بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا و حبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهداة المهديين المعصومين، سيما بقية الله في الأرضين.
قال الله الحكيم في كتابه: (اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (1).
إنّه ليوم عظيم، يوم خير و بركة. نحمده سبحانه على توفيقه لنا باللقاء بكم أيّها الإخوة و الأخوات الكرام ـ من أهالي مشهد المقدسة و زائري المرقد الرضوي الشريف ـ في عيد الغدير المبارك تحت مظلة المشهد الشريف للإمام الهمام علي بن موسى الرضا عليه الصلاة و السلام، لنحيي معكم هذه المناسبة العطرة. فمن هنا أرفع إليكم أيها الحشد الكريم و إلى شعبنا الإيراني العظيم و إلى شيعة العالم و مسلميه كافة، أزكى آيات التهاني و التبريكات بهذه المناسبة الميمونة.
لقد أحيى شعبنا الكريم عامه المنصرم و العام الذي سبقه، ذكرى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام، حينما أطلق عليهما تسمية: (عام الإمام علي (ع)) و (عام السلوك العلوي)، فكان لذلك أثر واضح على نفوس الناس التي أصبحت تواقة و منجذبة أكثر من ذي قبل إلى كعبة قلوب العارفين، إلى رمز العدالة الإنسانية، إلى الحضرة العلوية المقدّسة.
أودّ في مطلع حديثي أن أشير إشارةً إجمالية إلى مفهوم الغدير. فهذا الحدث العظيم الذي اتخذناه اليوم عيداً، هو حدث يجب أن لا يختزل في الأفق الطائفي الضيق. فالغدير بمعناه الحقيقي لا ينحصر بالطائفة الشيعية. هذا بالرغم من أنّ الشيعة يبتهجون بهذا اليوم احتفاءً بتنصيب مولى المتقين في مقام الإمامة و الولاية و يشكرون الله سبحانه على هذه النعمة، إلاّ أنّ واقع الغدير يعبّر عن امتداد للنهج الذي خطّته الرسالات الإلهية، و يمثّل غاية ما حققه هذا النهج المنير على مدى التاريخ. و لو تأملنا في تاريخ النبوات و الرسالات لوجدنا أن هذا النهج المبين قد تناقلته يد الأنبياء و الرسل حتى انتهى إلى نبينا المكرّم (صلى الله عليه و آله و سلم) ليتجسّد في نهاية حياته الشريفة و يتبلور ضمن هذه الحادثة التي عرفت بحادثة الغدير.
و بهذا الصدد لا بدّ لي أن أشير إلى أهمية دعاء الندبة، الذي يمثل خطبة غرّاء تسرد جانباً من عقائد و مبادئ و قيم الطائفة الإمامية على مدى التاريخ. و لو تأملتم لوجدتم أن هذا المنهج قد ذكر في مطلع الدعاء لدى القول: «اَللّـهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلى ما جَرى بِهِ قَضاؤكَ في اَوْلِيائِكَ» (2)، و قد استمر هذا النهج منذ مطلع الرسالات السماوية و حتى نبوة خاتم الأنبياء (ص).
غاية الرسالة التي هي الدين الإلهي تهذيب السلوك البشري و تقويمه. فالدين هو صراط الحياة. و لو تأملنا في مجتمع من المجتمعات، لوجدنا أن لأفراده سلوكاً مختلفاً إزاء قضاياهم الشخصية و العاطفية. فالدين يأتي إلى هذا السلوك و ينظمه و يهذبه، ثمّ و من خلال تفعيل دور الفكر و التأمل لدى الإنسان يحاول الدين السمو بسلوك الإنسان بما يضمن له سعادة الدنيا و الآخرة.
فجزء من السلوك البشري يتعلّق بالقضايا الشخصية و يشمل قسماً يسيراً من الأنشطة البشرية ـ كالأنشطة الحياتية و المعنوية و العاطفية و العلاقات الشخصية ـ لكن الجزء الأكبر من السلوك البشري يتعلّق بالأنشطة المجتمعية التي تتم بصورة جماعية، و التي يعبّر عنها بـ (السياسة). كالسياسة الاقتصادية و السياسة الاجتماعية و السياسة العسكرية و السياسة الثقافية و المدنية و الدولية. و هذه تشكل الجزء الأكبر من الأنشطة البشرية في الحياة. أمّا لماذا هي الجزء الأكبر و الأهم؟ ذلك لأنّ هذه السياسات تساهم في توجيه السلوك البشري الفردي باتجاهات مختلفة. فأهم جزء من السلوك البشري هو السلوك الجمعي الذي يستقطب أنماط السلوك الفردي و يوجّهه. أمّا الدين فمسؤول عن كلا قسمي السلوك الإنساني، الفردي ذي النطاق المحدود، و الجمعي ذي النطاق الواسع المتمثل بالسياسة.
و لكل من الدين و السياسة آفتان. فأولى آفتي الدين، أن يصاب الفرد أو المجتمع المتدين بالانحراف أو التحجّر و الجمود و تعطيل دور العقل أو الانتقائية أو غير ذلك. والآفة الأخرى أن يتم اختزال الدين في الحياة الفردية، دون الحياة الإجتماعية بمجالاتها الواسعة.
أمّا آفتا السياسة فإحداهما أن تبتعد السياسة عن الأخلاق و الفضيلة، و يمارس فيها المكر و الخداع و الرذيلة، و تخضع للأهواء الفردية، و تستفرد بها الطبقات البرجوازية.
فإذا أصيبت السياسة بهذه الآفة، سرت إلى الجسد الاجتماعي برمته.
أمّا آفة السياسة الأخرى فهي أن تستحوذ عليها عصابات الجهل و التخلّف، و تسرقها من أيدي الأكفاء.
أمّا ما هو الحل لتخطي هذه الآفات؟ فالحل الأمثل يكمن في تولي زمام السياسة و إدارة شؤون المجتمعات من قبل أناس يمتلكون وعياً سياسياً سليماً لم يصب بهذه الآفات، أشخاص متدينون يمتلكون رؤية دينية واسعة تحوول دون وقوعهم في براثن الانحراف و الزلل و الانتقائية في الدين، و تجنبهم التحجر و الجمود، و تسمو بهم عن استغلال الدين و توظيفه لصالح أهوائهم و مطامعهم. و من الناحية السياسية أشخاص أكفاء ذوي رؤية و حنكة و فطنة و شجاعة، لا يفصلون بين السياسة و الأخلاق و الفضيلة. فإذا تولّى هذا النمط من الأشخاص زمام الأمور في مجتمع ما، فإنّه سيبقى مصوناً من الأخطار المحدقة به. الصورة المثلى لهذا الواقع تتحقّق عندما يكون على رأس السلطة السياسية و الدينية شخص معصوم عن الخطأ، و هو ما نطلق عليه: الإمام.
و الإمام المعصوم إنسان متسام بلغ أقصى درجات الكمال، فعلى الصعيد الديني، قلبه من الصفاء كالمرآة، موضع تتجلى فيه أنوار الهداية الإلهية، و روحه متصلة بمصدر الوحي، و هدايته هداية حقة خالصة. و على الصعيد الإنساني، سلوكه و أخلاقه تجسيد للفضيلة بأقصى درجاتها (مائة بالمائة)، و ليس للأهواء أو الآثام سبيل إليه، و لا تغلبه الشهوات، و لا تصرفه نوبات الغضب عن الله سبحانه و تعالى. أمّا على الصعيد السياسي، فيتمتع الإمام برؤية ثاقبة تمكنه من رصد كل حركة أو حدث اجتماعي مهما بلغ حجمه، يقول عليه الصلاة و السلام: «و الله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم» (3)، أمّا في الشدائد و الهزائز و الأحداث الكبرى فالإمام يتمتع بصلابة و شجاعة منقطعة النظير كما يتسم بروح معنوية عظيمة. لقد هانت عليه نفسه في الله، و عظمت عليه نفوس الآخرين، حتى ممّن لا ينتمي إلى دينه أو مذهبه، فيقول في المعاهدين الذين تعرّضوا للتسليب: «فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً».
لقد تميّزت مواقف أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام تجاه الأزمات بالصلابة و الشجاعة. يقول عليه السلام بهذا الصدد: «فقأت عين الفتنة» ـ يريد بذلك فتنة الخوارج أو الناكثين ـ. لقد جمع في صفاته الأضداد، ففي الوقت الذي جسد قمّة التدين و الأخلاق و الفضيلة، امتلك رؤية ثاقبة و مواقف حكيمة و شجاعة، و روحاً متفانية و عواطف إنسانية غاية في الرهافة و الرقة، مع صلابة و شدّة و ثبات معنوي و روحي، كل ذلك نتيجة للعصمة، فالله سبحانه اجتباه لمقام العصمة، و طهّره عن الرجس و الإثم و الخطأ. إنّ وجود مثل هذه الشخصية الفريدة على رأس السلطة هي غاية تنشدها كافة الرسالات السماوية. و هذا ما حدث يوم الغدير.
و من الخطأ أنْ تُفهم واقعة الغدير على أنّها عملية تنصيب بسيطة قام بها رسول الله (ص). إذ ممّا لا شكّ فيه أنّ النبي (ص) قد اختار أمير المؤمنين لمنصب الخلافة بحضور حشد من المسلمين بلغ عشرات الآلاف، و هذا ما لم يتفرّد بنقله الإمامية وحدهم بل نقله اخواننا من محدثي أهل السنّة في العديد من مصنّفاتهم بنصوص مماثلة أو مطابقة لما أورده الإمامية (4). و هذا ليس بالأمر الذي يستطيع أحد إنكاره. لكن المسألة لا تقتصر على ذلك، فمنذ أن خُلق آدم و بدأت سلسلة النبوّة و الرسالة بالتعاقب و تتالت على أثرها حكومات الأنبياء و الرسل ـ كسليمان و داوود و غيرهما من أنبياء بني إسرائيل و حتى نبينا الخاتم ـ فإنّ روعة المنظومة و المنهج السياسي للدين لم يبلغ القمّة ـ في إطار استمراره كسنّة خالدة و كعنصر مساهم في هداية الأمّة ـ إلاّ في واقعة الغدير. لذلك ورد في دعاء الندبة الذي عرضنا لبعض فقراته: «فلمّا انقضت أيّامه أقام وليّه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما و آلهما هادياً إذ كان هو المنذر و لكلّ قوم هاد» ‏(5).
و كم سيكون جميلاً لو حاولنا التأمّل و التدقيق فيما وردنا من علوم و معارف ببركة هداية أهل البيت عليهم السلام التي وضعت بين أيدينا بهذا الثمن الذي يكاد يكون بخساً. إنّ دعاء الندبة ـ و كما أسلفت ـ بمثابة خطبة غرّاء تعكس تاريخ فكر و جذور نهضة امتدت على مدى أعوام حكومات الرسالات السماوية.
و لو تمعّنتم في هذا الدعاء ـ دعاء الندبة ـ لما وجدتم فيه أية نقطة من شأنها بثّ الفرقة بين الشيعة و السنّة ـ الذين أشعل بينهما الحرب التاريخية أُناس كان لهم غايات و مصالح مختلفة ـ و إنما استعرض موضوع الإمامة و الولاية بشكل موضوعي مستَدلّ: «إذ كان هو المنذر و لكلّ قوم هاد» (6). بمعنى أنّ رسول الله (ص) الذي كان يتولّى مهمّة الإنذار و التبشير قد بدأ مشواراً و خطّ للأمّة طريقاً للهداية و الخلاص. لكنّ النبي (ص) لم يكن خالداً، و حاجة الأمم و الأجيال إلى هاد و أسوة تقتدي به من بعده حاجة مستمرة. و هذه الأسوة قد حدّدها الإسلام: و هم المعصومون الذين تعاقبوا عبر الأجيال المتتالية، و أخذوا بزمام الأمور و بادروا إلى هداية الأمّة وفق التعاليم القرآنية السامية، مكرّسين بذلك كافة الرؤى و السمات و المناهج و المبادئ الإسلامية في صميم الأمّة الإسلامية. و بهذا لا ينتهي دور الحجّة و إنّما لا بدّ أنْ يبقى حيّاً و قائماً بين الخلق، إذ لا تصمد الأرض دون أنْ يكون لله حجّة فيها، و بذلك تبدأ البشرية بالعثور عن طريق خلاصها، و هو الأمر الذي لم يتحقق بعد. و هذا هو برنامج الإسلام و مشروعه الشامل الذي يتلخّص في الغدير.
تمثل الإمامة القمة في الأسلوب المتبع في إدارة شؤون المجتمعات، مقارنة بسائر الأنظمة الإدارية الأخرى القائمة على الأهواء و المصالح الشخصية و الغرور و الطمع.
لقد قدّم الإسلام للبشرية الإمامة منهجاً في إدارة الحكم، بمعنى أن شخص الإمام لا بد أن يتمتّع بقلب يفيض بأنوار الهداية الإلهية، و له إحاطة واسعة بالمعارف الدينية و مدرك لها ـ أي قادر على تحديد الطريق الصحيح ـ و ممتلكاً القدرة على العمل و التنفيذ ـ أي مصداقاً لـ «يا يحيى خذ الكتاب بقوة» (7) ـ أما نفسه و رغباته و حياته الشخصية فهينة عليه، و حياة الآخرين و سعادتهم أهم شيء بالنسبة له، و هذا ما جسّده أمير المؤمنين في سني حكمه التي لم تتجاوز الخمس.
فأنتم تلاحظون أنّ الفترة القصيرة التي حكم فيها أمير المؤمنين و التي لم تتجاوز الخمس سنوات كانت دائماً و إلى الآن تتوهّج و تنير الدرب للبشرية التي لم و لن تنسى ما تركته لها من قيم و مفاهيم سامية. و هذه إحدى النتائج التي تمخّضت عن الدرس و التفسير و المفهوم الذي انطوت عليه حادثة الغدير.
لقد حاولنا خلال العامين المنصرمين الذين اختصّا بأمير المؤمنين أن نتوّجه بكافة شرائح شعبنا و بقلوبنا نحو هذا المقام الشامخ و هذه الطلعة البهية التي لا تمحى من ذاكرة التاريخ، لكن هذا لا يعني أنّه بانتهاء العامين ستنتهي مظاهر السلوك العلوي و نصبح غير ملزمين بالاقتداء بها لانتهاء صلاحيتها، كلا، إننّا في كل لحظة بحاجة إلى الالتفات لتلك الأسوة و إلى ذلك المنهج الذي جسده أمير المؤمنين بسيرته. لا بدّ لنا أنْ نستلهم من ذلك المنهج، و أنْ نقلّص تدريجياً من الهوّة الواسعة التي تفصل بيننا و بينه.
إنّ أكبر خطر ممكن أنْ يهدد نظاماً و حكومةً كنظامنا و حكومتنا التي قامت على أساس الإسلام، هو أنْ ننسى أنّ أسوتنا الحقيقية في الحكم هو أمير المؤمنين، و نلجأ إلى النماذج المتداولة عالمياً و تاريخياً، و نقرن أنفسنا بها.
و لطالما كانت تلك النماذج المنحرفة سبباً في تعريض البشرية لشتى أنواع الأذى و الدمار الذي لا زال يتوالى عليها يوماً بعد آخر دون توقّف، و إنْ وجدنا أنّها ـ أي تلك الأنظمة ـ قد نهضت بجانب من جوانب الحياة البشرية، فإنّها في المقابل قد ألحقت بالجوانب الأخرى أضراراً بالغة جدّاً قد يكون من المستحيل تعويضها.
إذن لا بدّ أن يكون مسعى الجمهورية الإسلامية الاقتداء بالنموذج الذي أُعلن عنه يوم الغدير و الذي جسدته الحكومة العلوية في سنواتها الخمس. و لو تأملتم في الحروب التي خاضها أمير المؤمنين في هذه الفترة القصيرة من حكمه لوجدتم أن الهدف منها جميعاً الحرص على أن لا تتحوّل الإمامة و الولاية إلى نظام حكم فاسد، حالها حال أنظمة الجور و الفساد و الجهل التي تصادر الحريات و تختزل سائر الحقوق الشخصية لصالح فئة محدودة تستولي على السلطة و لا همّ لها سوى المال و الجاه و المتاع الدنيوي.
و إذا كنا نطمح لتحقيق سعادة الجمهورية الإسلامية و ضمان استقرارها، و تحقيق تطلّعات الشعب الإيراني الكريم بما يوازي الإمكانيات الكبيرة التي أودعها الله سبحانه و تعالى لديه، فعلينا أن نتمسّك بذلك المنهج، و نتخذ الحكومة العلوية أسوةً لنا على صعيد ديننا و دنيانا. الحكومة التي ساست البلاد سياسةً نقيّة غير مشوبة بالمصالح و الأهواء و الشهوات، سياسة مستلهمة من الدين و الأخلاق، سياسة رجحت المصلحة العامة على المصالح الخاصة و المصالح الفئوية و القومية و الأطماع الأجنبية (التي تريد الاستحواذ على الكون بأسره)، سياسة ضمنت للأمّة إلى جانب حقها المشروع في الحياة الكريمة، عزّتها و استقلالها و كرامتها و ثقافتها السامية، و تقدّمها العلمي، و سموّها المعنوي، و فضيلتها و دينها و أخلاقها. إنّنا بحاجة إلى مثل هذا الواقع، الذي يتجسّد عبر قيادات انتخبها الشعب بملء إرداته و بكامل رغبته و عواطفه الجياشة و تولت زمام الحكم طبقاً لعقيدتهم. فإذا تحقق ذلك تحقق النموذج الأكمل. و لو استطعنا في الجمهورية الإسلامية انتهاج هذا النهج ـ الذي يعد أولاً: أمراً متيسّراً بإذن الله و توفيقه، و نهجاً قد أكسب المسؤولين تجربةً ثرية طيلة الأعوام الثلاثة و العشرين المنصرمة، و نهجاً قد حظي بثقة الشعب و تأييده ـ فإنّنا سنحرز رضا الله سبحانه، و اعتماد الشعب، و نضمن استقلال النظام و قدرته.
طبعاً لا يخفى عليكم أن العامين المنصرمين، و خصوصاً العام الحالي ـ الذي أطلقنا عليه عام السلوك العلوي تيمّناً بذكر أمير المؤمنين عليه السلام ـ شهدا نشاطاً دؤوباً و مشاريع مهمة باتجاه الاقتراب قدر الإمكان من هذا النموذج المشرق. أحد هذه المشاريع تمثل في مكافحة الفساد المالي و الاقتصادي. لكنّ الملفت أنّ مشروعنا هذا حفز الأبواق الإعلامية التي أخذت تتعالى من شرق الدنيا و غربها مبدية تحسسها و غضبها من هذه الحركة، الأمر الذي أثبت لنا صواب الطريق الذي نحن سالكوه. لقد كانت مشاريع مكافحة الفساد الاقتصادي و المالي و التلاعب ببيت المال أولى أولويات أمير المؤمنين عليه السلام. لذلك علينا في الجمهورية الإسلامية أن نفتخر بسلوكنا هذا الطريق و تفعيلنا هذه المشاريع.
يقول البعض: إنّ إعلانكم الحرب على الفساد الاقتصادي معناه وضع كافة القادة و المسؤولين موضع التهمة و المسائلة! كلا، فهذا غير صحيح. إذ لو عمّ الفساد كل الدوائر و المؤسسات الحكومية، لم يكن هناك معنى لمكافحته أو التصدّي له. إنّ المكافحة لا تتحقّق إلا في الحالات التي تكون طارئة على النظام و تنشأ بشكل عرضي، لا الحالات التي تستشري و تعمّ. إنّ أبرز دليل على سلامة النظام، مساهمة كبار المسؤولين و صغارهم بشكل فاعل و كبير في هذا المشروع بمجرد الإعلان عنه. و هذا يشير إلى حقيقة مهمّة و هي أن النظام بفضل الله و بركة الإسلام و ذكر أمير المؤمنين تمكّن من الاستمرار في نهجه الأصيل القائم على الصلاح. و كما تعلمون فإنّ الأنهر مهما كانت صافية قد تصبُّ فيها تيارات ملوثة من هنا و هناك. و غايتنا هي الحؤول دون ذلك. إنّ كبار المسؤولين و المدراء و أركان النظام بشكل عام، شأنهم شأن أفراد الشعب، يرغبون بشدة في مكافحة الفساد. أمّا أعداء الشعب، الذين لا يرجون لنا النجاح في مشروعنا، أملاً منهم في استشراء الفساد، فيروجون مغالطات الغاية منها تثبيط الهمم و إضعاف المعنويات، منها أن مكافحة الفساد لا تكون إلا بسبب انتشار الفساد في المجتمع برمته!
كلا؛ نحن في النظام الإسلامي و في الجمهورية الإسلامية نخوض حرباً على أمور قد تحولت في كثير من الأنظمة العالمية أعرافاً و سلوكيات سائدة، لقد تأصل الفساد في تلك البلدان حتى أصبح أمراً طبيعياً. إن الحرب على الفساد تمثل سلوكاً علوياً، و تتطلّب حزماً علوياً أيضاً، و بفضل الله فإنّ رواد هذا الكفاح و القائمين على هذه النهضة لا بدّ أن يتمتّعوا بهذا الحزم و يجسّدوه على أرض الواقع.
أمّا على صعيد النهوض بالمستوى المعيشي و الحياتي للطبقة المعدمة و الفقيرة، و الذي يعدّ من أبرز الخطوط التي يتضمّنها النهج العلوي ـ باعتبارنا نمرّ في عام النهج العلوي ـ فقد تم تحقيق تقدّم ملحوظ في هذا الشأن. طبعاً هناك الكثير و الكثير من الإنجازات التي تقوم بها الكوادر المعنية و السادة المسؤولون لكنّها لا تحظى بالتغطية الإعلامية. و هذه نقطة إيجابية. فباعتقادنا أنّ الوعود يجب أن لا تغطى إعلامياً. لا بدّ من عدم السماح لـ (السين و سوف، و سننجز كذا، سوف نعمل كذا) أن تكبر و تصبح هي الأساس. و على الشعب أن يعلم أنّ الجهاز الحاكم جاد في هذا الأمر. و في المقابل لا بدّ أن تسلط الأضواء على المنجزات، أي على المشاريع التي يتم إنجازها، لا بدّ أن يعلم بها الشعب، لكن للأسف هناك ضعف إعلامي كبير في هذه الناحية. فمثلاً يمكن الإشارة إلى الحملة الكبيرة التي نفذتها أجهزة الدولة المختلفة هذا العام لتوفير فرص العمل و القضاء على البطالة، و هي لمحة من ملامح النهج العلوي. طبعاً هذا ليس كافياً. فقد ذكرت للإخوة المسؤولين و المتصدّين في قطاعات الدولة المختلفة وأكدت عليهم مراراً ضرورة و أهمية استمرار المشاريع كي تبدأ نتائجها بالظهور، و تنعكس على واقع الناس، لكن على العموم فالبداية هي بحد ذاتها أمر مهم و مبارك. طبعاً لا يخفى أنّ هذه المشاريع هي مشاريع طبيعية تقع ضمن المهام الموكلة إلى الحكومة و لا شك في ذلك، لكن التركيز عليها و تسليط الأضواء هو من بركات عام النهج العلوي، الذي نأمل من الله سبحانه أن يكلله بالنجاح.
و لا يخفى عليكم أن هذا الطريق لا يخلو من المتربصين و الأعداء. و أخطرهم هو العدو الداخلي المستقر في كوامننا، و المتمثل في الميل للراحة و الكسل، و الغفلة، و الاستهانة بالأمور و تجنب مواجهة التحديات و عدم خوض المعتركات الصعبة. إنّ سلوك هذا الطريق يتطلّب جداً و جهداً و جهاداً. فالميول و الرغبات البشرية المنحرفة ـ كالجشع بالمال، و النفوذ و غير ذلك من الشهوات ـ تعتبر أخطر العقبات التي تهدد السائر في هذا الطريق، و خصوصاً بالنسبة لنا، المسؤولين من الإخوة و الأخوات في القطاعات المختلفة للدولة، يجب أن نستجير بالله و نراقب أنفسنا بشدّة و يذكّر أحدنا الآخر. فالعدو الداخلي أخطر بكثير من العدو الخارجي.
كما أنّ لهذا الطريق عدواً خارجياً أيضاً. فالأعداء حينما ينظرون يجدون أن إيران الإسلامية بدأت تتحوّل إلى نموذج يحتذى به في العالم الإسلامي، و هذا أمر لا يروقهم على الإطلاق. إنّهم يدركون جيداً أنّ نجاح الجمهورية الإسلامية في مواجهة التحدّيات الداخلية المتمثلة بتوفير الخدمات و البنى التحتية و غير ذلك من القضايا المادية المختلفة ـ و التي تعاني منها معظم البلدان ـ و نجاحها في توفير الحياة الكريمة و العيش الرغيد لشعبها، يدفع الشعوب الإسلامية للتهافت نحو هذا النموذج و الاحتذاء به أكثر من ذي قبل. لذلك لا ينفك العدو من وضع العقبات في طريقنا. فمنذ سنوات و نحن نشاهد بشكل علني و فاضح ممارسات الأعداء لعرقلة مسيرتنا و إجهاض مشاريعنا.
لكن هذه العقبات لن تكون قادرة بأي شكل من الأشكال على ردع الشعوب أو الدول أو الأنظمة إذا كانت قاطعة و مصمّمة و عازمة بشجاعة على تحقيق أهدافها. إنّ الأعداء اختبروا طرق عديدة لإيقاف مسيرة الجمهورية الإسلامية، لكنّهم لم يحرزوا أي تقدّم في هذا الجانب، لذلك لجأوا اليوم إلى التهديد العسكري. و الوصول إلى مرحلة التهديد العسكري تعني إن كل المخطّطات الجهنمية التي حيكت منذ انتصار الثورة الإسلامية و على مدى سنوات طويلة لم تحقق للعدو غاياته.
و أنا أؤكد لكم بأنّ تهديدهم باللجوء إلى القوة لن يسهم هو الآخر في إحراز أي نتائج بالنسبة لهم. و قريباً سيكون لنا بعون الله كلام تفصيلي حول خطاب الرئيس الأمريكي و البيان الذي أصدره لفيف من المفكرين التابعين للنظام الإستكباري. و لا أريد الآن أن أخوض في التفاصيل، لكن إذا أردتم أن أوجز لكم القضية لقلت إن القيادة الأمريكية و من يسير في ركبها من المفكرين و المنظرين يعتبرون ـ على صعيدي الخطاب و الممارسة ـ الحرب أمراً مقدساً، خلافاً لكل ما كانوا يتبجحون به من دعوات الصلح و السلم بين الشعوب، و يروجون للقيم الأمريكية على أنّها هي القيم العليا ذات الطابع القدسي.
و على النقيض تماماً لما كان هؤلاء يقولونه لسنوات طويلة في تصريحاتهم التي يدلون بها عبر القنوات الإعلامية و التي تروّج للإنسانية و الصلح و التعددية و احترام عقيدة الآخر حيث كانوا يتمشدقون دائماً بالصلح، و يدّعون بأنّهم دعاة صلح، و من أجل الصلح أتينا إلى هنا أو دخلنا إلى هذا البلد أو ذاك، نراهم اليوم وصلوا إلى مرحلة تدفعهم لتقديس الحرب و إبرازها على أنّها فعل مقدّس. لكنهم بذلك ارتكبوا خطأً جسيماً للغاية، فقد اسقطوا كافة متبنياتهم السابقة في أنظار الرأي العام العالمي. إنّهم لم يدركوا إلى أين سيذهب بهم هوى النفس، و هم مستمرون في غيّهم بخطوات متتابعة دون توقف. إنّهم يعكسون عن أنفسهم صورة غاية في العنف و الخشونة و تعمّد إشعال الحروب، و هي صورة ستكون سيئة جداً لحاضرهم و مستقبلهم و ستبقى محفورة في ذاكرة الرأي العام العالمي الذي سيضل يدينها إلى الأبد. إنّهم مجبرون على ذلك و لا مناص لهم منه.
يزعمون أنّهم حماة الديمقراطية و أنظمتهم تستمد شرعيتها من أصوات الشعب، لكنهم في الوقت نفسه يدعمون كل الأنظمة الدكتاتورية المتعسفة و الأنظمة الجائرة التي وصلت إلى الحكم بانقلابات عسكرية و لم يشترك فيها حتى صوت واحد. إنها فضيحة أمام الرأي العام العالمي. هؤلاء لا يدركوا ماذا يفعلون و ما هم عليه مقبلون. إنّ أخطاءهم تتوالى و كل خطأ يورطهم في خطأ آخر. إنّها لبداية الانهيار.
إنّهم و بكل صلافة، و من غير أن يدركوا ما يفعلون، يخاطبون هذا الشعب العظيم المتحضر الشجاع، الذي أثبت كفاءته و بجدارة على مدى سنوات و في ميادين مختلفة، قائلين له: لا بد أن تكون شعباً مقهوراً و عميلاً كي نكفّ عدواننا عنك، و نتخلى عن تهديدنا إياك! إنّ تحوّل الشعب الإيراني شعباً قوياً مستقلاً متحداً متماسكاً شيء لا يرغبون به على الإطلاق. إنّ رغبتهم تكمن في (أولاً): تفشي الاختلافات و النزاعات الداخلية، و انهيار الوحدة و التحوّل إلى الحرب الأهلية، بعد وابل التهم التي تتناقلها الأطراف المتنازعة فيما بينها، و (ثانياً): أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية هي المتحكّمة بمصير البلد و مقدراته، كما هو الحال في بعض البلدان التي أصبحت شعوبها و بسبب سوء سياسة أنظمتها إلى شعوب تابعة و منقادة للولايات المتحدة. و (ثالثاً) أن يبقى الشعب الإيراني مقهوراً عسكرياً و سياسياً، لا يمتلك إمكانية الدفاع عن نفسه و عن حدوده. و لا يخفى أن موافقة الرئيس الأمريكي على التعاطي مع الشعب الإيراني لا تحصل إلا بعد تحقق هذه الغايات الثلاث.
أمّا ردّنا عليهم فهو: إنّ الشعب الإيراني ببركة الإسلام سوف لن يتخلّى عمّا حققه من العزّة و الاستقلال و التلاحم و الوحدة و الطريق الواضح النيّر الذي اختاره... و سوف يستمر بهذا الطريق متكلاً على الله و على هذا التلاحم و الوحدة و القدرات الذاتية و الوطنية و التاريخ العريق و القيم الإسلامية العليا الراسخة... سيقف بوجه كافة التهديدات، و هو يعلم جيداً أن من أراد أن يختبر السكين في هذه الصخرة الجبارة سوف لن يكون أمامه سوى تهشم السكين ثم التقهقر و الهزيمة.
إخواني الأعزاء! بعد أسبوعين من الآن سيطالعنا العام الشمسي الجديد مقترنا ببداية العام القمري ـ أي بداية شهر محرم الحرام ـ و إنّي على يقين بأنّ الشعب الإيراني على الرغم ممّا يبديه من اهتمام شديد و حرص و رغبة في الاحتفال بعيد النوروز ـ الذي اعتبرناه نحن أيضاً منذ مطلع الثورة الإسلامية عيداً وطنياً ميموناً ـ إلاّ أن اقترانه هذا العام بأيام محرّم و مناسبة عاشوراء الحسين، سيكون سبباً ليقف هذا الشعب بكل احترام و إجلال لهذه المناسبة الأليمة موقّراً حرمة دماء الشهداء و حرمة محرّم الحرام.
و لا يخفى عليكم وجود أجندة خفية في البلد تراهن على الاختلاف و التعدد الذي قد يحصل في توجّهات الناس و ميولها و رغباتها و تتطلّع جراء ذلك لافتعال أزمات أو احتراب داخلي. غايتهم بث الفرقة بين الناس و بالتالي زعزعة استقرارهم. لذلك عليكم إخماد هذه الحركات و تجاهلها. إنّ مقولة الشيعة و السنة و المسلم و غير المسلم لا معنى لها في بلدنا، فالجميع يجل و يحترم عاشوراء. فهناك أناس في بلدنا لا صلة لهم بالإسلام لكنّهم يوقرون حادثة عاشوراء، و هناك أفراد غير ملتزمين دينياً لكنّهم يكنّون كل التوقير و الاحترام للإمام الحسين و أبي الفضل ، و علي الأكبر و علي الأصغر و زينب الكبرى (عليهم السلام) و الدماء الزاكيات التي أرقيت في كربلاء. إنّ بلدنا بلد أهل البيت، بلد الإمام الحسين.

هذا و أرجو أن يكون تعاطي الشعب و المسؤولين و الأجهزة الحكومية و الأجهزة الإعلامية مع حلول العام الشمسي الجديد و بداية الربيع تعاطياً منسجماً مع ذكرى عاشوراء و الإمام الحسين عليه السلام.
اللهم! نسألك بحق محمد و آل محمد أن تديم نعمك و بركاتك علينا و تظللنا بظل الحسين و أهل بيته (عليهم السلام) و لا تحرمنا بركاتهم و بركات الغدير. اللهم! أيد و سدد و بارك في شعبنا و أمتنا و كفّ عنهم أيدي الأعداء. اللهمّ! و كلّ من أراد هذا الشعب بسوء فألبسه لباس الذل و الهوان. اللهمّ! أنر قلوب أفراد الشعب و المسؤولين و اكشف لهم حقائق الأمور و ألّف بين قلوبهم. اللهمّ! و اشملنا بدعاء المولى بقية الله أرواحنا له الفداء و اجعلنا من خيرة جنده و أعوانه. اللهمّ! و نسألك بمحمد و آل محمد أن تبارك لشعبنا و أمتنا هذا اليوم الكبير و هذا العيد الميمون. اللهمّ! و نسألك بمحمد و آل محمد أن تمنّ على الشعب الإيراني في هذا العيد بمواهبك السنية و عطاياك الجزيلة.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

 

 

الهوامش:
(1) المائدة: 3.
(2) مفاتيح الجنان: دعاء الندبة.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 6.
(4) لمزيد من الاطلاع راجع كتاب الغدير للعلامة الأميني.
(5) مفاتيح الجنان: دعاء الندبة.
(6) المصدر نفسه.
(7) سورة مريم: 12.