه و في أخلاقه، و يحمل نفس ذلك الكرم و شرف المحتد.
ثم قال (ع): و كنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه. لكن هذا الشاب أيضاً دخل إلى الساحة. فصاح و قال يا بن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي. فتقدّم علي الأكبر نحو القوم فقاتل قتالاً شديداً و قتل جمعاً كثيراً، ثمّ رجع إلى أبيه و قال: يا أبة العطش قد قتلني و ثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماء من سبيل؟ فقال له الحسين: قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمّداً (ص) فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها. فرجع إلى ساحة النزال و قاتل أعظم القتال، و بعد أن ضُرب نادى: يا أبتاه عليك السلام، هذا جدّي يقرؤك السلام و يقول لك عجّل القدوم علينا.
هذه مشاهد مروّعة من تلك الواقعة الخالدة. و جرت في مثل هذا اليوم - الحادي عشر من محرم - الذي يعتبر يوم زينب الكبرى (سلام الله عليها) مصائب مفجعة؛ فهي قد أخذت على عاتقها منذ لحظة استشهاد الحسين ثقل الأمانة. و قطعت ذلك الشوط بكلّ شجاعة و اقتدار و كما هو خليق ببنت أمير المؤمنين؛ و هم الذين استطاعوا تخليد الإسلام و صيانه معالم الدين. و لم تكن واقعة الطفوف هذه استنقاذاً لحياة شعب أو حياة أمّة فحسب، و إنّما كانت استنقاذاً لتأريخ بأكمله. فالإمام الحسين، و أخته زينب، و أصحابه و أهل بيته أنقذوا التأريخ بموقفهم البطولي ذاك.
السّلام عليك يا أبا عبد الله و على الأرواح التي حلت بفنائك. عليك منا سلام الله أبداً ما بقيت و بقى الليل و النّهار و لا جعله الله آخر العهد منّا لزيارتك. السّلام على الحسين و على علي بن الحسين و على أولاد الحسين و على أصحاب الحسين.
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد و لم يولد. و لم يكن له كفواً أحد.(58)
اللهمّ نقسم عليك بمحمّد و آل محمّد أن تثبّت أقدامنا على دينك و نهج كتابك. اللهم اجعل مجتمعنا مجتمعاً إسلامياً.. اللهمّ و لا تفرق بيننا و بين الإسلام. اللهم انصر الإسلام و المسلمين في كل أرجاء المعمورة. اللهمانشر بيننا قيم الإسلام و أواصر الأخوّة و المحبّة و العاطفة، و العبودية لك، و العدل الشامل. اللهمّ أبعد عن رحمتك كلّ من يسعى من الأعداء لعزل مجتمعنا عن الإسلام. اللهمّ اجعل القلب المقدّس للإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) مسروراً بنا، و اجعلنا من أنصاره و أعوانه. اللهمّ استجب دعاءنا لشعبنا، و تلطّف برحمتك على شهدائنا الأعزّاء و على إمام الشهداء (رضوان الله عليه) و على جميع المعوقين.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. و الصلاة و السلام على سيدنا و نبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين المعصومين، سيّما علي أمير المؤمنين، و الصدّيقة الطّاهرة سيّدة نساء العالمين، و الحسن و الحسين سبطي الرّحمة و إمامي الهدى و سيّدي شباب أهل الجنّة، و على عليّ بن الحسين زين العابدين، و محمّد بن علي، و جعفر بن محمّد، و موسى بن جعفر، و عليّ بن موسى، و محمّد بن علي، و علي بن محمّد، و الحسن بن علي، و الخلف القائم المهدي، حججك على عبادك و أمنائك في بلادك، و صلّ على أئمة المسلمين و حماة المستضعفين و هداة المؤمنين. أوصيكم عباد الله بتقوى الله.
نظراً لفوات الوقت و ضيق المجال، أعرض على حضراتكم، بعد الوصية بالورع و التقوى في جميع الأمور، موضوعاً واحداً فقط. طبعاً لا بدّ لي أن أتقدّم أوّلاً و قبل كلّ شيء بالشكر و الامتنان لجميع الإخوة و الأخوات في كافّة أنحاء البلد ممّن أسهموا في إقامة شعائر العزاء في أيّام مصيبة الحسين و نظموا المواكب و أقاموا المآتم؛ خاصة ما واكبها من إقامة صلاة الجماعة في ظهر عاشوراء، و التعبير عن المحبّة و الولاء لآل بيت الرسول، و بمختلف فئاتهم و طبقاتهم، رجالاً و نساءً، و شيوخاً و شباباً، و أدعو الله لهم جميعاً باللطف و الرحمة.
أمّا الموضوع الذي أودّ الإشارة إليه فهو أن الدعاية المعادية للشعب الإيراني تبلغ ذروتها بين الحين و الآخر، و هي ليست وليدة الساعة، أضف إلى أنّه لا جديد في مضامينها. و لعلّ أعداء هذا الشعب و أعداء هذه الثورة ما انفكّوا منذ خمس عشرة سنة أو أكثر يكيلون للجمهورية الإسلامية نفس التهم التي يكيلونها لها اليوم، و كنّا نحن نحلّل مقاصدهم يومذاك و نشير إلى الغاية المستهدفة منها. أمّا اليوم فهم يصرحون بأنفسهم بما كنّا نصل إليه في تحليلاتنا آنذاك. دأبوا سنوات متمادية على اتّهام إيران برعاية الإرهاب. فكنّا نقول حينذاك إن المقصود من وراء قولهم إنّ الحكومة الإيرانية ترعي الإرهاب هو أنّها تدعم كفاح المناضلين الفلسطينيين، و هذا هو ما يسمّونه هم برعاية الإرهاب.
يسمّون المناضل الفلسطيني إرهابياً، و يسمّون دعمه دعماً للإرهاب! لقد أكّدنا نحن هذا فيما سبق مرّات عديدة، و ها هم اليوم يصرحون به بأنفسهم علانية. و هذا يدلّ على أن الاستكبار العالمي، و الأجهزة الدعائية العالمية، تضطرّ أحياناً للتصريح علانية و بلا حياء بالحقائق التي كانوا يسترونها.
لقد جاءت حفنة من الصهاينة و اغتصبت بلداً و شرّدت أهله و أقامت حكومة جائرة أنزلت بأهالي ذلك البلد ألوان المصائب و المحن، و حينما يحاول أبناء ذلك الشعب إطلاق أيّة صرخة، أو إبداء أي ردّ فعل صغير يسمّون ذلك إرهاباً!
إذا كان هذا هو معنى الإرهاب فنحن نفتخر بدعمنا للمناضلين الفلسطينيين، بل و أن من واجبنا مقارعة الباطل. و الحكم في هذا متروك للمنصفين في العالم.
فإذا كان هناك صاحب دار، و شخص آخر أتى و اغتصب تلك الدار،أصحاب الدار هم الفلسطينيون، و الغاصبون هم الصهاينة الذين وفدوا من أكناف العالم؛ من أمريكا، و من أوربا، و من روسيا، و من أماكن أخرى، و سكنوا هناك و اقترفوا مئات الجرائم ضدّ صاحب الدار الذي تصدّى لهم في بعض الحالات و وجّه لهم بعض الضربات.. فيا ترى من هو الإرهابي؟ و هل الذي هجم على ديار الآخرين و قتل النساء و الأطفال و ارتكب المجازر كمجزرة دير ياسين، و خلق لذلك الشعب آلاف المشاكل، و سلبهم ديارهم و أسكن فيها غيرهم و قدّم مدنهم لأناس آخرين، و إذا تنفّس أحد منهم حالياً يذيقونه أمرّ عذاب السجون، هو الإرهابي، أم ذلك الذي يطالب بحقّه؟!
هذا الشيخ الفلسطيني الشجاع (59) الذي قدم إلى إيران مؤخّراً على ما يعانيه من شلل تام - فهو مقطوع النخاع و مشلول اليدين و الرجلين - ما انفكّ يجاهد منذ سنوات طويلة. و قد ألقي في السجن على الرغم من إصابته بقطع النخاع الشوكي.. و تعرّض للتعذيب. و احتمل سجّانوه إن مثل هذا الشخص المشلول إذا ضرب على بدنه لا يجد للضرب ألماً، فكانوا يضربونه بالسياط على وجهه، و كثيراً ما كانوا يحرّمون عليه النوم. أليس أولئك هم الإرهابيون؟!
هم أنفسهم يخترقون لبنان و يختطفون من يعارضهم من المجاهدين اللبنانيين. أليس هؤلاء إرهابيين؟ و هل الفلسطينيون، و قد عاش جيلان منهم في التشريد تحت الخيام و في مساكن متهرئة خارج أرضهم و بلدهم، و يتحمّلون آلام الغربة في العالم، إذ تكلّموا أو أقدموا على عمل ما يعتبرون إرهابيين؟
أمريكا تدعم الصهيونية، و نحن ندعم الفلسطينيين.. فأينا يدعم الإرهاب؟ على المنصفين في العالم أن يدلوا برأيهم. هذا هو الذي يسمونه رعاية إيران و الحكومة الإيرانية للإرهاب!
بينما يعني في الحقيقة عدم استعداد الشعب الإيراني للرضوخ لعربدة أمريكا التي تناصر الباطل و تدعو العالم كلّه لمناصرته و اعتباره حقّاً. و من المؤسف أن الكثيرين في العالم انصاعوا لهذا المنطق، بيد أن الشعب الإيراني يأباه لأنّه شعب باسل و صامد. و يجب أن لا يتوّهم أحد أن هذا الكلام يعبّر عن رأي شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص في إيران.
يزعم بعض الحمقى أنّهم يستهدفون من وراء هجومهم الإعلامي و غيره توجيه السهام نحو شخص معيّن - علي الخامنئي - إلّا أنّهم يرتكبون بعملهم هذا خطأ آخر إضافة على خطأ تحليلاتهم، و ذلك لأنّهم يتصوّرون إن هذا الكلام يعبّر عن رأي شخص واحد. كلّا؛ فالكل اليوم في إيران على رأي واحد؛ فرئيس الجمهورية العزيز يحمل نفس الرأي، و الحكومة تقول بنفس الرأي، و مجلس الشورى الإسلامي له نفس الرأي، و مسؤولو البلد كلّهم على هذا الرأي، و جميع أبناء الشعب على هذا الرأي، و لا اختلاف بينهم في ذلك. و هكذا فإن كيل التهم و توجيه الإهانات للشعب الإيراني لن يؤدّي إلى نتيجة ذات جدوى.
لا شكّ في أن الاستكبار يستفيد شيئاً في هذا الصراع، و هو لا زال سادراً في خطأه حتّى الآن؛ فهو أخطأ في تقييمه للثورة، و لمس أثر خطئه في ما بعد.. و أخطأ مرّة أخرى في قضية الحرب المفروضة، و رأي نتيجة ذلك.. و أخطأ ثالثة في تصوّره لقضايا ما بعد الحرب، ثمّ أدرك نتيجة خطئه. و هو يسير على نفس النهج الخاطئ حالياً، و سيدرك النتيجة في ما بعد.
في هذا البلد ترتفع راية الإسلام و راية الثورة عالياً، اسم الإمام حيّ و خالد. و القيم السائدة في هذا البلد هي القيم التي منحت شعبه و شبابه و كلّ أبنائه المجد و العزّة، و جعلت الشعب الإيراني يُنظر إليه بإعزاز و إكبار، و فجّرت طاقاته، و مهّدت له سبيل السير نحو مستقبل مشرق. و هو - بعون الله تعالى - يحث الخطى صوب هذا المستقبل. و ليس لهذه التهم أي تأثير أو جدوى.
و كما سبقت الإشارة فإن هذه الدعايات زوابع موسمية يثيرونها في كلّ عام لمناسبة أو أخرى. و بعد أن يدركوا عمقها يتوقفون مدّة ثمّ يعاود شيطانهم الوسوسة لهم. أمّا نحن فماضون في طريقنا، و الشعب الإيراني منهمك بالسير على هذا الطريق. و نسأل الله تعالى أن يمنّ عليه بمزيد من التوفيق يوماً بعد آخر.
بسم الله الرّحمن الرحيم
إذا جاء نصر الله و الفتح. و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبّح بحمد ربّك و استغفره إنه كان توّاباً.(60)
و السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
الهوامش:
1 و 2 و 3. اللهوف، للسيد بن‏ طاووس، ص 88و 67، و معالي ‏السبطين، ج 2، ص 60.
4. الاقبال، السيد بن طاووس، ص 333.
5. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 314.
6. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 314.
7. بحارالأنوار، ج 37، ص 78.
8. سورة المائدة، الآية 54.
9.سورة البقرة، الآية 222.
10.سورة آل‏عمران، الآية 31.
11. سورة الشورى، الآية 23.

12. نهج‏ البلاغة، الخطبة الثانية.
13.سورة فاتحة الكتاب، الآية 6.
14. نفسه، الآية 7.
15. سورة البقرة، الآية 40.
16. سورة النساء، الآية 69.
17. سورة فاتحة الكتاب، الآية 7.
18. الكافي، ج 1، ص 368.
19. ابن‏ الأثير، ج 3، ص 167 إلى 170.
20. ابن‏ الأثير، ج 3، ص 113 إلى116.
21 و 22 و 23. ابن‏ الأثير، ج 3، ص 137إلى 140.
24. ابن‏ الأثير، ج 3، ص 99 إلى 100.
25 و 26 و 27 و 28 و 29 و 30. ابن ‏الأثير، ج 3، ص 99 إلى100.
31.ابن‏ الأثير، ج 3، صص 82 إلى 83.
32. ابن‏ الأثير، ج 3، ص88 إلى 91.
33. ابن الأثير، ج 3، ص 82 إلى83.
34. سورة الحجرات،الآية 6.
35 و 36 و 37 و 38 و 39 و 40 و 41. ابن‏ الأثير، ج 3، ص 82 إلى 83.
42 و 43 و 44 و 45 و 46 و 47. ابن‏ الأثير، ج 3، ص 59.
48. تاريخ ابن‏ الأثير، ج 3، ص 115.
49. تاريخ ابن الأثير، ج 3، صص 30 إلى 31.
50. إشارة إلى الوضع الذليل لعمر بن سعد بن أبي وقّاض.
51. الشيخ نجم‏ الدين جعفر بن نَما.
52 و 53. حياة أبي‏ عبد اللَّه‏ الحسين سيد الشهدا(ع)، تأليف أبي القاسم سحاب، ص 484.
54 و 55 و 56 و 57. اللهوف، ابن‏ طاووس، ترجمة السيد أحمد زنجاني، ( ترجم الفارسية بعنوان: آهي سوزان بر مزار شهيدان)، ص 115.
58. سورة الإخلاص، الآيات 1-4.
59. الشيخ أحمد ياسين ( زعيم حماس).
60. سورة النصر، الآيات 1-3.