بسم الله الرحمن الرحيم
اللّهم سدّد ألسنتنا بالصواب و الحكمة
أعرب عن ترحيبي بجميع الاخوة و الأخوات، و أشكر مشاركة الحضور الكرام في هذا العمل الجماعي العظيم الأهمية. كما أقدّم شكري على وجه الخصوص للمتحدّثين و المتكلّمين؛ سواء الذين تحدّثوا منهم أم الذين عبّروا عن مداخلات و اعتراضات. كما أشكر من صميم قلبي أيضاً مدير هذا البرنامج و رئيسه فضيلة الدكتور واعظ زاده؛ لحسن إدارته لهذه الجلسة من جهة، و الأكثر من ذلك لما قام به من تمهيد و تنظيم أساسي لشكل و محتوى هذه الجلسة، بمساعدة جماعة آخرين على مدّة عدّة أشهر.

إن الغاية من هذه الجلسة، و من هذه الندوات و الملتقیات، تبادل الرؤى بأسلوب علمي مع جماعات النُخبة حول القضايا الأساسية للبلد. و إذا عبّروا عن ذلك بالأفكار الاستراتيجية، فالتعبير صحيح، لأن الجهود تنصبّ في الواقع على أن نصل إلى فكر معيّن. غاية ما في الأمر أنه يمكن تقسيم ذلك و تنويعه. لدينا موضوعات فكرية كثيرة مثل الفكر حول العدالة، و الفكر حول المرأة، و الفكر حول الأُسرة، و غيرها من القضايا المدرجة ضمن قائمة قد يبلغ عددها عشرين و نيّفاً من القضايا التي تصلح كلّ واحدة منها لإطلاق تسمية الفكر عليها. و نقصد طبعاً الافكار من هذا الجانب، و إلا فالغاية من وجود هذا الحشد من النخبة بما يقدمونه من نتاج فكري و معنوي، و ما يخرجون به من فهم للإسلام و دعم لنظام الجمهورية الإسلامية، ان نتوصّل بإذن الله إلى رأي واحد و فكر موحّد في كلّ واحد من هذه المجالات.

في هذه الجلسات ليست الغاية طبعاً أن نبحث موضوعاً مِن أوّله إلى آخره؛ فهذا ليس شيئاً عملياً، و إنّما الغاية هي فتح الطريق لمعالجة القضايا المطروحة أمام البلد و أمام المستقبل.

نريد على وجه الخصوص أن تُفتح النوافذ من الجوانب النظرية، و ان تُفتح السبل لكي يتسنّى للنخبة من أبناء البلد و لذوي العقول الفاعلة و لأصحاب التجارب في أي حقل من الحقول أن ينهضوا بنصيب من أجل ارساء فكر صحيح ليكون بمثابة قاعدة للتخطيط و العمل و التنفيذ. هذه هي الغاية التي قصدتها. فنحن على الصعيد النظري لدينا مواطن ضعف و مواطن قوّة، كما أنه على الصعيد التطبيقي أيضاً لدينا مواطن ضعف و لدينا مواطن قوّة. و هذه الامور تُستجلى و تُعرف في مثل هذه الجلسات. فمن خلال البحوث التي يطرحها أصحاب النظر و ذوو التجارب في كلّ اختصاص، استناداً إلى معلوماتهم و منجزاتهم العلمية، نستطيع التعرّف على مواطن قوّتنا من جهة، و على مواطن ضعفنا من جهة أُخرى، لكي ننبري لمعالجتها؛ فنحن نرمي إلى ترصين الثغرات أو المواقع الهشّة و إلى معالجة مواطن الضعف.

في حقل التنظير، علينا أن نعي في أي مجال نحن متقدّمون، و في أي مجال نحن متأخّرون. فهناك جوانب نحن متقدّمون فيها حقّاً، و هناك حالات نحن متأخّرون فيها في الواقع. ففي مجال قضية المرأة، لدينا كلّ هذه المصادر و التعاليم الإسلامية المتوفّرة بين ايدينا؛ و منها الآيات القرآنية الكريمة، سواء الآيات المتعلّقة بهذه القضية مباشرة، أو الآيات التي تغطّي هذا الموضوع بعموميّتها و إطلاقها. علينا أن نصوغ هذه الأشياء على شكل نظريات. و ان نكوّن منها نظريات و مجاميع تقبل التفريع و الاستنتاج و ان تكون على نحو يمكن الاستفادة منه و نضعها بين أيدي الجميع. فتكون بين أيدينا من أجل أن نستفيد منها في التخطيط، و ان تكون بين أيدي المخالفين، و كذلك تكون بين أيدي من لديهم تساؤلات و استفسارات. و هذا هو ما أشار إليه المتحدّثون في هذه الندوة أثناء كلماتهم. لقد ازداد اليوم عدد أصحاب التساؤلات و الاستفسارات عن رؤى الجمهورية الإسلامية ـ التي لديها تجربة تمتد لثلاثين سنة ـ و لا بدّ انكم تعلمون طبعاً و نحن أيضاً لدينا اطلاع عن عموم الموضوع، ان هناك الكثير ممن يراجع، و يسأل، و يريد المزيد من الاطلاع على الموضوعات المختلفة، و على ما هو موجود في الجمهورية الإسلامية. و هؤلاء ينبغي أن تُوفّر لهم هذه الامور و توضع بين أيديهم.

في ما سبق كان لدينا ملتقیان؛ ملتقی حول النموذج الإسلامي ـ الايراني للتقدّم، و الملتقی الثاني حول العدالة. و رغم ان هذين الموضوعين منفصلان عن بعضهما، إلا انهما يقعان في طول بعضهما. و قد أنجزت خلال ذلك أعمال جيّدة. و أودّ ان يعلم الاخوة و الاخوات هذا؛ و ذلك لما له من تأثير في العمل الذي نريد القيام به منذ الآن فصاعداً ازاء موضوع هذه الليلة. اعلموا ان العمل متواصل بجد و مثابرة. و هذا ما أشار إليه الدكتور واعظ زاده، بل ان تفاصيل الأعمال المنجزة أكثر مما ذكره حتّى بعنوان تقرير العمل؛ و ذلك لأنه انتهج نهج الإيجاز. لقد انجزت أعمال جادّة و جيّدة. و خاصّة هذا المركز الذي اقيم للنموذج الإسلامي ـ الايراني للتقدّم، إذ انه منهمك في انجاز أعمال ممتازة بمؤازرة عدد من الباحثين. و في الواقع ان هذه الملتقیات یبذر كل واحد منها بذرة في أرض خصبة. و امّا سقي هذه الأرض فيتوقّف على العوامل التي سبق تمهيد البعض منها حتّى الآن، و امّا البعض الآخر فنحن بصدد تمهيده إن شاء الله. و لا شك طبعاً في ان الأجواء العامّة للمجتمع تساعد على ارتقائه. و نحن لسنا على عجلة من الأمر.

نحن طبعاً نودّ ان تُنجز الأعمال بسرعة؛ أي اننا لا نرتضي التهاون و التماهل و التخلّف و ما شابه ذلك، و لكن لا تسرّع في الأمر. لا نريد العمل بتسرّع، و إنّما نريد أن يخرج العمل متقناً، و راسخاً، و دائمياً و يمكن طرحه و الدفاع عنه. و نأمل بإذن الله ان تنهض هذه الملتقیات ـ سواء هذا الملتقی أو الملتقیان الذان سبقاه ـ بهذ الدور. و لديّ ثقة بما أقول.

إن قضية المرأة و الأُسرة تمثّل واحدة من قضايا الدرجة الاولى بالنسبة إلى البلد. والاخوة و السيّدات و السادة الذين تقدّموا و تحدّثوا، أثبتوا هذا المعنى. و لا ضرورة لأن نتحدّث بأكثر مما تحدّثتم به أنتم و أفضتهم في بيانه. فهذه الكلمات بحد ذاتها تكشف ان المسألة في غاية الأهميّة. أوّلاً ان دور و نصيب السيّدات في النظام دور فائق و ممتاز؛ مثلما ان دور السيّدات في أساس الثورة كان دوراً ممتازاً أيضاً. ربّما الشبّان الاعزاء الحاضرون في هذا المتلقی و لم يكونوا في أيّام النضال و لا في أيّام الثورة، لا يعلمون ما الذي جرى يومئذ؛ إلا عن طريق التقارير و هي كلّها للأسف ناقصة؛ فكلّ التقارير التي جاءت حول أيّام النضال و أيّام الثورة ناقصة و أحادية النظرة و مقتضبة. و لدينا عمل كبير في هذا المجال، و ان لم يكن من الأفكار الاستراتيجية طبعاً، إلا انه يدخل ضمن الأعمال الاستراتيجية و ينبغي ان يُتابَع إن شاء الله. المطّلعون على الامور يعلمون ان النساء كان لهن دور في عهد النضال، و كذلك على وجه الخصوص في عهد الثورة، أي في تلك السنة و النصف التي انطلقت فيها الحركة الثورية العامّة. النساء كان لهن دور مؤثّر و متميّز. و لو لا وجودهن في تلك التجمّعات و الحشود، فلا ريب في ان تلك التظاهرات و الحشود الكبرى ما كانت لتؤتي ذلك الأثر. هذا فضلاً عن ان بعض المدن مثلما هو الحال بالنسبة إلى مدينة المشهد المقدّس، بدأت التظاهرات فيها بالنساء. أي ان أولى الحركات الشعبية العمومية كانت حركة نسوية. و قد واجهت طبعاً تعرّضاً من الشرطة. و من بعدها انطلقت الحركات الرجالية. هكذا كان الحال في أيّام النضال، و كذلك عند الاضطلاع بدورهن في إقامة النظام، و كذا في العهد الذي جاء متسارعاً من بعد إقامة النظام، و اعني به عهد الحرب، و هو عهد المحنة، و عهد الامتحان العصيب؛ {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} (1). لقد كانت الامور و الاوضاع في عهد الحرب عسيرة. ان البعض اليوم يسمع عن الحرب و يراها من خلال التلفاز و المذياع، بينما كان البعض الآخر يخوضها في الميدان بجسمه و بروحه. ان هذه التقارير المليئة بالملاحم و الحماس عن الحرب كلّها صحيحة. ـ فبما انني أقرأ الكثير من هذه الكتب المتعلّقة بمذكّرات المقاتلين، فأنا أعلم انها كلّها صحيحة ـ فذلك الحماس و الاندفاع و الرغبة في الجهاد و الشوق إلى الشهادة و الاستهانة بالموت، و ما شابه ذلك، هو ما تعكسه التقارير و هو صحيح. إلا ان النظرة العامّة إلى الحرب، كانت نظرة مليئة بالمحن. فالفوج الذي كان يقاتل في الخط الأمامي بكلّ حماس و اندفاع، لا يعلم بما يجري في المقر الرئيسي ازاء مجموع ما يجري في الجبهة، و ما هو الحال هناك و ما هي نقاط الضعف، و ما هي الهواجس و المخاوف الخطيرة التي كانت موجودة. ثم ماذا وراء المقرّ الرئيسي، و على المستوى الأعلى في البلد، و ما هي النواقص التي كانت و ما مدى الفزع الذي كان هناك. لقد كان عهداً عصيباً. في ذلك العهد كان دور النساء دوراً استثنائياً؛ دور امهات الشهداء، و دور زوجات الشهداء، و دور النساء في ساحات الحرب، و في دعم المجهود الحربي، و دورهن و لكن بندرة في العمليات العسكرية ـ و قد شاهدت أنا شخصياً عن كثب ما كان يجري من اعمال دعم المجهود الحربي في الاهواز ـ لقد كان دوراً باهراً. بل ان النساء كان لهن نشاط حتّى في القطاعات العسكرية. و ما كتبته السيّدة حسيني في كتابها ـ دا ـ يدلّ على ذلك. و هذا عمل لا يُقاس بأيّ معيار و لا يوزن بأيّ ميزان. فمن السهل ان نقول بألسنتنا: أُم لشهيد، و أُم لشهيدين، و أُم لثلاثة شهداء، و أُم لأربعة شهداء، و لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فلو أن أحد أطفالنا اصيب بزكام، أو سعال، كم نقلق عليه؟ أما ان يذهب الابن إلى الحرب و يُقتل هناك، ثمّ يذهب الثاني و يُقتل، ثمّ يذهب الثالث و يُقتل، فهل هذا بالأمر الهيّن؟ إلا ان هذه الأم بما تتّصف به من مشاعر الامومة الفيّاضة و الدافقة، تقوم بدور تؤدّي إلى تشويق مائة أمّ اخرى لارسال ابنائهن إلى ميدان الحرب. و لو أن تلك الامهات حين كانت تأتي جنازة ابنائهن، أو حتّى لم تأت، كانت تكثر من العويل و الآهات و الشكوى و شق الثياب، و الاعتراض على الإمام و على الحرب، لكان من المؤكّد ان الحرب قد أقعدت منذ السنوات الاولى و في مراحلها الاولى. هذا هو دور امهات الشهداء.

زوجات الشهداء الصابرات، النساء الشابات اللواتي فقدن أزواجهن الشبّان في مستهل الحياة الأُسرية الطيّبة التي كنّ يتمنّينها؛ هؤلاء النسوة رضيت كلّ واحدة منهن أن يغادر زوجها الشاب إلى موضع قد لا يعود منه؛ ثمّ تتحمّل آلام شهادته؛ ثمّ تفتخر بذلك، و ترفع رأسها. هذه هي الأدوار التي لا مثيل لها. و امّا الشيء الذي بقي مستمراً حتّى اليوم فهو الزواج بالمعاقين. فهناك من النساء من بادرن للزواج من أشخاص معاقين. فالمرأة التي تبادر من تلقاء ذاتها و بلا أي اجبار للزواج من رجل ناقص معيوب، و ربّما يكون حادّ الطباع بسبب وضعه الجسمي أو على اثر الاختلالات الناتجة عن عصف الانفجارات و ما شابه ذلك، و تقدّم على هذا العمل بالتزام و مسؤولية، فذلك يعني انها أقدمت على تضحية كبرى. تارة قد تأتي امرأة و تخدم رجلاً ساعتين في اليوم، و عندما تغادر كلّ يوم يشكرها على جميل صنعها. و لكن تارة اخرى تضع المرأة نفسها في داره كزوجة له. في هذه الحالة تصبح ملزمة تماماً! أي ان طبيعة الاختيار الذي أقدمت عليه هذه المرأة يفرض عليها القيام بهذا العمل. هذه هي التضحية التي قامت بها النساء اللواتي تزوّجن بالمعاقين. فدور النساء ليس مما يمكن احتسابه بالحسابات العادية.

إنني أقر و أعترف ان أوّل من أدرك هذا الدور هو سماحة إمامنا الكبير ـ و هذا شأنه شأن الكثير من الأشياء الاخرى التي أدركها هو أوّلاً، في حين لم يدركها أي منا ـ مثلما أدرك الإمام دور الشعب. فقد ادرك الإمام تأثير حضور الشعب في الساحة، في وقت لم يدرك ذلك أحد غيره. كان بعض الأكابر يقولون لنا بتعابير تثير الاشمئزاز: أتظنون انه يمكن القيام بعمل كبير بهذا الشعب؟! و كانوا يتكلّمون باستهانة و كأن من يشيرون إليه ليس إنساناً أصلاً! اما الإمام فلم يكن كذلك؛ حيث انه عرف الشعب و أدرك قدره، و عرف و كشف عمّا لديه من قدرات، و انتدبه للحضور إلى الساحة. و قد أثّر كلام الإمام لأنه كان صادقاً؛ و لأن كلامه كان يخرج من قلبه الطاهر النقي النيّر. و لذلك نزل الجميع إلى الساحة. فيوم انطلقت الدعوة لتشكيل اللجان الثورية، انخرط الناس من جميع الشرائح الشعبية للعمل فيها؛ حيث انخرط فيها الطالب الجامعي، و الاستاذ، و طالب العلوم الدينية، و علماء الطراز الاوّل، و النّاس العاديون من عموم ابناء الشعب، و أصبحوا كلّهم أعضاءً في اللجان الثورية. و بعدما اندلعت الحرب توجّه الجميع بأمر الإمام إلى ساحات الحرب. و حين أمر الإمام في أواخر عمره بالتوجّه نحو البناء و الاعمار، و هو ما سُمّي بمشروع الاكتفاء الذاتي، توجّه النّاس كلّهم إلى ميادين البناء و الاعمار. و لا زالت هذه الحالات مستمرّة إلى يومنا هذا. و في رأيي اننا كل ما نحققه اليوم من تقدّم، فإن الفضل فيه يعود إلى ما رسمه الإمام؛ فهو قد رمى بقصب السبق هذا رمية بعيدة بحيث ينبغي لمثلي و أمثالي أن نعدو وراءه إلى ما شاء الله. و قد تحرّك هذا الشعب، و لا زال يتداوله من جيل إلى جيل.

وهكذا كان موقف الإمام أيضاً من قضية المرأة. فقد أدرك سماحته دورها، و إلا فقد كان هناك من كبار العلماء من كانت لنا و اياهم مشادات و مجاذبات في هل تشارك النساء أصلاً في التظاهرات أم لا يشاركن! إذ كانوا يقولون ان النساء لا تشارك في التظاهرات. و امّا الركن الحصين الذي كان يستند إليه المرء و هو مطمئن البال لكي يستطيع الوقوف في مقابل مثل هذه الآراء التي كانت تصدر من مراكز مهمّة، فهو رأي الإمام و فكر الإمام و عزم الإمام. رحمة الله إلى أبد الآبدين على هذا الرجل الكبير.

و على كلّ حال فإن دور المرأة دور لا عوض عنه. لقد انقضى من عمر الثورة تواً إثنتان و ثلاثون سنة. و الاثنتان و ثلاثون سنة بالنسبة إلى الإنسان يمثّل عمر الشباب. فما بالك بالنسبة إلى التاريخ، فهذا النظام الإلهي ينبغي أن يعمّر لمئات السنين. إذ اننا لا زلنا في مقتبل شبابه و المستقبل يتطلّب حضور النساء في الساحة ضمن مجموع الحضور الوطني. إذن علينا ان نسعى في قضية المرأة و في الحفاظ على هذه الطاقة الموجودة في مجتمعنا. و هذا هو السبب الأوّل الذي يدعونا إلى الاهتمام بقضية المرأة. و أمّا السبب الثاني فهو مسألة الأُسرة؛ المتحدّثون الكرام في هذه الليلة طرحوا بحوثاً قيّمة جدّاً حول المرأة. و لقد كانت البحوث جيّدة حقّاً. و لو أنني وضعت نفسي حكماً لقلت ان متوسّط البحوث كان فوق مستوى الجيد. و كانت الكلمات صائبة، و الاحصائيات جيّدة، و الاستنباطات جيّدة، و الاستنتاجات جيّدة، من مختلف الجوانب. فالقضية متعدّدة الجوانب، و قد بحثها كلّ صاحب رأی و اختصاص، و كلّ مفكّر من أحد الجوانب. فقد سلّطتم الاضواء على هيكلية هذا الموضوع الحساس و المهم. ان الإنسان يستطيع رؤية هذه الزوايا. لقد استفدنا مما طرحتموه حقّاً.

و على هذا الأساس فإن مسألة الأُسرة مسألة في غاية الأهميّة؛ فهي الركيزة الأساسية في المجتمع، و الخلية الأصلية في كيان المجتمع. لا بمعنى ان هذه الخلية إذا كانت سليمة فإن سلامتها تمتدّ إلى ما سواها، أو إذا كانت سقيمة يسري سقمها إلى ما سواها، بل بمعنى انها إذا سلمت سلم البدن. فالبدن ليس سوى مجموعة الخلايا. و كلّ جهاز يتكوّن من مجموعة من الخلايا. و نحن إذا استطعنا الحفاظ على سلامة الخلايا فمعنى ذلك اننا حافظنا على سلامة ذلك الجهاز. ان المسألة على هذا القدر من الأهمية.

ان المجتمع الإسلامي لا يمكن ان يتقدّم أصلاً دون أن يكون في البلد كيان أُسرة سليم و فاعل و نابض بالحياة. و خاصّة في المجالات الثقافية، بل و حتّى في المجالات غير الثقافية، لا يمكن التقدّم من غير وجود أُسر صالحة. إذن فالأُسرة ضرورة. و لا يكون في هذا نقض لما قيل؛ فأنتم تقولون ان الغرب ينعدم فيه كيان الأُسرة إلا ان التقدّم موجود فيه. ان ما يحصل اليوم في الغرب من هدم لكيان الأُسرة، و هو ما تظهر معالمه واضحة أكثر فأكثر يوماً بعد آخر، سوف تظهر تأثيراته، و لا ينبغي استعجال الامور. فالحوادث العالمية و الأحداث التاريخية لا تظهر افرازاتها و لا تتّضح تأثيراتها بهذه السرعة؛ و إنّما تظهر تأثيراتها تدريجياً، مثلما تركت تأثيراتها حتّى الآن. في ذلك اليوم الذي حقّق فيه الغرب هذا التقدّم، كانت الأُسرة لا زالت متماسكة. و حتّى مسألة الجنس بالتزاماتها الأخلاقية الجنسية ـ و ليس بشكلها الإسلامي طبعاً و إنّما بشكلها الخاص بها ـ كانت موجودة. و من لديه اطلاع على المعارف الغربية سواء في اوربا، أو بعدها في أمريكا يلاحظ هذا و يشاهده. فمسألة الالتزامات الأخلاقية للجنسين ازاء بعضهما، و مسألة الحياء، و اجتناب التهم و غيرها كانت موجودة يومذاك. و أمّا هذا التحلل و الإباحية فقد نشأت هناك تدريجياً. يومذاك توفّرت الاجواء لظهور هذه الأوضاع إلى ان انتهى الحال إلى ما هي عليه اليوم. ان الأوضاع الحالية ستأتيهم بغدٍ في غاية المرارة و القسوة. و هذا هو الجانب الثاني من القضية.

و أمّا الجانب الثالث فهو ان قضية المرأة كانت على مدى هذه الاثنين و ثلاثين سنة المنصرمة، من حيث جبهة أعدائنا، على رأس جدول اعتراضاتهم علينا. و قد ركّزوا منذ أوّل الثورة على قضية المرأة و أعلنوا عن احتجاجهم علينا و وضعونا في مصاف الإرهاب و في مصاف انتهاك حقوق الإنسان. و في وقت لم تكن فيه الامور قد تكشّفت بعد، و لم يتّضح بعد كيف سيتعامل مجتمعنا مع المرأة، بدأوا هم بالتصريح بإن الإسلام ضد المرأة، و ان الإسلام كذا و كذا. و ما زالت هذه الإثارات موجودة حتّى يومنا هذا. و علينا بطبيعة الحال أن نواجه و ان نرد؛ إذ لا ينبغي الاستهانة بالرأي العام العالمي. و من الطبيعي انهم ليسوا كلّهم مغرضین و لا كلّهم أصحاب دوافع خبيثة. ان أصحاب الدوافع الخبيثة فئة خاصّة، و هم أصحاب السياسة، و صنّاع السياسة، و أصحاب المخططات و أشباههم. و نحن ينبغي ان لا نسمح بإيقاع عامّة النّاس في هذه المغالطة الكبرى. و لهذا علينا أن نخوض هذا المعترك.

كما أودّ أن أبيّن طبعاً أن الغرب يتملّص بدهاء من طرح قضية الأُسرة. ففي كلّ البحوث التي يطرحونها يثيرون قضية المرأة، غير انهم لا يطرحون قضية الأُسرة أصلاً. فقضية الأُسرة هي موطن الضعف عند الغرب؛ إذ انهم يطرحون قضية المرأة على بساط البحث، و لكنّهم لا يشيرون إلى إسم الأُسرة، رغم ان المرأة ليست بمعزل عن الأُسرة. و على هذا الأساس مِن الضروري الاهتمام بهذه المسألة.

حسن، لقد كان هذا الملتقی مفيداً جدّاً. فبالاضافة إلى ما كسبناه من فائدة ممّا جاء في محتوى المواضيع التي طرحها الاخوة، المهمّ اننا قد فهمنا ان هناك في مجال قضيتي المرأة و الأُسرة، عمل كثير لم يُبحث بعد من الناحية العلمية و التخصصية. و ان هذا العمل من الكثرة بحيث ان بعض المقترحات التي عُرضت ـ و دعوا فيها إلى تأسيس كذا مركز أو غير ذلك ـ كلّها صحيحة، و هذا ما ينبغي ان يحصل واقعاً. بطبيعة الحال لقد تحدّثنا سابقاً مع الاخوة الذين في المكتب، و هم السيّد واعظ زاده و غيره، حول استمرار عمل هذا الملتقی حول قضية المرأة و الأُسرة. و وجدت في اذهانهم بعض الأفكار. و سوف تحصل أعمال مهمّة بإذن الله في مجال القضايا التنظیرية من جهة، و في مجال إيجاد الحوارات من جهة ثانية، و في مجال تقريب هذه الحوارات إلى حيّز التطبيق من جهة ثالثة. و من الطبيعي ان هذه القضايا إذا تحوّلت إلى حوار سيصبح تنفيذها ليس بالأمر العسير. أي ان تلك المؤاخذات التي توجّه إلى مجلس الشورى الإسلامي، و إلى مجلس صيانة الدستور، و الى الحكومة، تزول كلّها و تتلاشى. ان الحوار في المجتمع مثل الهواء؛ يتنفّسه الجميع؛ سواء علموا أم لم يعلموا، و سواء شاءوا أم أبوا. ان اجواء الحوار هذه يجب ان تنفّذ. و من المؤكّد طبعاً ان دور وسائل الاعلام، و كذلك دور علماء الدين، و دور الاكابر، و ساتذة الجامعات، دور بارز و مهم.

في هذا المجال يتحتّم علينا ملء هذه الفراغات النظرية. و ستكون النتيجة ان الاستثمار البحثي في حدود الإمكان سيكون أمراً ضرورياً. و نحن نؤمن بهذا. عند مراجعة المقالات التي كتبها الاخوة ـ حيث كنت قد استعرضت خلاصات المقالات، و المقالات نفسها التي كانوا قد قدّموها إليِّ مسبقاً ـ نصل إلى هذه النتيجة و هي انه يجب وضع تخصيصات لا بأس بها في إطار النظام، و في حدود الطاقة و الإمكانات المتاحة، في مجال إجراء البحوث حول هذه المسألة.

ثانياً: بحث و نقد النظريات الشائعة في العالم من غير انفعال. و أقول من غير انفعال لأن قضية الابتعاد عن الانفعال قضية مهمّة جدّاً. لقد لاحظنا الليلة طبعاً هذه الروح منذ أوّل كلمة؛ لاحظت ان النظرة نظرة نقدية إلى الوضع السائد في الغرب حول المرأة و على وجه الخصوص حول الأُسرة. طبعاً لقد كانت أكثر انتقاداتكم للغرب في ما يخص الأُسرة. لكنني أعتقد ان أفضع جريمة ارتكبها الغرب في ما يخصّ نظرته إلى المرأة و الأُسرة، تتركّز في نظرته إلى المرأة. و هذا ما لا يمكن وصفه في جملة أو جملتين. ان أعظم إساءة و إهانة لكرامة المرأة تتجسد في ما يجري و يُمارس في السياسة الغربية. فهذه التوجّهات النَسَوية الإفراطية ـ التي هي بطبيعة الحال ذات أوجه متعدّدة ـ تُسیئ إلى المرأة من حيث لا تشعر. و نحن نقول هنا من حيث لا تشعر، انطلاقاً من حسن الظن؛ إذ يبدو أن من في أيديهم مقاليد الامور لا يفهمون ما الذي يقومون به ـ و يُحتمل أن يكون هناك وراء الستار مخططون سياسيون و أصحاب مخططات، يعون ماذا يفعلون، كما ان هذا الاحتمال قد جُعل في الحسبان تماماً في البروتوكولات الصهيونية؛ إذ جاءت في مواد تلك البروتوكولات خطط ترمي إلى إفساد جنس المرأة و جعلها مظهراً لمآرب الرجل الشهوية. من الممكن طبعاً التشكيك في اعتبار و صحّة تلك البروتوكولات، و لكن حين ينظر المرء إلى الاخطبوط الصهيوني و إلى الشبكة الإعلامية الصهيونية، يجد انها تُطبّق هذه التوجّهات عملياً. و هم حتى و ان لم يفعلوا ذلك لكونه واجباً، إلا انهم يمارسونه على نحو الاستحباب. و هم ملتزمون بفعل ذلك و يقومون به. يقومون بإفساد المرأة. أي ان هذا التوجّه قد أضحى رسماً و عرفاً و عادة مُلزمة بحيث لا يتجرّأ أحد على التصرّف خلافاً له. ففي المجالس الرسمية يجب أن يأتي الرجل بلباس رسمي، و يرتدي وردة العنق، و ان تكون ياقته مسدودة، و ان تكون أكمامه حتّى الرسخ، و لا يُسمح له بارتداء بنطال قصير، و لا يسمح له بارتداء ثوب تيشرت. أمّا المرأة فلا بدّ أن يكون جزء من بدنها عارياً في تلك الجلسة الرسمية ذاتها. و إذا جاءت مستورة البدن بالكامل فذلك موضع إشكال. و إذا جاءت خالية من الجذابيات ففي ذلك إشكال؛ و ان لم تأت متبرّجة ففي ذلك إشكال. حتّى ان هذه الامور أصبحت عرفاً. و هم يتفاخرون بها. توجد في الغرب؛ خاصّة في امريكا و في شمال اوربا ـ البلدان الاسكندنافية ـ مراكز مهمّة يقوم أساس عملها بشكل رئيسي على العرض الجنسي للمرأة أمام ناظري الرجال. و يقومون بالدعاية لعملهم هذا في الصحف و المجلاّت. و لا يعترض عليهم أي أحد. فهذه الممارسات غدت عرفاً و عادة. فهل هناك إهانة للمرأة أعظم من هذه؟ ان ايجاد القدوة للنساء بهذا الشكل ـ و أقصد نساؤهم و النساء في البلدان الاخرى السائرة في ركابهم، و ليس نساؤنا ـ واحدة من أعظم الإساءات التي يوجّهونها إلى المرأة. و على هذا الأساس لا ينبغي الانفعال في مقابل هذه الثقافة المغلوطة. ان الغرب يعيش في ضلال عميق في قضية المرأة و الأُسرة. و ليس في قضية الأُسرة فقط، بل ان الغرب يتخبّط في ضلال بعيد في ما يخص شخصية المرأة و هويّتها.

في هذه المباحث علينا ان نستفيد من قدراتنا العلمية ـ و هي ليست قليلة ـ إذ يمكن استخراج عشرات النظريات و المُثُل السامية في هذا المجال الذي نتحدّث عنه و هو مجال المرأة و الأُسرة. فهذه الأمور يُمكن التنظير فيها و يمكن صياغتها كنظريات، و يمكن تنظيمها و طرحها بكل جوانبها و مكوّناتها. و هذه أعمال منها ما هو متوسّط المدى و منها ما هو طويل المدى، و يجب أن تتحقّق بالتأكيد. و ينبغي أن تكون التعاليم الإسلامية الأصيلة و السامية في القرآن و الحديث، موضع استفادة.

لقد دوّنت هنا مجموعة من الملاحظات، إلا ان الوقت ضيّق من جهة، و من جهة أُخرى فإن الكثير من الكلام قد قيل هنا ولا داعي لئن اكرره أنا أيضاً مرّة أخرى. امّا الشيء الذي أودّ قوله من بين كلّ ما دوّنته هنا فهو ان نظرة الإسلام إلى المرأة على العموم ـ من حيث جنسها كمرأة ـ نظرة سامية تماماً. و حسب رأيي فإن الكثير من المشاكل التي تواجهها المرأة تُعزى إلى مشاكل الحياة الاجتماعية ـ التي تكون المرأة محوراً فيها. نحن لدينا الكثير من مناطق الفراغ و الثغرات في القانون و في العادات و التقاليد. في بعض الأحيان تتّصل بنا سيّدات ـ من مجلس الشورى، أو من الحوزة العلمية، أو ضمن المراجعات الشعبية المختلفة، أو عن طريق مراكز أُخرى ـ و يطرحن مشاكلهن. و هذه المشاكل تتعلّق بشكل رئيسي بالمشاكل التي تنشأ داخل الأُسرة. فلو أن المرأة داخل الأُسرة تحظى بالاطمئنان النفسي، و تشعر بالأمن الأخلاقي، و تعيش في راحة، و تستشعر السكينة، لكان الزوج لباساً لها حقيقة ـ مثلما هي لباس له ـ و لكانت بينهما مودّة و رحمة كما دعا إليها القرآن. و لو أن مبدأ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} (2) طُبّق في الأُسرة ـ إذ أن هذه الأشياء تشكّل الامور الأساسية و العامّة ـ لكانت مشاكل خارج الأُسرة عندئذ قابلة للتحمّل من قبل المرأة، بل انها تستطيع التغلّب عليها. ان كانت المرأة في عشّها و في قاعدتها الاصيلة قادرة على تقليص مشاكلها، فهي من غير شك ستكون قادرة على ذلك في ميدان الحياة الاجتماعية.

ان للإسلام رؤىً قيّمة و متميّزة و مهمّة في قضية المرأة و كذلك في ما يخصّ الأُسرة. و ذلك أوّلاً لأن الإسلام يجعل من قضية الجنسية قضية من الدرجة الثانية، و امّا الدرجة الاولى فيوليها للإنسانية. ان قضية إنسانية الإنسان لا دخل فيها للجنس أبداً. و إنّما الخطاب فيها موجّه إلى الإنسان. و قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} جاء بصيغة المذكّر و ليس بصيغة المؤنّث، إلا ان هذا لا يعني أبداً ان في هذا الخطاب ترجيح للرجل على المرأة، و إنّما هذه الصيغة تعود إلى عوامل أُخرى خافية علينا. و نحن هنا لا نريد الولوج في هذا البحث، و ذلك لأن مثل هذه الامور موجودة في اللغة الفارسية أيضاً حيث ان كلمة ناس في اللغة الفارسية مشتقّة من كلمة «رجل» و ليس من كلمة «الأُسرة». و كذلك في اللغة الانجليزية كلمة «Human» مشتقّة من «Man». غير ان هذا لا يعني ان تغلّب الثقافة الذكورية هو الذي أدّى إلى ظهور مثل هذه الصياغات في اللغة، و إنّما يعود سبب ذلك إلى عوامل أُخرى. و في إطار الأُسرة يمثّل الرجل المظهر الخارجي لتلك الأُسرة بينما تمثّل المرأة المظهر الداخلي لها. و ان شئتم صياغة هذا المعنى بمشاعر أرفع يمكن القول ان الرجل قشر اللوزة و المرأة لبّها. فهذا المعنى يمكن التعبير عنه بمثل هذه التعابير. ان الرجل أظهر، هكذا هو هيكله؛ فقد خلقه الله و صنعه لهذه المهمّة، و امّا المرأة فقد خلقها لشيء آخر. من الواضح طبعاً ان الظهور و البروز في الرجل أكثر من المرأة؛ و لأجل هذه الخصوصيات؛ و ليس من باب الترجيح. أمّا بالنسبة إلى القضايا الأساسية التي تتعلّق بالإنسان بما هو إنسان؛ فلا فرق فيها بين الرجل و المرأة. تلاحظون في مجال التقرّب إلى الله ان نساءً من أمثال السيّدة فاطمة الزهراء، أو السيّدة زينب، أو السيّدة مريم، قد وصلن إلى مراتب تفوق تصوّر أمثالنا. تنصّ الآية الشريفة في سورة الأحزاب على أنه لا فرق أبداً بين الرجل و المرأة. و لعلّ السبب في ذلك يُعزى إلى أن هذه الآية أرادت تفنيد ما كان سائداً من تصوّرات جاهلية حول المرأة: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ و الْمُسْلِمَاتِ و الْمُؤْمِنِينَ و الْمُؤْمِنَاتِ و الْقَانِتِينَ و الْقَانِتَاتِ و الصَّادِقِينَ و الصَّادِقَاتِ و الصَّابِرِينَ و الصَّابِرَاتِ و الْخَاشِعِينَ و الْخَاشِعَاتِ و الْمُتَصَدِّقِينَ و الْمُتَصَدِّقَاتِ و الصَّائِمِينَ و الصَّائِمَاتِ و الْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ و الْحَافِظَاتِ و الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا و الذَّاكِرَاتِ}، نجد هنا فاصلة بین الإسلام و ذکر الله.. هناك سلسلة من المدارك المتدرّجة. هذا ما یجده المرء حين يتأمّل هذه التعابير، { أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ مغفرة و أجراً عظیماً} (3). فحيثما جاء ذكر الرجل، جاء ذكر المرأة أيضاً ؛ الرجل الخاشع، المرأة الخاشعة، الرجل المتصدّق المرأة المتصدّقة. لا يوجد بينهما أي فارق أبداً.

في سورة آل عمران المباركة من بعد ان تكرّرت كلمة «ربّنا» جاء قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (4). لا فرق بين الرجل و المرأة. بل حتى أن القرآن - في موضع واحد - رفع المرأة فوق مكانة الرجل من أجل دحض هذه الأفكار الجاهلية التي ذكرتها. و مثل هذه الحالة لا يجدها الإنسان في القرآن إلا بشأن أشخاص: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ و اِمْرَأَةَ لُوطٍ} (5) المثال الذي يضربه للكفّار هو هاتان المرأتان؛ {اِمْرَأَةَ نُوحٍ و اِمْرَأَةَ لُوطٍ}؛ فهما ليستا مثالاً للنساء و إنّما مثالاً للنساء و للرجال. {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} (6).. إلى آخر الآية. و {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}. و هنا يذكر الله تبارك و تعالى للمؤمنين اسمي امرأتين. تلاحظون هنا كم عدد المؤمنين من أوّل التاريخ إلى نهاية العالَم، بما في ذلك الأولياء و الصالحين و الأنبياء، حينما يريد الله أن يضرب لهم مثلاً و يذكر لهم رمزاً، و ينصب أمام أعينهم تجسيداً، نراه يذكر لهم امرأتين، أحدهما «امرأة فرعون» ـ إذ قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ و نَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ و عَمَلِهِ} (7) إلى آخر الآية. و الأخرى { و مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا و صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} (8). و هذا شيء عجيب أصلاً. و على هذا الأساس فإن مسألة الجنسية تمثّل أمراً ثانوياً، و أمراً عارضاً يجد معناه في شؤون الحياة اليومية للناس، و لكن لا معنى و لا تأثير له في المسيرة الأصلية لبني الإنسان. بل حتّى ان وظائفهما متفاوتة. ان «جهاد المرأة حسن التبعّل» (9)؛ أي ان المرأة تُعطى في مقابل عملها هذا ثواب جهاد ذلك الشاب الذي يقتحم سوح الوغى و يضع روحه على كفّه؛ و ذلك لأن مشقّة هذا العمل الذي تقوم به المرأة لا تقل عن مشقّة ذلك العمل. ان المسؤولية الزوجية للمرأة شاقّة جدّاً طبعاً. ان المرأة التي تستطيع أن تتكيّف مع ما للرجل من توقّعات، و مطاليب، و سوء خلق، و صوت خشن، و قامة أطول، و ان تجعل محيط الأُسرة ـ في مثل هذه الظروف ـ دافئاً، و مأنوساً، و جذّاباً و يتّسم بالسكينة و الهدوء، لهي على درجة عالية من المهارة. و عملها هذا جهاد بحقّ. و هذا شقّ من ذلك الجهاد الأكبر الذي وصفوه، و هو جهاد النفس.

هناك في ما يخص الأُسرة كلام كثير جدّاً. فهناك قضية الزوجية، و قضية الأمومة. و هذه الجوانب ينبغي فصلها عن بعضها. فالمرأة في الأُسرة تضطلع بدور الزوجة تارة؛ و دور الزوجة هذا دور بالغ الأهمية، حتّى و ان لم يكن هناك وجود لدور الامومة فيه أصلاً. لنفترض ان امرأة لا يروق لها أن تُنجب، أو انها لا تُنجب لسبب أو آخر، إلا إنّها بالنتيجة زوجة. دور الزوجة لا ينبغي الاستهانة به. إذا شئنا أن يكون الرجل عنصراً مفيداً في المجتمع، فلا بدّ أن تكون المرأة داخل البيت صالحة، و إلا فإن الامور لا تسير على ما يُرام.

لقد جرّبنا هذا في عهد النضال و بعد عهد النضال أي في عهد انتصار الثورة. فالرجال الذين كانت لهم زوجات تواكبهم في مسيرتهم، استطاعوا الصمود في أيّام النضال من جهة، و من جهة أُخرى استطاعوا الاستمرار على الخط الصحيح من بعد الثورة. و كان هناك العكس من هذا أيضاً. أحياناً كنت أقول للفتيات و الفتيان الذين كانوا يأتون لأقرأ لهم خطبة عقدهم ـ في ذلك الوقت الذي كنت فيه أقرأ الخطبة لهم، أمّا اليوم فإن التوفيق لا يحالفني لهذا ـ كنت أقول لهم ان الكثير من النساء يُدخلن أزواجهن الجنّة، و ان الكثير من النساء يُدخلن أزواجهن النار. فهذا بأيديهن. و من الطبيعي ان الرجال يضطلعون بهذا الدور عيناً. و في مجال الأُسرة، الرجال لهم دور لا يتسنّى تجاهله. و انطلاقاً ممّا سبق ذكره، يتبيّن ان دور الزوجة دور فائق الأهمية. ثمّ بعد ذلك دور الأم. و قد ألقى المتحدّثون كلمات مفصّلة حول هذا الموضوع، و البحث فيه يتّسع للكثير.

ان من جملة الامور التي تُطرح هي مسألة عمل النساء. ان اشتغال النساء من جملة الامور التي نقرّها. و أنا شخصياً أويّد أنواع المشاركة الاجتماعية؛ سواء كانت هذه المشاركة من نوع العمل الاقتصادي، أم من طراز العمل السياسي و الاجتماعي و الأعمال الخيرية و ما شابه ذلك. فهذه جيّدة أيضاً. فالنساء نصف المجتمع و يا حبّذا لو أننا نستطيع الاستفادة من هذا النصف في مثل هذه الجوانب. و لكن هناك بضعة مبادئ في هذا المضمار لا ينبغي تناسيها. أحد هذه المبادئ هو ان لا يطغی الاشتغال و لا يؤثّر في الوظيفة الأساسية للمرأة ـ و هي إدارة شؤون البيت و الأُسرة و الزوج و ان تكون ربّة بيت و أُماًّ ـ و هذا أمر ممكن. و يبدو لي انه كانت هناك نساء عملن على هذه الشاكلة. و من الطبيعي ان ذلك صعب عليهن؛ فالدراسة من جهة، و التدريس من جهة أخرى، أضف إلى ذلك إدارة شؤون البيت، و انجاب الأولاد، و تنشئتهم، و تربيتهم. إذاً فنحن نتّفق تماماً مع فكرة الاشتعال و المشاركة في شؤون الحياة، على ان لا يؤثّر ذلك في تلك المهمّة الأساسية للمرأة؛ و ذلك لأنها في هذا المجال لا بديل عنها. فالمرأة إذا لم تربِّ طفلها في البيت، أو إذا لم تُنجب طفلاً أصلاً، أو إذا لم تفكّ بأناملها الخيوط الرقيقة لعواطفه ـ التي هي أرقّ من خيوط الحرير ـ لكي لا تتكوّن لديه عقدة عاطفية، لا يستطيع أي أحد آخر ان يقوم بهذه المهمّة؛ لا الأب، و لا الآخرين بطريق أولى. هذه المهمّة تقوم بها الأمّ ليس إلاّ. فهذه المهام هي مهام الأمّ. و أمّا ذلك العمل الذي تؤدّيه الأمّ خارج البيت فهناك الكثير من الأشخاص الآخرين الذين يستطيعون تأديته بدلاً عنها. و على هذا فإن الأولوية لذلك العمل الذي لا عوض عن الأمّ في أدائه.

عند ذاك تقع مهمّة ذلك العمل على عاتق الدولة؛ إذ ينبغي تقديم العون للنساء اللواتي يمارسن أعمالاً بدوام كامل أو بنصف دوام، لكي يتسنّى لهن القيام بدور الامومة و الاهتمام بشؤون البيت و الأُسرة. على الدولة ان تساعد هؤلاء السيّدات اللواتي يمارسن أعمالاً خارج البيت لكي يتسنّى لهن الاهتمام بذلك الجانب؛ سواء كانت هذه المساعدة بالإجازات، أم بزمان التقاعد، أم بمدّة العمل اليومي.

و المبدأ الثاني هنا هو مبدأ الاختلاط بالرجال الأجانب. إن مسألة مخالطة المرأة للرجال الأجانب مسألة جادة في الإسلام. من الطبيعي ان جانباً أساسيّاً من مسألة مخالطة الرجال الأجانب يعود أيضاً إلى الأُسرة؛ أي ان العين العفيفة و القلب الخالي من الوسوسة و الريب لكلّ واحد من الزوجين يؤدّي إلى ترصين و تدفئة أجواء الأُسرة؛ إذ ان ذلك يؤدّي إلى تدفئة جو الأُسرة مثلما يفعل موقد التدفئة. و إذا كان المقابل يتّصف أيضاً بصفة العين العفيفة و القلب الخالي من الوسوسة، ستكون هذه الحالة من الجانبين طبعاً و يكون الجو جوّاً أُسرياً دافئاً و غامراً بالمحبّة. و امّا إذا كانت هناك عين خائنة، و يد خائنة، و لسان ذو وجهين، و قلب خال من المحبّة و غياب احترام الزوج للزوجة، فمن الطبيعي ان تتّسم أجواء الأُسرة بالبرود حتّى و ان كانت هناك مصانعة و مجاملات ظاهرية.

قرأت في ما كتبه الاخوة في مقالاتهم ان كثرة الخروج من البيت و العمل خارج البيت تؤدّي أحياناً إلى ايجاد حالات من سوء الظن غير المبرّر. لكن هذا الامر لا فارق فيه؛ فان سوء الظن إذا نشأ يترك تأثيره سواء كان له ما يبرّره أم لم يكن. و مثله في ذلك كمثل الاطلاقة التي تنطلق من فوهة البندقية؛ فهي إن أصابت صدر شخص تقتله؛ سواء كان الرامي عامداً أم كانت يده قد ضغطت على الزناد خطأً. فالأمر هنا سيّان بالنسبة إلى الإطلاقة و هي هنا لا تقول بما ان الشخص الذي رماني لم يكن عامداً فإنني هنا لا أخترق صدر المقابل، كلا طبعاً، بل انّها تخترق صدره. و هكذا الحال بالنسبة إلى سوء الظن، فهو يفعل فعله سواء كان له ما يبرره أم كان مبعثه هواجس و ظنون و أوهام في غير موضعها.

المبدأ الآخر الذي ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار في قضية الاشتغال و عمل المرأة هي مسألة الزواج؛ فالزواج أمر مقدّس في الأديان التي أعرفها أنا على الأقل. أنا لم اتقصّ في هذا الخصوص كثيراً، و يا حبّذا لو يبادر بعض الاخوة المهيّئين إلى النهوض بمهمّة التقصّي في هذا المجال. فشعائر الزواج غالباً ما تكون شعائر دينية. فالمسيحيّون يقيمونها في الكنيسة، و اليهود يقيمونها في كنائسهم. و المسلمون و إن كانوا لا يقيمونها في المساجد، إلا انهم إذا اتيحت لهم الظروف يقيمونها عادة في المشاهد المشرّفة، و إلا ففي الأيّام الدينية المباركة، و تجري بشكل أساسي على يد رجال الدين. و رجل الدين عندما يجلس لإجراء عقد الزواج يبيّن إثناء ذلك المهر المؤجّل. و بناءً على ذلك فإنَّ صبغة الزواج صبغة دينية تماماً، و الزواج ذو طابع مقدّس، و ينبغي أن لا يُنزع عنه طابعه القدسي هذا. ان انتزاع طابعه القدسي يحصل عادة بواسطة هذه الممارسات المشينة السائدة في مجتمعنا و للأسف. فهذه المهور الباهضة التي يفرضونها ظنّاً منهم انّها تمثّل دعامة لحفظ الأُسرة و حفظ الزوجة، في حين ان الأمر ليس كذلك. فأقصى ما يمكن فيها هو ان الزوج يمتنع عن ادائها؛ فيلقى في السجن، و يمكث فيه سنة أو سنتين. و في مثل هذا الاجراء لا تحصل الزوجة على شيء، و لا تجني اية فائدة سوى ان ينهدم كيان الأُسرة. ان ما اقره الإسلام و جاء نقلاً عن الإمام الحسين (ع) انه قال اننا لم نزوّج بناتنا و أخواتنا و نسائنا إلا على مهر السنّة. إنّما هو من أجل ما ذُكر، و إلا لكان بإمكانهم ان يزوّجوهن بمهور أعلى و أكثر. فلو أن الإمام الحسين أراد أن يمهر بألف دينار لكان باستطاعته أن يفعل ذلك، و لما كان هناك ما يدعوه إلى التقيّد بخمسمائة درهم ـ اثني عشر و نصف أوقية ـ لقد كان بإمكانهم ان يمهروا بمبالغ أكثر، إلا انّهم قللوا ذلك. و هذا التقليل بحسابٍ. و هذا شيء جيد جدّاً.

ان المرء لينقبض قلبه حقّاً حين يسمع ان الزواج أصبح يجري وفقاً لهذه المراسم التشريفية الزائدة، و النفقات الكثيرة، و المجالس المتعدّدة. و هذا من الامور التي تستدعي ايجاد حوارات بشأنها. و على السيّدات المؤثّرات، و السادة المؤثّرين، و اساتذة الجامعات، و علماء الدين، و على وجه الخصوص مؤسسة الاذاعة و التلفزيون و وسائل الاعلام ان تضطلع بدور في هذه المجالات. و عليها ان تسعى لإخراج الزواج من هذه الحالة.

وأودّ ان أعرض على أسماعكم كلمة حول دور الرجال. كثيراً ما يجري الحديث عن دور المرأة في الأُسرة. و سبب ذلك واضح طبعاً؛ و ذلك لأن المرأة عنصر محوري في الأُسرة. غير ان هذا لا يعني ان الرجل لا تقع على عاتقه مسؤولية و لا يضطلع بدور في الأُسرة. فالرجال اللااُباليّون، و الرجال المجرّدون من العواطف، و الرجال البطرون، و الرجال الجاحدون لجهود المرأة في البيت، هذه الأحوال تلحق الضرر بمحيط الأُسرة. على الرجل ان يكون مقدّراً للجهود. و على المجتمع أن يقدّر الجهود. و لا بدّ من اعطاء أهمية و تقدير خاص لعمل المرأة في البيت. فالبعض من النساء بمقدورهن التقدّم للحصول على عمل، و البعض منهن لديها القدرة على مواصلة دراستها العليا ـ و قد شاهدتُ نساءً من هذا القبيل قلن اننا لم نتقدّم للحصول على عمل لأننا نريد تنشئة أولادنا و تربيتهم تربية صالحة. إضافة إلى ان ذلك العمل الذي أرادت المرأة الحصول عليه لم يُترك معطلاً و إنّما قُيّضَ له من نهض به الناس الآخرين. ان مثل هذه المرأة يجب ان تُقدّر حق قدرها. الكلمات التي ألقاها المتحدّثون جاء فيها انه ينبغي مثلاً توفير نوع من التأمين لهن. نعم يجب طبعاً أن يؤخذ بنظر الاعتبار توفير تأمين اقتصادي لهن، و ايجاد بقية الأشياء الضرورية لهن. ان الأبناء لهم دورهم أيضاً؛ فمن أهم مكوّنات الأُسرة؛ الأولاد. و يتمثّل دورهم في احترام الوالدين. و هذا موضوع آخر له تفاصيله.

على أية حال انني أشكركم. و أنا مرتاح لعقد هذا الملتقی. فقد كان و الحمد لله ملتقی جیداً. نسأل الله جل و علا ان يرضى عنّا جميعاً. و ان تكون الجهود و الاتعاب التي بذلتموها في عين إمامنا بقية الله المهدي المنتظر (أرواحنا فداه). و ان عملكم هذا سيتواصل و سيُتابع. و قد طرح مشروع جيّد أيضاً في مجال ايجاد عمل دولي. غير ان المجال لم يسمح لنا بالتحدّث حول هذا الموضوع. و قد لاحظت هذا المشروع و أنا اؤيده. السيّدة التي تحدّثت حول الشؤون الدولية، يمكن الاستفادة من آرائها. و يا حبّذا لو يتحقّق عمل دولي في ما يخص النساء.

عسى الله ان يجزيكم خيراً، اللّهم انزل رحمتك و فضلك و هدايتك على هذا الحشد. اللّهم اجعل ما قلناه و ما سمعناه و ما فعلناه و ما سنفعله خالصاً و مخلصاً في سبيلك و لوجهك الكريم، اللّهم! و تقبّله منا. اللّهم! انزل التوفيق من عندك على هذا الجمع و على جميع الشعب الإيراني، و خاصّة المسؤولين الذين تقع على عاتقهم مسؤوليات كبيرة في هذا المجال.
و السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 . التوبة: 118؛
2 . البقرة: 228؛
3 . الأحزاب: 35؛
4 .آل‌ عمران: 195؛
5 . التحريم: 10؛
6 . التحريم: 10؛
7. التحريم: 11؛
8 . التحريم: 12؛
9 . الكافي، ج 5، ص 9.