بسم ‌اللَّه ‌الرّحمن‌ الرّحيم‌

أحمد الله العلي القدير لما وفّقني إليه اليوم من المشاركة في هذا المجلس الذي يتّسم بالعظمة المعنوية. في زياراتي التفقدية إلى المدن المختلفة، تمثل اللقاءات مع الأُسَر الكريمة للشهداء و المضحّين و المعاقين، بالنسبة إليّ واحدة من أهم اللقاءات و أعظمها. و سبب ذلك ان قضية التضحية تنطوي على عظمة لا تستطيع أيّة أمّة لو لا وجود مثل هذه النقطة المهمّة و المصيرية، أن تصل إلى العزّ و المجد. نحن عادة نرى و نشاهد جوانب ضيّقة من قضية الشهادة و الشهداء و من تضحيات المضحين و المعاقين؛ في حين أنّ عملية و حركة التضحية في المجتمع، التي تنتهي إلى الشهادة أو إلى الإصابة و الإعاقة، ذات معانٍ واسعة، و ذات جوانب مختلفة، و كلّ واحد منها خليق بالبحث و النظر. و أحد هذه الجوانب هو اغتنام الفرصة و الاستجابة لمتطلبات اللحظة. قد يكون هناك شعور بالمسؤولية لدى آخرين، إلا انّهم في لحظة الحاجة لا يشخّصون هذه المسؤولية و لا يعملون بها. و هذا يختلف اختلافاً شاسعاً عن ذلك الموقف و الفعل الذي يأتي في لحظة الحاجة إليه تماماً. إنّ الشبان الشجعان الغيارى المؤمنين المضحّين الذين استشعروا حاجة البلد و داهموا الخطر و بادروا إلى مواجهة الخطر، هؤلاء يتميّزون بصفة بارزة هي أنّهم أدركوا الحاجة في الوقت المناسب و استجابوا لها. و هذا جانب في غاية الأهمية و يمثّل بالنسبة إلينا درساً يُعتدّ به.

بالأمس أشرت إلى أن شباب كرمانشاه شعروا بعد شهر من انتصار الثورة أن الحاجة تستدعي منهم التوجّه إلى حيث ينبغي أن يكونوا؛ فتوجّه الشهيد سيّد محمّد سعيد جعفري - ذلك الشهيد المقدام السَبّاق ـ مع ثلّة من رفاقه للدفاع عن معسكر فرقة سنندج. لقد أدركوا ما الذي يعنيه هذا الدفاع، و ما الذي تعنيه سيطرة أعداء الثورة على معسكر للجيش. إنّ هذه السرعة في الإدراك، و إدراك الأُمور في الوقت المناسب، و المبادرة إلى الفعل في الوقت المناسب، و الاستجابة للحاجة. هذه قضية مهمّة لا ينبغي إغفالها.

إن شهداءنا الكرام في كلّ أنحاء البلاد يتّصفون بهذه الخصائص. لقد ذكر الاخوة أسماء مدن، و استعرضوا ذكريات لمناطق المقاومة في هذه المحافظة. و من المعروف طبعاً ان من استشهدوا هنا كانوا قد قدموا من كل أنحاء البلاد. شهداء معروفون و بارزون كانوا قد وفدوا من مناطق أُخرى و تضرجوا بدمائهم على هذه الأرض، غير ان دور أهالي هذه المحافظة، و الشُبان المؤمنين، و دور ذلك الشعور العظيم و الثمين و النادر الذي كان لدى هؤلاء الشباب ـ و هو وعيهم، و إدراكهم للظروف، و اغتنامهم للفرصة ـ ينبغي أن لا يُغفل عنه؛ و هذا هو ما نحتاج إليه على الدوام.

إن الدول و الشعوب غالباً ما تتلقى الضربات الموجعة من عدم تقديرها للظروف و عدم اغتنامها للفرص. فحين ينصب لنا العدو كميناً و لكنّنا لا نعلم انّه قد كمن لنا، أو إذا علمنا ذلك و لا نعالج الموقف بسرعة و لا في الوقت المناسب. عند ذلك نكون قد تلقينا الضربة.

قال أحد الاخوان الأعزاء جملة تثير الاعجاب، قال إنّ الأُسَرَ كانت تقول: إنّنا إن لم نبعث هذا المقاتل خارج الدار؛ فسيأتي العدو غداً عند الدار و عندها ينبغي أن نحارب على مقربة من الدار. هذه قضية في غاية الأهمية؛ هذه هي الحالة التي قال فيها أمير المؤمنين عليه: فإنّه ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا؛ أي إذا هاجمهم العدو و تغافلوا عنه فسيهزمون و تكون الغلبة عليهم. يُفترض أن يُرصد العدو عن بُعد، و أن يُعرف عن بُعد. كانت تلك غفلة ممّن كان ينبغي أن يَروا العدو يومذاك و لكنّهم لم يَروه. في طهران كانت الأخبار تصل و كان يُقال إنّ العدو يواصل استعداداته العسكرية على حدود منطقة كرمانشاه و على حدود منطقة إيلام ـ إذ كانت الأحداث أكثر ما تجري في هذه المناطق - و عندما كانت هذه الأُمور و الأخبار تنعكس في طهران، كان الساسة المتصدّون لزمام الأُمور ينكرون ذلك و يقولون إن هذه الأخبار غير صحيحة. إلى أن قُصِفَت طهران. إنّ الحرب لم تبدأ في الواقع بتاريخ الحادي و الثلاثین من شهریور سنة 1358 [الثاني و العشرين من شهر أيلول عام 1980 م]، بل انّها كانت قد بدأت قبل ذلك. و لو أنّ أولئك المسؤولين الذين كانوا على رأس السلطة يومذاك ـ و الذين اثبتوا في ما بعد عدم أهليتهم لإدارة شؤون البلاد ـ كانوا يدركون الأُمور و يميّزونها، و رفعوا من درجة تأهبهم و استعدادهم، لما كان يحل بمدينة خرّمشهر ما حلَّ بها، و لما كان يقع لقصر شيرين ما وقع لها، و لما حصل لسائر المناطق الحدودية ما حصل.

لقد أدّت تلك الغفلة الاولى إلى أن يخيّم على هذه المنطقة و على منطقة خوزستان، بالنحو الذي شاهدته عن كثب خلال برهة وجيزة، جو كئيب بحيث انني لا أستطيع نسيان بعض مشاهده التي رأيتها عن قرب. حين يكون زمام الأُمور بيد الشعب، و حين يكون المجال مفتوحاً للاستعدادات الشعبية و للتواجد الشعبي في الساحة من اجل دخول المعترك، لا تحصل مثل هذه الغفلة، و هذا ممّا كانوا لا يسمحون به يومذاك. في هذه المناطق التفت الجماعات الشعبية حول بعضها هنا و هناك، و كانوا يبذلون مشقّة كبيرة للحصول على الأسلحة. و أخذوا يدافعون عن أنفسهم. غير ان المسؤولين هناك كانوا ساخطين، و كانوا في الاجتماعات الرسمية يعبّرون عن تذمّرهم و استيائهم و يقولون لماذا يجمع الشخص الفلاني الأسلحة من هنا و هناك في الموضع الفلاني. لقد كانت هناك مجموعة من الشبان الذين يدافعون عن البلد. و لهذا لم يكونوا قادرين على تحمّل ذلك الوضع. و هذا يمثّل بالنسبة لنا درساً.

بالأمس قلت ان نظاماً كنظام الجمهورية الإسلامية، بما يحمله من مثل و بما لديه من تطلّعات و بما يدعو إليه من أهداف كبرى ـ كمناهضته للظلم، و عدائه للاستكبار، و عدائه للغطرسة المتمادية للقوى الدولية ـ يواجه تحديات بأشكال مختلفة و أنماط شتّى. و هذا ما يفرض عليه بأن يكون على أهبّة الاستعداد. و هذا الاستعداد يستند إلى ايمان الشعب قبل أيّ شيء آخر. هذا السند الداعم، و هذا الحارس الأعظم في الدفاع عن هوية شعب و عزّة أمّة، و الساعي لإنقاذ شعب من كيد الأعداء، هو وعي الشعب. و هذا ما جرّبناه أثناء الحرب. و اليوم أيضاً، حيثما تنبّه المسؤولون عن وعي و أعطوا للشعب دوراً في مجال من المجالات، يحصل مثل هذا تماماً.

الجمهورية الإسلامية نظام سيادة الشعب، و نظام الديمقراطية الإسلامية. و هذه الديمقراطية يجب أن تكون ذات معنى، و يجب أن يكون معناها حقيقياً، لا مجاملة. لقد أدّى الشهداء، و المعاقون، و الأسری الأحرار، و أُسَرهم أفضل اختبار على هذا الطريق. و هذا الصبر الهائل الذي أبدته أُسَر الشهداء، له قيمة كبرى. و لو أنّ هذه الأُسَر أبدت جزعها، أو عبّرت عن نوع من عدم الإدراك أو فقدان البصيرة، لكانت جذوة الجهاد قد خَبَت، و لما بقيت هناك قلوب توّاقة إلى التضحية و الفداء. لقد أبدت هذه الأُسَر صبرها. و مضت على زمان الدفاع المقدّس سنوات متمادية، إلا ان باب الشهادة لم يُغلق؛ إذ لا زلنا نرى عوائل تُفجع بأعزّة ينفتح لها باب الشهادة لمناسبات شتّى فيمدّون أجنحتهم في الآفاق و يحلّقون. و إذا اجتمعت هذه البصيرة و هذا الصبر في شعب فلا ريب في أن ذلك الشعب سيرتقي قمم المجد.

لم يراودنا قط أي تردّد في تشخيص أهدافنا و تعيين الطريق المؤدّي إلى هذه الأهداف؛ و ما شككنا في صواب طريقنا. و نحن نشكر الله على هذا. و لم يُفرغ الله قلوبنا أبداً من نور الأمل. و لمسنا في الواقع أن تلك الآمال لم تكن آمالاً خاوية؛ و إنّما كانت آمالاً صائبة و سليمة.

يوماً ما كان هناك من الناس حين ينظرون إلى الأفق لا يرون أي بصيص من الأمل على مرمى البصر؛ غير ان ذوي البصيرة ـ و على رأسهم إمامنا الخمیني الكبير ـ كانوا يلهموننا الأمل و البشرى. كنا أحياناً نصغي تعبّداً، و لم تكن لدينا القدرة على تحليل الأُمور. و كنّا نتقبّل كلامهم من باب التعبّد، غير اننا كنا في ما بعد نرى ان الأُمور تسير وفقاً لما قال. حيث كنا نجد ان ذلك الأمل الإلهي، و تلك البشارة السماوية تتحقّق على أرض الواقع. و نحن اليوم حين ننظر إلى تجربة الثورة الإسلامية على مدى اثنتين و ثلاثين سنة نلاحظ النجاحات المتوالية التي أحرزها نظام الجمهورية الإسلامية.

في اللقاءات التي تجمعني بالأُسَر الموقّرة للشهداء و المعاقين الأعزاء و المضحّين، أجعل الموضع الأوّل لاهتمامي ـ من بعد التكريم و الاحترام و تقديم أسمى معاني الشكر و التقدير إلى هذه الأُسَر الكريمة، هو لفت انتباه عموم أبناء شعبنا إلى أنّ روح التضحية تمثّل عنصر الانقاذ لأي بلد و عنصر النجاة لأي شعب. إنّ روح الإيثار و روح التضحية، و معرفة وقت أداء الواجب، و النهوض بالأعمال في وقتها و في الظرف المناسب، هو ما ينقذ الشعب.

ممّا يدعو إلى الارتياح انّنا اليوم نشاهد معطيات التقدّم و النجاح في بلدنا. حيث نجد انّنا نتقدّم، و من الطبيعي ان هذا يتطلّب بذل الجهد، و المثابرة في العمل. فالأُمور تسير صوب الدقّة و التعقيد. و درجة الوعي لدى أبناء شعبنا اليوم أعلى بمرّات مما كانت عليه في السنين الماضية. يوجد و الحمد لله في مجتمعنا أُناس كثيرون مؤمنون، من ذوي العزم الراسخ و الالتزام و التمسّك بالمبادئ. و هكذا الحال أيضاً في هذه المحافظة الغرّاء. إنّ ما رأيناه في هذه المحافظة، و ما سمعناه كان كلّه يعبّر عن معاني الرجولة و الشهامة و الشجاعة و المروءة ـ و مثلما ذكرت بالأمس ـ فإنّه يعبّر عن صفات البطولة الحميدة لدى الرجال و النساء.

أشار من تحدّثوا إلى أن امرأة في گيلان غرب أسَرَت أحد جنود الأعداء؛ إن ما قامت به هذه المرأة المؤمنة الشجاعة يعكس واحدة من أمثلة الشجاعة الكثيرة التي لا يُستطاع إحصاؤها في هذه المحافظة. منذ البداية تشكّلت هنا قوى شعبية و قوى من حرس الثورة و قدّمت التضحيات إلى جانب قوى الجيش المقاتلة. كان هنا ضباط شجعان و ذوو كفاءة؛ و أخص بالذكر منهم الشهيد شيرودي قائد طيران الجيش، و الآخرين الذين اغتنموا ما وفّره لهم من دعم و امكانات و قاموا بتلك الطلعات المثيرة للاعجاب؛ سواء في الفرقة 81، أم في غيرها من الميادين الاخرى. و قد رأينا نحن عن قرب بعض اولئك الضباط الشجعان و المؤمنين في هذا المعسكر الذي ذكروه، و هو معسكر أبي ذر. إذ انّهم كانوا يعملون بإخلاص و تفانٍ لتغطية أجواء هذه المنطقة، و هذا من معالم الاخلاص و التضحية، و الإقدام و البطولة و الفداء، الذي يمثّل جزءاً من مناقب محافظتكم، و سيبقى ذخراً لكم. فأنتم قد اتخذتم مرتبة الصدارة على جبين صفحة الدفاع المقدّس. إنّ امجاد الدفاع المقدّس يعود الكثير منها إلى هذه المحافظة؛ فأنتم قد ساندتم، و بذلتم، و أسأل الله العلي القدير أن يثيبكم على ذلك بالأجر و الجزاء المعنوي، مثلما حباكم بالأجر الدنيوي أنتم و كل أبناء الشعب الايراني، و هو عزّ البلد و مجده.

لقد كانت هذه الجولة جذابة و محبّبة إلى أنفسنا؛ لأجل لقاء هؤلاء الناس الأعزاء و وجوههم المستبشرة الضاحكة، حيث كان الناظر بالأمس يشاهد على هذا الطريق الآلاف من الوجوه المسرورة الباسمة. و هذا ممّا يعكس الوجه النضر لهذه المحافظة. نأمل بإذن الله العلي القدير أن يتمكّن المسؤولون من النهوض بالأعمال الضرورية التي ينبغي إنجازها في هذه المحافظة، و هناك إن شاء الله أعمال كثيرة يجب أن تُنجز فيها. فهذه المحافظة ذات نعم وفيرة كما انّها أيضاً تعاني من نواقص. و هذه النواقص ينبغي متابعتها بمشيئة الله بفضل جهود المسؤولين و مثابرتهم.

و السّلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته‌.