بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً أتقدم بالشكر لكل الإخوة و الأخوات العاملين في الأقسام المختلفة - و كلها ضرورية - و الذين يبذلون جهودهم و مساعيهم هناك، سواء القسم الخاص بالصلاة، أو القسم الخاص بالزكاة، أو القسم المعني بالتفسير، أو القسم المختص بالمهدوية، أو باقي الأقسام التي ذكرها حضرة الشيخ قرائتي. كل هذه أمور مهمة و أعمال لازمة، و للحق و الإنصاف فإن العمل في هذه الأقسام هو بمثابة إنفاق حقيقي و صدقة مقبولة عند الله تعالى إن شاء الله. نشكر الجميع، لكننا نتقدم بالشكر الخاص لسماحة الشيخ قرائتي. و هو ليس بشكر لأن العمل لله و في سبيل الله، و نرجو أن يشكره الله تعالى و يشكر زملاءه و من معه، لكننا يجب أن نقدِّر و نشكر. أقول هذه الكلمات لكم أيها الإخوة و الأخوات:
الشيخ قرائتي نموذج حسن جداً و فيه كثير من الدروس. أولاً الأعمال التي قام بها و سعى إليها و كلها كانت فراغات موجودة، و قد ملأ هو الفراغات، و هذا شيء له قيمة كبيرة. بعض الأعمال جيدة لكنها تكرارية. إذا استطاع شخص تشخيص الاحتياجات و الفراغات، و عقد همته لملء‌هذه الفراغات فسيكون لهذا الشيء‌أجر مضاعف. و قد عمل الرجل بهذه الطريقة، سواء في قضية الصلاة - الصلاة بهذه العظمة و بهذه الأهمية و هي ركن الدين و السبب في قبول كافة أعمال الإنسان، أنْ لا يُكترث لها في المجتمع و لا تحظى بالاهتمام اللازم فهذه ثغرة كبيرة جداً - و قد تعامل مع هذا الفراغ. و كذلك بالنسبة لقضية الزكاة التي لم تكن مطروحة في مجتمعنا حقاً، و عدم طرحها بحد ذاته يعدّ نقطة ضعف و نقص، و قد بذل الرجل همته و دخل إلى الساحة، و ذهب إلى كل مكان، و تحدث في كل مكان، و أصرّ على الجميع و لم يتعب، إلى أن سارت القضية في مجراها الصحيح. و كذا الحال بالنسبة لقضية التفسير، و قضية المهدوية و باقي القضايا التي تابعها الشيخ قرائتي. هذه نقطة في أداء الشيخ قرائتي العزيز المحترم.
و النقطة الثانية التي تفوق أهميتها النقطة الأولى هي صفاؤه و إخلاصه. هذا الصفاء نفسه جعله يستطيع التقدم بالأعمال و المشاريع إلى الأمام. الله تعالى يصاحب النوايا المخلصة و يواكبها. للنوايا الخالصة تأثير عجيب في تقدم الأعمال التي تنجز بهذه النوايا. هذه أيضاً نقطة أخرى و هي على جانب كبير من الأهمية.
أقول هذه الأشياء لا لأنني أريد تكريم شخص ما أو تكبير شخص ما. هذه أشياء لا يحتاجها الشيخ قرائتي و لا يتوقعها و لا نسعى نحن إليها، إنما نريد أن يصبح العمل بهذه الطريقة نموذجاً لنا جميعاً و خصوصاً لطلبة العلوم الدينية، أي السير و التحرك بهذه الطريقة، لا أن نقوم بنفس الأعمال، بل يجب أن نبحث عن الثغرات و الفراغات و ما توجد حاجة إليه و نجدها. لكل إنسان ذوق و موهبة و قدرات و استيعاب، فليستفد من هذه القدرات و الإمكانيات من أجل إنجاز الأعمال. هذا أولاً.
ثانياً هناك الاستمرار و المتابعة، و أطلب من الشيخ قرائتي و زملائه أن لا يتركوا إطلاقاً هذه الأعمال التي بدأوها.. يجب متابعة هذه الأعمال. يجب أن لا نبدأ عملاً و بمجرد أن تظهر بعض خيراته و ثماره نرضى بذلك و نفرح و نشكر الله و نشعر إلى جانب ذلك بعدم الحاجة‌و بالشبع، لا، ينبغي متابعة العمل. نرجو من الله تعالى أن يعينه و يعينكم جميعاً أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء و يطيل في أعماركم و يمنحكم السلامة لتستطيعوا متابعة هذه الأعمال. هذا أيضاً شيء مهم.
أما بخصوص قضية المهدوية التي يتناسب طرحها مع هذه الأيام القريبة من النصف من شعبان، هذا العيد الإسلامي - بل البشري - الكبير، فيجب أن نقول إن قضية المهدوية‌من جملة عدد قليل من القضايا الأصلية في منظومة المعارف الدينية العليا، من قبيل قضية النبوة. ينبغي النظر لأهمية القضية المهدوية بهذا المستوى. لماذا؟ لأن الشيء الذي تبشر به المهدوية هو الشيء الذي جاء كل الأنبياء و حصلت كل البعثات من أجله، ألا و هو توفير عالم توحيدي مبني و قائم على العدالة‌و باستخدام كافة الإمكانيات التي وضعها الله تعالى و أودعها في الإنسان. إنه عصر من هذا القبيل عصر ظهور الإمام المهدي (سلام الله عليه و عجّل الله تعالى فرجه). عصر المجتمع التوحيدي، و سيادة التوحيد،و السيادة‌الحقيقية‌للمعنوية و الدين على كافة مفاصل الحياة البشرية، و عصر استقرار العدل بالمعنى التام و الجامع للكلمة. و هذا بالتالي ما جاء‌الأنبياء من أجله.
لقد قلنا كراراً إن مجمل المسيرة التي سارتها الإنسانية في ظل تعاليم الأنبياء طوال القرون المتمادية‌كانت مسيرة‌باتجاه جادة مبلطة عريضة ممدودة في عصر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) نحو الأهداف العليا و التي سوف تسير البشرية عليها. المسألة تشبه جماعة من الناس سيرون في الجبال و المنعطفات و الطرق الوعرة و المستنقعات و بين الأشواك بهداية عدد من الأشخاص من أجل أن يصلوا إلى تلك الجادة الأصلية. فإذا وصلوا إلى تلك الجادة كان الطريق واسعاً مفتوحاً و الصراط مستقيماً نيّراً و الحركة فيه سهلة، فيواصلون المسيرة في تلك الجادة بسهولة. إذا وصلوا إلى الجادة فلن تتوقف حركتهم، إنما ستبدأ من ذلك الحين المسيرة نحو الأهداف الإلهية‌العليا، لأن استيعاب البشرية لا حدود له. طوال هذه القرون المتمادية سارت البشرية في طرق وعرة و صعبة و متاهات عصيبة و واجهت الكثير من الموانع بجسم متعب و أرجل جريحة إلى أن تبلغ تلك الجادة الأصلية التي هي جادة عصر الظهور. إنه العالم في زمن الظهور الذي يمكن بمعنى من المعاني القول إن حركة البشرية تبدأ من ذلك العصر.
إذا لم تكن المهدوية كان معنى ذلك أن كل مساعي الأنبياء و كل الدعوات و كل البعثات و كل هذه الجهود المضنية لا فائدة منها و لا أثر لها. إذن قضية المهدوية قضية أصلية رئيسية و من أكثر المعارف الإلهية أهمية و أصالة. لذلك يوجد في كل الأديان الإلهية تقريباً - في حدود إطلاعنا طبعاً - شيء لبابه و معناه الحقيقي هو نفس هذه المهدوية، و لكن بأشكال محرفة و غامضة،و من غير الواضح ما الذي تريد أن تقوله.
قضية المهدوية في الإسلام من المسلمات، أي إنها لا تختص بالشيعة. كل المذاهب الإسلامية تعتبر الغاية من العالم إقامة حكومة‌الحق و العدل بواسطة المهدي المنتظر (عليه الصلاة و السلام و عجل الله فرجه). ثمة روايات معتبرة مروية بطرق مختلفة في مختلف المذاهب عن الرسول الأكرم و عن العظماء. إذن، لا شك في هذه المسألة، لكن ميزة الشيعة هي أن قضية المهدوية عندهم ليست قضية مبهمة غامضة، و لا هي قضية معقدة لا يمكن للناس فهمها، إنما هي قضية واضحة و لها مصداق واضح نعرفه و نعرف خصوصياته و نعرف آباءه و نعرف عائلته و نعرف ولادته و لدينا أخبار و معلومات عن تفاصيل ذلك. و في هذا التعريف أيضاً ليست روايات الشيعة واحدها هي المتوفرة‌على بساط البحث، إنما توجد روايات عن غير الشيعة توضح لنا هذا التعريف،و على أتباع المذاهب الأخرى أن يتنبهوا لهذا المعنى و يدققوا فيه ليكتشفوا هذه الحقيقة الواضحة. إذن أهمية القضية ترقى إلى هذا المستوى، و نحن أولى من الآخرين بمتابعة هذه القضية و الخوض فيها و القيام بأعمال علمية و دقيقة و متقنة في هذا الخصوص.
و مسألة الانتظار التي تعدّ جزءاً لا يتجزأ من قضية المهدوية من المفردات الأصلية لفهم الدين و الحركة الأساسية و العامة و الاجتماعية للأمة الإسلامية نحو أهداف الإسلام العليا. الانتظار معناه الترقب و ترصد حقيقة قطعية. هذا هو معنى الانتظار. الانتظار معناه هذا المستقبل الحتمي الأكيد. خصوصاً انتظار شخص حيّ موجود.. هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية. لا يقال إنه سوف يولد شخص أو ينوجد شخص، لا، إنما هو شخص موجود و له حضوره و تواجده بين الناس. و في الرواية إن الناس يرونه و هو يرى الناس لكنهم لا يعرفونه. و في بعض الروايات جرى تشبيهه بالنبي يوسف الذي كان إخوانه يرونه و هو بينهم و إلى جانبهم و يمشي على بساطهم لكنهم لا يعرفونه. إنه مثل هذه الحقيقة البارزة الواضحة المحفزة. هذا يساعد على معنى الانتظار. و البشرية بحاجة إلى هذا الانتظار، و الأمة الإسلامية من باب أولى بحاجة إلى هذا الانتظار. و هذا الانتظار يضع على عاتق الإنسان واجبات و تكاليف. حينما يتيقن الإنسان بوجود مثل هذا المستقبل، كما هو مذكور في القرآن الكريم: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. إن هذا لبلاغ لقوم عابدين» (1).. أي إن الناس العابدين يفهمون هذا الكلام، و عليهم أن يعدوا أنفسهم و يكونوا منتظرين مترصدين. الانتظار معناه إعداد الذات و أن نعلم أن حدثاً كبيراً سوف يقع و ننتظر هذا الحدث دوماً. لا يمكن القول أبداً إنه سيحدث بعد سنوات أو مدد طويلة، و لا يمكن القول أبداً أن هذا الحدث قريب جداً و سيقع في القريب العاجل. يجب الترصد و الانتظار دوماً. و الانتظار يستدعي أن يقرِّب الإنسان نفسه من ذلك الشكل و الهيئة و الخلق المطلوب منه في الزمن الذي ينتظره. هذه من لوازم الانتظار. حينما ينتظر الإنسان العدل في تلك الفترة و حينما ينتظر الحق و التوحيد و الإخلاص و العبودية لله - حينما يتوقع أن تكون تلك الفترة بهذه المواصفات - فيجب علينا نحن المنتظرون أن نقرِّب أنفسنا من هذه الأمور، و نعرِّف أنفسنا العدل و نعدّ أنفسنا للعدل و لتقبل الحق. الانتظار يخلق مثل هذه الحالة.
من السمات المودعة في حقيقة الانتظار أن لا يقنع الإنسان بالوضع الموجود و بمقدار التقدم الذي حققه في يومه، و أن يروم التقدم يوماً بعد يوم و تكريس هذه الحقائق و الخصال المعنوية الإلهية في نفسه و في مجتمعه يوماً بعد يوم. هذه من لوازم الانتظار و اقتضاءاته.
حسناً، يعمل اليوم و الحمد لله جماعة من الناس حول قضية الانتظار أعمالاً علمية حسب ما جاء في تقارير سماحة الشيخ قرائتي و التقرير الذي سبق أن اطلعت عليه و قد أشار هو إليه الآن و ذكره. يجب عدم الغفلة عن الأعمال العلمية الدقيقة حول قضايا الانتظار و عصر الظهور. كما ينبغي تجنب الأعمال العامية الجاهلة بشدة. من جملة الأمور التي يمكن أن تمثل خطراً كبيراً هي الأعمال العامية و الجاهلة و البعيدة عن المعرفة و غير المستندة إلى أسانيد و وثائق في ما يتعلق بالإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) و هذا ما يمهد الأرضية للأدعياء الكاذبين. الأعمال غير العلمية و غير المعتمدة‌على المصادر و الوثائق المعتبرة مجرد أخيلة و أوهام.. مثل هذه الأعمال تبعد الناس عن حالة الانتظار الحقيقية و تمهد الأرضية للأدعياء الكاذبين الدجالين.. ينبغي تجنب مثل هذه الأعمال بشدة.
كان هناك على امتداد التاريخ أدعياء، و بعض الأدعياء طبّقوا بعض العلامات على أنفسهم أو على غيرهم، و هذا كله خطأ. بعض الأمور الموجودة بخصوص علامات الظهور غير قطعية، إنما هي أشياء لم ترد في الروايات المعتبرة الجديرة بالاستناد، بل على روايات ضعيفة لا يمكن الوثوق بها. و الموارد التي يمكن الوثوق بها لا يمكن مطابقتها بسهولة. كان هناك دائماً بعض من طابق أشعار نعمة الله ولي - طوال الأعوام المتمادية و في حالات كثيرة - على أشخاص مختلفين في شتى القرون، و قد اطلعت على ذلك، فقالوا إن قوله رأيت فلاناً و أرى كذا و كذا إنما يعني به فلاناً. و في زمن آخر بعد مائة سنة مثلاً وجدوا شخصاً آخر و طبقوا عليه! هذه أخطاء و أعمال تحريفية توقع الناس في الخطأ. إذا وقع الخطأ و الانحراف سوف تهجَر الحقيقة و يُشتبه فيها و تتوفر الأرضية لضلال أذهان الناس. لذلك يجب بشدة اجتناب الأعمال العامية و عدم الاستسلام حيال الإشاعات العامية. عليكم بالأعمال العلمية المتينة المعتمدة على الوثائق و الأسانيد و هذه طبعاً أعمال ينهض بها أهل الفن و الاختصاص و ليست مما يقدر عليه أيّ كان، لا بد لمن يقوم بهذه الأعمال أن يكون من أهل الفن و الاختصاص و الحديث و الرجال و من العارفين بالأسانيد و من أهل التفكير الفلسفي و العارفين بالحقائق، عندها يستطيع أن يخوض غمار الساحة في هذا الحقل و ينجز أعمالاً بحثية. ينبغي الاهتمام بهذا الجانب أكثر فأكثر حتى ينفتح الطريق للناس إن شاء‌الله، إذ كلما تعرفت القلوب على فكرة المهدوية أكثر و استأنست بها أكثر، و كلما كان حضور ذلك الإمام محسوساً بالنسبة لنا نحن الذين نعيش زمن الغيبة، و كلما شعرنا به أكثر و ارتبطنا به أكثر، كلما كان ذلك أفضل لدنيانا و لتقدمنا نحو تلك الأهداف.
التوسلات الموجودة في الزيارات المختلفة و لبعضها أسانيد جيدة توسلات ذات قيمة كبيرة. إنه التوسل به و التوجه إليه و الأنس به من بعيد. و ليس هذا الأنس بمعنى أن يدعي شخص أنه يلتقي بالإمام المهدي أو يسمع صوته، ليس الأمر كذلك على الإطلاق. معظم ما يقال في هذا الباب ادعاءات إما إنها كاذبة أو إن صاحبها ليس بكاذب لكنه يتصور الأمر و يتخيّله. لقد شاهدنا بعض الناس ممن لم يكونوا كاذبين لكنهم يتخيّلون و يروون أخيلتهم لهذا و ذاك على أنها واقع! ينبغي عدم الاستسلام لهذه الأخيلة، إنما عليكم بالطريق الصحيح المنطقي و التوسل عن بعد.. التوسل الذي يسمعه الإمام منا و يتقبله إن شاء الله، حتى لو كنا نتحدث مع مخاطبنا عن بعد، لا إشكال في ذلك. الله تعالى يوصل سلام المسلمين و رسائل المرسلين إلى ذلك الإمام الكبير. هذه التوسلات و الأنس المعنوي أمور جيدة و لازمة جداً.
نتمنى أن يعجل الله تعالى ظهور ذلك الإمام و يجعلنا من أنصاره في غيبته و في زمن ظهوره، و يجعلنا إن شاء الله من المجاهدين إلى جانبه و المستشهدين في ركابه.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة‌الأنبياء، الآيتان 105 و 106 .