بسم الله الرحمن الرحيم. حمداً لله من أعماق القلب لما وفّقني إليه مرّة أُخرى للقائكم أيّها الشباب الأعزاء الذين ألمس فيكم النوازع الطيّبة، و الاندفاع و النشاط، في يوم من أيّام شهر رمضان المبارك، و أجالسكم لساعات و أستمع إليكم.
ما قاله إخواني و أخواتي و أبنائي الأعزاء هنا هو تحدیداً ذات الشيء الذي نترقّب ان نسمعه منكم أنتم أيّها الشباب. رأيي قد لا يتطابق مع رأي المتكلّم الكريم في بعض ما یقول من الكلام ـ أي بمعنى إنّني قد لا أستسيغ ذلك الكلام ـ غير أن روح التفكير، و الاختيار، و الطرح الهادف، هو ما نرتجي أن يتحلّى به الشباب. أن الشيء الذي نريده هو أن تفكّروا و أن ترسموا إرادتکم على ركيزة ذلك التفكير، و انطلاقاً من هذه الإرادة تنبثق لديكم الجرأة للتعبير و البيان.
إنّ ما تقولونه و تتطلّعون إليه و تطرحونه قد لا يتحقّق على المدى القصير، و ربّما تتبدّل آراؤكم في برهة أُخرى من الزّمان في ضوء ما تمرّون به من تجارب جديدة. و هذا كلّه محتمل، و لا ضير فيه. و لكن هذه النزعة بحد ذاتها، و الاندفاع و روح المطالبة، هو ما يحتاج إليه شباب اليوم.
لقد أعددتُ بحثاً و أودّ إلقاءه على أسماعكم، و لكن لابد لي قبل ذلك من عرض بعض الملاحظات حول ما تفضّل به الإخوان. و أوّل ما أُشير إليه هو أنّ الإخوان قد أجادوا الكلام، لا سيما و أنّ بعض كلماتهم كانت من حيث الاستدلال و المنطق رزينة و مهذّبة. و قد دوّنتُ الخطوط العريضة لما تفضّل به السادة و السيّدات الكرام.
دعا أحد الإخوان في كلمته إلى أن أدلي برأيي حول الانتخابات، و لكنني أرى أن هذا سابقاً لأوانه، إذ لديّ كلام حول الانتخابات و سأقوله في المستقبل بإذن الله.
أعلن أحد الإخوان أن لجنة طلابية قد تشكّلت من أجل إرساء اقتصاد مقاومة، و هذا عمل رائع طبعاً. و مثل هذه الأعمال الجوهريّة هي ما يحتاج إليه بلدنا. عليكم أن تفكّروا، و تدرسوا الأمور و تبحثوا. و هذه البحوث و الدراسات حتّى و إن لم تناسب تلك الجهة المسؤولة أو لم تكن مفيدة لها أو لم تحبّذها، فإنّها قطعاً ذات جدوى بالنسبة لكم و تعود عليكم بالفائدة. و هذا عمل لافت جداً.
كذلك أعلن أحد الإخوان أن مركزاً للدراسات قد تأسس في جامعة «شريف» الصناعيّة، و هو يمارس نشاطه في هذه المجالات. و هذه أعمال بالغة الأهميّة. إن هذا الاندفاع لدى الطالب الجامعي المتوقّد الفكر، له أهمية قصوى لمستقبل البلد.
إن الحلول التي عُرضت، بعضها صحيح تماماً. و أقول لكم أيضاً إن بعض ما طُرح من مقترحات في حقل الشؤون الاقتصاديّة، لدينا معلومات تفيد أنها موضوعة نصب أعين المسؤولين، و هم ما برحوا يتدارسونها، و يتّخذون القرارات بشأنها، و يُقدمون على تنفيذها، و لكن الإجراءات ربّما لا تُعلن كلّها عبر وسائل الإعلام، أو أنه لا ينبغي التحدّث بها. و على أيّة حال فإن الشؤون الاقتصاديّة موضع اهتمام أولئك المسؤولين.
و أمّا الانتقادات التي وجّهت إلى بعض أجهزة الدولة؛ فلا شك في أن بعض هذه الانتقادات صحيحة، و أنا أشارككم الرأي في ما قلتموه، و لكن على صعيد التفكير و التأمّل، قد يُفكر الإنسان في أشياء كثيرة، و لكن عند التطبيق العملي يجد أن الأمور ليست بهذه البساطة. و حينما يدخل إلى ميدان العمل تبرز الكثير من المعوّقات التي تقف في طريق الأماني و التطلّعات و الرؤى التي يبتغيها الإنسان.
و لهذا ينبغي إزالة المعوّقات أوّلاً؛ بيد أنّه ليس من السهولة اجتياز جميع المعوّقات و الموانع. فأحياناً يستغرق هذا وقتاً طويلاً. و هذا مما يتعيّن الإلتفات إليه.
في ما يخص قضايا المنطقة، أشار أحد الإخوان إلى أنه لم يحصل ما كان يُفترض أن يحصل من العمل و التحرّك. و أقول لكم على نحو الإجمال إن الأمر ليس كذلك. ففي ما يخص قضايا المنطقة كان و لا زال للأجهزة المعنية في البلد تحرّك جيد جداً. و المنطقة الآن ميدان واسع لاستعراض القوى، و الأجهزة المعنية بهذه الأمور تجول في خضمّ الميدان و تعمل بكل نشاط. و من البديهي أن بعض الأمور ليست ممّا ينبغي نشره في وسائل الإعلام، أو من غير الممكن نشره، أو مما لا ضرورة لنشره، أو هناك إشكال في نشره ـ و لكن على العموم هناك عمل كثير يجري حالياً. و عليكم أن تعوا هذا و تدركوه. و في هذا المجال كانت الأجواء الداخلية للبلد جيّدة أيضاً. فحضور طلبة الجامعات في مختلف القطاعات و إبداء وجهات النّظر أزاء قضايا المنطقة، و غير ذلك، تُعدّ كلّها من الجوانب الإيجابيّة. و هذا العمل متواصل و سيتّخِذ بإذن الله آفاقاً أوسع و أفضل يوماً بعد آخر. و خلاصة الكلام ينبغي أن لا يُظنُّ بأنه لم يكن هناك عمل، كلا! بل هناك فِعل يجري حالياً، و هناك مهام جيدةٌ قيدَ العمل.
عُرِضت ملاحظة أبدتها هذه السيّدة الكريمة حول العلوم الإنسانيّة، و هي ملاحظة صائبة تماماً. و الموضوع الذي طرحته كان مدروساً و دقيقاً. فالقول بأن وراء تقدّم العلوم تقدّم في الفكر، و إن مبدأ تقدّم الشعوب يأتي انطلاقاً من الفكر قبل و أكثر من أن يكون من العِلم و التجربة، قول صحيح تماماً و قد أثبت صوابه.
و هذا هو ما يجعلني أبدي حساسيّة أزاء قضايا العلوم الإنسانيّة. نحن لا ندعو أبداً إلى الامتناع عن تعلّم معلومات الغربيين التي توصّلوا إليها في مختلف مجالات العلوم الإنسانيّة و ما أحرزوه من تقدّم على مدى عدّة قرون، أو أن نُعرض عن قراءة كتبهم. و إنّما ندعو إلى عدم التقليد. و هذه الملاحظة قد طرحتها هذه السيّدة في كلامها، و هي ملاحظة صحيحة.
تستقي مبادئ العلوم الإنسانيّة في الغرب منطلقاتها من الأفكار المادّية. و كل من قرأ تاريخ عصر النهضة، و اطلع عليه، و عرف أعلامه، يدرك هذه الحقيقة بكل جلاء. فلقد كانت حركة النهضة منطلقاً لتحوّلات شتّى في الغرب، بيدَ أن منطلقاتنا الفكريّة تختلف عن تلك المنطلقات. و لا عيب أبداً في الاستفادة مما توصّل إليه الغرب و ما أنتجه أو طوّره في علم النّفس، و علم الاجتماع، و الفلسفة و علوم الاتصالات و كل فروع العلوم الإنسانيّة. و قد قلت مراراً إنّنا لا نشعر أبداً بالهوان و الصغار من التعلّم، و لا بدّ لنا أن نتعلّم؛ نتعلّم من الغرب أو من الشرق «اطلبوا العلم و لو بالصّين». (1) و هذا طبعاً شيء واضح. و لكن نشعر بالهوان فيما لو كان هذا التعلّم لا ينتهي بنا إلى المعرفة و الوعي و القدرة على التفكير. فلا يجدر بالمرء أن يبقى تلميذاً طيلة عمره؛ و نحن نتعلّم لكي نغدو أساتذة. و الغربيون لا يروق لهم هذا. و على هذا المنوال كانت السياسة الاستعماريّة للغرب منذ القديم. يريدون أن تكون هناك فوارق في العالم، و أن تكون هناك هويّتان، و أن تكون هناك درجتان في القضايا العلميّة.
من العلوم الإنسانيّة، التاريخ. و أدعو مرّة أُخرى إلى أن تقرأوا التاريخ. إقرأوا تاريخ العهد الاستعماري؛ فالغربيون على الرغم من ظهورهم بالملابس الجديدة المكويّة و استعمال القلونيا، و ما يبدون عليه من مظهر منظم و مرتب، و ما يدعون إليه من شعارات حقوق الإنسان، ارتكبوا ما لا مثيل له من الأعمال الوحشيّة الفضيعة. فليس دأبهم قتل النّاس فقط، و إنّما بذلوا جهوداً كثيرة من أجل إبقاء الشعوب الرازحة تحت سلطتهم الاستعماريّة، بعيدة عن ميدان التقدّم و إمكان التقدّم في جميع المجالات. و نحن نريد أن لا يقع هذا.
نحن ندعو إلى تعلّم العلوم الإنسانيّة لكي نستطيع إنتاج النمط الوطني و المحلّي منها بأنفسنا، و نشره في العالم. و إذا ما حصل هذا فإن أي شخص يخرج من حدودنا يكون موضع أملنا و معتمدنا. و على هذا الأساس ندعو إلى أن لا نكون مقلّدين في هذه العلوم. هذا هو رأينا في مجال العلوم الإنسانيّة.
أشار أحد الإخوان إلى أن أمير المؤمنين (ع) دعا في عهده إلى مالك الأشتر إلى فضح المفسدين. و أنت تدعو إلى عدم فضحهم. إن أمير المؤمنين (ع) لم يدع إلى فضح ما لم يثبت من القضايا. إذ لا يوجد مثل هذا الشيء أبداً في كلام أمير المؤمنين.
من المؤكّد أن هذا ليس من الإسلام. و كيف يجوز لنا أن نفضح ما لم يثبت، و ما كان مجرّد اتّهام؟ قد يكون حكم الاتّهام کبیراً صاخباً و مداه واسعاً بحيث يبدو في نظر البعض و كأنّه أمر قطعي و مؤكّد، و لكنه في واقع الحال لا يستند إلى أيّة أدلّة و لم يثبت قط. و مثل هذه الحالة لا حجّة لدينا لإفشائه و فضحه. و حتّى في تلك الجلسة التي أُشير إليها، قلت ما هو فوق ذلك؛ قلتُ: إن الأصل هو عدم فضح الجرم حتّى لو ثبت. فالشخص الذي ارتكبه هو بالنتيجة مجرم و ارتكب خطأً و ينال جزاءه. و لكن أسرته، و أولاده، و والديه لا ذنب لهم، فلماذا نفضحهم من غير داع؟ إلا عندما تكون في نفس إذاعة القضية و فضحها مصلحة كبيرة. في مثل هذه الحالة حينما يكون في إفشاء قضيةٍ ثابتة مصلحة، فهنا لا مؤاخذة في فضحها و الكشف عنها. هذا هو منطقنا. و لا يوجد ما يخالف هذا، لا عن أمير المؤمنين (ع) و لا عن أي من أئمّة الهدی (علیهم السلام). فنحن لا يحقّ لنا توجيه التهم إلى الأفراد و فضحهم لمجرّد الظنون. و هذا غير جائز لا على المواقع الألكترونيّة، و لا في الصحف، و لا على منصّات الخطابة. و يتعيّن صيانة كرامة الأفراد.
في ما يخص تنفيذ سياسات المادّة 44، سألوني عن رأيي فيها، و هل طُبّقت أم لا؟ لو أردنا التحدّث حول ذلك تفصيلياً فکان ذلک غير ممكن. فكل واحد من هذه الفصول و الأبواب يتطلّب شرحاً. و لكن يمكن القول إجمالاً إن أعمالاً لا يُستهان بها قد أنجزت، و هي بطبيعة الحال ليست كاملة بمعنى الكلمة أو تبعث على الرضا، و إنّما تكتنفها نواقص. و لكن على العموم هناك ما أُنجز من العمل. ثمّ إن المسؤولين الحكوميين يواصلون تقديم التقارير عن تقدّم العمل. و ينبغي النظر إلى هذه التقارير بحسن ظن. أي لا ينبغي التأسيس على أن كل ما يقوله المسؤولون كذب و افتراء و مغاير للواقع. كلا، فهم يعرضون تقارير العمل. و يجب أن نضع بعين الاعتبار أن هذه التقارير صحيحة، و إن كان من المحتمل أن يشوبها قدر من المبالغة و تجاهل الجوانب السلبية. و لكنها التقاریر في الغالب صحيحة. و على أيّة حال، هناك نواقص، و لكن هناك أيضاً خطوات قد أٌنجزت.
أمّا في ما يخصّ تطوير المجلس الأعلى للثورة الثقافية، فقد قمنا بما ينبغي علينا القيام به. و لكن ترتيبات الاستفادة من المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة ترتيبات خاصّة. أوّلاً هناك بَوْن شاسع بين ما يتطلّع الإنسان إلى فعله و بين ما يجري على أرض الواقع؛ غير أن تدابير مدروسة قد اتّخذت و سوف يستطيع هذا المجلس بإذن الله أن يعكس معطياتها على نحو أفضل.
قال أحد الشبّان الأعزاء لو أراد الجيل الجديد أن يتحمّل المسؤولية فعليه أن ينزل إلى الميدان بنفسه. و أنا بطبيعة الحال أؤيّد هذا الكلام و أقول إنه يجب أن ينزل إلى الميدان بنفسه. و لكن ما هو المقصود بنزوله إلى الميدان؟ عليه طبعاً أن يكتسب الأهلية لهذه المهمّة؛ و أقصد بذلك الأهلية العلميّة، و الأهلية العمليّة، و أهلية النزول إلى الميدان. هناك من الأشخاص من مارس نشاطاً علميّاً و يدخل في عداد العُلماء، إلا أنه لا يحبّذ المتاعب و لا يودّ الدخول في المجالات التنفيذيّة. و لكن لو أراد أحد أن يتبوّأ واحدة من المسؤوليات في الدولة و يعتبر ذلك أمراً مهمّاً بالنسبة إليه، و ليس الخدمة ـ لأن الخدمة تنطبق على ما هو أشمل من تبوّأ المسؤولية، و تبوّأ المسؤولية واحد من أشكال الخدمة، و هو بطبيعة الحال أفضل و أشمل و أنفع ـ و هذه الأمور تتطلّب مؤهلات أيضاً. و لا بدّ من المؤهلات العلميّة، و المؤهلات العمليّة. كما أنها تتطلّب توفّر الحافز للدخول إلى الميدان.
حينما يسير الشخص على الرصيف أو في الأماكن المزدحمة، يصطدم به الآخرون و يصطدم بهم. و هذا أمر طبيعي. و إذا أراد المرء أن لا يصدمه أحد و لا يصدم أحداً، عليه أن يجلس في داره. و يمكنه طبعاً أن يجلس في داره أو يعتزل النّاس في زاوية و يؤدّي في الوقت ذاته عملاً مفيداً. و لكن إذا دخل الشخص إلى معترك الحياة الاجتماعيّة ـ سواء في المجال السياسي، أو في مختلف المجالات الإدارية ـ فلا بدّ من وجود هذا التصادم.
تلاحظون حالياً أن هناك ثلّة من الشبّان الأعزاء من ذوي القلوب الطاهرة و النفوس الطيّبة، يقفون هنا و يطلقون سيلاً من الانتقادات لكلّ شيء، و لا يعترض عليهم أحد. أنا هنا لأستمع لكم، و أثني على ما تقومون به؛ ليس ثناءً باللسان، و إنّما أثني عليكم من أعماق قلبي. ثمّ هؤلاء الذين تنتقدونهم، تتصورون من هم؟ هم أولئك الشبّان الصالحون الذين كدّوا في ما مضى و كدحوا و تحمّلوا المشاق، و تسلّموا اليوم بعض المسؤوليات، و يؤدّون اليوم عملاً ما. و من المحتمل طبعاً أن يخطأوا عند ممارستهم لعملهم، و انتقادكم في موضعه. هذه هي طبيعة الإدارة. و أنتم حين تتسلمون مسؤولية ينطبق عليكم الأمر تماماً؛ إذ سيأتي شاب و يقف هنا و يوجّه إليكم الانتقادات.
أنتم تطرحون اليوم انتقاداً تقولون فيه: لماذا المدير كهل و مستشاره شاب. و لكن هناك من يأتي و يقدّم شكوى حول هؤلاء المستشارين الشباب، و ينتقدهم، و يقولون إن هذا المستشار الشاب في الوزارة الفلانية فعل كذا و كذا؛ في حين أن هذا المستشار الشاب، هو طالب جامعي شاب؛ كأن يكون طالباً في مرحلة الماجستير أو في مرحلة الدكتوراه، أو تخرّج حديثاً و لم يقترف ذنباً، إلا أنه يُنتقد. إن مثل هذه الدوافع لا بدّ منها. و على الشخص أن يكتسب مثل هذا الاستعداد و يتحلّى به، و يتّصف بهذه الأهلية، ليدخل إلى الميدان، و من المؤكد أنه يحصل على مسؤولية.
أحد الإخوان الآخرين الذين تكلّموا هنا بكلام حسن جداً، قال في بداية كلامه: إنّنا نعمل حالياً على هذا النحو لكي يعلموا أنه لا زال هناك أُناس مخلصون. و أنا أدعو إلى عدم استعمال عبارة «لا زال» لأن كلمة لا زال تعني أنكم كنتم تتوقعون أن لا يكون هناك أُناس مخلصون. كلا، ليس هناك مثل هذا التوقّع. إن ما نرتجيه و ما نتوقّعه في ما يخصّ قضية الثورة أسمى من هذا الكلام بكثير. فلا تقولوا إنه ما زال هناك مخلصون. نعم إن خضم الشعب هو خضم الثورة. و الكلام الذي سأتحدّث به هنا يدور قسم منه حول هذه القضية.
و هذه المبادرة الطلابيّة للبناء رائعة جدّاً و ضروريّة جدّاً، و عمل حسن جدّاً.
أودّ هنا أن أتحدّث حول بعض الأمور. إن القضايا التي تكلم حولها الإخوان دوّنت ملخّصها لكي تبقى في ذهني. و لكن تفاصيلها ستحفظ و يتم بحثها و متابعتها. و لا ينبغي أن يظن أحد بأنها ستُهمل. كلا، بل ستكون موضع تركيز و اهتمام خاص و سيجري العمل عليها، أو إنها على الأقل ستساعد على زيادة التجارب و تراكم الخبرات و المعلومات. أي إن أياً من هذه الكلمات و الآراء لن تذهب سدىً.
إن ما أريد قوله هنا يمثّل في الواقع منطلقاً لبحثٍ، و هذا البحث سوف تتابعونه أنتم الشباب بإذن الله في أوساطكم. لقد أشّرت في عدّة خطابات خلال الأشهر السبعة المنصرمة إلى استقرار النظام، و قلت إن ديمومة و استقرار و رسوخ أركان نظام الجمهورية الإسلاميّة كان من أهم العوامل التي غرست الأمل في نفوس شعوب المنطقة و الشعوب الإسلاميّة. و يمكن القول إنه كان له دور مؤثر في هذه الحركة الإسلاميّة العاتية التي اجتاحت المنطقة، و رفدها بمنطلقات التحرّر و اليقظة. و اليوم أريد التحدّث بشيء من التفصيل حول ثبات و استقرار الثورة الإسلاميّة.
يمرّ المجتمع بتحوّلات كبرى و أبرز الأمثلة عليها الثورات السياسية و الاجتماعية. و لكن مَن الذي يُحدث مثل هذا التحوّل؟ يُحدِثه طبعاً جيل من أجيال الشعب؛ غير أن هذا يُعزى طبعاً إلى الظروف التي مرّ بها ذلك الجيل، و لم يمر بها الجيل السابق له و لا الأجيال الأُخرى التي سبقته، مثلما هو الحال بالنسبة إلى الثورة الإسلاميّة. و هنا تحصل واحدة من حالتين: أمّا أن تواصل الأجيال التالية التحوّل الذي أحدثه ذلك الجيل، و تكمل المشوار و تديم المسيرة. و في هذه الحالة يصبح هذا الحدث حدثاً خالداً؛ «وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ» (2). أي يغدو بديلاً و يُكتب له الاستمرار. و أمّا أن لا تواصل الأجيال التالية تلك المسيرة لأسباب و عوامل شتّى ـ و عندما نقول الجيل التالي لا نقصد بالضرورة الفئة التي تليه في السن، و إنّما نقصد الذين يتلقّون من ذلك الجيل الأوّل، و ربّما يكونون هم أنفسهم الفئة العمرية لذلك الجيل ـ و يلفّهم الخمول و يكلكل عليهم الركود و الانحراف و الانزواء. و في هذه الحالة يُعدم الشعب فوائد ذلك التحوّل، بينما تبقى الأضرار التي ترافق عادة كل تحوّل و يتعذّر درؤها. هذه هي خلاصة القضية.
مهما أجلْتُ النظر في التحوّلات التي حصلت على مدى القرون الثلاثة الماضية، و هي قرون الثورات الكبرى لا أجد حالة مشابهة للثورة الإسلاميّة ـ و أنتم أيضاً ادرسوا هذه التحوّلات فلعلكم تجدون بعض الحالات؛ فالتحوّل الذي حصل في الدور الأوّل لهذه الثورة، تواصل في الأدوار التالية أو في العقود اللاحقة على تلك الوتيرة ذاتها، حاملاً راية الأهداف ذاتها و منطلقاً نحو تلك الغايات و بذات التوجّهات. و ربّما لم تتواصل بعض هذه التحوّلات مثلما هو الحال بالنسبة إلى الثورة السوفيتية، أو تواصل و استمر و لكن على مدى فواصل زمنية طويلة رافقتها محن و مصاعب و وقائع مريرة، مثلما هو الحال بالنسبة إلى الثورة الفرنسية الكبرى، و كذلك استقلال أمريكا. و نحن نعبّر عن ذلك بكلمة الثورة أو أي شيء آخر. و في ختام المطاف تحققت تلك الأهداف الاولى بنحو أو بآخر، و لكن بكثير من المشقّة و العناء، أو بعد مدّة مديدة. و مثال ذلك الثورة الفرنسية الكبرى. و توصف الثورة الفرنسية بالكبرى لأنه أعقب تلك الثورة ثورتان أو ثلاث ثورات أُخرى وقعت في فرنسا على مدى خمسين أو ستّين سنة؛ بيدّ أن تلك الثورة الأولى التي وقعت في عام 1789 كانت هي الأهم و الأكثر تأثيراً ـ و لكي يبقى هذا التاريخ في أذهانكم فهو: ألف ثمّ بعده سبعة، و ثمانية، و تسعة! و هذا هو العام الذي وقعت فيه الثورة الفرنسية الكبرى ضد الحكم الملكي هناك. و هذا هو ذات الوضع الذي حصل في إيران؛ إلا أن الأسرة الملكية التي كانت تحكم في فرنسا كانت طبعاً أشدّ قوّة و أكثر رسوخاً من الأسرة البهلوية المتردّية التي كانت تحكمُ بلدنا! كانوا من أسرة آل بوربون التي حكمت فرنسا على مدى عدّة قرون. و كان بعض الملوك من هذه السلالة ذوي سطوة و شوكة. لقد وقعت هذه الثورة في العام الذي ذكرته لكم، و هو عام 1789 للميلاد.
كانت هذه الثورة شعبيّة بمعنى الكلمة؛ أي كان للشعب حضور فيها حقّاً ـ كما هو الحال في ثورتنا ـ و كان القادةُ قادةً شعبيين تماماً و كانوا يحملون أفكاراً نيّرة و يتطلّعون إلى بناء مجتمع جماهيري. و الشيء الذي كان مطمح أنظارهم لم يكن آيديولوجياً و لا عقائديّاً، و إنّما كانوا يرومون إقامة حكومة شعبية، و كانوا يرومون تأسيس حكم ديمقراطي. و بعد ذلك العام بثلاث أو أربع سنوات أزيحت المجموعة الأولى التي قامت بالثورة، على يد فئة موغلة في التطرّف؛ و أُعدم عددٌ من أفرادها. ثمّ إن هذه الفئة المتطرّفة سيطرت على الحكم. و بقيت في الحكم مدّة تناهز الخمس سنوات. و نتيجة للصرامة التي اتّبعوها مع أبناء الشّعب، هبّ الشعب كردّ فعل على ذلك و عزلهم عن الحكم، و أُعدِم قسم منهم؛ و هكذا سيطرت على دفّة الحكم فئة ثالثة. أي خلال مدّة تتراوح بين إحدى عشرة سنة إلى إثنتي عشرة سنة؛ حتّى عام 1800، سيطرت على الحكم ثلاث جماعات؛ و كانت كلّ جماعة منها تنكّل بالجماعة التي سبقتها و تقضي عليها. و على امتداد الإحدى عشرة سنة الأولى أُعدِمَت شخصيّات سياسيّة معروفة من الجماعات الثورية. ثمّ إن تلك الفوضى التي استفحلت ـ و من الطبيعي أن تستفحل الفوضى في بلد يتّصف بمثل هذه الخصوصيّات و الظروف ـ أرهقت أبناء الشعب؛ فانبثقت على إثر ذلك لجنة من ثلاثة أشخاص و كان نابليون أحدهم. كان نابليون حينها ضابطاً شاباً و كانت له فتوحات في مصر ـ و قصصه كثيرة و طويلة ـ أكسبته شهرة مهّدت له ليكون رئيساً لهذه اللجنة المؤلّفة من ثلاثة أفراد، ثمّ أصبح بعد ذلك ملكاً و امبراطوراً.
و هكذا فإن البلد الذي مُني بكل هذه الخسائر، و أسقط النظام الملكي، و أُعدم لويس السادس عشر و زوجته، دخل تحت مظلّة الحكم الملكي مرّة أُخرى، و استولى نابليون على مقاليد الحكم. كان نابليون طبعاً شخصية عسكرية قويّة و نشطة و قدّم لفرنسا أعمالاً كبرى، و له إنجازات غير عسكرية أيضاً، إلا أن معظم أعماله كانت عسكرية؛ حيث إنه ضمّ إلى فرنسا عدّة بلدان أوربية و هي أيطاليا و إسبانيا و سويسرا. و غزا عدّة بلدان أوربية و ضمّها إلى فرنسا أيضاً، و لكن من بعد خلع نابليون انفصلت تلك البلدان عن فرنسا الواحدة تلو الأُخرى؛ بمعنى أن تلك الفتوحات كانت غير مستقرة. إنّ ذلك البلد الذي قدّم كل تلك الخسائر و أقام حكومة شعبية، تحوّل بكل سهولة إلى الحكم الملكي مرّة أُخرى. و في أعقاب نفي نابليون و وفاته ـ أي ما يقارب عام 1815 ـ سيطرت على حكم فرنسا حكومة ملكية استمرت مدّة تناهز الخمسين سنة، و رافقتها طبعاً تحوّلات بالغة الصعوبة و المرارة و مثيرة للأسى. و لو أنكم قرأتم ما كُتب في فرنسا من كتب و روايات في القرن التاسع عشر، لوجدتم فيها بكل وضوح معالم هذه الثورات و هذه المحن و الوقائع المريرة التي ألمّت بالشعب الفرنسي؛ و من هذه الكتب كتب فيكتور هوغو و بلزاك و غيرهما.
و بعد ذلك؛ أي في عام ألف و ثمانمائة و ستين و نيّف، وقعت ثورة أُخرى هناك و خُلع الامبراطور نابليون الثالث ـ الذي كان من أقارب نابليون ـ و أُقيم حكم جمهوري. و حتّى هذه الجمهوريات تبدّلت أيضاً و أصبحت الجمهورية الأولى، و تلتها الجمهورية الثانية، ثمّ الجمهورية الثالثة، إلى أن وصلت الأمور إلى الوضع الذي أصبحت عليه دولة فرنسا الآن، حيث تحكم هناك حكومة ديمقراطية. لقد واجهت الثورة الفرنسية هذه الوقائع المريرة. و هو ما يعني أنها منذ انطلاقتها لم تكن ذات قدرة تأهّلها لتتبوّأ مكانتها بين أبناء شعبها و يكتب لها الدوام و الاستمرارية. و هذه الظواهر و الوقائع اكتنفت تقريباً جميع التحوّلات التي وقعت على امتداد هذه الحقبة الطويلة التي استغرقت مائتي سنة أو مائة و خمسين سنة و مائة سنة في عالمنا هذا.
لقد وقع ما يماثل هذا في أمريكا أيضاً. فالثورة الأمريكية ـ بمعنى تحرير أمريكا من تسلّط الحكم البريطاني ـ وقعت قبل الثورة الفرنسية بخمس أو ست سنوات؛ أي في حدود عام 1782. طبعاً لم يكن عدد نفوس أمريكا يومذاك يتعدّى الخمسة ملايين نسمة. و نهض الشعب يومها و أقام حكومة و جاءت إلى الحكم شخصيات من تلك الشخصيات المعروفة من أمثال جورج واشنطن و غيره. بيد أن الأمور هناك سارت على ذات المنوال أيضاً. فبعدما قاموا بتلك النهضة الأولى كابد الشعب الأمريكي الويلات، و اندلعت هناك حروب أهلية تدعو إلى الدهشة و الاستغراب. ففي واحدة من الحروب الأهلية ـ و كانت أعظم الحروب الأهلية تلك التي نشبت بين الشمال و الجنوب؛ أي إن رحى تلك الحرب قد دارت في الواقع بين الشمال الشرقي و الجنوب الشرقي؛ لأن غرب أمريكا قد أصبح تواً تحت سلطة هذه الدولة ـ قُتل مليون شخص على أدنى تقدير على مدى أربع سنوات. و طبعاً لم تكن هناك إحصائيات في ذلك الوقت، و إنّما هذا قول من كتبوا و من تحدّثوا حول تلك الحروب. و من بعد ذلك و على نحو تدريجي و من بعد مضي مائة سنة تقريباً على استقلال أمريكا وصلت الحكومة إلى نوع من الاستقرار، و استطاعت مواصلة مسيرها ضمن التوجّهات السابقة.
إن الجنايات التي وقعت في تلك الأثناء و الفجائع التي ارتكبها الحكّام و أنصارهم و جيوشهم، لها قصص مأساوية طويلة، و كان منها الاعتداء على الدول المجاورة، و شن الهجمات على السكّان الأصليين و هم الهنود الحمر و إبادتهم. إنه ليؤسفني أن شبابنا لا يعلمون هذه القضايا.
حين يطلع الإنسان على المدنيّة و التقدّم و الثروة الموجودة لدى بعض الدول، إنّما هي حصيلة لكثير من التدمير، و يدرك أنها جاءت حصيلة لما لا يُعرف مداه من التدمير و القسوة و القهر، ينفتح عندئذ أمامه أُفق آخر من الرؤية إزاء ما ينبغي أن يحصل، و إزاء الواجب الذي يقع على كاهله.
أمّا في الاتحاد السوفيتي فقد حصلت قضايا و وقائع من نوع آخر. في الاتحاد السوفيتي لم تتحقّق الأهداف المرسومة ـ و كانت أهدافاً عقائديّة و آيديولوجية ـ فقد كانوا يزعمون أصلاً أن حكومة الاتحاد السوفيني حكومة شعبية، و حكومة جماهيرية، و اشتراكية؛ و هي حكومة جماهيرية شعبية تستند إلى حركة الشعب و تلتزم بمتطلّباته، غير أن هذا الهدف نُقض منذ السنوات الأولى. و بعد مضي ما يقارب الستّ سنوات من وقوع الثورة السوفيتية في عام 1917، تبدّل الحال تماماً و أُسقِط الشعب من حسابات الحكومة بالمعنى الحقيقي للكلمة. و تركّزت السلطة في يد حزب شيوعي يتألّف من بضعة ملايين من الأعضاء. و هذا الحزب سيطرت عليه مجموعة من الأفراد بقيت على رأس قيادته في كلّ دورة. و في دورة مثل دورة استالين كان الحاكم شخصاً واحداً لا أكثر. و أمّا في الأدوار التالية فقد كانت اللّجنة المركزية للحزب الشیوعي هي الكل في الكل. و ما أكثر الضغوط التي تعرّض لها الشعب، و ما أشد القيود التي فُرضت عليه، و ما أفضع المحن التي قاساها. في تلك الأدوار تسرّبت كتابات من داخل الاتحاد السوفيني إلى العالم الخارجي، و كان قسم منها يُترجم إلى اللغة الفارسية و كُنّا نقرأه. و إلى ما قبل أنهیار الاتحاد السوفيني كان الكثير من هذه الجوانب الصعبة و المرّة طي الكتمان، و لكن من بعد ذلك تشكّف الكثير من الأمور و عُرف مدى فضاعة ما كانوا يفعلونه، و ما أشد القيود التي كانت تفرض على الشعب. و الكتابات الأدبية التي نُشرت تعكس مدى صعوبة حياة الشعب في عهد الحكم السوفيتي. أي إن تلك الثورة قد انحرفت كليّاً منذ البداية ـ لا إنها لم تواصل نهجها ـ و لم تفِ بوعودها أساساً.
طیب، هذا عن الثورات. و لنأت الآن على ذكر أشباه الثورات و منها التي وقعت في الشرق الأوسط و خاصّة في شمال أفريقيا و أمريكا اللاتينية، حيث إنها في الواقع لم تكن ثورات، و إنّما كان معظمها إنقلابات. ففي أواخر الخمسينات و أوائل الستّينات وقعت في بلدان شمال أفريقيا ـ أعني في مصر و ليبيا و السودان و تونس ـ حركات ثورية ذات اتجاه يساري. و كانت كل هذه البلدان بلداناً ثورية.
و باستثناء عدد معدود من الذين قاموا بتلك الثورات، انحرف الباقون و هم ممن قام بهذه الثورات عن مسارها، إلا أن الثورات ذاتها كانت ثورات يسارية، و مناهضة لأمريكا، و مناهضة لبريطانيا أو مناهضة لفرنسا. هكذا استقطبوا الشعب إلى الساحة، إلا أن الذين كانوا على رأس تلك الثورات انحرفوا في الواقع العملي عن مسارها، و انحدروا صوب تلك القوى الاستعماريّة! و كان منهم بورقيبة في تونس، لقد كان بورقيبة قائداً للثورة التونسية؛ بل إنه هو الذي صنع الثورة التونسيّة؛ غير أنه تحوّل إلى عنصر عميل للغرب و لفرنسا. و من بعده جاء بن علي أيضاً. أو في مصر، كان أنور السّادات من أنصار جمال عبد الناصر، و كان ممن ساهموا في صنع ذلك الانقلاب أو حسب تعبيرهم ثورة الضباط الأحرار. لقد كان شعار حركة الضباط الأحرار في زمان جمال عبد الناصر هو «تحرير فلسطين»، إلا أن الحال وصل بهم إلى حدّ الصلح مع غاصبي فلسطين، و التآمر ضد الشعب الفلسطيني. و في الآونة الأخيرة وصلت الأمور إلى حدَّ التعاون مع الصهاينة لمحاصرة الشعب الفلسطيني، و فرض الحصار على غزّة من أجل القضاء على الشعب الفلسطيني! أي إنهم غيّروا اتجاه حركتهم مائة و ثمانين درجة عن الاتجاه الأوّل للحركة.
و أمّا بالنسبة إلى السودان. أعتقد أنكم لا تتذكرون شيئاً عن النميري. نحن نتذكّر مجيء النميري إلى سدّة الحكم. كان النميري ضابطاً ثورياً و كان هو الذي خلّص السودان من براثن الغرب، إلا أن هذا النميري نفسه تحوّل تدريجياً نحو الغرب حتّى غدا عميلاً للغرب؛ حتّى إن الثوريين اللاحقين الذين یحكمون السودان اليوم ثاروا عليه و انتزعوا البلد من يده. لقد تحوّل جعفر النميري تدريجياً من شخص مناهض للغرب و يقود إنقلاباً ضد الحكم الموالي للغرب، إلى عنصر مطيع للغرب و عميل للغرب! و هكذا الحال بالنسبة إلى الآخرين.
أتذكّر إنّنا كُنّا في بداية السبعينات في مدينة مشهد المقدّسة، و كُنّا نلتقط إذاعة صوت العرب من القاهرة ـ في زمان جمال عبد الناصر ـ و نستمع إليها. كان جمال عبد الناصر قد ذهب إلى ليبيا، و أخذ هو و القذافي ـ الذي كان في حينها شاباً في التاسعة و العشرين من العمر و كان قد قاد انقلاباً عسكرياً ـ و جعفر النميري، يخطبون ثلاثتهم في إذاعة صوت العرب من مصر. اجتمع هؤلاء الثلاثة سويّة و أخذوا يطلقون الخطابات الثورية و الحادّة. كان هذا القذافي نفسه يُطلق شعارات كانت تثير فينا الحماس. و كُنّا نحن غالباً في معترك مواجهة النظام. و كان الاستماع إلى هذه الإذاعة مخالفاً للقانون. و كُنّا نحن و بعض الرفاق ـ حيث كان لدى أحدنا مذياع ـ نذهب ليلاً و نجلس في دار و نستمع إلى إذاعة صوت العرب.
نعم، هكذا كانت الحركات. أي إن الثورات كانت تنحرف لعوامل شتّى، أو إنها كانت تنحرف منذ البداية، أو بعد مدّة وجيزة. و هذا الانحراف قد يستغرق أحياناً عشرات السنوات. ففي بلد مثل فرنسا استمر هذا الانحراف سبعين و نيّفاً من السنين، إلى أن استطاعت الثورة أن تحقّق تدريجياً قسماً من أهدافها و ليس كلّ أهدافها.
الثورة الإسلاميّة استثناء بین كل هذه الثورات. كانت الثورة الإسلاميّة حركة انبثقت بأهداف محددة ـ و رغم أن تلك الأهداف كانت محدّدة، و لكنّ بعض مفاصلها كانت عامّة و كليّة، ثم تبلورت تدريجياً، و اتّضحت، و تبيّنت مصاديقها. و أمّا الأهداف فكانت أهدافاً واضحة. كان هدفها المناداة بالإسلام، و كان هدفها مقارعة الاستكبار، و هدفها حفظ استقلال البلد، و هدفها تكريم الإنسان، و هدفها الدفاع عن المظلوم، و هدفها التقدّم و الارتقاء العلمي و التقني و الاقتصادي للبلد. كانت هذه هي أهداف الثورة. عندما ينظر الإنسان في كلمات الإمام الخميني (رضوان الله عليه) ـ في الوثائق الأصلية للثورة ـ يلاحظ أنها كلّها ذات منطلقات مستمدّة من النصوص الإسلاميّة. إن شعبية الثورة و التعويل على إيمان الشعب، و معتقدات الشعب، و المنطلقات الجماهيرية، و المشاعر الجماهيرية، تُعدَّ من المرتكزات الأساسيّة للثورة. و قد استمرّ هذا النهج و لم يحصل فيه أي انحراف و لا ميل، بعد أن مضى اليوم على الثورة إثنان و ثلاثون عاماً. و هذا شيء في غاية الأهميّة.
و هذا هو ما نسمّيه استقرار الثورة و ثبات نهجها. لقد قلنا قولاً: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» (3).. و قد قال الشعب الإيراني «ربنا الله»، و تمسّك بقوله و ثبت عنده. و هذا الثبات على القول انتقل من جيل إلى آخر. و هذه الكلمات الجذابة و النابضة و الصادقة و المليئة بالحيوية التي طرحتموها اليوم هنا أنتم يا أيّها الشباب، الذين احتمل أن لا يكون أي منكم قد جاء إلى هذه الدنيا في بداية الثورة، و لم تعيشوا عهد الثورة، و لا زمان الحرب، و لم تدركوا زمان الإمام الخميني، بيد أن النهج هو ذات النهج، و الطريق هو الطريق نفسه، و الهدف هو الهدف ذاته. و الكلام الذي يُقال هنا هو ذات الكلام الذي كُنّا نريد قوله يومذاك و كُنّا نقوله.
كنت أأتي إلى جامعة طهران مرّة في كلّ أسبوع و كانت لنا جلسة مع الطلاب هناك، و بعد الانتهاء من الصلاة كانت هناك كلمة و ردود على الأسئلة. و قد استمر هذا الوضع مدّة مديدة. و هو ذات الكلام الذي كُنّا نقوله في ذلك الوقت، و كان يقوله الطلبة. و لكنّه اليوم كلام أنضج و أرزن و أوزن. و أمّا المشاعر فهي اليوم على قدر ما كانت عليه يومذاك. و الكلام الذي يُطرح في الأوساط الطلابيّة اليوم يتّصف بعقلانية تفوق ما كان في ذلك الزّمان. و هذا شيء ذو قيمة طبعاً.
حسنٌ، لقد تحقّق هذا حتّى الآن. و لكن ماذا ينبغي فعله من الآن فصاعداً؟ إن ما أُريد قوله هو هذه الجملة: من الآن فصاعداً يتعيّن على جیل الشباب الحالي و خاصّة الشريحة الطلابيّة الحفاظ على هذا النهج في ذلك الاتجاه الذي كان عليه، و الاستمرار عليه و السير فيه قدماً نحو مزيد من التكامل. و هذا ما يعيّن المهام التي ينبغي علينا إنجازها في الأوساط الطلابيّة.
إن العمل يقع على كاهلكم. فالجيل الذي كُنّا نمارس نشاطنا في وسطه، و كانت لدينا طاقة شبابية و انفقنا شبابنا على هذا الطريق، هذا الجيل آخذ اليوم بالاضمحلال، و يسير ـ مثلما هو حال كلّ الأشياء في هذا العالم ـ نحو الفناء و الزوال. إن الجيل الذي يستوعب هذه الحقيقة اليوم، هو أنتم، شباب اليوم و طلبة اليوم. إنَّ مسؤوليات البلد ستقع على كواهلكم في المستقبل. و أنتم الذين ستخططون لهذا البلد و تتخذون القرارات. فأنتم تستطيعون مواصلة هذا الطريق، و العمل على تكامله، و تستثمرون الطاقات التي لم تُستثمر، و تملأون مواطن الفراغ، و تسدّون النواقص التي تشيرون إليها و تقولون و تكيلون لها الانتقادات تلو الانتقادات ـ و هي انتقادات صحيحة طبعاً ـ أو تستطيعون أن لا تفعلوا ذلك. جيل الشباب اليوم يستطيع أن يتّخذ قراراً بعدم فعل أي شيء. و لكن مثل هذا القرار لن يتّخذ طبعاً و أنا لا أشك في ذلك. فجيل الشباب سوف يواصل هذا الطريق لأجل المنطلقات الدينية لهذه الحركة و ما لها من مرتكزات اعتقاديّة راسخة. فهذه هي المرّة الأولى في تاريخ الثورات المختلفة في العالم، تأتي فيها ثورة و تقدّم نفسها إلى العالم، و تواصل ـ من غير انقطاع ـ مبادئها الأولى و قيمها الأولى بكل وجودها، و سوف يستمرّ ذلك بإذن الله إلى أن تتحقّق أهدافها النهائية.
طيّب، أنتم تمثلون التنظيمات الطلابيّة و النخبة الطلابيّة. و أنتم في الواقع تمثّلون المجموعة المنتقاة من بين ملايين الطلبة الجامعيين في البلاد. و قد اجتمعتم هنا. و هذا الكلام يمكن لبقية الطلاب الاستماع إليه لاحقاً إذ سيبثّ عبر التلفزيون و يُنشر في الصحف، لكلّ من شاء أن يستمع إليه طبعاً.. عليكم أن تقرّروا. اعلموا أن هذه الحركة المباركة التي تستند إلى القيم، رهينة باندفاعكم، و همّتكم، و شجاعتكم، و قدرتكم على التفكير و عزمكم الراسخ. فأنتم الذين يجب أن تكملوها.
الحمد لله علی أن الثورة سارت حتّى الآن شوطاً حسناً، و كما ذكرت فإننا لم ننحرف عن أهدافنا و لم نحد عنها. و النكبات التي حلّت بتلك الثورات الكبرى لم تحصل لثورتنا، و كلّ الحوادث التي وقعت تجاوزتها الثورة، و استطاعت أن تحفظ ذاتها بمعاييرها الذاتية، و استطاعت إلى اليوم أن تتكامل. كما أن الثورة سارت بالبلد نحو الأمام ـ و هذا التقدّم الذي تشاهدونه اليوم في مختلف القطاعات ـ و هو ما أشّرت إليه بإيجاز خلال كلمتي مع مسؤولي النظام قبل بضعة أيّام ـ لم يسبق أن شهده البلد قط على مدى القرون الأخيرة. و أمّا في الماضي و على امتداد التاريخ فقد كان هناك ما يشبه هذا تبعاً لأحوال الزّمان، بيد أن هذا التقدّم لم يكن له شبيه في ما سبق في القرون الأخيرة. أنتم الذين أوصلتم البلد إلى هذا التقدّم. و البلد يجب أن يتقدّم أكثر. فنحن لا زلنا في الخطوات الأولى، و في بداية الطريق.
و قد ذكرت أن إحدى الخواص الكبرى للثورة أنها صنعت نموذجاً. و أنتم تستطيعون مواصلة هذا الهدف و هو أن تبنوا نموذجاً للشعوب الإسلاميّة، توحون لها فيه بأنه يمكن العمل على هذه الشاكلة، و يمكن الوصول إلى الغاية عن هذا الطريق. و هذا شيء ممكن.
التنظيمات الطلابية لها دورها طبعاً. و أولى وصاياي إلى التنظيمات الطلابية التي تهتم بمجالات الشؤون الطلابية و شؤون البلد و الثورة و كلّ شيء، هي أنكم حين تنظرون إلى الخندق المناهض؛ و أقصد بذلك خندق الاستكبار، و الظلم، و الرأسمالية الدولية الهائلة، و الكارتلات، و التكتّلات، انظروا إليه و كأنّه خندق واحد. فهو خندق واحد متكاتف لمناهضة الثورة الإسلاميّة التي هي ثورة معنوية و دينية و ثقافية و اعتقادية.
فإذا نظرتم إليه و كأنه خندق واحد مترابط و متساند تتضح عند ذاك الكثير من ممارساتهم و تظهر على معناها الحقيقي. و هذه القضية هي التي تعيّن المهمّة التي ينبغي أن ينهض بها الطالب أو التنظيمات الطلابية إزاء الاغتيالات التي تقع في البلد؛ من أمثال اغتيال الشهيد علي محمّدي، و الشهيد شهرياري، و الشهيد رضائي نجاد؛ يُنظر إليها تارة على أنها عمل إرهابي. و هذا يحزّ في النفس طبعاً حيث أن عدداً من علمائنا راحوا ضحيّة لأيدي الأعداء الأثيمة ـ بفعل عدد من الإرهابيين ـ و تارة أُخرى يُنظر إلى هذا العمل في سياق اصطفاف الخنادق، و يوضع هذا العمل ضمن إطار مجموعة الممارسات العدائية المناهضة للنظام الإسلامي. نذكر من ذلك على سبيل المثال في جبهة الحرب الحدودية مع العراق ـ حيث خضنا حرباً على مدى ثمان سنوات ـ لو أن مدفعية العدو وجّهت نيرانها نحو موضع معيّن، فذلك لا يعني أن العدو يستهدف ذلك الموضع بعينه و على وجه الخصوص، و إنّما يعني أن العدو يجري فعّالية معيّنة في هذا المكان و قد يكون الهدف منها التمْويه من أجل لفت الأنظار إلى ذلك الموضع، أو ما يطلق عليه اصطلاحاً اسم المشاغلة، التي تُعدّ في الواقع نوعاً من الخدعة، أو قد يكون ذلك العمل بدافع شلّ قدرات قوّاتنا لكي يتسنّى له القيام بهجوم شامل. و عندما ينظر إلى قضية الاغتيالات بهذا المنظار يتضح أن ما يرمي إليه العدو هو شلّ و إجهاض حركة التقدّم العلمي في البلد، و هذا يمثّل حلقة من حلقات التآمر المعادي. فهناك سلسلة من الحلقات المترابطة، منها مثلاً حلقات المقاطعة الاقتصادية، و نشر الرذيلة و التحلل، و التشجيع على تعاطي المخدّرات، و الخروقات الأمنية، و زعزعة الأسس الاعتقادية؛ سواء الاعتقاد بالإسلام، أم الاعتقاد بالثورة. فهذه الحلقات المتنوّعة مترابطة في ما بينها. و من هذه الحلقات ـ المكمّلة لهذه السلسلة ـ شلّ الحركة العلمية في البلاد عن طريق إثارة الذعر في نفوس علمائنا أو من خلال إقصائهم. و نحن ننظر إلى هذه القضية من هذا المنظار.
إذا نظرنا إلى الكتلة المعادية و كأنها خندق متساند قد قسّم الواجبات بين أعضائه، فعند ذاك يأخذ شعورنا بالمسؤولية أزاء كل قضية إنطباعاً آخر. و في قضية الاغتيالات هذه يبدو لي أن الأفراد في التنظيمات الطلابية عرض منهم قصور في هذه القضية، و لم يكن موقفهم بالمستوى المطلوب. و كان يفترض بهم تضخيم هذه القضية، و لا أقصد طبعاً المبالغة فيها، بل إن القضية بحد ذاتها ضخمة و كبيرة، ينبغي أن تعكسوها مثلما هي. فلم نشاهد أن تنظيماتنا أصدرت أو نشرت أو وزّعت و لو ملصقاً جدارياً لهؤلاء الشهداء، أو خلّدت ذكراهم. هذا الموضوع ينبغي أن لا يذهب أدراج النسيان، و هو ليس بالعمل الهيّن.
إن قضية العلم في البلد تمثل حلقة في سلسلة. و هذه الحلقة تصبّ في البؤرة الحيوية و الجوهرية التي ما برحنا نتعاهدها بالرعاية منذ ما يقارب الإثنتي عشرة سنة. قلنا إن «العلم سلطان»؛ و من يملك هذا العلم و هذا السلطان، وفقاً لما تفيده هذه الرواية يستطيع أن يصول به؛ أي يستطيع ان يتحكّم بالمجال العالمي؛ بمعنى أن يسير قدماً نحو تحقيق أهدافه. و من لم يجد هذا العلم صيل عليه، (4).. بمعنى أن الآخرين يتحكّمون به. و هذا هو منطقنا في هذه الحركة العلمية التي بدأناها منذ ما يقارب العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة. و مما يدعو إلى الإرتياح أن هذه الحركة في البلد قد آتت ثمارها الآن إلى حدًّ بعيد. و لكنهم يستهدفون إيقافها. و هذا ما يستدعي منكم أن تتعاملوا مع هذه الحالة بنوع من الحساسيّة.
إذن، ينبغي أن ننظر إلى العدو بمثل هذه النظرة: نظرة إلى الحركة الجبهوية للعدو. و عند ذاك تتضح دواعي دعمهم لبعض التيارات، و تهجّمهم على تيارات أُخرى، و تدخّلهم في بعض الشؤون الداخلية للبلد. و تُعرف الغاية الكامنة وراء ذلك. و هذا الواقع يستدعي منّا التحلّي بالوعي و اليقظة إزاء ما يقومون به من أفعال.
من الأمور التي أودّ أن أوصي بها التنظيمات الطلابية على وجه الخصوص هو أن تقوموا على نحو فاعل بنشاطات فكرية و ثقافية مبرمجة و هادفة و جذرية. فالعدو قد يُطلق في وقتٍ ما حملة شعواء على الجامعات علانية. حينها يجب أن يكون لكم تواجد علني هناك. مثلما حصل في أيّام فتنة عام 88 و ما شاكل ذلك. و في وقت آخر قد لا تأتي حملته علانية. و حينها ينبغي أن يكون تواجد الجماعات الطلابية تواجداً فكرياً جذرياً و عميقاً. عليكم أن تقوموا بعمل جذري و عميق حول المسائل الكلامية، و حول القضايا الأخلاقية، و حول مسائل التاريخ، و حول شؤون الثورة. و عليكم أن تعملوا حول مختلف شؤون البلاد، و منها هذه القضايا التي تطرّق إليها الإخوان هنا. فمن المستحسن جداً أن تجروا بحثاً حول البنك المركزي، و حول النظام الصحّي، و حول قضية الجهاد الاقتصادي؛ و لكن لا ينبغي الاكتفاء بهذا الحدّ، إذ يجب القيام بعمل جذري حول المسائل الكلامية. و يجب القيام بنشاط حول الشؤون السياسية للبلاد بعيداً عن العواطف و المشاعر. إن العواطف و المشاعر شيء حسن و طاهر طبعاً، و أنا لا أعارض أبداً التعبير عن المشاعر و لا أُمانع من التحرّك العاطفي و خاصّة لدى الشباب، فمن غير الممكن و لا من المطلوب أن تنكمش المشاعر، و لكن من الضروري النظر و التفكير و التعمّق في الشؤون المختلفة و منها الشؤون السياسية بعيداً عن مؤثّرات المشاعر.
و من الأمور التي أُوصي بها بكل جدّ اجتناب التحلّل و التهتّك في النشاطات الثقافية و الفنية. كونوا في هذا الجانب على حذر. و هناك أمثلة على ما أقول، و لكن هذه الأمثلة ليست في الوقت الحاضر و إنّما تعود إلى ما يقارب ثماني عشرة سنة مضت؛ إذ علمتُ في حينها أن مجموعة من الطلبة في الجامعة كانت هناك فلتات من التحلّل في مراسيمهم. و قد أحطتهم علماً بذلك في ذلك الوقت ـ إذ أنهم لم يكونوا بعيدين عنّا ـ و لكنهم لم يلتفتوا، و التبعات التي أعقبت ذلك العمل لم تكن تبعات حميدة. فلا بدّ أن يكون هناك حذر و احتراز صارم من التحلل الثقافي و من التهتّك الأخلاقي، و أن يواجه بحزم.
من السياسات التي يعتمدها العدو اليوم إشاعة الرذيلة. و عليكم أن تحاربوا سياسة الاستكبار هذه. و هم مثلما يخططون للحصار الاقتصادي كذلك يخططون لإشاعة الرذيلة، و هذا الكلام ليس من باب إطلاق الشعارات. و إنّما يتكون هذا الرأي لدينا من خلال مجموعة من المعطيات و المعلومات؛ فلدينا معلومات تفيد أنهم يضعون البرامج و المخططات و يقولون إنه لا بد من إشاعة الرذيلة بين الشباب من أجل تحطيم مقاومة الجمهورية الإسلامية. أي إنهم يضفون على هذه القضايا طابعاً سياسياً. و هذا يتطلّب التصدّي له و مواجهته. و لا بد أن تكون المواجهة صحيحة طبعاً و هذا نوع من الصمود المشرّف ضد مخططات الاستكبار.
الوصية الأُخرى هي أن تبدي التنظيمات الطلابية المزيد من التعاون و التنسيق الفكري و التكاتف في ما بينها. و لا أريد الآن أن أقترح عليكم شيئاً بعينه حتماً، و إنّما يبدو أن الضرورة تتطلّب وجود مجمع تنسيقي بين هذه التنظيمات من أجل أن تسير في اتجاه واحد. إنّ التوجهات العامّة متوازية تقريباً و جيّدة. و لا أريد القول إن هذه التنظيمات بما لها من خصوصيات يجب أن تضع كل خصوصيّاتها في سلّة واحدة؛ بل إن التنوّع و الخصوصيات المختلفة في التنظيمات لا ضرر فيه، غاية ما في الأمر أنه لا بدّ من إيجاد نوع من التنسيق في الاتجاهات و في السير نحو تحقيق أهداف الثورة، لكي يكون لكم تأثير في المناخ الطلاّبي. إن هذه التنظيمات يجب أن تكون قادرة على التأثير في الجو الطلاّبي. في الواقع إن الجو الطلابي جو جيّد، و لكن هذا لا يعني أن الجو الطلابي لا إشكال فيه، و لا انحراف، و لا خطأ، و لا زلل. و هل ثمة مكان يخلو من هذه السلبيات؟ فحتّى أكثر التشكيلات و الأجواء قدسية لا بدّ أن يوجد فيها أو يشاهد فيها الإنسان حالات من الزلل، و لكن الجو الطلابي على العموم جو حافل بالنشاط و مليء بالحركة. و يُعتبر في المجموع الكلّي جواً دينياً و ملتزماً بالمبادئ. و هذا مغنم لا يضاهيه مغنم. فهذا هو واقع أجوائنا الطلابية، و هذا ما ينبغي استثماره. يجب التأثير في هذا الجو، و يجب توجيهه في الاتجاه الصحيح.
وصيّتنا الأُخرى هي أن المسؤولين الجامعيين في البلاد و كذلك التنظيمات الطلابية، عليهم أن يسعوا ليكون بينهم تعاون و مسايرة. يتناهى إلى الأسماع أحياناً ما ينمّ عن انعدام مثل هذا التعاون، أو يدلّ على وجود تعارض. نعم، إن بعض الحوادث قد تحصل، حيث أشار أحد الإخوة إلى القضية التي وقعت في بوشهر و ما شاكل ذلك؛ و لكن يجب أن يكون هناك تعاون و تآزر؛ لأن الأهداف واحدة، و هي أهداف الثورة. إن المسؤولين يبذلون الكثير من الجهد و المشقّة، و يتصبّبون عرقاً ـ و هذا ما يراه الإنسان بأُمّ عينه ـ و يفكّرون؛ و هم يبذلون قصارى مساعيهم و يفكّرون على قدر ما تجود به أذهانهم. و هؤلاء الشباب في التنظيمات الطلابية كلهم أصحاب اندفاع و نشاط و صلاح. و يجب على هذه الكتل أن تتعاون في ما بينها.
في ما يخص العلوم الإنسانيّة التي أشير إليها في ما أُلقي من كلمات، أود أن أُبيّن هذه المسألة و هي أن ما قلناه حول العلوم الإنسانيّة، و أُكرّر قوله هنا أيضاً، هو ما سبق قوله، و مؤدّاه إننا يجب أن نجتهد في العلوم الإنسانيّة و لا نكون مقلّدين. و لو حذفت مثلاً بعض فروع العلوم الإنسانيّة من الجامعة أو لم تحذف، أو أُنقصت، فهذا لا رأي لي فيه و لا أرفضه و لا أؤيده؛ إذ إنه ليس من اختصاصي، و إنّما هو من اختصاص المسؤولين المعنيين. و قد يرون أن المصلحة تستدعي حذف بعض الفروع أو عدم حذفها. و أنا لا أتكلّم عن هذا، و إنّما كلامي هو إننا يجب أن نقوم بعملٍ جذري في حقل العلوم الإنسانيّة و على ذوي الفكر و الاختصاص أن يمارسوا دورهم في هذه المجالات.
يبدو أن الوقت قد انتهى، و قد قلنا ما كُنّا نرى لزوم قوله. أسأل الباري تعالى أن يحفظكم بحفظه.
اللّهم إنّي أقسم عليك بأوليائك أن تنزل من فضلك و بركاتك على شبابنا. اللّهم و نسألك أن تقرّب أجواء الشباب في بلدنا يوماً بعد آخر نحو الأهداف و التطلّعات الإسلاميّة! اللّهم بحق محمّد و آل محمّد حقّق لهؤلاء الشباب أمانيهم و تطلّعاتهم، و مُنَّ على كلّ مسؤولي البلاد و علينا بالتوفيق حتّى نتمكّن من السير خطوات واسعة على طريق تحقيق هذه الأهداف. اللّهم أر شبابنا الأعزّاء رأي العين قيام أُمّة إسلاميّة واحدة و بلد إسلامي واحد بكلّ معنى الكلمة. اللهم و اغمر الأرواح الطيبة لشهدائنا الأبرار، و الروح الطاهرة لإمامنا الخميني الراحل، بالرضا عنا.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - وسائل الشیعة، ج 27، ص 27 .
2 - سورة الرعد، الآیة 18 .
3 - سورة فصلت، الآیة 30 .
4 - شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید، ج 20، ص 319 .