17/05/2011 م
بسم الله الرحمن الرحیم
شکراً جزیلاً للحضور المحترمین الإخوة و الأخوات الأعزاء، و کذلک القائمین علی هذا الملتقی العمیق المفید، و خصوصاً الدکتور السید واعظ زاده الذی أدار الجلسة بصورة جیدة. شکراً لکم لأنکم باجتماعکم هذا وفرتم الفرصة لطرح هذه البحوث التی سوف تستمر إن شاء الله. و أحمد الله تعالی العزیز الحکیم الذی منّ علی الجماعة الحاضرة هنا و المسؤولین و العاملین فی إقامة هذا الملتقی بالفراغ و الأمن و الإمکانیات و الحیویة لیستطیعوا النهوض بهذه المهمة. لو لا لطف الله، و لو لا فراغ بال المفکرین و الأساتذة لما أتیحت هذه الفرصة للنظام. إنها فرصة مهمة وفرها الله تعالی لنا و له الحمد.
ما حصل فی هذا الملتقی الیوم هو بدایة، و نسعی بتفاؤل إلی أن تستمر هذه البدایة استمراراً لائقاً و تکون لها نهایة مبارکة. أشعر أن فی البلاد إمکانیات و طاقات بشریة واسعة لمتابعة هذا الموضوع - أعنی موضوع العدالة - و الوصول به إلی غایته.
و الخبراء الحاضرون فی هذه الجلسة هم فی رأینا شرکاء هذا النقاش. و لا شک أنه یوجد فی أنحاء البلد و فی الجامعات و فی الحوزات العلمیة و فی مراکز البحث الواسعة القائمة فی البلاد لحسن الحظ أشخاص و خبراء لهم فی هذا الموضوع بحوثهم و دراساتهم، أو لدیهم الاستعداد لتقدیم بحوث. إننا نعتبرهم شرکاء فی هذا النقاش.
موضوع العدالة یجب أن یتحول إلی خطاب نخبوی. یجب أن نتابع هذه المسألة و لا نترک هذا الموضوع، فالأرضیة واسعة و الحاجة شدیدة، و قد کانت جوانب من هذه الحاجة ملموسة فی کلمات بعض الأعزاء. هذه البحوث التی قدمتموها و تلک التی ستظهر فی المستقبل إن شاء الله حصیلتها للجیل الحالی و للأجیال القادمة حصیلة قیّمة و الحاجة إلیها شدیدة ماسّة. و ربما کان من اللازم بعد ذلک الاستفادة من الخبراء فی العالم الإسلامی. ربما کان فی البلدان الأخری خبراء یمکن أن یمدّوا لنا ید العون فی التلخیص النهائی لموضوع العدالة و الوصول به إلی غایته.
لقد سررت و فرحت لشعوری بأن الأعزاء أولوا أهمیة لبحوث و طروحات بعضهم. مجال الاعتراضات و تسجیل الإشکالات الذی أدرجه الدکتور السید واعظ زاده فی هذه الجلسة یبدو لی أنه من أمتع الأشیاء و أکثرها جاذبیة، و دلیل علی أن الحضور أولوا البحوث المطروحة اهتماماً. هذه عملیة تفضی إلی التکامل. لکم کلکم آراء و نظرات، و قد فکرتم فی هذه المقولة و سوف تفکرون أکثر، و لکن حین تجتمعون فی مثل هذه المجموعة و تتبادلون الآراء و النظرات مع بعضکم فإن ما فکرنا به سوف یتعمق و یتسع و یکون أکثر شمولاً، و سوف یصل بنا فی النهایة إن شاء الله إلی الغایة المنشودة و النقطة النهائیة، و هذا ما سأشیر له.
لن أخوض فی المحتوی، فقد بدأ البحث فی المحتوی علی أیدیکم الیوم، و یجب إن شاء الله أن یستمر فی هذا المرکز الذی أشار له السید واعظ زاده، و ستکون تلک النتیجة النهائیة للمحتوی حصیلة و خلاصة للأفکار و النظرات و النتاجات الفکریة للعلماء و المفکرین. إذن، لن أخوض فی تلک المسألة، إنما أرید أن أطرح فقط جملة من النقاط.
إحدی النقاط هی أن العدالة کانت همّاً دائمیاً و تاریخیاً للبشریة. و تبعاً للشعور بالحاجة للعدالة الذی خالج البشریة دوماً علی طول التاریخ و إلی الیوم خاض المفکرون و الفلاسفة و الحکماء فی هذه المقولة و کانت من همومهم. و علیه جری النقاش و أطلقت النظریات منذ أقدم عصور التاریخ و إلی الیوم حول العدالة و العدالة الاجتماعیة بهذا المعنی العام، لکن دور الأدیان کان استثنائیاً. أی إن ما قالته الأدیان علی مرّ الزمان حول العدالة و ما أرادته و ما اهتمت به کان استثنائیاً و منقطع النظیر. فی آراء الحکماء و المفکرین لا یلاحظ علی الإطلاق ذلک الاهتمام الذی أبدته الأدیان.
أولاً بشهادة القرآن جعلت الأدیان العدالة هدفها: «لقد أرسلنا رسلنا بالبینات و أنزلنا معهم الکتاب و المیزان لیقوم الناس بالقسط» (1). لا مراء أن هذه الآیة تحکم بأن الهدف من أرسال الرسل و إنزال الکتب و الإتیان بالبینات - أی الحجج المتقنة و التی لا تقبل الشک التی یعرضها الأنبیاء؛ الکتاب یعنی میثاق الأدیان بخصوص المعارف و الأحکام و الأخلاق؛ و المیزان بمعنی المعاییر و المقاییس - هو القیام بالقسط، «لیقوم الناس بالقسط». و لا ریب أن القیام بالقسط و کل ما یتعلق بالحیاة الدنیویة و الاجتماعیة و الفردیة للأفراد هو مقدمة لذلک الهدف من الخلقة: «و ما خلقت الجنّ و الأنس إلا لیعبدون» (2)، أی العبودیة. بل إن الهدف من الخلقة أساساً هو أن یکون الإنسان عبداً لله، و أسمی الکمالات هو هذه العبودیة لله. لکن فی الطریق للوصول إلی ذلک الهدف الذی نشدته النبوات و أرسل الرسل من أجله هناک هدف صرحت به هذه الآیة. و طبعاً توجد تصریحات أخری فی الآیات القرآنیة تشیر إلی سائر الأهداف المنشودة من أرسال الرسل، و هذه الأهداف ممکنة الاجتماع مع بعضها. إذن، الهدف هو العدالة. الهدف المنشود من تأسیس أنظمة الحکم و قیام الحضارات، و الهدف من مسیرة الإنسانیة فی البیئة الاجتماعیة هو العدالة. هذا غیر موجود فی أیة مدرسة أخری، إنما هو شیء خاص بالأدیان.
السمة الأخری فی الأدیان هی أن الأنبیاء علی امتداد التاریخ کانوا إلی جانب المظلومین، أی إنهم قاتلوا عملیاً من أجل العدالة. لاحظوا أنه جری التصریح فی القرآن الکریم بأن الأنبیاء واجهوا الطواغیت و المترفین و الملأ، و کل هؤلاء من الطبقات و الشرائح الظالمة. المترَف و المترِف ینطبق من جهتین علی شریحة خاصة، و کلاهما صحیح. طبعاً ما یوجد فی القرآن الکریم هو المترَفین، لکن المترِف صحیح أیضاً. المترَفون یقفون بوجه الأنبیاء، «ما أرسلنا فی قریة من نذیر إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به کافرون» (3). ما من نبی لم یقف المترفون بوجهه. أی إن النبی یحارب المترفین. و کذا الحال بالنسبة للملأ. الملأ هم أصحاب القوة و القدرة. و الطاغوت معنی عام یشمل کل هؤلاء. و هکذا فإن الأنبیاء یقفون فی الصراع بین الظالم و المظلوم إلی جانب المظلوم دوماً، أی إنهم یخوضون غمار الساحة و یحاربون من أجل العدالة. هذا أیضاً شیء منقطع النظیر.
لقد تحدث الحکماء عن العدالة، لکنهم فی کثیر من الأحیان کالکثیر من المثقفین الذین یتحدثون إلا أنهم علی المستوی العملی لا یخوضون غمار الساحة. لقد شهدنا مثل هذا خلال فترة النضال و الکفاح، و شهدناه بعد ذلک خلال فترة الدفاع المقدس، و نشهده إلی الیوم بدرجات متفاوتة. الأنبیاء لم یکونوا هکذا. کان الأنبیاء یخوضون الساحة و یجعلون صدورهم دروعاً، و حتی عندما یقول لهم المترفون لماذا تناصرون الطبقات المظلومة، و خیر لکم أن تترکوهم، کانوا یرفضون ذلک و یتصدون لهم. و هذا ما تشیر له الآیة القرآنیة الشریفة «و لا أقول للذین تزدری أعینکم لن یؤتیهم الله خیراً» (4)، التی تستعرض جواب النبی نوح لمعارضیه. و علیه کان المحرومون من العدالة من أول الذین یلتفون حول الأنبیاء.
النقطة الثالثة هی أن جمیع الأدیان متفقة علی أن نهایة هذه المسیرة التاریخیة العظیمة نهایة مفعمة بالأمل بتحقق هذا العدل. أی إن الأدیان تقول بقطع إن عصراً سوف یأتی هو عصر العدل، و هو زمن استقرار و تکریس الدین الکامل. جاء فی الدعاء بعد زیارة آل یاسین الشریفة: «یملأ الله به الأرض قسطاً و عدلاً - أو عدلاً و قسطاً، و التعبیر مختلف فی مواضع عدة - کما ملئت ظلماً و جوراً». و جاء فی موضع آخر: «بعد ما ملئت ظلماً و جوراً». کل الأنبیاء و کل الأدیان و کل النبوات تشیر إلی هذه النهایة و تشدد و تصرّ علیها، و تقول إننا سائرون نحوها. إذن النبوات تؤکد علی العدل فی المبدأ و فی الطریق و فی النهایة ، و هذا ما لا نظیر له.
النقطة الأخری هی أن العدالة کان و لا یزال لها فی ثورتنا الإسلامیة - و هی حرکة دینیة - مکانة ممتازة بطبیعة الحال. فی شعارات الجماهیر و فی دستور البلاد و فی کلمات الإمام الراحل (رضوان الله علیه) و فی الخطابات الموضعیة فی أزمان مختلفة و فی مختلف المناسبات فی الجمهوریة الإسلامیة تلاحظ هذه المکانة الممتازة. مثلاً فی فترة الدفاع المقدس حیث کانوا یأتون و یضغطون و یرفعون شعارات السلام من أجل إخراج الجمهوریة الإسلامیة من الساحة، هناک رفعت الجمهوریة الإسلامیة شعار «السلام العادل». السلام لیس قیمة مطلقة، إنما هو قیمة نسبیة. مرة یکون السلام حسناً و مرة یکون قبیحاً و القتال هو الحسن. أما العدالة فلیست کذلک. العدالة قیمة مطلقة. لیس لدینا موطن تکون فیه العدالة قبیحة. و قد کانت هذه القیمة مطروحة فی الجمهوریة الإسلامیة و علی رأس أولویات و هموم النظام الإسلامی منذ بدایة الثورة. و علی صعید تطبیق العدالة أنجزت للإنصاف الکثیر من الأعمال لکنها غیر مرضیة. بعض الأعزاء قدموا فی ما یخص الأعمال التی أنجزت معلومات و إحصائیات جیدة، و ربما کانت معلوماتی بخصوص الأعمال التی تمّ إنجازها أکثر، فأنا أدری أنه تمّ إنجاز أعمال کبیرة و واسعة منذ بدایة الثورة، لکنها لیست مرضیة علی الإطلاق. فما نحتاج إلیه و ما نسعی إلیه هو الحد الأعلی من العدالة و لیس الحد المقبول، لا، إننا نسعی للعدالة فی درجاتها العلیا القصوی، و نروم أن لا یکون هناک ظلم فی المجتمع. و أمامنا مسافة طویلة حتی تلک المرحلة. إذن، یجب أن نبذل الجهود و المساعی للوصول إلی تلک المرحلة.
و ما یجب أن أقوله تتمة لهذا الکلام هو إننا نخوض الیوم فی النقاش حول العدالة - فالعدالة موضوع هذا الملتقی - استمراراً لذلک الهمّ الأساسی، و لا یعنی هذا إننا لم نعرف العدالة طوال کل هذه الأعوام، أو أن نظام الجمهوریة الإسلامیة لم یکن له علی الإطلاق تعریفه للعدالة و لم یتحرک باتجاه العدالة، لا، کانت هناک تعاریف إجمالیة و کلیة و حدود متیقنة، و قد کان الجمیع علی معرفة بها، و تم إنجاز الکثیر من الأعمال فی هذا الخصوص کما ذکرنا. لکننا الیوم حینما نطرح هذه الأفکار أولاً لأننا نرید أن تکون العدالة خطاباً حیّاً و حاضراً دوماً فی الساحة. یجب أن یکون عنوان العدالة و قضیة العدالة عنواناً و مسألة أصلیة بین النخبة و بین المسؤولین و بین الناس، و خصوصاً بین الأجیال الصاعدة، و أن تطرح بصورة مستمرة دائمة. هذا من أهداف هذا الملتقی، و من غایات إثارة موضوع العدالة فیه.
و المسألة الأخری هی أننا إذا أردنا تقلیل المسافة بین ما نریده من العدالة و ما یجب أن یکون، و بین الواقع الکائن حالیاً، فیجب أن نتوفر علی الأسالیب و السبل الجدیدة المؤثرة. یجب أن نعلم ما هی الأسالیب العملیة للعدالة، أی أن نعتبر مرحلة الاختبار و الخطأ قد انتهت و مضت. فی هذه الأعوام الثلاثین کانت ممارساتنا فی الکثیر من الأحیان ضمن إطار الاختبار و الخطأ، سواء فی العقد الأول بما کان فیه من میول - و هذا ما أشار له بعض الأعزاء - أو بعد ذلک حیث الموقف المقابل فی العقد الثانی، و خلال کل ذلک کانت هناک أسالیب و اتجاهات متنوعة. و لم یعد من الصالح أن نعمل بهذه الطریقة. یجب أن نجد الأسالیب المتقنة المبتنیة علی تعاریف متقنة و نشخصها و نرکز علیها و نسیر وفقها.
و الناحیة الثالثة هی أن البلد الیوم یسیر فی طریق التقدم علی شکل قفزات واسعة، و هذه حقیقة قائمة. لحسن الحظ فإن مسیرة البلاد صوب التقدم - بالمعنی العام للکلمة - حرکة سریعة. فللحق، لا یمکن مقارنة الحاضر بما کان علیه الماضی قبل عشرین عاماً. حرکتنا نحو التقدم الیوم علی شکل قفزات واسعة. و فی الظروف التی تتوفر فیها مثل هذه القفزات نحتاج إلی قرارات کبری. یجب اتخاذ قرارات کبری. و إذا غفلنا عن عنصر العدالة فی مثل هذه القرارات الکبری فلن یمکن حصر الأضرار و الخسائر التی ستنجم عن ذلک. لذا یجب الاهتمام بالعدالة الیوم علی نحو خاص و مضاعف. و ینبغی خصوصاً إیضاح العلاقة بین التقدم و العدالة.
و قد أشاروا إلی أن هناک فکرة إنشاء مرکز لمتابعة نموذج التقدم، و أن مقدمات الأمر و تمهیداته قد أعدّت، و سوف یعمل هذا المرکز بجد إن شاء الله، و ینبغی متابعة موضوع العدالة هناک أیضاً.
النقطة الأخری هی أن ما نروم الوصول إلیه فی المرحلة النظریة هو نظریة إسلامیة أصیلة حول العدالة. طبعاً ینبغی مراجعة المصادر الإسلامیة بنظرة تجدیدیة و إبداعیة، و استخراج هذه النظریة من المصادر الإسلامیة ضمن أطرها العلمیة و الفنیة الخاصة بها و التی أشار لها بعض الأعزاء. لدینا فی باب الاستنباط أسالیب و مناهج علمیة دقیقة جداً تم اختبارها و تجربتها، و یجب الاستفادة من هذه الأسالیب و المناهج. إذن، فی مرحلة النظریة و بناء النظریة یجب استخراج نظریة الإسلام الأصیل حول العدالة من المصادر و النصوص الإسلامیة. ما أرید التشدید علیه هو أننا لا نروم إیجاد نظریة و إنتاجها عن طریق المونتاج و رصف عدة نظریات متنوعة لمفکرین و حکماء کانت لهم آراؤهم فی هذا الباب. أی یجب علی هذا الصعید الامتناع بجد عن الحالة الانتقائیة و الحؤول دونها. لقد وقعنا فی أخطاء فی حالات متعددة. و انزلقنا إلی مستنقع الانتقائیة دون أن نقصد ذلک أو نریده. و الخروج منه سیکون صعباً جداً. لا، یجب أن نبحث بحق فی المصادر الإسلامیة، و هذه المصادر کثیرة و قد أشار لها الأعزاء. ثمة فی القرآن الکریم و فی الأحادیث و فی نهج البلاغة و فی الکتابات الفقهیة و الکلامیة و الحکمیة بحوث کثیرة یمکنها جمیعاً أن تکون مصادرنا فی العثور علی النظریة الإسلامیة الأصیلة.
و بالطبع فإن هذا الأمر کغیره من الأمور یمکن أن یکون التعرف فیه علی نظریات الآخرین عوناً لنا فی فهم النصوص الإسلامیة. هکذا هو الحال فی کل مسألة و فی کل مکان، هکذا هو حتی فی بحوثنا الحقوقیة و الفقهیة. حینما نتعرف علی رؤیة أجنبیة و یکتسب ذهننا الاتساع اللازم سوف نستطیع الاستفادة من مصادرنا الإسلامیة بصورة أفضل و أکمل. و هنا أیضاً یدور الأمر علی نفس الشاکلة. لکننا ینبغی أن نسعی للوصول إلی النظریة الإسلامیة الأصیلة و نتجنب الانتقائیة. و طبعاً من البدیهی أننا حینما نقول إن النظریة الإسلامیة یجب أن تکون خالصة و أصیلة فالسبب هو أن قضیة العدالة قائمة علی أرکان و أسس وجودیة و معرفیة، و إذا أردنا الاعتماد علی النظریات الغربیة - و هی السائدة غالباً - نکون فی الواقع قد اعتمدنا علی أسس فلسفیة لا نرتضیها و لا یمکننا قبولها، و هی نظریات فی باب الوجود.
و النقطة المتمِّمة لهذه النقطة هی أن الرؤیة الإسلامیة للعدالة تختلف أساساً عنها فی النظم و النظریات الغربیة. العدالة فی الإسلام ناتجة عن الحق کما أشار الأعزاء - و لحسن الحظ طرحت آراء جیدة فی هذه الجلسة تکفینا مؤنة المزید من الإیضاح و التوسع فی الکلام - أضف إلی ذلک أن هناک «ینبغیات» فی العدالة، أی إن العدالة و العمل بالعدالة من وجهة نظر الإسلام واجب إلهی، و الحال أنها لیست کذلک فی المدارس الغربیة. تطرح العدالة فی المدارس الغربیة بأشکال متعددة - فی الاشتراکیة بشکل، و فی اللیبرالیة بشکل - و بکل التطورات و الأشکال المختلفة الموجودة فی هذه المدارس. و لا توجد فی أیٍّ منها نظرة جذریة أساسیة للعدالة قائمة علی القیم المبدئیة کما هو فی الدین و الإسلام.
و نقطة أخری هی أننا نحتاج فی میدان الفکر و التنظیر إلی تعدد الآراء و تضارب الأفکار. حینما نقول إننا یجب أن نصل إلی نظریة إسلامیة و نکتشف النظریة الإسلامیة الأصیلة فهذا یقوم علی مقدمات طویلة و واسعة نسبیاً. و أهم هذه المقدمات هی أن تتضارب آراء المفکرین و تطرح وجهات نظر مختلفة، و هذا أمر ضروری، و یمثل الحراک و الحیویة العلمیة. یجب أن لا یکون هناک تصور بأن لدینا أحکاماً و آراء مسبقة، و لدینا شیء نقصده مسبقاً، و نروم الوصول إلیه لا غیره، لا، بل نرید أن نعرف الحق و الصحیح عن طریق تضارب الآراء. إذن، تضارب الآراء شیء لازم، و لیس له حدّ یقف عنده. أی بعد أن نصل إلی الرؤیة النهائیة و المختارة فی هذه البرهة من الزمن، یبقی المجال مفتوحاً لآراء جدیدة و نظریات جدیدة و نقاط جدیدة تطرح فی المستقبل، لا مانع من ذلک أبداً. و لکن هناک بالتالی حاجة للوصول إلی محصلة قویة متینة تقوم علیها التخطیطات و البرامج طویلة الأمد فی البلاد.
تضارب الآراء و الأفکار ضروری، لکن إدارة البلاد تحتاج بالتالی إلی الوصول لمحصلة و نتیجة متینة و متقنة و مبرهنة حول العدالة الاجتماعیة یمکن علی أساسها وضع الخطط و البرامج طویلة الأمد. طبعاً بعد أن نصل إلی هذه المحصلة تبدأ تارة أخری بحوث جدیدة من أجل العثور علی الأسالیب، أعنی البحوث العملیة التطبیقیة. لاحظت الیوم أن بعض البحوث المطروحة ترتبط بالأمور التطبیقیة - و هذا حسن جداً - و مدیات هذا الأمر واسعة جداً. أی إننا بعد أن نصل إلی نظریة متقنة و منتظمة بخصوص العدالة تبرز عندئذ الحاجة إلی بحوث عملانیة من أجل العثور علی أسالیب التطبیق فی المجتمع، و هذا ما یتمخض عن بحوث کبیرة الحجم. و هنا نستطیع أن نستفید من التجارب البشریة.
أوافق ما قاله أحد السادة بأن الأسالیب تتأثر بالأهداف - لا ریب فی هذا - لکن هذا لا یعنی أننا لا نستطیع الاستفادة من أسالیب الآخرین و تجاربهم، لا، لا مراء أننا نستطیع الاستفادة منهم. فی طور البحوث العملیة یأتی الدور للاستفادة من تجارب الآخرین. فی مجال البنوک مثلاً أو فی مجال آخر یتعلق بالقضایا الاقتصادیة أو فی المجالات الاجتماعیة بشکل آخر، أو فی القضایا القضائیة بصورة أخری هناک تجارب مرّت بها شعوب لمدد معینة و تبینت الآثار، یمکن طبعاً الاستفادة من ذلک، لا إشکال فی هذا أبداً. علیه یجب الاستفادة من تجارب الآخرین.
نقطة أخری هی أن من أهم الأمور فی المجال النظری أن نطرح بحوث العدالة کفرع علمی واضح المعالم فی الحوزات و الجامعات، و هذا شیء غیر متوفر حالیاً لا فی الحوزة و لا فی الجامعة. لا إشکال فی أن تکون مسألة العدالة من المسائل التی یبحثها الفقیه بمنهج فقهی. و قاعدة العدل و الإنصاف التی أشار إلیها السادة یجب أن تنقّح، و هی الآن غیر منقحة. و السبب فی عدم تنقیحها هو أن المرء یری فی أقسام فقهیة مختلفة وجود إستنادات علی هذه القاعدة لا یمکن إتمامها أبداً، أی إنها لا تقبل الاستدلال و البرهنة، إنما تطرح هکذا فی الأقسام المختلفة. فما الإشکال فی أن تکون مسألة العدالة من الأقسام التی یبحثها الفقیه فی درسه الخاص بالفقه الاستدلالی، و یکون هناک «کتاب العدالة»؟ هذا طبعاً غیر بحث العدالة التی أشاروا إلی أن الشیخ (علیه الرحمة) ذکره.. ذلک بحث آخر.. لیجری البحث حول العدالة الاجتماعیة بنحو فقهی متین.
و لیظهر فی الجامعات علم یبحث و یدرس و ترصد له الطاقات حول العدالة. أعتقد أن هذه مهمة ضروریة علی الصعید النظری، فهی توسع نطاق التنظیر و تعِدّ طاقات قدیرة فی هذا المجال.
و من الأعمال المهمة الأخری وضع المعاییر و المؤشرات.. أی تحدید مؤشرات العدالة. من الأعمال النظریة المهمة التی یجب أن نقوم بها هی أن نجد مؤشرات العدالة. المؤشرات المطروحة فی الغرب الیوم مقبولة علی نحو مشروط، و بعضها لیس بمؤشر علی الإطلاق ، و بعضها مؤشرات ناقصة، و بعضها ممکن أن تکون مؤشرات و معاییر فی ظروف معینة. علینا أن نجد مؤشرات العدالة و معاییرها و معاییر تحقق العدالة فی المجتمع بشکل مستقل. هذا جانب مهم من جوانب العمل. طبعاً علی الصعید العملی أیضاً یجب النهوض بالکثیر من الأعمال، منها أن نعتبر العدالة مقیاساً و معیاراً أساسیاً فی عملیة التشریع و سن القوانین. و هذه نقطة جدیرة بالتفات النواب المحترمین فی مجلس الشوری الإسلامی، إذ ینبغی أن یرکزوا فی عملیة التشریع - خصوصاً - علی قضیة العدالة و یرصدوها بشکل دائم.
أذکر نقطتین قصیرتین فی الختام و هما خارج أصل البحث، و لکن لا بأس بالتنبیه لهما و التذکیر بهما. النقطة الأولی هی أن ثمة دور أساسی للمبدأ [التوحید] و المعاد فی قضیة العدالة، و یجب عدم الغفلة عن هذا الدور. لا یمکن أن نتوقع استقرار و تکریس العدالة فی المجتمع بالمعنی الحقیقی للکلمة من دون إیمان بالله و المعاد. أین ما لم یکن هناک إیمان بالله و المعاد فلن تکون العدالة أکثر من عبء مفروض إجباری. و هذا هو السبب فی أن بعض المشاریع الغربیة الجمیلة حول العدالة لا تتحقق علی المستوی العملی أبداً، لیس هناک رصید عقیدی لها. الکلام کلام جمیل - له ظاهر جمیل علی الأقل، حتی لم لو تقم له براهین متینة - لکن لا أثر له عملیاً فی المجتمعات الغربیة و فی الحیاة الغربیة علی الإطلاق، و لا یستطیع المرء مشاهدة تحققه عملیاً، و هناک لاعدالة مطلقة. و السبب هو افتقارهم للرصید الإیمانی بالمبدأ و المعاد. الاعتقاد بالمعاد و بتجسم الأعمال و بتجسم الملکات فی القیامة، له تأثیر کبیر. أن نکون عادلین و طلاب عدالة و نمدح العدالة و نسعی من أجل العدالة.. هذه أحوال سوف تتجسد فی یوم القیامة. و کذا الحال بالنسبة للوضع المقابل. هذه العقیدة تمنح المرء حیویة و طاقة. إذا علم الإنسان أی بلاء سوف تنزله به السلوکیات الظالمة و حتی الأفکار الظالمة علی مستوی تجسد الأعمال یوم القیامة، فسوف یقترب من العدالة طبعاً.
النقطة الثانیة و الختامیة، و التی لا بأس أن أذکرها هنا، هی عن العدالة تجاه الذات، و التی لا علاقة لها بالعدالة الاجتماعیة. فی القرآن الکریم تکرر ظلم النفس أو ظلم الذات مرات عدیدة فی آیات متعددة. النقطة المقابلة للظلم هی العدل طبعاً. نقرأ فی دعاء کمیل: «ظلمت نفسی». و نقول فی المناجاة الشعبانیة الشریفة: «قد جرت علی نفسی فی النظر لها فلها الویل إن لم تغفر لها». الذنوب و الزلات و السیر وراء الشهوات و الأهواء و الابتعاد عن التوجّه لله و تذکره و الخشوع أمامه ظلم للذات. هذا أیضاً مجال مهم. حینما نبحث فی باب العدالة - العدالة فی العلاقات الاجتماعیة و العدالة فی تشکیل النظام الاجتماعی - فلا نستطیع الغفلة عن العدالة تجاه الذات. یجب أن لا نظلم حتی أنفسنا. یجب أن نکون عادلین حتی مع أنفسنا. و الحالة المقابلة لهذه الـ «قد جرت علی نفسی»، هو العدل، هو أن لا نجور، بل نعدل. إذا وفقنا الله تعالی لاجتناب هذا الظلم فإن أملی کبیر بأن الله سیوفقنا لتکریس العدل فی البیئة الاجتماعیة أیضاً إن شاء الله.
و السّلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته.

الهوامش:
1 - الحديد: 25 .
2 - الذاريات: 56 .
3 - سبأ: 34 .
4 - هود: 31 .