بسم الله الرحمن الرحیم
نسأل الله سبحانه أن يبارك لكم أيها الإخوة و الأخوات و لذويكم العام الجديد، راجين لكم و لشعبنا الكريم عاماً مليئاً بالخير و البهجة و السرور. طبعاً لا أخفيكم أنّ جزءاً من ذلك يقع على عاتقنا، فنحن بسلوكنا و باختيارنا نحدّد مصير حياتنا أتكون مباركة أم غير مباركة. بمعنى أنّ الإنسان باختياره يحدّد مصيره النهائي. فقد أودع الله سبحانه فينا القابلية و الاستعداد «و هديناه النّجدين» (1) على اختيار أحد الطريقين. طبعاً أحياناً تكون الظروف مساعدة فيكون الاختيار سهلاً، لكن في أحيان أخرى تكون الظروف معقّدة فيكون الاختيار صعباً، لكن في النهاية لا بدّ من الاختيار في سائر الأمور.
عندما نكرر ذكر «اهدنا الصّراط المستقيم» (2) في سورة الحمد المباركة يومياً مرات عديدة، فهذا يعني أنّ الصراط المستقيم الذي نسیر فیه ـ على فرض أنّنا عرفنا الصراط و التزمنا به ـ يصل في كل لحظة إلى مفترق طرق. فالصراط ليس نفقاً يدخله المرء و يضمن خروجه من الناحية الأخرى ـ أو كسكة الحديد ـ كلا، فهناك مفترقات طرق عديدة، هناك تقاطعات عديدة تقع على مسير الصراط المستقيم لا بدّ من التعرّف عليها و اختيار الناحية الصواب منها. و هذا هو المراد من (إهدنا) التي نكررها يومياً، أي: اليوم (إهدنا)، و غداً (إهدنا) و بعد غدٍ (إهدنا)، و في هذا الموقف (إهدنا)، و في ذلك الموقف (إهدنا).
و لا نريد هنا أن نعقّد الأمر أو نجعله مستحيلاً، كلا، فالله سبحانه و تعالى قد وضع البيّنات بين يدي الجميع «ذلك ان لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم و أهلها غافلون» (3)، فليس الأمر أنّنا لو افتقدنا وسيلة الهداية و انحرفت مسيرتنا، سيؤاخذنا الباري تعالى أو يعذبنا، كلا، فهو تعالى قد آتى كل نفس هداها. طبعاً هناك موارد تستثنى من هذه القاعدة الكلية، لكن مقتضى القاعدة، قاعدة الهداية الإلهية هو هذا.
أمّا (النوروز) فالمراد به: العام الجديد ـ و أيّاً كانت التسمية فالمعنى واحد، و تسميته بالنوروز تسمية مناسبة على كل حال ـ و هو أمر جيّد للغاية، لأنّ وضع مقاطع أو مراحل زمنية جديدة في مجرى الحياة أمر نافع. فلو استمرّت الحياة بشكل نمطي دون أن يمرّ الإنسان بمراحل أو مقاطع جديدة، فمن الطبيعي أنّه لن يفكر بالتجديد، أو التطوير أو التحديث. لذلك فمن فوائد جعل المقاطع الزمنية في مجرى الحياة هو أن يتأمّل الإنسان و يقول: جيّد، إنّ العام السابق قد انتهى، و بدأنا عاماً جديداً، و العام الجديد يعني عمل جديد، فكر جديد، عزم جديد، دوافع و محفزات جديدة. كما نجد ذلك سائداً لدى مجتمعنا و مجتمعات العالم أجمع، فعندما يحلّ العام الجديد، يرتدي الناس ملابس جديدة، و يجددون منازلهم.. الخ، النوروز إذن يعني حلول مرحلة جديدة.
و الفائدة المرجوّة من وجود مرحلة جديدة، من وجود مقطع زمني جديد هي أن يكتسب الإنسان فرصة للتفكير في أفعاله السابقة و أفعاله المستقبلية، فيقول على سبيل المثال: السنة الماضية انتهت و كانت لدينا المشاكل التالية، فلنبدأ من هذا العام بتلافيها و محاولة الإصلاح. و هذا الأمر يمكن تعميمه على كافة مجالات الحياة.
و برأيي فإنّ أولى القضايا التي تستحق أن يقف عندها المرء و يتأمل فيها، علاقته بالله سبحانه. ففي بدء العام الجديد لا بدّ أنْ يدرك الإنسان أنّ العام الماضي و الذي سبقه من الأعوام قد انقضت بأي نحو من الأحناء، و الآن لدينا مرحلة زمنية جديدة، علينا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالله سبحانه و تعالى، سواء بالجانب السلبي منها أم الإيجابي، و المراد بالجانب السلبي: الإثم. فالإنسان قد اعتاد ارتكاب بعض الذنوب، لدرجة أنّه أصبح لا يعي خطورتها أو غافلاً عنها. لكنّه ما إن يقف و يتأمّل قليلاً حتى يدرك انعكاساتها على سلوكه، طبعاً لا يخفى أنّ الإنسان في الغالب يحسن الظن بنفسه، و نادراً ما يسيء الظن بها. و هذه هي مشكلة الإنسان؛ أنّه قد اعتاد أن يبرّر كل سلوك أو كل فعل من أفعاله، لكن مع ذلك ليس الأمر مستعصياً أو مستحيلاً، فالله سبحانه و تعالى سيحتج علينا، كما أنّه سبق و أن أتمّ حجته. لذلك علينا التأمّل بدقة و بإمعان، و سنكتشف ذلك.
إنّ لقلب الإنسان و لروحه و وجدانه باطناً صادقاً معه، فإذا كان ظاهر القلب مخادعاً فباطنه دون شك صادق معه. ففي أحد المواقف كان إمامنا [الخميني] (رضوان الله عليه) يقول: إنّ باطن قلبي أيضاً لا يحزن من هذا الموضوع. و الواقع كذلك، فللقب باطن نادراً ما نلتفت إليه، و لو التفت الإنسان إليه لوجد نفسه مكشوفاً و مفضوحاً أمام نفسه.
و كما تقدّم فأحياناً يعتاد الانسان على ارتكاب بعض الآثام مستصغراً و محتقراً لها، و بالتالي فإنّ من الأمور التي يمكن فعلها في العام الجديد، هو أن يتأمّل الإنسان في كيفية وضع حد لفعل الموبقات، أي يبدأ بإحصائها و كتابتها.
في العام الماضي أو العام الذي سبقه، و بينما كنت أطالع سيرة الشهيد أفشردي (باقري) ـ أو أحد الشهداء الآخرين ـ لفت انتباهي أنّ ذلك الشهيد كان يدوّن ذنوبه التي صدرت منه مساء كل يوم، و قد ورد هذا أيضاً في وصايا علماء الأخلاق و في بعض الأخبار أيضاً، أي محاولة الإنسان تدوين ذنوبه التي ارتكبها و محاسبة نفسه كل ليلة. فقد كان الشهيد يقوم بذلك. ألا نستطيع نحن أن نكتب رواية عن أنفسنا و من ثمّ نعلن عنها، على الأقل بيننا و بين أنفسنا. لقد كتب الشهيد في مذكراته على سبيل المثال: لقد وجدت نفسي هذه الليلة أنّني ارتكبت ذنوباً عديدة في ذلك النهار.
إنّ محاسبة النفس أمر مفيد جداً. على الإنسان أن يحاسب نفسه، و يبدأ بالحد من ذنوبه واحداً تلو الآخر. فنحن اعتدنا ارتكاب بعض الموبقات ـ أحياناً يعتاد المرء على خمس أو ست أو عشرة ذنوب ـ و لا بدّ من العزم على تركها واحداً تلو الآخر إلى الأبد، لا بدّ من تجنّب نقاط الضعف هذه.
و الأمر كذلك بالنسبة للجانب الإيجابي من الموضوع، و برأيي فلتكن البداية من الصلاة ـ و ذلك لخطورتها و أهميتها ـ فالاهتمام بها يساهم في تذليل الكثير من العقبات و حلحلة المشاكل و الأزمات. و لا بدّ للإنسان أن يأتي بالصلاة تامّة على أحسن وجه و يكون ملتفتاً خاشعاً فيها. و المراد من الخشوع: عدم الغفلة عمّا يقول و عمّا يدور في خاطره، بمعنى أن لا يكون كالذي لا يعي ما يقول. فعلى سبيل المثال أنا جالس أتحدّث إليكم و أنتم تصغون لي فأنتم مخاطبون، و الإنسان عندما يتحدّث لا بدّ أن يعي بأنّ هناك مخاطباً يستمع إليه. و هكذا بالنسبة للصلاة، فلا بدّ أن ندرك بأنّ هناك من نتحدّث إليه و يستمع إلينا. بل يسعني القول: إنّ من لم يدرك مفهوم الصلاة أو لم يع المراد من هذه الكلمة، لكنّه يدرك أنّه واقف أمام الله سبحانه و يتحدّث إليه، فهو حسبه في القربة إلى الله ـ «[الصلاة] قربان كلّ تقيّ» (4) - إنّه لا شك أفضل من حالنا، نحن الذين ندرك معنى الصلاة، و ندرك تفسيرها، و طالعنا حولها كتباً عديدة، لكنّ عندما نقف إلى الصلاة نغفل بالمرةّ عمّا نقوم به، كما يقول الشاعر (صائب) ـ و لا أتذكر نصّ البیت الشعري الآن لکني أتذکر معناه ـ أنت تتذكر في الصلاة كل شيء إلاّ الله سبحانه، بل لو أضعت شيئاً لعثرت عليه في الصلاة.
فالصلاة أمر حسن، و الخشوع ـ أي الالتفات إلى أننّا نتحدّث إلى مخاطب ـ بداية حسنة، و الصلاة في وقتها كذلك، و صلاة الجماعة كذلك، و النوافل كذلك، و هكذا يمكن للمرء أن يوسع قائمة برنامجه اليومية شيئاً فشيئاً. و الأمر يتطلّب قليلاً من الهمّة و العزم و سيكون العام الجديد حافلاً بهذه الخيرات و البركات إن شاء الله.
طبعاً لا يخفى أنّ لكل منّا التزامات أخرى، أعمال، مناسك خاصة في حياتنا فلنحاول جاهدين الارتقاء بها و إتيانها على أكمل وجه و جعلها إلهية أكثر ممّا مضى، و بطبيعة الحال فالآثار التي ستنعكس عنها ستكون مضاعفةً كماً و كيفاً.
نسأل الله أن يمنّ عليكم بالخير و السؤدد، و يبارك لكم جميعاً و لشعبنا العام الجديد بالمعنی الذی أسلفنا ذکره.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة البلد، الآیة 10 .
2 - سورة الفاتحة، الآیة 6 .
3 - سورة الأنعام، الآیة 131 .
4 - نهج‌ البلاغة، الحكمة 134 .