بسم الله الرحمن الرحیم

أهلاً و مرحباً بکم کثیراً أیها السادة المحترمون و الأخوة الأعزاء. هذا اللقاء الذی یقام مرة کل ستة أشهر، فضلاً عمّا له من جوانب قانونیة و ما یتضمنه من مواقف، له بالنسبة لنا میزة أن نلتقی أصدقاءنا و رفاقنا و أعزتنا و أخوتنا الطیبین عن قرب، و هذا شیء مغتنم بالنسبة لی.
و لحسن الحظ جاء اجتماعکم هذا بعد الأجواء الروحیة المعنویة التی عمّت فی شهر رمضان، و لا شک أن هذه الأجواء کانت سائدة فی اجتماعکم، و کما یبدو من التقاریر و قد کنت علی اطلاع قبل ذلک إلی حد ما فإن النقاط التی ذکّر بها السادة کانت نقاطاً مهمة و جیدة، و هذه کلها من مؤشرات الرحمة الإلهیة، و یجب شکر الله علیها.
حینما یلقی المرء نظرة إجمالیة یجد أن شهر رمضان لهذا العام کان بدوره أفضل و أطیب و أکثر نقاء و صفاء من شهور رمضان فی الأعوام الماضیة، و هذا ما نشعر به کل عام و الحمد لله. جلسات تلاوة القرآن، حیث یجلس أحیاناً فی الیوم الواحد ربما ألف شخص أو أکثر، یستمعون تلاوة القرآن. و لیس هذا فی مدینة واحدة أو مدینتین، بل فی الکثیر من مدن البلاد. الواقع أن المرء لا یدری کیف یشکر الله، حیث أصبح البلد البعید عن القرآن و عن تلاوة القرآن و صحبته فی عهد الطاغوت ممتزجاً الیوم هکذا بالآیات الإلهیة الکریمة. یری المرء الشباب و الناشئة یجلسون و یتلون القرآن لمدة ساعة تلاوة لطیفة جزلة صحیحة دقیقة فیها توجّه للمعنی، و الناس یستمعون لهم. و لو لاحظ الإنسان الأمر علی مستوی البلاد لأمکن القول إن مصاحبة القرآن و تلاوته فی شهر رمضان المبارک تحدث بأعداد ملیونیة.
و کذا الحال بالنسبة لجلسات الدعاء. تصوروا أن جماعة ملیونیة تقرأ فی لیالی شهر رمضان و أسحار شهر رمضان دعاء أبی حمزة الثمالی، سواء الحاضرون منهم فی الجلسة أو الذین یصغون للدعاء من التلفزیون و المذیاع، و تخشع أرواحهم، و یبکون و هم فی بیوتهم، هذه لیست أموراً قلیلة، فهی علامات اللطف الإلهی بنا.
ثم یأتی الدور للمشارکة الجماهیریة السیاسیة فی یوم القدس. و هنا أیضاً یری الإنسان ید القدرة الإلهیة التی تجتذب قلوب الناس هکذا و تأتی بهم إلی الشوارع فی الجو الحار و هم صائمون، لیعلنوا وفاءهم للثورة و لمبادئ الثورة و یهتفوا بها.. یأتی الشیخ و الطفل و النساء و الرجال.
ثم یأتی الدور لیوم عید الفطر و صلوات العید.. هذا التضرع و الدعاء الذی یقرأ فی یوم عید الفطر فی کل أنحاء البلاد، و یجتمع الناس و یقرأون الدعاء و یتضرعون، و یطلبون من الله تعالی أسمی المطالیب بحال من التوجّه إلیه و بتضرع.. متی کانت لنا مثل هذه الأحوال؟ متی فی التاریخ - تاریخ القرون و لیس تاریخ السنین - کانت بلادنا مشحونة هکذا بالآیات الإلهیة و کلمات التضرع أمام الله تعالی و الدعاء و التوجّه له و ذکره؟ متی خاض کل الناس فی هذا الوادی؟ لمن یأتون؟ من الذی یریدون أن یراهم؟ لیس هناک عامل و محفز آخر یمکن تصوره هاهنا سوی الإخلاص و الإیمان و الحب و سوی الاعتقاد بالأسس الإسلامیة. هذه کلها بالتالی من موجبات الرحمة الإلهیة: «أللهم إنی أسئلک موجبات رحمتک» (1). هذه هی الأمور التی تجعل شآبیب الفیض الإلهی تهطل علینا.
طبعاً نحن نخطئ، و لا نفهم أحیاناً هذا الفضل الإلهی، و لا نری ید العطف الإلهی التی یظلل بها الله علی رؤوسنا فی القضایا المختلفة. و أحیاناً نخطئ من حیث نتوهم أننا نحن الذین نفعل هذه الأمور، و الحال أننا لسنا من یقوم بها. «لو أنفقت ما فی الأرض جمیعاً ما ألفت بین قلوبهم و لکن الله ألف بینهم» (2).. «قلب المؤمن بین أصبعی الرحمن». من الذین یأتی بهؤلاء المؤمنین إلی هذه الساحات و یجعل قلوبهم متوجّهة إلی الله هکذا؟ لیس سوی الید الإلهیة و القدرة الإلهیة. هذا ما یبث الأمل فی نفوسنا.
لا أرید أن أشرح ما حصل فقط - و نحن نری ما یحصل علی کل حال - إنما أرید أن أستنتج: «هو الذی أیدک بنصره و بالمؤمنین» (3). جعل الله تعالی تأییده إلی جانب نصرة المؤمنین، و المراد هنا حسب الظاهر هو النصرة المعنویة. کما یقول: «إنی ممدکم بألف من الملائکة مردفین» (4)، و أمثال ذلک. «هو الذی أیدک بنصره و بالمؤمنین». المؤمنون هم الذین یوجبون النصرة. المؤمنون هم الذین یبقون النظام قائماً، و المؤمنون هم الذین یمهدون الأرضیات فی المیادین المختلفة حتی یستطیع النظام الإسلامی النهوض بالأعمال الکبری. یجب أن لا نتصور هذا من باب «إنما أوتیته علی علم عندی» (5)، و لا نتصور أننا نحن الذین نقوم بهذا، إنما یقوم به الله. هذه هی النقطة الأولی حیث أعتقد أن شعبنا شعب صالح بتوفیق و لطف من الله. و صلاحهم بوفائهم للإیمان و رسوخ الإیمان فی قلوبهم.
لاحظوا کم هی الوسائل الخاصة بإغواء قلوب الشباب؟ إنها لا تقبل المقارنة بالماضی. هذه الفضائیات و الإنترنت و شتی صنوف وسائل الاتصال.. هذه تسبب الغوایة للقلوب و تجذبها و تخرجها عن الطریق، و تضعف المحفزات المعنویة لدی الإنسان، و توقظ الشهوات لدیه. و رغم کل هذه الأمور فإن هذه المجالس التی أشیر إلیها و رأیتموها معظمها مملوء بالشباب. و أحیاناً قد لا تنمّ ظواهرهم عن أن قلوبهم مرتبطة بالمحبة الإلهیة، لکنهم یأتون و یتحدثون مع الله و یذرفون الدموع. دموعهم تدعو المرء إلی الغبطة. ینظر الإنسان فیری الشباب جالسین هناک و الدموع تجری و تجری علی وجوههم، فیغبطهم لحالهم هذه. هؤلاء قلوبهم طاهرة و نقیة و قریبة من الله، و هذا ما یسبب النصرة. «هو الذی أیدک بنصره و بالمؤمنین».
المسألة التی أروم أن أطرحها الیوم - و سوف أطرحها باختصار إن شاء الله - هی أن الفقه السیاسی لدی الشیعة یعود ماضیه إلی بدایة تدوین الفقه. أی حتی قبل أن یجری تدوین الفقه الاستدلالی فی القرنین الثالث و الرابع - فی عهد الروایات - کان للفقه السیاسی وجود واضح و بیّن فی الفقه الشیعی، و بالإمکان ملاحظة ذلک فی الروایات. الروایة الواردة فی «تحف العقول» و التی تقسم المعاملات إلی أربعة أقسام، أحد الأقسام السیاسة - أما السیاسات - و یذکر هناک بعض المسائل و الأمور. فی هذه الروایة و روایات أخری کثیرة تذکر المؤشرات و العلامات. و روایة صفوان الجمّال المعروفة: «کل شیء منک حسن جمیل إلا إکرائک الجمال من هذا الرجل».. و غیرها من الروایات الکثیرة من هذا القبیل. و بعد ذلک حینما جاء الدور لعصر تدوین الفقه الاستدلالی - عصر الشیخ المفید و ما بعده - یلاحظ الإنسان أیضاً وجود الفقه السیاسی هناک فی أبواب مختلفة تتعلق بأحکام السیاسة و إدارة المجتمع.
إذن، سابقة الفقه السیاسی لدی الشیعة سابقة عریقة، و لکن ثمة شیئاً جدیداً هو تأسیس نظام الحکم علی أساس الفقه. و هذا ما قام به إمامنا الجلیل. لم یعمل أحد قبله علی تأسیس نظام حکم من هذه المعطیات الفقهیة فی أبواب الفقه. أول شخص أسس نظام حکم علی المستوی النظری و علی المستوی العملی هو إمامنا الجلیل الذی أطلق الدیمقراطیة الدینیة و مسألة ولایة الفقیه. علی أساس هذا المبنی قام النظام الإسلامی. و هذه هی التجربة الأولی، و لا نجد نظیراً لهذه التجربة فی التاریخ، لا فی العهد الصفوی و لا فی العصور الأخری. و مع أن أمثال المحقق الکرکی کان لهم دورهم فی العصر الصفوی، لکن لم یکن هناک وجود لمثل هذا النظام الإسلامی و النظام الفقهی. أقصی ما کان هو أن یکون القضاء بید عالم دین فی مستوی المحقق الکرکی بما له من عظمة. شخص مثله یکون رئیس القضات و هو الذی یعیّنهم. و لم یکن أکثر من هذا. لم یکن نظام الحکم و النظام السیاسی للمجتمع علی أساس الفقه. تأسیس نظام الحکم عمل قام به إمامنا الجلیل. و کما أشار سماحة الشیخ مهدوی فی کلمته - و قد اطلعت علی ذلک إجمالاً - فقد جعل الإمام مسألة ولایة الفقیه مسألة استدلالیة و ناقشها فی مدینة النجف، ثم طبقها علی المستوی العملی فکان النظام الإسلامی. هنا توجد نقطتان یجب أن نلتفت إلیهما.
إحدی النقطتین هی أن هناک تحدیاً کبیراً تبدّی دوماً فی طریق صیانة هویة هذا النظام، و هو تحدّ قائم الآن أیضاً و سیبقی فی المستقبل. و التحدی عبارة عن التحدی بین الوفاء للخطوط الرئیسیة للنظام و صیانتها من جهة، و المکتسبات المادیة و المعنویة للنظام من جهة أخری. هذه فکرة تخطر أحیاناً. و ثمة سبب طبعاً لخطور هذه الفکرة، فتلک الأهداف المترتبة علی تلک الأسس لیست أهدافاً سریعة المنال بحیث یمکن تأمینها و تحقیقها بنحو أکید فی غضون عشرة أعوام أو عشرین عاماً. أحیاناً یجب أن تمرّ الأجیال حتی تتحقق الأهداف المرسومة علی أساس تلک الأصول. حینما لا تتحقق هذه الأهداف خلال مدة وسیطة أو قصیرة فقد تعتری النخبة و المسؤولین وساوس تقول لهم ربما کان التزامنا بالأصول هو العقبة دون تحقیق هذه الأهداف. هذا تحدّ کبیر جداً.
أشرت قبل فترة طویلة فی کلام لی إلی أنه من مظاهر عظمة الإمام الخمینی الجلیل صبره فی هذه القضیة. طبعاً کان عهده عهداً قصیراً لم یستمر لأکثر من عشرة أعوام، لکنه فی هذه الفترة أرسی الدعائم و الأرکان بمتانة و إحکام. کان من أعمال الإمام أنه لم یتنازل عن الأسس و الأصول بسبب المشکلات التی قد تعرض سواء علی الصعید الداخلی أو علی صعید التحدیات الدولیة، أی إنه صبر و ثبت. و قد عبرت عن ذلک بصبر الإمام. و صبره کان بمعنی أنه تحمّل و صمد. بمعنی أنه لم یستسلم أمام الضغوط التی تعرض، بل صبر و أصرّ.. ضغوط من قبیل أنک إذا لم تصدر هذا الحکم و إذا لم تطرح قضیة سلمان رشدی، و إذا لم یحصل هذا و لم یحصل ذاک فقد لا نحقق هذه النجاحات أو تلک. و هذا التحدی موجود و قائم إلی الیوم.
قد یتصور البعض أن التزامنا بالأصول جعلنا لا نستطیع تحقیق هذه الأهداف، و هناک إخفاقات علی مستوی الإدارة الداخلیة و علی مستوی القضایا الدولیة تعرضنا للمشاکل و المعضلات، هذا تحدّ مهم، و یجب التعامل معه بذکاء. لا، الصحیح هو أن نتابع الهدفین بموازاة بعضهما و نعلم أن هذین الهدفین منسجمان، أی إن صیانة أصول النظام و أسسه و فی الواقع حفظ هویة النظام من جهة، و من جهة ثانیة تحقیق تلک الأهداف التی رسمها النظام سواء الأهداف المادیة و التقدم المادی و العلمی و المعاشی و الحضاری و ما إلی ذلک أو الأهداف المعنویة کتکریس العدالة و أمور من هذا القبیل، یجب أن نعلم أن هذین الجانبین منسجمان، و لا نستطیع تحقیق تلک الأهداف إلا إذا التزمنا بهذه الأصول، فلا نتخلی عن الأصول بسبب وجود مشکلات فی الوصول إلی تلک الأهداف، و یجب أن لا نقنع بالدرجات الدنیا القلیلة و نعلم أننا إذا تخلینا عن الأصول و حتی لو زالت و محقت هویة النظام فلن نصل إلی تلک الأهداف. و قد شاهدنا نظائر ذلک فی ثورات مختلفة. طبعاً کانت أصولهم أصول باطلة، لکن حالات التنازل عندهم لم تساعدهم علی الإطلاق.
أن نأتی و نطرح قضیة العقلانیة و نقول «عودة الثورة إلی العقل» فهذا ما لا یوصلنا إلی نتیجة. أتذکر فی أعوام بدایة الثورة أنه من الأمور التی کانت تطرح أنه یجب أن نعید الثورة إلی العقل! أی أن یجعلوا العقلانیة ذریعة لیغضوا الطرف عن الأصول و المبانی و الرکائز الأصلیة، هذا شیء یجب أن لا یحصل. «و إن تطع أکثر من فی الأرض یضلوک عن سبیل الله إن یتبعون إلا الظن و إن هم إلا یخرصون» (6). یجب عدم محق الأصول و سحقها. و هذا بالطبع عمل مهم و له تعقیداته و صعوباته و قد یخلق فی بعض الأحیان شکوکاً للنخبة و الخواص. یجب التسلیم لفکرة موضوعیة قاطعة هی أن الالتزام بالأصول و حفظ الخطوط الأصلیة للنظام الإسلامی مبدأ.
و علی هذا الأساس ینبغی السعی لتحقیق التقدم. لقد اختبرنا و جربنا و وجدنا أنه یمکن الحفاظ علی المبادئ و تحقیق التقدم فی الوقت نفسه. البلد الیوم لا یمکن مقارنته ببدایات الثورة من حیث التقدم العلمی و من حیث تقدم التقنیات و من حیث الوعی و النضج السیاسی و من ناحیة تشخیص السبل المتنوعة فی شتی المؤسسات الاقتصادیة و غیرها. لقد تقدمنا کثیراً و حافظنا فی الوقت نفسه علی المبادئ. و إذا قصرنا فی موضع من المواضع تجاه الأصول و المبادئ فیجب أن نتوب من ذلک. ینبغی عدم التقصیر فی المبادئ. کما یجب أن نعلم أن النصرة الإلهیة منوطة بأن نحافظ علی هذه المبادئ و الأصول. هذه نقطة.
النقطة الثانیة التی أذکرها فی هذا الخصوص هی أن تأسیس نظام الحکم - و قد قلنا إن إمامنا الجلیل قد أسس نظام حکم علی أساس المبانی الفقهیة - لیس أمراً دفعیاً فجائیاً، و لیس معنی ذلک أننا اکتشفنا نظاماً علی أساس الفقه و برهنا علیه و وضعناه علی الساحة و انتهی الأمر، لا، لیس الأمر کذلک. تأسیس النظام و إیجاده أمر جار و یجب أن یُستکمل و یُتمّم یوماً بعد یوم. قد نکون أخطأنا فی موضع من المواضع، لکن المهم أن نصحح أنفسنا علی أساس ذلک الخطأ. هذه من تتمات إیجاد النظام. و لیس معنی هذا أن نهدم الماضی، فحین نقول إن صناعة النظام و إیجاده عملیة مستمرة لیس معنی ذلک أن نهدم کل ما بنیناه و شیّدناه، فنخرب مثلاً دستورنا و نضیّع دولتنا و نظام الحکم عندنا، لا، نحافظ علی ما شیدناه و أنجزناه و نرفع نواقصه و نکمّله. هذه العملیة عملیة لازمة.
أنا أتصور أن بعداً مهماً من الإطلاق الذی ضمّه الإمام الخمینی لولایة الفقیه - حیث لم یکن فی الدستور فی بدایة الأمر حالة الإطلاق بل أضافها الإمام الخمینی - یتعلق بهذه المسألة، أی المرونة. جهاز الولایة - و جهاز الولایة العظیم یعنی فی الواقع مجموعة الأجهزة المسؤولة عن اتخاذ القرارات و صناعتها و علی رأسها القیادة، لکنها مجموعة کبیرة - یجب أن یستطیع التقدم و التحول دائماً لأن التحول من سنن حیاة الإنسان و التاریخ البشری. و إذا لم نبادر إلی التحول بأنفسنا و لم نتقدم فإن التقدم سوف یُفرض علینا. التحول یعنی الاستکمال و السیر صوب ما هو أصح و أکمل. و هذا یعنی أن نلاحظ ما هی نواقص الشیء الذی شیدناه فنرفعها. هذا سیاق یجب أن یستمر.
طبعاً، أخذ الأعداء «الولایة المطلقة» بمعنی الاستبداد، أی میول الفقیه العادل کما یشاء. و هذا المعنی متناقض فی داخله، فإذا کان عادلاً لن یمکنه أن یکون مستبداً، و إذا کان مستبداً یعمل بما یحلو له فهو غیر عادل. الأعداء لا یلتفتون لهذا و لا یفهمون هذا المعنی. لیست الولایة المطلقة بمعنی أن یفعل الفقیه کل ما یحلو له، و یعمل بشیء یخطر بباله و یری أنه یجب أن یفعله.. لیست القضیة هکذا. القضیة هی أن هناک حالة مرونة بید القیادة الأصلیة للنظام تستطیع بواسطتها تصحیح المسیر و إصلاحه و ترمیم البناء إذا اقتضت الضرورة.
بالطبع یوجد هنا خطر ینبغی الحذر منه، و هو أن نتصور أن هذه المرونة یجب أن تکون بتأثیر من الضغوط الخارجیة و التغییر باتجاه المیل للقوالب الغربیة. یعترضون علینا بخصوص مسألة القصاص و یمارسون ضغوطهم، و یمارسون ضغوطهم فی قضیة الدیات، و یضغطون علینا فی قضایا عدیدة و مسائل مختلفة، لذا یجب أن نستسلم.. و تکون المرونة بهذا المعنی، لا، هذا انحراف و لیس مرونة. ینبغی التنبّه إلی أن الآیة الشریفة «و إن تطع أکثر من فی الأرض» جاریة ساریة هنا أیضاً. یجب أن لا نعید النظر من أجل التأقلم مع العالم بسبب أن الإذاعات الأجنبیة و الإعلام المعادی و غرف عملیات العدو المشمّر عن ساعدیه ضد النظام الإسلامی تعترض علی الحکم الفلانی أو علی الأساس الفلانی و ترفع صوتها ضده، لا، هذا خطأ و انحراف، و یجب عدم الوقوع فی هذا الانحراف.
و فی الوقت ذاته توجد مسائل جدیدة مستحدثة. ثمة فی المجال الاقتصادی مسائل جدیدة. فقد أوجدنا مثلاً البنک الإسلامی، و هناک حالیاً مسائل جدیدة فی خصوص المال و البنوک یجب حلها، و یجب أخذها بنظر الاعتبار فی إطار البنک الإسلامی اللاربوی. من الذی یجب علیه النهوض بهذا؟ الفقه هو الذی یتکفل بهذه المهمة. و یجب أن أقول هنا طبعاً إن حاجتنا إلی کراسی البحث الفقهی الحرّ فی حوزات قم - و هی أهم الحوزات - لم تتحقق بعد. أقول هذا الآن هنا، و ثمة بعض السادة تفضلوا بالمجئ من قم، و هو أن هذه الحاجة لم تسد و لم تلبّ. فی قم یجب أن تکون هناک دروس بحث خارج استدلالیة قویة خاصة بفقه الدولة، حتی تتجلی لنا المسائل الحکومیة الجدیدة و التحدیات التی تعترض طریق الدولة و المسائل المستحدثة یوماً بعد یوم من الناحیة الفقهیة، و تتضح و تبحث فی إطار دراسات فقهیة متینة، ثم تصل هذه البحوث للمثقفین و النخب فی الجامعات و غیر الجامعات لیحولوها إلی نتاجات یمکن الاستفادة منها من قبل الرأی العام و الطلبة الجامعیین و الشعوب الأخری. هذه مهمة یجب تنفیذها و القیام بها فنحن بحاجة لها. و حصیلة هذه البحوث العلمیة یمکن أن تعرض علی الشعوب و النخب فی البلدان الأخری لیستفیدوا منها.
لاحظوا الآن أنه خلال فترة ثمانیة أشهر سقطت أربعة أنظمة فی واحدة من أهدأ مناطق العالم و أکثرها صمتاً أعنی شمال أفریقیا و أطرافها و الجزیرة العربیة. أی إن أربعة دکتاتوریین متشبثین بالکراسی و معتمدین علی الغرب و أمریکا سقطوا. فی مصر و تونس و لیبیا و الیمن. هذا حدث علی جانب کبیر من الأهمیة. لقد قلتها و أقولها مرة أخری، إننا لا نستطیع الآن تصور أبعاد عظمة هذا الحدث بصورة صحیحة. لقد حدث شیء کبیر جداً. و الشعوب هنا تتعرض لأحداث، منها - و هذا ما سیحدث إن شاء الله - أن تستطیع النخب الدینیة للشعوب أن تمسک بزمام أمور هذه الشعوب، و ترسم للجماهیر الطریق الصحیح النابع من الإسلام و من الشریعة و من الاحتیاجات المحلیة و الإقلیمیة.. هذا هو أفضل السبل. و لکن کم هو احتمال أن یحدث هذا؟ الإنسان یشعر هاهنا بقلق شدید.
و الاحتمال الآخر هو أن یعود من الشباک الذین خرج عملاؤهم من الباب. أن یمهِّد نفس أولئک الذین دعموا الدکتاتور لمدة ثلاثین عاماً مقابل الإسلام و مقابل حرکة الشعب المصری المناهضة للصهیونیة، أن یمهدوا الأرضیة لدکتاتوریة أخری. و الدکتاتور لا یقول فی البدایة إننی دکتاتور، إنما یضفون علیه شکلاً معیناً، و لدیهم أجهزتهم الإعلامیة، و لدیهم الأموال و الإمکانیات، و لا شک أن لدیهم مرتزقتهم و عملاؤهم. إذن من مواطن القلق أن یأتوا مرة أخری و یفرضوا أنظمة مستلهمة تماماً من الغرب. هذا خطر کبیر علی هذه البلدان أن یأتوا باسم الدیمقراطیة و باسم الحریة و ما إلی ذلک و یفرضوا أنظمة غربیة. و هناک صنوف شتی من الأخطار هنا.
الشیء الذی بوسعه أن یعین هذه البلدان هنا هو التفکیر الدیمقراطی الدینی. الدیمقراطیة الدینیة و هی من ابتکارات إمامنا الجلیل یمکن أن تکون وصفة لکل هذه البلدان، إنها دیمقراطیة، و نابعة من صمیم الدین.
طبعاً قد لا یکون بعض فقهاء أهل السنة - سواء الفقهاء الشافعیون فی مصر، أو المالکیون فی بلدان أخری من هذه المنطقة، أو الحنفیون فی بلدان أخری - من القائلین بولایة الفقیه، لا بأس، نحن لا نرید أن نعرض علیهم بالضرورة مبنانا الفقهی أو نصرّ علیه، فقد تتخذ الدیمقراطیة الدینیة أشکالاً متنوعة. علینا أن نشرح لهم و نفهمهم هذا المبنی للدیمقراطیة الدینیة، و نقدمه لهم کهدیة. و من الأکید أن هذه الشعوب سوف ترتاح للدیمقراطیة الدینیة. هذه مهمة تقع علی عواتقنا، و یجب أن ننهض بها، حتی لا ینتهز أعداء هذه الشعوب الفراغات و الثغرات الموجودة. یجب ملء هذه الفراغات بالإسلام.
نتمنی أن یوفقنا الله تعالی لنستطیع أولاً معرفة واجباتنا، و ثانیاً أن نعمل بها علی أحسن وجه إن شاء الله.
و السّلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته‌.

الهوامش:
1 - مفاتيح الجنان، تعقيبات صلاة الظهر.
2 - الأنفال: 63 .
3 - الأنفال: 62 .
4 - الأنفال: 9 .
5 - القصص: 78 .
6 - الأنعام: 116 .