بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر من الأعماق السادة المحترمين، والعلماء الأعلام، والفضلاء، وأئمة الجماعات، والدعاة المحترمين الذين تجشّموا عناء القدوم، وعقدوا هذا الاجتماع الحميم، خاصة السادة الذين شرفونا من أماكن بعيدة.
طبعًا أهمية شهر محرم وما ينبغي أن يسود في شهر محرم من الأهمية بحيث يستحق عقد اجتماعات وإجراء حوار حول المسائل المتعلقة بذلك. من المناسب أن يجري قبل أيام الدعوة في شهر محرم التنسيق والانسجام الفكري في المجالات المختلفة، لانتخاب الموضوعات ودراسة الدعوة وما يفرضه شهر محرم من واجبات. وأنا بقدر الوسع سأتحدث عن أمور:
في قضية محرم ـ وهي قضية نموذجية وعديمة النظير في تاريخ الإسلام ـ ثمة محور بارز هو قضية الدعوة. إنها الفرصة التي يستطيع فيها الناس أن يتعرّفوا علی الحقائق الدينية ببركة الدماء الطاهرة التي سفكت ظلمًا.. دماء الحسين بن علي عليه السلام وأهل بيته وأصحابه البررة. هذه إحدى البركات الخالدة لحادثة كربلاء، ولابدّ أن نقدّرها حقّ قدرها.

لقرون عديدة تشهد إيران، بل سائر البلدان المرتبطة بمدرسة أهل البيت في العالم سنّة الدعوة في شهر محرم. الدعوة في عصر لا تسود فيه حاكمية الإسلام تختلف أساسًا مع الدعوة في عصر حاكمية الإسلام. في عصر حاكمية الإسلام تأخذ الدعوة إلى أي قسم من أقسام الدين مكانتها ضمن منظومة إدارة شؤون الناس. أما حين لا تكون ثمة حاكمية للدين فإن تلك الأقسام مفككة ولا ترتبط مع بعضها، ولا تشكل مجموعة كاملة.
الأحكام الفقهية مثلاً يمكن معالجتها بأسلوبين: أسلوب يتجه نحو بيان أحكام الفرد بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه هذا الفرد. وأسلوب آخر يعالج الحكم الفقهي باعتباره جزءًا صغيرًا أو كبيرًا من منظومة إدارة المجتمع.. هذان الأسلوبان متفاوتان حتى في عملية استنباط الحكم الفقهي، بل حتى في مسألة الطهارات والنجاسات والأحكام الشخصية. ليت الفضلاء الواعين يبيّنون تفاصيل هذا التفاوت للباحثين في الحوزة العلمية.
مسألة الأخلاق أيضًا كذلك، حين نتحدث عن الصفح والصبر مثلاً، نستطيع أن نتناول مثل هذه الأمور على الصعيد الفردي والشخصي، ونتناولها تحت عنوان الأخلاق الإسلامية باعتبارها تهذيبًا روحيًا صرفًا، كأن يصبر الإنسان على ما تحلّ به من مصائب. ولكن نستطيع أن نتناول الصبر على الصعيد الاجتماعي باعتباره مقاومة أمام المشاكل والعوائق والموانع التي تواجه المسيرة الاجتماعية. حقيقة الصبر واحدة، الفرق هو الإطار الذي تُطرح فيه.
أساس الفرق بين هذين اللونين من الدعوة، هو أن الدين في ظل حاكمية الإسلام مجموعة من الأمور الحياتية، تندرج تحتها السياسة وإدارة الدولة والعلاقات الخارجية، ومواقف المسلمين تجاه التيارات العالمية، والشؤون الاقتصادية، وكذلك ارتباط الإنسان بأخيه الإنسان، ورعاية الأخلاق في شؤون الحياة المختلفة. الدين هنا منظومة تشمل المسائل الشخصية الفردية، والمسائل الاجتماعية.. المسائل التي يجب إنجازها جماعيًا، والمسائل التي، رغم أنها اجتماعية، يستطيع كل فرد أن ينجزها بمفرده، والمسائل المتعلقة بمصير العالم أو مصير ذلك البلد، حينما نتجه إلى الدعوة، فإننا ندعو إلى كل ذلك.
لاحظوا الفرق بين نوع دعوتنا قبل إقامة دولة الإسلام الإلهية وبعدها. في تلك الحقبة كان يكفي أن نلمّ بالموضوع الذي نبلّغه، وذلك كان كافيًا لأن يصبح الشخص مبلغًا جيدًا، واليوم فإننا إذا لم نكن محيطين بقضايا العالم، أو على الأقل قضايا مجتمعنا لا نكون مبلغين جيدين رغم إحاطتنا بالموضوع الذي نتحدث عنه. لا بدّ أن نعلم ارتباط موضوع حديثنا بقضايا العالم، وبالتيارات العالمية، ولیس الداخلية فقط. ما التيار الذي يقويه حديثنا وما التيار الذي يضعفه، أنه مثل مواجهة حربية. أحيانًا يواجه الفرد عدوًا ويريد أن يدافع عن نفسه، هذا نوع من الدفاع. وأحيانًا يكون ضمن مجموعة تمتد على جبهة عرضها عدة كيلومترات، وهو خلف خندق يريد أن يدافع. هذا دفاع من نوع آخر. تقتضي المصلحة حينًا أن يتقدم، وتقتضي المصلحة حينًا أن يتراجع. يرى الإنسان نفسه أحيانًا أنه يهاجم العدوّ، ثم يظهر له أنه يطلق النار على أفراد جبهته!
منذ إقامة النظام الإسلامي حتى اليوم، كان ثمة أفراد هنا وهناك لا همّ لهم إلاّ تسليط لسان النقد على هذا النظام وحقائقه. هؤلاء مثلهم كمثل من غلبه النوم في خندقه، ثم زحفت القوات إلى الامام واحتلت مواقع العدوّ، وهذا الرجل النائم قد استيقظ الآن، ثم بدأ بإطلاق النار على المواقع التي سيطرت عليها القوات الصديقة ظانًا أن العدوّ قابع هناك! ليس العدوّ هناك بل هم الأصدقاء، لكن الرجل كان قد غلب عليه النوم وغفل عن كل شيء. الغفلة عن المسائل السياسية قد تؤدي أحيانًا إلى مثل هذه النتائج. إلى هذه الدرجة تبلغ حساسية أمور الدعوة.
يُسمع أحيانا من هنا وهناك، أن أفرادًا يدلون بدلوهم ويتحدثون، فيوجّهون ضربة دون أن يعلموا. هذا يعود إلى عدم استيعابهم للأوضاع ولمجريات الأمور السياسية في العالم، ولموقع جبهة الصديق وجبهة العدوّ. لا يعلمون أين تقع جبهة الأصدقاء وأين تقع جبهة الأعداء. لا يكفي أن نتعلم بعض المسائل ونتصدّى لبيانها. قد يتطلب بيان المسألة أسلوبًا خاصًا، إذا لم يُراع هذا الأسلوب قد يؤدي إلى إنزال ضربة. لابدّ من التحلّي بالوعي هذه هي خصوصية أجواء إقامة دولة الحق، في فضاء إقامة دولة الحق مسؤولية كل أهل الحق مضاعفة. حين تقوم الحكومة والنظام الاجتماعي على أساس الدين فإن مسؤولية دعاة الدين مضاعفة. وأساس كل ذلك ـ كما ذكرت ـ هو عدم انفصال الدين عن السياسة.
أعتقد أن هذا هو أكبر فصل في النظام السياسي الإسلامي الذي أحياه الإمام العظيم الراحل. لسنين بل لقرون متمادية، سعى المقتدرون والمهيمنون الظَلَمة إلى إبعاد الدين عن التدخل في شؤونهم متى ما رأوه يطالب بالعدل ويرفض المهادنة والمداهنة. سعوا لقرون أن يثبتوا أن السياسة منفصلة عن الدين. لماذا تخلطون الدين بالسياسة؟! تحدثوا عن الدين فقط! وبرروا كلامهم بدليل خادع. قالوا: الدين أشرف من أن يدخل الساحة السياسية الملوّثة!! نعم السياسة المنفصلة عن الدين ملوّثة، لكن السياسة الدينية مقدّسة كقدسية العبادة الدينيّة.
لعلّ أكبر هجوم شُنّ على الأصول الفكرية لنظام الجمهورية الإسلامية منذ انتصار الثورة الإسلامية حتى اليوم هو الهجوم على مبدأ «عدم انفصال الدين عن السياسة». ثمة هجوم عالمي في هذا المجال لا يزال متواصلاً. يكتبون ويتحدثون في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ليثبتوا أن الدين منفصل عن السياسة. عجبًا! أية قدرة يمتلكها مبدأ عدم انفصال الدين عن السياسة في دحر هيمنة القوى الظالمة حتى يشنوا عليه كل هذا الهجوم؟! وفي الداخل أيضًا هناك مَن يرددون ذلك الكلام كالببغاء . طبعًا بعض هؤلاء قلوبهم منشدّة إلى الأجانب، ويرفضون الدين بأجمعه!
في الأعوام التي توليت فيها رئاسة الجمهورية كنت أعدّ نفسي للسفر إلى بلد خارجي للاشتراك في اجتماع عالمي. أعددت كلمة وحسب العادة ذهبت إلى الإمام الراحل لأرى رأيه في الكلمة، فكتب على الهامش: أدرج موضوعًا يرتبط بعدم انفصال الدين عن السياسة في كلمتك. في البداية استغربت قليلاً، وتساءلت: ما ارتباط قضية عدم انفصال الدين عن السياسة بزعماء البلدان، وبينهم مثلاً مائة بلد غير مسلم؟ مع ذلك امتثلت لأمر الإمام، وكتبت عدة صفحات حول هذا الموضوع. ولكن حينما تعمّقت في الموضوع وتأملت فيه رأيت أن الأمر كما قال الإمام. مجال طرح هذا الموضوع هو المنابر العالمية الكبرى. لماذا؟ لأن الهجوم على هذا المبدأ ينطلق من المنابر العالمية. وعندما ذهبت إلى ذلك المكان، وألقيت كلمتي، وجدت تأثيرها في النفوس. وتبيّنت لي أهمية هذا الكلام. إحياء مبدأ عدم انفصال الدين عن السياسة يوضّح مدى عظمة ما كان يحمله ذلك الرجل الكبير من رؤية وضّاءة.
حينما تكونون مؤمنين بعدم انفصال الدين عن السياسة، فإن أهل الدين يجب أن يكونوا إذن على معرفة بالسياسة، وأن يفهموها، وأن يكونوا فعّالين حيثما كانت الساحة سياسية. وحينما تكون الساحة مجالاً لبيان الأحكام الدينية المحضة فعليهم أن يبينوها. السياسة لا ينبغي أن تؤدي إلى كتمان الأحكام الإلهية. بل بالعكس، السياسة تؤدي بالفرد إلی أن يقدم الأحكام الدينية في أسلوب مؤثر في النفوس مع الالتفات إلى جميع الجوانب. هذا هو معنى الوعي السياسي في أمر الدعوة والتبليغ.

وأشير أيضًا إلى مسألة الانتخابات. عليكم أن تذكّروا الناس بأمرين: الأول أصل المشاركة في الانتخابات. لا ينبغي أن يكون هناك من يغفل عن أهمية الانتخابات. وإن كنت واثقًا أن الشعب غير غافل عن ذلك. لا يجوز أن يكون هناك من لا يعير أهمية للانتخابات. الانتخابات على غاية من الأهمية. انظروا إلى ما يحيطنا من عداء، وانظروا إلى المعايير العالمية السياسية في العالم، وكم كان لحضور الجماهير في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الساحات المختلفة من أثر في المواقف الدولية والقرارات! أنْ يكون النظام قائماً على آراء الجماهير له أهميته البالغة. تأييد الجماهير نفسه له أهميته البالغة. حين يبرز مظهر من مظاهر الحضور الجماهيري على الساحة سواء في الانتخابات أو المسيرات أو الاستقبال الجماهيري لأحد المسؤولين فإن مخططات الأعداء تمنى بالتراجع ولو لمدة على الأقل. واليوم يزداد حضور الجماهير أهمية أكثر من أي وقت من الأوقات بسبب ازدياد تربص الأعداء الدوليين وبطانتهم بالجمهورية الإسلامية. لقد كان لحضور الجماهير أهمية دائمًا، لكن هذه الأهمية تزداد اليوم. ذكّروا الجماهير بهذه المسألة.
المسألة الثانية التي أودّ أن توضحوها للناس هي أن الانتخاب الجيّد والواعي هو أيضًا واجب من الواجبات لا يقلّ عن واجب المشاركة. طبعًا ربّما لا تثمر المساعي عن النتيجة المتوخاة، لكن الناخبين يتحملون مسؤولية السعي للإدلاء بأصواتهم بنحو صحيح. هذا مهم جداً، طبعاً لا يدخل ساحة الانتخابات إلاّ من أيّد صلاحيته مجلس صیانة الدستور. هذا المجلس يوقع تحت أسماء كل من يدخل الساحة ويؤيد صلاحيته. فالكل يمتلكون صلاحية هذه المسؤولية، غير أن أمر رئاسة الجمهورية أكبر من هذا الكلام. لا بدّ من البحث عن الأكثر صلاحية والأكثر أمانة. يجب البحث بين هذا العدد من المرشحين عن الأقدر في إدارة البلاد. هذه المسألة مهمة، وبسبب أهميتها يكتسب التفاضل ـ وإن كان قليلاً ـ أهمية. وهكذا الشأن في الأمور الكبيرة. حين يكون التفاضل بين بضاعتين قليلاً فلا أهمية لهذا التفاضل حين نريد شراء كيلو واحد من إحداهما. ولكن حين يراد ابتياع أطنان من إحداهما فالتفاضل هنا يكتسب أهمية كبيرة. هكذا تكون المشاريع الكبيرة.
رئاسة الجمهورية منصب مهم، إذ إنه يتولى الأمور التنفيذية للبلد خلال مدة طويلة نسبياً أي أربع سنوات. على المواطنين أن يبحثوا ليختاروا الأفضل. الناس (أيها الدعاة) يثقون بكم. الناس يثقون بالعلماء، كلامهم وتشخيصهم يرون فيه حجة عند الله. هذا مهم جدًا، لذلك يجب أن تساعدوا المواطنين بشكل صحيح في هذه الانتخابات. لا يظننّ أحد من العلماء أنه غير مسؤول عن هذه الأمور، قائلاً: الناس هم بأنفسهم يذهبون ويفعلون ما يريدون. وإذا تركنا الاستثناء في هذا المجال فإنكم أيها العلماء تستطيعون مساعدة الناس. الجماهير في هذه القضايا أيضًا تعتمد أكثر ما تعتمد على العلماء. الإنسان بطبيعته يركن إلى شخص أمين. حتى إذا لم يكن هو أمينًا يودع ماله عند شخص أمين. الناس يرون في العلماء أمناء لهم. العلماء مرجع مقبول عند الناس لو ساعدوهم في هذا المجال.
طبعًا أنتم حين توجهون الناس توخّوا أكثر ما يمكن من الدقّة في الاختيار. يجب أن تقولوا ما يمكن أن تجيبوا عنه غدًا عند الله تعالى. عليكم أن تعرّفوا مَنْ تستطيعون أن تقولوا غدًا لله سبحانه: إني أتممت حجتي بهذا التعريف، عدم التدخل خطر، والتدخل بدون حجة خطر أيضًا. لتكن ثمة حجة بينكم وبين الله سبحانه. وانشروا الوعي بين الناس في هذا الأمر، والناس يثقون بكم وهذا طبيعي لأنكم أمناء للناس. اسعوا كي يستطيع الناس بعدد كبير من الأصوات أن ينتخبوا شخصًا لائقًا ومديرًا ومتعبّدًا ومتدينًا ومجرّبًا في إدارة شؤون البلاد. طبعًا لا يتيسر لكم أن تعرّفوا شخصًا غير الذين يصادق عليهم مجلس صیانة الدستور. اختاروا واحدًا من بين هؤلاء المصادق عليهم، ابحثوا بين هؤلاء وعينوا الأفضل حسب المعايير الصحيحة وعرّفوه للناس.
حثوا المواطنين على الاشتراك في الانتخابات، الاشتراك نفسه مهم للغاية أيضاً. لو دار الأمر بين أن يكون عدد المشاركين قليلاً ويحصل الفرد الصالح على تسعين بالمائة من الأصوات، وبين أن يكون عدد المشاركين كثيرًا ويحصل الفرد الصالح على خمسة وخمسين بالمائة من الأصوات، لو دار الأمر بين هاتین الحالتين فإن الحالة الثانية مقدّمة على الأولى. على أي حال يجب أن ينتخب الفرد الصالح، ولكن قلة النسبة المنوية لأصواته في حالة ارتفاع مجموع المشاركين له أهمية أكثر من أن يكون عدد المشاركين قليلاً والنسبة المئوية لأصوات المنتخَب مرتفعة. لذلك حاولوا أن تنهض الجماهير بمسؤوليتها إن شاء الله في هذا الاختبار المهم . وكان الله سبحانه في عونكم.
أسأل الله سبحانه أن يكون قلب الإمام المهدي المنتظر من أعمالكم مسرورًا وأن نكون من المشمولين بدعائه، وأن تمتد يد الغيب لتساعدنا على ما فيه صلاح أمتنا ووطننا ودين الناس ودنياهم بإذنه سبحانه وتعالى.
والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته.