بسم الله الرحمن الرحیم
إنها لجلسة طیبة و محببة جداً بالنسبة لی هذه الجلسة الرائعة الزاخرة بالمعانی، و بحضور هذا الحشد الهائل الکبیر من الشباب الطلبة الجامعیین و الأساتذة المحترمین فی هذه المحافظة، و یجب القول: ما شاء الله لهذا العدد الکبیر العظیم من الطلبة الجامعیین و الأساتذة فی هذه المحافظة. الأفکار و الآراء التی عرضها الأعزاء، سواء ما ذکره رئیس هذه الجامعة المحترم العالم المتدین، أو ما ذکره شبابنا الأعزاء، کانت فیها آراء جدیرة بالنظر و المتابعة.
اللقاء بکم أیها الشباب الأعزاء مهم بالنسبة لی من ناحیتین: الأولی هی أن مجرد التواجد بین الشباب و الاستماع منهم و التحدّث إلیهم یمنح الإنسان روحاً شبابیة و حیویة و نشاطاً، و نحن الیوم فی مختلف المسؤولیات و المواقع بحاجة إلی روح النشاط هذه. فی مثل هذه الاجتماعات تتموّج حالات الإبداع و التجدید و الطموح إلی القمم العالیة، و هذا هو الشیء المحبّذ و المنشود عندنا.
و الناحیة الثانیة هی أن جیل الشباب حمل علی عاتقه أعباء الثورة، و لا یزال یحملها، و سیحملها فی المستقبل أیضاً. هذه حالة لا تختص بالشباب فی عقد الستینات [ الثمانینات المیلادیة ]، إنما جیل عقد التسعینات أیضاً و هم أنتم تتحملون أعباء ثقیلة. و أنا أری و أشاهد أن الشباب فی بلادنا، و خصوصاً الشباب من الطلبة الجامعیین و الدارسین، یحملون هذه الأعباء بنحو جید، و سوف یصلون بها إلی المقاصد إن شاء الله.
سواء فی الوقت الحاضر حیث هو وقت الجهاد و الصمود و البصیرة و الصبر فی مسار الثورة، أو فی المستقبل حیث ستلقی مسؤولیات و مهام کثیرة فی میادین مختلفة علی عواتقکم أیها الشباب - فی المیدان العلمی، و فی المیدان السیاسی، و فی المضمار الاجتماعی، و فی المجالات الدبلوماسیة، و فی المیادین الاقتصادیة، و التقنیة، و کل میادین الحیاة - یبقی دور الشباب دوراً بارزاً. إذن، أنتم الیوم مسؤولون و تبذلون الجهود، و ستکونون کذلک فی المستقبل أیضاً. و هکذا فإن اللقاء بالشباب و التحدث معهم و الاستماع إلیهم له أهمیته.
استحسن الرسول الأکرم (ص) حال أحد صحابته من الشباب فدعا له و قال: «اللهم أمتعه بشبابه» (1). و یتجلی من هذا أن لیس جمیع الشباب یتمتعون بشبابهم، لذلک دعا الرسول الأکرم (ص) لهذا الشاب بمثل هذا الدعاء. فما هو معنی التمتع بالشباب و الاستفادة من الشباب؟ من الخطأ أن نتصوّر أن الاستمتاع بالشباب هو إصابة الملذات من الشهوات المادیة الشبابیة و التسلیات الشبابیة و اللهو فی فترة الشباب. لیس هذا هو التمتع بالشباب. لقد قال الرسول الأکرم (ص) فی حدیث آخر: «ما من شابّ یدع لذّة الدنیا و لهوها، و أهرم شبابه فی طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنین و سبعین صدیقاً» (2). و یقول الشاعر: «الطهر فی فترة الشباب من أخلاق الأنبیاء». و المثال الذی عرضه الله تعالی کنموذج للشباب هو النبی یوسف (ع). لیس هذا هو التمتع بالشباب، بل التمتع بالشباب هو أن یقضی الإنسان شبابه فی طاعة الله، کما ورد فی الحدیث «أهرم شبابه فی طاعة الله». و طاعة الله لیست فی الصلاة فقط. طبعاً الصلاة لها فضیلة کبیرة و هی مهمة و بنّاءة، لکنها لیست وحدها طاعة الله. ثمة مصادیق کثیرة لطاعة الله فی میادین الحیاة الواسعة، و من أهمها ترک المعاصی و عدم التلوث بها. و حینما تدرسون فإن ذلک طاعة لله. و حینما تبتکرون و تبدعون فإن ذلک طاعة لله. هذه الأعمال التی ذکرها الشباب الأعزاء هنا - فی مجال القضایا الکیمیاویة و الطاقة و العلوم الإنسانیة و الطب و غیر ذلک - الجدّ و السعی فی هذه السبل کله من طاعة الله.
حینما نتحدث للشباب فإن الکلام کثیر و لدینا الکثیر مما نقوله، و طبعاً فإن الشباب أیضاً لدیهم الکثیر مما یقولونه لنا، و ینبغی الاستفادة من هذه الفرص، و لکن بمناسبة القضایا الجاریة فی المنطقة و هذه الثورات التی حدثت و النهضات التی قامت، و الأنظمة الطاغوتیة الرجعیة المستکبرة العمیلة التی سقطت خلافاً للمتوقع و لکل التحلیلات، و کذلک تبعات ذلک و آثاره و استحقاقاته، من الضروری التحدّث حول هذا الموضوع، و سوف أتطرق لهذا الجانب إن شاء الله.
هذا الآثار التی ذکرتها هی تجاذبات علنیة و خفیة تحدث حول الأنظمة البدیلة. فی مصر مثلاً - و هذا أمر محسوس و مشهود بالنسبة لمن یتابعون الأحداث - لا مراء أن أیادی الاستکبار و عملاءه یحاولون بعد سقوط النظام العمیل التابع أن یأتوا بنظام یکون هو الآخر عمیلاً و تابعاً للغرب. یحاولون أن یأتی نظام تابع للغرب یطبق مخططات الغرب و مخططات أمریکا طبقاً لما یرغب به الغرب و أمریکا، و لکن بشکل أحدث. البعض یرغبون فی أن یخرج هذا النظام الجدید عن الشکل الهرم المتهرّئ الکریه الذی کان علیه نظام حسنی مبارک، و یتقنّع بشکل أکثر صلاحاً. البعض یسعون لهذا و یبذلون الجهود و ینفقون الأموال. و البعض لا یریدون هذا، لکنهم یسعون لتولی نظام علمانی زمام الأمور.. نظام لا یکون له التزام دینی. هؤلاء أیضاً یعملون و یسعون. و البعض ینشدون قیام نظام إسلامی. طبعاً تفاسیر النظام الإسلامی و تأویلاته مختلفة. و بالتالی توجد تجاذبات فی هذا المجال و من أجل توفیر نظام الحکم البدیل.
من الطبیعی أن من العوامل التی یمکنها أن تکون مؤثرة فی هذا المجال المکتظ بالتجاذبات و القرارات و التأثیرات المستقبلیة هو نظام الجمهوریة الإسلامیة فی إیران، و سلوک رجال الدولة فی إیران و سلوک أبناء الشعب و عموماً ما یعرضه نموذج نظام الجمهوریة الإسلامیة. لقد قلتها فی حشود أهالی کرمانشاه الأعزاء: إن صورتنا الحسنة الیوم و أعمالنا الصالحة و سمعتنا لها تأثیرها فی البلدان التی إما أنها قامت بثوراتها، أو هی علی وشک الثورة. ذهاب سمعتنا لا سمح الله، و ظهورنا بمظهر عدم الکفاءة، و تشویه صورتنا سوف تترک کلها تأثیرات سلبیة متقابلة علی الشعوب الثائرة. لذلک من المهم جداً ما نکون و کیف نکون و کیف نعمل.
و لهذا السبب أطرح الیوم إعادة قراءة للهویة الکلیة و الشکل العام للثورة. هذا مهم بالنسبة لنا. لا یمکننا أن ننکّس رؤوسنا و لا نفهم ما الذی یجری فی العالم، و نسیر هکذا فی دربنا. مثل هذه الحرکة بأعین و آذان مسدودة و من دون اهتمام و نظر للأطراف، و من دون النظر للحقائق، و من دون النظر للآفاق البعیدة، تؤدی غالباً إلی الضلال و الخطأ.
سوف أعرض الیوم هنا جانباً من إعادة القراءة هذه، و طبعاً سیکون هذا إن شاء الله برنامجنا الأعم و الأوسع. إذا نظرنا لأنفسنا و وجدنا أن فینا انحرافاً، فیجب أن ننظر من أین حصل هذا الانحراف و کیف بدأ؟ من أیة نقطة بدأ الانحراف بزاویة معینة عن الخط المستقیم؟ و ما هو سبب ذلک؟ یجب دراسة هذه الأمور. تطرح بعض الأسئلة. سأطرح فی حدود ما یسمح به الوقت سؤالین أو ثلاثة و أدلی ببعض الإیضاحات حولها.
أحد الأسئلة هو کیف یمکن تحلیل مسألة شیخوخة النظام و شبابیته؟ لکل کائن حیّ فترة شباب و فترة شیخوخة. فما هو وضع النظام الإسلامی فی هذا المجال و کیف سیکون؟ هل سیشیخ النظام الإسلامی؟ هل سوف یتهرّأ؟ و هل سوف یعطل و یعطب؟ و هل هناک سبیل للحیلولة دون ذلک؟ إذا حدث مثل هذا فهل یمکن تصوّر علاج لذلک؟ هذه أسئلة مهمة. ینبغی أن تطرح هذه الأسئلة فی مراکز الفکر و مواطن اتخاذ القرار و صناعته - فی الحوزة و الجامعة غالباً - بین أصحاب الفکر، و یجب التفکیر فیها و مناقشتها. و أنتم الشباب فکروا بدورکم فی هذه الموضوعات.
أذکر هنا نقطة معینة. ثمة سلسلة منطقیة سبق أن ذکرناها و ناقشناها. الحلقة الأولی فیها هی الثورة الإسلامیة، ثم یأتی تأسیس النظام الإسلامی، ثم تشکیل الحکومة الإسلامیة، ثم تشکیل المجتمع الإسلامی، ثم تشکیل الأمة الإسلامیة. هذه سلسلة مستمرة مترابطة مع بعضها. المراد من الثورة الإسلامیة - و هی الحلقة الأولی - هو التحرک الثوری، و إلا فالثورة بمعنی من المعانی تشمل کل هذه المراحل. مرادنا من الثورة الإسلامیة هنا هو التحرک الثوری و النهضة الثوریة التی تسقط النظام الرجعی القدیم التابع الفاسد العمیل، و تمهّد الأرضیة لقیام نظام جدید. الحلقة التالیة هی النظام الإسلامی. و مرادی من النظام الإسلامی هنا هو تلک الهویة الکلیة ذات التعریف المحدّد التی ینتخبها البلد و الشعب و أصحاب الثورة، و هم الجماهیر. بخصوص حالتنا فقد انتخب شعبنا الجمهوریة الإسلامیة. و الجمهوریة الإسلامیة هی النظام الذی تستمد فیه الدیمقراطیة من الإسلام و تتماشی مع القیم الإسلامیة. لقد اجتزنا حتی هذه الحلقة.
و المراد من الحکومة الإسلامیة هو تکوّن دستور للبلاد علی أساس ما ظهر فی فترة تعیین النظام الإسلامی، و جری تعیین مؤسسات و مراکز إدارة البلد. مجموعة هذه المؤسسات الإداریة هی الحکومة الإسلامیة. و المراد من الحکومة هنا لیس السلطة التنفیذیة فقط، إنما مجموعة الأجهزة الإداریة فی البلد التی تتولی إدارته. الأنظمة المتنوعة التی تدیر البلاد. و القسم التالی هو المجتمع الإسلامی، و هو قسم مهم و أساسی جداً. بعد أن تشکلت الحکومة الإسلامیة ستکون مسؤولیتها و التزامها هو تحقیق المجتمع الإسلامی. فما هو المجتمع الإسلامی؟ إنه المجتمع الذی تتحقق فیه المبادئ الإسلامیة و الأهداف الإسلامیة و الآمال الإسلامیة الکبری التی رسمها الإسلام للبشریة. المجتمع العادل الذی یتمتع بالعدالة، المجتمع الحرّ، المجتمع الذی یکون لأبنائه دورهم و تأثیرهم فی إدارة البلد و مستقبله و تقدّمه.. المجتمع الذی یتمتع بالعزة الوطنیة و الاستغناء الوطنی، و الرفاهیة، و الخالی من الفقر و الجوع، و المجتمع المتوفر علی التقدم الشامل - التقدم العلمی و الاقتصادی و السیاسی - و بالتالی المجتمع الخالی من السکون و الرکود و التوقف و المراوحة، و الذی یسیر دوماً فی طریق التقدم و التطور.. هذا هو المجتمع الذی ننشده و نسعی له. طبعاً لم یتحقق هذه المجتمع بعد، لکننا نسعی لتحقیقه . إذن هذا هو هدفنا الوسیط الأصلی المهم.
لماذا نقول إنه هدف وسیط؟ لأن هذا المجتمع عندما یتشکل ستکون مسؤولیته الأهم هو أن یستطیع الناس فی ظل مثل هذا المجتمع و مثل هذه الحکومة و مثل هذه الأجواء الوصول إلی کمالهم المعنوی و الإلهی، إذ یقول: «و ما خلقت الجنّ و الأنس إلا لیعبدون» (3).. أن یصل الناس إلی العبودیة. «لیعبدون» فسّروها و ذکروا أن معناها «لیعرفون». و هذا لا یعنی أن «عَبَدَ» بمعنی «عَرَفَ»، و أن العبادة معناها المعرفة، لا، بل بمعنی أن العبادة من دون معرفة لا معنی لها و غیر ممکنة و لیست بعبادة. و إذن، فالمجتمع الذی یصل إلی عبودیة الله، أی یصل إلی معرفة کاملة لله، و یتخلق بأخلاق الله، یکون قد وصل إلی نهایة الکمال الإنسانی. إذن، ذلک هو الهدف النهائی، و الهدف الذی یسبقه هو إیجاد المجتمع الإسلامی، و هو هدف جد کبیر و رفیع. طیب، حینما یتوفر مثل هذا المجتمع فسوف تتوفر الأرضیة لإیجاد الأمة الإسلامیة، أی اتساع هذا المجتمع، و هذا موضوع آخر و بحث آخر.
هذا الشیء الذی ذکر باعتباره هدفاً أمر جد سام و رفیع. أقول أولاً إن هذه المفاهیم - مفهوم العدالة، و مفهوم الحریة، و مفهوم تکریم الإنسان - مقصودة عندنا بمعانیها الإسلامیة، و لیس بمعانیها الغربیة. للحریة فی المنطق الإسلامی معنی یختلف عن معنی الحریة فی المنطق الغربی. تکریم الإنسان و احترامه و تقییم إنسانیة الإنسان فی المفهوم الإسلامی یختلف عنه فی المعنی و التصوّر الغربی. کان من مشکلاتنا طوال هذه الأعوام أن البعض ترجموا المفاهیم الإسلامیة للمفاهیم الغربیة، و کرّروا کلام الغربیین، و أرادوا تحقیقه و تطبیقه، و الحال أن الثورة الإسلامیة لم تهدف لهذا. الحریة الغربیة فی مجال الاقتصاد هی ما ترون، اقتصاد «آدم سمیث» و الوصول إلی هذا الوضع الدکتاتوری الاقتصادی القائم فی العالم الذی راح یعبّر الآن عن انحلاله و انهیاره تدریجیاً. لیس هذا مرادنا من الحریة. الحریة الإنسانیة لا تعنی الحریة الأخلاقیة و التحلل الثقافی الغربی. یجب أن لا نکرّر کلام الغربیین من أجل أن نحظی برضاهم، و هو کلام خطأ و باطل و راح یثبت بطلانه فی الوقت الحاضر. إننا نتحدث عن احترام الإنسان و احترام المرأة، فیجب أن لا یختلط هذا مع ما یترجم و یقال و یذکر فی الغرب تحت هذه العناوین. المفاهیم الإسلامیة هی المقصودة. العدالة بمعناها الإسلامی و الحریة بمعناها الإسلامی و کرامة الإنسان بمعناها الإسلامی، و هذه کلها مفاهیم واضحة فی الإسلام. و الغربیون لدیهم آراؤهم و کلامهم، و طریقهم فی هذه المجالات و التقییمات طریق أعوج منحرف.
و لیعلم الجمیع و أنتم تعلمون طبعاً أن الغربیین لم یعملوا أبداً حتی بهذه المفاهیم التی طرحوها هم و نادوا بها. أی إن من بیدهم زمام الأمور و الساسة و الأقویاء فی الغرب لم یلتزموا حتی بالعدالة و الحریة حسب المفهوم الذی طرحوه هم. طرحوا هذه المفاهیم کیافطات، و فعلوا کل ما شاءوا تحت هذه الیافطات. مثلاً هجموا علی أفغانستان تحت یافطة صناعة الدیمقراطیة، لکن باطن القضیة لیس هذا. باطن القضیة هو أن أمریکا أو الناتو بحاجة إلی أفغانستان من أجل تأسیس قواعد و مقرّات ثابتة هناک کی یراقبوا من هناک الصین و الهند و إیران و جنوب غرب آسیا.
هاجموا العراق تحت ذریعة مکافحة السلاح النووی، لکن باطن القضیة لیس هذا. طبعاً نسجوا بعد ذلک قصصاً و قالوا إننا بحثنا فلم نجد شیئاً و کنا علی خطأ! لیس الأمر کذلک. أویمکن إنفاق کل هذه التکالیف المالیة و البشریة و الهجوم علی العراق بسبب تقریر خاطئ أو ملتبس أو غیر مُؤیَّد؟ لم یکن الهدف من الهجوم علی العراق مکافحة الأسلحة الکیمیاویة بل السیطرة علی بلد ثری نفطی بجوار الجمهوریة الإسلامیة، و الهیمنة علی العالم العربی و دعم إسرائیل و استکمال سلسلة الاستکبار فی هذه المنطقة.
و الآن تواصل قوات الناتو هجماتها علی لیبیا. منذ شهور و هذه الهجمات الجویة تتواصل من دون أی ترخیص حقیقی إنسانی قانونی و دولی. یقولون إننا نرید ضرب القذافی! لیست هذه هی القضیة. القضیة هی تمهید الطریق للشرکات النفطیة. لیبیا منطقة مشرفة علی مصر، و مشرفة علی تونس، و مشرفة علی السودان، و مشرفة علی الجزائر، و مطلة علی البحر الأبیض المتوسط، و علی بعد خطوة من أوربا. یریدون أن یکون لهم هناک مرکز و مقرّ کی یستطیعوا فرض حکمهم علی هذه المنطقة، و یسمّون ذلک الحرب علی القذافی! و الحال أن القضیة لیست هذه. أی حتی هذه المفاهیم و الأهداف التی یتشدق بها الغرب غالباً ما یجعلها غطاء لمقاصده الشیطانیة. و بهذا، حینما نقول العدالة، و حینما نقول الحریة لا نقصد نفس ما یقصدونه، و لا نرید نفس تلک الدیمقراطیة الکاذبة. أقولها بقاطعیة: إن الدیمقراطیة الشائعة فی الغرب راهناً - و هناک استثناءات فی بعض الأماکن - هی فی الغالب دیمقراطیة کاذبة و غیر واقعیة. إذن، مرادنا مفاهیم مستمدة من منطق الإسلام و القرآن و ما یوجد فی المعارف الإسلامیة.
إذن، تشکیل المجتمع الإسلامی هدف، و بهذه الخصوصیات و المؤشرات التی ذکرت. هذا الهدف لا یبلی و لا یصیر قدیماً عتیقاً أبداً. المطالبة بالعدالة حالة لا تُنسخ أبداً. منذ فجر التاریخ البشری و إلی الآن ینشد الإنسان العدالة و یسعی لها. أین ما کانت هناک نهضة تقوم بها الجماهیر و الشعوب فهی فی الغالب مناهضة لانعدام العدل، و مناهضة للتمییز. الإنسان ینشد الحریة. خلق الله تعالی الإنسان حراً.. «لا تکن عبد غیرک و قد جعلک لله حرّاً» (4).. خلقک الله حراً. الإنسان ینشد العدالة و یسعی لها. هذا مطلب فطری و لا یخلق أو یبلی.
و علیه، حینما ینظر المرء فی أهداف النظام الإسلامی و مبادئه - أی المجتمع الإسلامی بهذه الخصوصیات - یری أنها لا تبلی أبداً. کان الإنسان یبحث عن هذه المبادئ و الأهداف علی الدوام. و کلما سار فی هذا الطریق أکثر کان هناک مجال أکثر للمسیر و الحرکة. مثلاً، التقدم من مبادئکم و أهدافکم، و التقدم لیست له نهایة. «فوق کل ذی علم علیم» (5). کلما کان لدیکم من العلم فهناک ما هو فوقه و یمکن تصور علم أکثر و أعلی منه. أی إن المجال مجال لا نهایة له. إذن، فهی مبادئ و أهداف لا تبلی و لا تتهرّأ، لکن الحلقة السابقة لها فی مسیر الوصول إلیها هی کما قلنا الحکومة الإسلامیة. الحکومة الإسلامیة معناها الآلیات و المؤسسات اللازمة لإیجاد المجتمع الإسلامی.. نعم، هذه المؤسسات و الآلیات قد تخلق و تبلی و تصبح قدیمة. و قد تتغیّر مقتضیات الحیاة فی العالم بحیث تبدو هذه الآلیات و هذه الهندسة الحکومیة غیر کاملة و غیر محبّذة و یجب تبدیلها.. لا إشکال فی هذا أبداً. النظام الإسلامی یستوعب هذه التغییرات و لدیه هذه السعة و الإمکانیة. إذا کان النظام ینشد تلک المبادئ و الأهداف فتلک الأهداف لا تبلی و لا تخلق، لکن الآلیات و تنظیم المؤسسات التی ترید أن توصلنا إلی تلک الأهداف شیء ممکن التجدید.
طبعاً التجدید بمعنی أن الاقتضاءات الخارجیة و الواقع قد یقتضی أحیاناً شیئاً و یقتضی فی أحیان أخری شیئاً آخر. و من النماذج العملیة العینیة لذلک هو سیاسات المادة 44 فی باب الاقتصاد. ذات یوم کان تقسیم المصادر الاقتصادیة فی البلاد بالشکل الوارد فی صدر المادة 44 من الدستور. ذکروا أن هذه المؤسسات تابعة للقطاع العام، و تلک تابعة للقطاع الخاص - أحصوها و حدّدوها - و لکن ورد فی آخر هذه المادة نفسها أن هذا سیستمر طالما کان أمراً یساعد علی الازدهار الاقتصادی للبلد. فما معنی هذا؟ معناه أن الظروف إذا کانت بحیث لا یساعد هذا التنظیم و الترتیب علی الازدهار و التقدم الاقتصادی للبلد فیمکن تغییره، و قد تغیّر. هذا هو تبدیل الخطوط الهندسیة للنظام.
مثلاً، کان لدینا فی الدستور ذات یوم رئیس وزراء و رئیس جمهوریة بشکل معین. ثم أثبتت لنا التجربة أن هذا غیر صحیح، فأمر الإمام الخمینی باجتماع عدد من خبراء الشعب و من الجامعیین و من رجال الدین و من مجلس الشوری الإسلامی و من الشخصیات البارزة و النخبة، و تغییر هذا الشیء حسب الحاجة. و قد قاموا بذلک. و کذا الحال بالنسبة للقضاء. و هذه أمور ممکنة التغییر فی المستقبل.
نظامنا فی الوقت الراهن نظام رئاسی، أی إن الشعب ینتخب رئیس الجمهوریة بأصواته المباشرة. و قد کان هذا الأسلوب لحد الآن أسلوباً جیداً جداً و تمّ تجریبه بنجاح. فإذا ساد الشعور ذات یوم فی المستقبل البعید أو القریب - و من المحتمل أن لا یحدث ذلک فی المستقبل القریب - أن النظام البرلمانی هو الأفضل بدل النظام الرئاسی - کما هو موجود فی بعض بلدان العالم - فلا إشکال فی ذلک أبداً. بوسع نظام الجمهوریة الإسلامیة تبدیل هذا الخط الهندسی إلی خط هندسی آخر، و لا فرق بین الأمرین... و أمور من هذا القبیل.
طبعاً نفس هذا التغییر یجب أن یعتمد علی الأصول. نفس هذه النظرة المتجددة و التجدید و إعادة الهیکلة ینبغی أن تستند إلی الأصول و تکون نابعة و منبثقة من الأصول الإسلامیة. و من النماذج أیضاً حالة سیادة الکفاءة مثلاً، حینما یسود الشعور بأن سیادة الکفاءة تتحقق بهذا الشکل أفضل، أو أن العدالة تتحقق بهذا الشکل أفضل.
فی خصوص سیادة الکفاءة أعید علیکم قراءة هذا الحدیث من الرسول الأکرم (ص). فی فتح مکة عیّن الرسول شاباً له من العمر تسع عشرة سنة حاکماً علی مکة. حینما فتح الرسول مکة کان یجب أن یضع هناک حاکماً أو والیاً. و کان کل أولئک الشیوخ و الأکابر موجودین، لکن الرسول عیّن شاباً لا یزید عمره عن تسعة عشر عاماً حاکماً علی مکة. فأشکل البعض علی الرسول و قالوا إن هذا الشخص حدث السن فلماذا نصّبته حاکماً؟ و حسب الروایة قال الرسول الأکرم (ص): «لا یحتجّ محتجّ منکم فی مخالفته بصغر سنّه». الذین یعارضون تنصیب هذا الشخص حاکماً علی مکة لا تکون حجتهم ضده بأن سنه صغیر و أنه شاب، فهذا الاستدلال لیس بالاستدلال الصحیح. و إذا کانت لدیکم حجّة أخری فلا بأس، هاتوها و اذکروها، لکن صغر السن و العمر الشاب لیس بالحجّة الصائبة. «فلیس الأکبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأکبر» (6).. الشخص الأکبر سناً لیس هو الأفضل بالضرورة، إنما الشخص الأفضل هو الأکبر فی حقیقة الأمر. و الأفضل هنا هو الأکفأ. هذه هی سیادة الکفاءة. یجب مراعاة هذه الاعتبارات. فی جمیع منظمات الجمهوریة الإسلامیة، فی السلطة التنفیذیة، و فی السلطة التشریعیة، و فی السلطة القضائیة، و فی القوات المسلحة، و فی شتی المؤسسات، یجب مراعاة مبدأ سیادة الأکفأ هذا. و یجب اختیار الأکفأ، بمعنی أن الاختیارات و التعیینات یجب أن تتم طبقاً للمعاییر و الأهلیات، لا طبقاً للمیول و الدوافع الشخصیة. هذا بحد ذاته مبدأ فی الإسلام. کل التغییرات و التبدیلات فی الإسلام قائمة علی هذا الأساس.
و کذا الحال بالنسبة للسیاسات. سیاسات النظام أیضاً قد تتغیّر. ذات یوم تسود فی البلاد سیاسة اقتصادیة معینة، و فی یوم آخر تسود سیاسة أخری حسب المقتضیات و المتطلبات. و لکن کلا السیاستین یجب أن تستمد من الإسلام. کما یتعین أن یقوم هذا التغییر علی الأصول الإسلامی. و سیاستنا الدبلوماسیة قد تتغیر فی ظروف معینة، لکن هذا التغییر یجب أن یقوم علی أساس الأصول الإسلامیة. لا أن الشخص إذا کان هذا ذوقه، أو هذه مصلحته الشخصیة، أو هذا هو مقتضی بقائه فی السلطة فیحق له تغییر هذه السیاسة أو هذا الخط، لا، یجب أن تقوم التغییرات علی أساس المعاییر. و بالطبع ففی الدستور نفسه هناک ضمانات مقدّرة مسبقاً لهذا المعنی.
و إذن، فالنتیجة التی یمکن أن نخلص لها هی أن مبادئ النظام الإسلامی لا تقبل التغییر، و السبب هو أن هذه المبادئ مبادئ فطریة. لیست النظرة لهذه المبادئ نظرة أهواء و نزوات عابرة. إنما هی احتیاجات طبیعیة و منبثقة من فطرة الإنسان. الحاجة إلی العدالة، و الحاجة إلی الحریة، و الحاجة إلی التقدم، و الحاجة إلی الرفاه العام، و الحاجة إلی الأخلاق السامیة، هذه حاجات فطریة لدی الإنسان. و هذا هو معنی المجتمع الإسلامی. و هذا هو ما نصبو إلیه و ننشده. هذه أمور لا تقبل التغییر. أما النظم و المنظمات التی توصلنا إلی هذه الأهداف و المبادئ فهی تقبل التغییر أحیاناً و هذا یتبع مقتضیات الزمن.
و بالتالی فإنه حسب هذه الرؤیة یعدّ نظام الجمهوریة الإسلامیة ثابتاً من ناحیة، و متحولاً من ناحیة أخری. هناک ثبات، أی إن المسیرة مستمرة نحو المبادئ و الأهداف، و لا یوجد تذبذب أو تغییر للطریق. و الحرکة علی الخط المستقیم نحو المبادئ معینة، لکن الآلیات تتغیّر. أحیاناً یسیر المرء نحو هدف معین فیرکب سیارة، و فی جزء من الطریق یضطر لرکوب قطار، و فی جزء من الطریق قد یضطر لرکوب طائرة، و فی جزء من الطریق قد یتوجب أن یمشی علی قدمیه، لکن الهدف لا یتغیّر، مع أن شکل المسیرة و الحرکة یتغیّر.
و علیه، إذا أردنا تلخیص هذا الجانب، یجب أن نقول فی معرض الإجابة عن السؤال حول ملابسات شبابیة النظام و شیخوخته: أولاً إن تجدید النظام أمر ممکن، لکنه لا یعنی إعادة النظر فی المبادئ و المثل و الأهداف، لأن هذه الأهداف فطریة. ثانیاً التغییر بمعنی التجدید فی النظم و المنظمات و الآلیات و السیاسات أمر عملی ممکن و فی بعض الأحیان ضروری و یحول دون التحجّر، لکنه یجب أن یتمّ حسب الأصول. و النقطة الثالثة هی أن هذا التغییر یجب أن یجری علی أساس الأصول. و إذن، فالمبادئ التی تستمد منها الشاکلة الکلیة للنظام لا تقبل التغییر. هکذا هو نظام الجمهوریة الإسلامیة. و بهذه النظرة فإن النظام لا یتهرّأ و لا یقدم و لا یتحجر و لا یراوح فی مکانه، و یمکنه أن یبقی شاباً علی الدوام.
و طبعاً نضیف هنا أن الشباب و الشیخوخة لیس ملاکاً کاملاً. فبعض الأنظمة سیئة حتی فی شبابها. النظام الملکی و النظام الاستبدادی و النظام الذی یأتی بالقوة أو بالانقلاب هی أنظمة ملعونة و مرفوضة منذ بدایتها، و حتی فی فترة شبابها. النظام القائم علی أساس الأخلاق، و علی أساس المعرفة، و علی أساس الأصول الإسلامیة، و علی أساس المبادئ الفطریة لا یشیخ حتی لو مضت علی عمره مئات السنین. یمکنه أن یکون حیاً و نشیطاً و ولوداً و متقدماً علی الدوام. هذا هو المهم. انظروا لنظام الجمهوریة الإسلامیة من هذه الزاویة. و طبعاً فإن نظامنا رغم مرور ثلاثین سنة لا یزال فی أول عمره، أی فی مقابل الأنظمة الحاکمة فی العالم - مائتا سنة و ثلاثمائة سنة - لا یزال هذا النظام نظاماً فتیّاً. یتمتع نظامنا بنشاط الشباب بالمعنی الحقیقی للکلمة، لکننا حینما ننظر لآفاق المستقبل نجد أن هذه الحالة مستمرة و باقیة. نظام متوثب و نشیط و متقدم إلی الأمام و لا یشیخ. هذا هو نظام الجمهوریة الإسلامیة.
و من القضایا أیضاً قضیة القیادة، و هی حالة موجودة فی الجمهوریة الإسلامیة و غیر دارجة فی العالم. ولایة الفقیه التی أعطی إمامنا الخمینی الجلیل معناها و عرّفها، ثم طبّقها، ثم کان هو مظهرها التام و الکامل - و کل من یعرفه عن قرب کانت تتجلی له مع مضی الوقت الخصائص البارزة و الممتازة لهذا الرجل أکثر فأکثر - أی إدارة حیة متوثبة و متقدمة. ذکر الإمام الخمینی عبارة: ولایة الفقیه المطلقة. و أراد البعض بمغالطاتهم تشویه هذه القضیة و إطلاق معنی و تفسیر خاطئ لها، فقالوا إن معنی الولایة المطلقة هو أن القیادة فی نظام الجمهوریة الإسلامیة مطلقة و متحررة من کل القوانین، کالحصان المنفلت الزمام الذی یستطیع أن یفعل ما یشاء و یذهب إلی أین شاء. لم تکن هذه هی القضیة، و لیست کذلک فی الوقت الحاضر أیضاً. لقد کان إمامنا الخمینی الجلیل متقیداً أکثر من الجمیع بمراعاة القوانین و الأصول و المبانی و تفاصیل الأحکام الشرعیة. و هذا هو واجب القیادة. فی نظام الجمهوریة الإسلامیة لا تتبع القیادة أن یعزلها أحد إذا افتقدت الشروط و المؤهلات و حسب، بل إذا لم تتوفر هذا الشروط فیه فإنه معزول من تلقاء نفسه. و هذا شیء علی جانب کبیر من الأهمیة. القیادة إدارة، و هی طبعاً لیست إدارة تنفیذیة. و هذا الإشکال و الخطأ أیضاً کان مستمراً فی بعض الإعلام علی مرّ الوقت منذ بدایة الثورة و إلی الیوم. یتصورون أن القیادة إدارة تنفیذیة، لا، الإدارة التنفیذیة واضحة و محددة. للإدارة التنفیذیة فی السلطة التنفیذیة ضوابطها المحددة و المعلومة و لها مسؤولوها المعلومون. و کذا الحال فی السلطة القضائیة و هی بدورها إدارة تنفیذیة، لکلٍّ مسؤولیاته. و وضع السلطة التشریعیة أیضاً معلوم و معروف. القیادة تشرف علی هؤلاء. بأی معنی؟ بمعنی أنها تراقب و تحرس المسیرة العامة للنظام.
الواقع أن القیادة إدارة قیمیة عامة. کما سبق أن أشرت، أحیاناً تفرض الضغوط و المضایقات و الضرورات بعض حالات المرونة غیر اللازمة و غیر الجائزة علی الإدارات المختلفة، و یجب علی القیادة أن تراقب و ترصد و لا تسمح بوقوع مثل هذه الممارسات. هذه مسؤولیة جد کبیرة و جسیمة. هذه لیست مسؤولیة تنفیذیة، و لیست تدخلاً فی الأمور و الأعمال. البعض یحلو لهم أن یقولوا هذا، بأن القرارات الفلانیة لا تتخذ من دون رأی القیادة. لا، لیست المسألة بهذه الصورة. للمسؤولین فی القطاعات المختلفة مسؤولیاتهم المحددة و المرسومة. فی المجال الاقتصادی و فی المجال السیاسی و فی المجال الدبلوماسی، و نواب المجلس فی مجالاتهم، و مسؤولو السلطة القضائیة فی مجالاتهم لهم مسؤولیات مرسومة و معروفة. القیادة لا تستطیع التدخل فی کل هذه، و لیس لها الحق فی التدخل، و لا هی قادرة علی التدخل، بل إن هذا غیر ممکن أساساً. قد تتخذ الکثیر من القرارات الاقتصادیة و لا تکون موضع قبول القیادة و رضاها لکنها لا تتدخل، فهناک مسؤولون یجب أن یعملوا. نعم، حینما یفضی اتخاذ سیاسة معینة إلی انحراف طریق الثورة تبرز مسؤولیة القیادة. فی قرارات القیادة و ممارساتها یجب أن توظف العقلانیة لصالح الأصول، و ینبغی أن تستخدم الواقعیة لخدمة المبادئ و النزعة المبدئیة.
فی الملف النووی، و خلال الفترة الأولی التی شهدت بعض التلاطمات اتخذت خطوات قد لا تکون جیدة. و قلت فی کلمة عامة إنه إذا لم تتخذ هذه الخطوات فإننی سأتدخّل بنفسی. و هذا ما حصل. هذا هو معنی القیادة. هذا شیء مستلهم من الإسلام، و هو نقطة إیجابیة فی النظام الإسلامی.
الأجهزة المختلفة - السلطة القضائیة، و السلطة التنفیذیة، و السلطة التشریعیة - تقوم بأعمالها و مهامها القانونیة الملقاة علی عاتقها بکامل الصلاحیات المقررة لها فی الدستور، و لکن یجب أن لا تنحرف المسیرة العامة و الکلیة للنظام الإسلامی نحو تلک المبادئ، و إذا انحرفت فیجب مساءلة القیادة و اعتبارها هی المسؤولة. هو المسؤول عن الحیلولة دون وقوع هذا الانحراف. و طبعاً لهذه المسألة أمثلة عدیدة، و لأن الوقت لا یتسع أشیر باختصار لمثال واحد فقط.
قضیة العلاقات مع أمریکا التی عملوا بخصوصها ما عملوا خلال هذه الأعوام و جرت جهود معینة فی الفترات المختلفة و فی الحکومات المختلفة بتأثیر من عوامل متنوعة. و کان هذا یضرّ بالحرکة العامة للنظام، و لیس فیه فائدة لمعیشة الناس و حیاتهم. هنا حصلت الممانعة. و قضایا متنوعة من هذا القبیل.
کانت هناک قضیة أخری أردت أن أطرحها هی قضیة الأحزاب و التحزّب، و أظن أن الوقت أدرکنا، لذلک سأذکرها باختصار. فی البلدان التی ترون أنها شهدت ثورات، تنزل الأحزاب إلی وسط الساحة. و یطرح السؤال: ما هی نظرتنا للأحزاب و التحزّب؟ و الوقت الآن قلیل و لا أستطیع التفصیل فی الموضوع. و سوف أتحدث عنه بالتفصیل فی المستقبل إن شاء الله. أقول إجمالاً إننا لا نعارض التحزّب إطلاقاً. لیس من الصحیح أن یتصوّروا أننا نعارض الأحزاب و التحزّب. لقد أرسینا قبل انتصار الثورة أسس حزب کبیر نشیط، و أسّسنا هذا الحزب فی بدایة الثورة، و أیّد الإمام تأسیسه، و کنا نعمل بجدّ لعدة سنوات. طبعاً تمّ حلّ الحزب بعد ذلک لأسباب معینة. أشکلوا علینا فی ذلک الحین و قالوا إن التحزب یتعارض مع الوحدة العامة للمجتمع. و ألقیت فی ذلک الحین کلمة مفصلة، ثم کتبت و طبعت و نشرت تحت عنوان «الوحدة و التحزب». یمکن أن یکون هناک تحزب فی المجتمع من دون أن تصیب الوحدة أیة أضرار. الوحدة و التحزب لا یتنافیان. لکن التحزب الذی نقصده هو التنظیمات التی تمارس دور الدلیل و الهادی لأبناء الشعب نحو مبادئ معینة.
لدینا نوعان من الأحزاب. حزب هو عبارة عن قنوات للهدایة الفکریة. و الفکر هنا بمعنی الفکر السیاسی أو الفکر الدینی و العقیدی. إذا فعل البعض هذا فهو فعل حسن. و القصد هو أن لا تکون الغایة من الحزب الإمساک بالسلطة، بل یریدون إیصال المجتمع إلی مستوی من المعرفة و الوعی السیاسی و العقیدی. هذا شیء جید. طبعاً الذین تکون لدیهم مثل هذه المقدرة من الطبیعی أن یکسبوا الأصوات و یفوزوا فی التنافس علی السلطة و فی الانتخابات. لکن هذا لیس هدفهم. هذا شکل من التحزّب و هو موضع تأیید، و الساحة مفتوحة له، و یستطیع کلّ من شاء ممارسته.
و شکل آخر من الأحزاب هو تقلید للأحزاب الموجودة حالیاً فی الغرب - و لا أرید التحدث الآن عن الماضی - الأحزاب الغربیة راهناً بمعنی منتدیات للوصول إلی السلطة. بل إن الحزب معناه أساساً منظومة لکسب السلطة. تجتمع جماعة و تترافق و تستفید من أرصدتها و أموالها و إمکاناتها المالیة، أو تحصل علی ذلک من آخرین، أو تعقد صفقات سیاسیة، من أجل أن تصل للسلطة و تمسک بزمامها. و هناک جماعة أخری تنافسها و تقوم بأعمال تشبه أعمال الجماعة الأولی لتنزلها من سدة السلطة و تحلّ هی محلها. هکذا هی غالباً الأحزاب فی العالم الیوم. و من هذا القبیل الحزبان الذان یتناوبان علی السلطة فی أمریکا. هذه فی الحقیقة نواد للإمساک بزمام السلطة. أما هذا فلا، هذا الشیء لا وجه له أبداً. إذا أراد أشخاص فی داخل بلادنا التحزّب بهذه الطریقة فإننا لا نمنعهم. و إذا ادعی أحد أن النظام حال دون تشکیل الأحزاب فهذه کذبة جلیة، و لا یوجد مثل هذا المنع، لکننی لا أؤیّد مثل هذه الأحزاب. تشکیل مثل هذه الأحزاب و اللعب الحزبی بهذه الطریقة معناه الصراع علی السلطة، و هذا لا وجه له إطلاقاً. أما الأحزاب بمعناها الأول، أی مدّ قنوات داخل المجتمع لنشر الأفکار الصحیحة - سواء الأفکار العقیدیة و الإسلامیة أو الأفکار السیاسیة، و إعداد و تأهیل کوادر متنوعة - فهذا جید جداً، و هو شیء محبّذ و إیجابی. هذا هو مجمل القضیة أما التفاصیل فسوف نذکرها إن شاء الله فی أوقات أخری.
و أشیر بإیجاز إلی السیناریو الأمریکی الأخیر، فأقول إن قضیة الاغتیال هذه و الضجة الإعلامیة التی أثاروها مجرد سیناریو. یطلق الأمریکان کلاماً و یهبّ من هم فی أوربا من هناک لمعاضدتهم - کما لو یحوّل ذاک اللاعب الکرة لیضربها لاعب آخر - فیطلقوا فی العالم لعبة سیاسیة، و یستخدموا عملاءهم علی اختلاف أنواعهم و التابعین لهم فی المنطقة و خارج المنطقة، و یثیروا ضجة، فهذا سیناریو أمریکی. نحن طبعاً نرصد المجریات بدقة و ننظر لنری ما الذی یحدث و یجری خلف کوالیس هذا السیناریو. و لیعلموا أن الجمهوریة الإسلامیة سوف تجابه بکل قواها أیة مؤامرة و أی تحرک یراد منه التخریب و المضایقة. لا شک أن هناک نوایا شیطانیة، و قد شخصنا هذه النوایا إلی حدّ ما و سوف نشخصها و نتعرف علیها أکثر. إننا ننظر لنری ماذا یریدون أن یفعلوا. طبعاً قد تکون من أهدافهم الأولیة التغطیة علی الأحداث فی أمریکا. الناس فی ثمانین بلداً یدعمون و یأیّدون هذا التحرک العظیم الذی ظهر فی الوقت الراهن. إنهم یدافعون عن نهضة فتح «وال استریت»، هذا لیس بالشیء القلیل، بل هو شیء مهم جداً. لا مراء أن الشعوب الأوربیة یوم تعلم أن مشکلاتها ناجمة عن الهیمنة الصهیونیة فسوف تشتد تحرکاتها هذه و تتصاعد.
الکثیر من المشاکل القائمة حالیاً فی البلدان الأوربیة مثل بریطانیا و فرنسا و ألمانیا و إیطالیا ناجمة عن سیادة سیاسات الشبکة الصهیونیة الخبیثة علی حکومات هذه البلدان. إنهم یخافون من أصحاب الرسامیل و الشرکات الصهاینة و هم کثر فی العالم. و کذا الحال فی أمریکا أیضاً. تملق الصهاینة أسلوب شائع بین الساسة الأمریکان. و الحال کذلک فی أوربا أیضاً بدرجات معینة. حینما تعلم الشعوب - سواء الشعب الأمریکی أو الشعوب فی أوربا - أن کثیراً من هذه التعاسة ولیدة الهیمنة الشیطانیة لهذه الشبکة فلا ریب أن دوافعهم و محفزاتهم ستتضاعف و تحرکاتهم سوف تشتد. قد تقمع أمریکا الناس الیوم بقوات الشرطة بل بقوات الجیش - و لهذا الأمر سوابقه، فقبل سنوات ظهرت حرکة فی شیکاغو فتدخّل الجیش، و أظن أن الحدث کان فی زمن کلینتون و إبّان حکم الجماعة التی سبقت بوش - و هم لا یتورّعون عن هذا أبداً، یأمرون الجیش بالتدخل و یقمعون الناس و یضربون و یقتلون و یتشددون فی السجون فیقمعون هذه الحرکة لکنها لا تنتهی و تبقی ناراً تحت الرماد، و سوف تتأجج و تتصاعد ألسنتها ذات یوم بحیث تحرق کل هذا البناء الورقی الاستکباری و الرأسمالی، و تجعله رماداً و هشیماً.
و بالطبع، فإننا فی الوقت الحاضر نحذّر الساسة الأمریکان من أن تصدر عنهم أیة خطوة شیطانیة غیر مناسبة سواء علی الصعید السیاسی أو علی الصعید الأمنی. لیعلموا أن الجمهوریة الإسلامیة حیة و یقظة. إذا کانوا قد أداروا ظهورهم لشعبهم و تنکروا له فإننا مقبلون علی شعبنا. و إذا کانوا مبغوضین مکروهین من قبل شعبهم، أی مبغوضین من قبل الأکثریة من شعبهم - و هذا هو الحال - فإن القضیة فی الجمهوریة الإسلامیة علی العکس من ذلک. هذه التجمّعات الشعبیة الهائلة، الیوم و فی کل الحالات الأخری، مؤشر عزیمة راسخة لدی شعبنا. إننا جمیعاً فی الساحة، و کلنا من الشعب، و جمیعنا جنود الثورة و النظام الإسلامی. لیعلموا أننا هنا جسد واحد متلاحم قوی متحد، و سوف یقف بوجه أیة مؤامرة و لن نخضع لابتزاز أحد. من الخطأ أن یتصوّروا أنهم سیضغطون ثم یبتزون و یحصلوا علی شیء. و هذه بالطبع ممارسات دارجة لدی تلک القوی. هذه من الأعمال الشائعة التی تقوم بها القوی الدولیة المستکبرة. یجدون حکومة علی رأسها أفراد ضعفاء غیر مستندین إلی الشعب، فیضغطون علیهم و یختلقون إشاعة ثم یبتزونهم. لقد أثبتت الجمهوریة الإسلامیة طوال هذه الأعوام الإثنین و الثلاثین أنها لن تخضع لابتزاز أحد، و أن هذه الضغوط لن تؤثر علیها. «و لمّا رأی المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله و ما زادهم إلا إیماناً و تسلیماً». (7)
إننا حینما نلاحظ هذه الضغوط و الأعمال الشیطانیة و المؤامرات تمارس علینا من قبل أخبث شیاطین العالم نعلم أن وعد الله حق و نقول: «هذا ما وعدنا الله و رسوله». وعدنا الله أننا حینما نسیر فی الطریق المستقیم فسوف یجابهکم الشیاطین و المنحرفون، و هذا نموذج لذلک. هذا ما قاله الله لنا سابقاً و قالته لنا الآیات القرآنیة. «و صدق الله و رسوله».. کلام الله حق و صدق. «و ما زادهم إلا إیماناً و تسلیماً». هذا شیء یضاعف من إیماننا بالوعد الإلهی. قال الله تعالی: «لینصرن الله من ینصره» (8). کل من ینصر الله و دین الله و سبیل الله و المبادئ الإلهیة فإن الله سوف ینصره و یجعله المنتصر یقیناً. و اعلموا أن هذا شیء ینتظر شعب إیران العزیز.
کانت هذه الجلسة جلسة طیبة جداً. فهذا الاجتماع العظیم و هذا التجمّع الحماسی و هذه القلوب الطاهرة النقیة مما لا أستطیع أن أنساه.
اللهم بمحمد و آل محمد أنزل فضلک و لطفک و رحمتک علی هؤلاء الشباب الأعزاء، و علی أهالی کرمانشاه الأعزاء. اللهم انکب و دمّر أعداء الشعب الإیرانی. ربنا بمحمد و آل محمد ثبّت أقدامنا علی صراطک المستقیم. أرضِ عنا القلب المقدس لإمامنا المهدی المنتظر. و أرضِ عنا الأرواح الطاهرة للشهداء و الروح المطهرة لإمامنا الخمینی الجلیل.
و السلام علیکم و رحمة الله و برکاته.

الهوامش:
1 - الخرائج و الجرائح، ج 1، ص 52 .
2 - مجموعة ورام، ج 2 ، ص 60 .
3 - سورة الذاریات ، الآیة 56 .
4 - نهج البلاغة، الرسالة رقم 31 .
5 - سورة یوسف، الآیة 76 .
6 - بحار الأنوار، ج 21، ص 121 .
7 - سورة الأحزاب، الآیة 22 .
8 - سورة الحج، الآیة 40 .