بسم الله الرحمن الرحیم
نبارک هذا العید الکبیر لکم أیها الحضور المحترمون فی هذه الجلسة الرائعة، و خصوصاً الضیوف الحضور من بلدان أخری فی هذه الجلسة، و کذلک سفراء البلدان الإسلامیة المحترمون. کما نبارک للشعب الإیرانی الکبیر الذی جعل البعثة وجهة مسیرته و عمله، و جاهد و تحمّل الصعاب من أجل تحقیق الأهداف الکبری لبعثة خاتم الأنبیاء، و قد شمله الوعد الإلهی و الحمد لله، فقد وعد الله تعالی الشعوب السائرة فی هذا الدرب بالفتح و التقدم و السعادة، و وعد الله تعالی لا خلف فیه. کما نبارک هذا العید الکبیر للأمة الإسلامیة التی توجّهت الیوم بعد عشرات السنین نحو الدین المحمدی. بعد أن جرّب المستنیرون و النخبة و الرواد من الشعوب المسلمة طوال الأعوام المتمادیة المدارس و الدعوات و المذاهب و الإیدیولوجیات الشرقیة و الغربیة، و أدرکوا إخفاقها و عقمها، صار توجّه الأمة الإسلامیة الیوم و إقبالها علی مضمون البعثة و أهداف بعثة الرسول الأکرم (ص). الیوم یوم مبارک علیهم، و نتمنی أن تتمتع البشریة کلها ببرکات هذه البعثة.
ما أرید أن أقوله الیوم هو أن للبعثة جهات و أبعاداً. حُزم النور التی سطعت علی البشریة من هذا الحدث لیست واحدة أو اثنتین، لکن البشریة الیوم بأمسّ الحاجة لقضیتین ناجمتین عن البعثة: إحداهما إثارة الأفکار و التفکیر، و الثانیة تهذیب الأخلاق. إذا جری تأمین هاتین المسألتین فسوف تؤمّن المطالیب القدیمة للبشریة. سوف تؤمّن العدالة و السعادة و الرفاه الدنیوی. المشکلة الأساسیة کامنة فی هذین الجانبین.
قال علیه و آله الصلاة و السلام: «بعثت لأتمّم مکارم الأخلاق» (1). و قال القرآن الکریم: «هو الذی بعث فی الأمیّین رسولاً منهم یتلوا علیهم آیاته و یزکیهم» (2). و بعد التزکیة یقول: «و یعلمهم الکتاب و الحکمة» (3). هذا هدف سام.. تزکیة النفوس و تطهیر القلوب و رفع الأخلاق البشریة و إنقاذ البشر من مزبلة المعضلات الأخلاقیة و الضعف الأخلاقی و الشهوات النفسیة. هذا مقصد و هدف.
و قضیة التفکّر أیضاً قضیة أساسیة و مهمة، و هی لا تختص بنبینا، فکل الأنبیاء بعثوا لأحیاء القوة العاقلة و طاقة التفکیر لدی البشر. یقول الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام) فی خطبة فی نهج البلاغة: «لیستأدوهم میثاق فطرته، و یذکّروهم منسیّ نعمته،... و یثیروا لهم دفائن العقول» (4)، بعث الأنبیاء لیستخرجوا دفائن العقل و کنوزه الدفینة فی داخل البشر و باطنهم.
نحن أبناء البشر لدینا موهبة تکفیر عظیمة کامنة فی داخلنا. حینما لا نتدبّر فی الآیات الإلهیة، و فی تاریخنا، و فی ماضینا، و فی الأمور و القضایا المختلفة التی حدثت للبشریة، و فی مشکلات الماضی، و فی عوامل الانتصارات الکبری للشعوب، نبقی محرومین من الکنوز المعنویة التی أودعها الله فینا. «و یذکّروهم منسیّ نعمته، .. و یثیروا لهم دفائن العقول». البشریة الیوم بحاجة لهذین الأمرین.
المجتمعات البشریة بحاجة إلی التفکیر و التأمل فی مکمن تعاسة الإنسان؟ و هل یوجد شک فی وجود ظلم، و وجود تمییز، و وجود منطق مزدوج و کیل بمکیالین یسود القوی المهیمنة علی العالم؟ الظلم البارز الذی یجری علی البشریة فی الوقت الراهن مشهود من قبل الجمیع. الظلم الذی تمارسه القوی المسیطرة علی الشعوب العزلاء من أدوات الدفاع قائم أمام أنظار الجمیع، و أنتم ترونه. تنطلق قوة و تزحف عن بعد آلاف الکیلومترات و تأتی إلی هنا إلی منطقتنا و تفرض سلطتها و هیمنتها بالقوة علی بلد أعزل لا قدرة له و لا إمکانیات، فتبدّل مواکب الأعراس إلی عزاء، و تصبّ مروحیاتهم الموت علی رؤوس الناس. تهدم بیوت الناس، و لیس بوسع أحد أن یقول لهم شیئاً، و لا یعتذرون عن أفعالهم! هذا هو واقع العالم. و هو کذلک حتی فی البلدان المتقدمة. حین تلاحظون الواقع الاقتصادی الیوم تجدون نفس الحالة. القضیة فی أوربا الیوم لیست حلّ مشکلة الناس بل حلّ مشکلة البنوک و أصحاب الرسامیل و الثروات الهائلة. هذه هی مشکلتهم الیوم. أبناء البشر و الجنس البشری لیسوا مهمّین للقوی المهیمنة. هذه حقائق موجودة فی العالم. لتفکّر البشریة فی مصدر هذه الحالة؟ فی مصدر نظام الهیمنة، و مصدر وجود قطبین أحدهما مهیمن و الثانی خاضع للهیمنة. کما أنه لو لم یکن هناک أنسان مهیمن فإن نظام الهیمنة سیزول، کذلک إذا لم یقبل الخاضع للهیمنة بهیمنة الأعداء و العتاة فإن نظام الهیمنة سیزول. هنا یکون الواجب علی عاتق الشعوب. و فی داخل الشعوب یقع الواجب علی عاتق النخبة السیاسیة و الثقافیة.
الشیاطین التابعون لأجهزة الاستکبار حینما یشاهدون تحرکاً کبیراً و تحرریاً تقوم به الجماهیر فی أی مکان من العالم - و یکون هذا التحرک خالصاً و أصیلاً - یرکزون کل طاقاتهم و قدراتهم لتبدیل هذا التحرک إلی ضده أو یبطلون مفعوله. ترون ما یحدث فی منطقتنا حالیاً. یثور الناس فی البلدان للتحرّر من التبعیة لأمریکا و من الذل فی مقابل الهیمنة الصهیونیة، و لإبداء البغض و الکراهیة لوجود هذه الغدة السرطانیة فی قلب البلدان الإسلامیة، فتنطلق کل الأجهزة السیاسیة و المخابراتیة و المالیة الاستکباریة و التابعة لها لإحباط هذا التحرک. هذه هی القضیة.
علی الشعوب أن تقف علی أقدامها. و علیها الاستفادة من نعم التفکیر و العقل التی منّ الله بها علیها. علی الشعوب أن تعتمد علی نفسها و طاقاتها و ربّها. علیها إبداء حسن ظنها بالله. لقد وعد الله تعالی: «لینصرنّ الله من ینصره إن الله لقوی عزیز» (5). هذا تأکید إلهی. حینما تقف الشعوب و تقاوم و تصمد فسوف تنتصر بلا شک. و النموذج الحیّ لذلک هو شعبنا. یحاول العدو بآلاف الوسائل و الأدوات الإعلامیة أن یبعد الحقائق عن أنظار الناس فی العالم، لکن الواقع هو ما نشاهده. طوال هذه الأعوام الثلاثة و الثلاثین، و منذ الیوم الأول، تعرّضت ثورتنا و شعبنا و بلدنا العزیز للهجمات و المؤامرات. جاءت سیاسات مختلفة و اختلفت فی مائة قضیة لکنها اتفقت علی مواجهة الثورة الإسلامیة، و توجیه الضربات للجمهوریة الإسلامیة و إقصاء هذا النموذج الحیّ عن الساحة لکی لا یکون أمام أنظار المسلمین، و مارسوا کل هذا بمختلف الأسالیب. و کذا الحال الیوم أیضاً.. تعاضدوا عسی أن یستطیعوا إقصاء الشعب الإیرانی عن الساحة. و أقولها لکم إنهم سوف یخفقون قطعاً و یقیناً و بنحو تام فی مساعیهم هذه.
طبعاً لا یمکن الانتصار من دون جهاد و تحرک و تقبّل للأخطار. لم یعد الله تعالی أحداً بالنصر من دون تحرک. و لا یکفی لذلک مجرد أن یکون المرء مؤمناً متدیناً، بل لا بد من الجهاد و الصبر. «و لنصبرنّ علی ما آذیتمونا» (6). هذا کلام الأنبیاء لمعارضیهم.. إننا نصمد و نقاوم. لقد صمد الأنبیاء و الرسل. و منطق الأنبیاء الیوم رغم کل ما تعرضوا له من القمع هو المنطق الشائع فی العالم. لقد انتشر کلام الأنبیاء و لم ینتشر منطق الفراعنة. و هذه المسیرة و هذه التوجّهات سوف تزداد یوماً بعد یوم. لا بد من الصبر و الصمود. لقد أبدی شعبنا عن نفسه هذا الصمود و الثبات. و أعداؤنا لا یریدون أن یفهموا و یستفیدوا من التجارب الماضیة. یجب أن یعلموا أن اللجاجة و التکبّر و جنون العظمة مقابل هذا الشعب و توقع أمور فی غیر محلها منه لن یجدی أی نفع. هذا الشعب واقف ثابت و قد عرف الطریق و الهدف و عرف نفسه.
الدرس الذی استلهمناه من القرآن و من الإسلام هو درس الصمود و الجهاد و الوحدة و الاتحاد. اتحاد القلوب و الأیدی مع بعضها. و هذا الأمر لا یختص بشعبنا، بل هو اتحاد فی العالم الإسلامی. لاحظوا الیوم أن من النقاط التی یشدّد علیها أعداؤنا بقوة هی تأجیج الخلافات المذهبیة.. الشیعة و السنة. أشخاص لا یؤمنون بالتشیع و لا بالتسنن، و لا یعترفون بأساس الإسلام، یعملون طبقاً لرغبات الأجهزة التجسسیة الأمریکیة و الإسرائیلیة، و یقفون خلف مکبّرات الصوت لیبدوا قلقهم من انتشار التشیّع! و هل تفهمون ما هو التشیّع؟! و هل تفهمون ما هو التسنّن؟! إنکم لا تؤمنون بأصل الدین. سیاسة الاستکبار و سیاسة الأجهزة التجسسیة فی الوقت الحاضر هی أن تخیفنا من بعضنا، الشیعة من السنة، و السنة من الشیعة.. و تبث الخلافات و تشعل النزاعات. سبیل الغلبة علی الأعداء هو التفکیر و الاتحاد و تقریب القلوب و تعاضد الأیدی. و بهذه الطریقة یتحقق قوله «لیظهره علی الدین کله» (7)، و ینصر الله تعالی بفضله و لطفه أهداف البعثة و دساتیرها و برامجها علی کل مؤامرات الأعداء.
نتمنی أن ینزل الله تعالی برکاته علیکم و علی الشعب الإیرانی و علی الأمة الإسلامیة أکثر فأکثر، و یحشر الروح الطاهرة لإمامنا الخمینی الجلیل - و هو الذی دلّنا علی هذا الطریق و فتحه أمامنا - مع أولیائه و مع الأنبیاء و الأئمة المعصومین.
و السلام علیکم و رحمة الله و برکاته.

الهوامش:
1 - مجموعة ورام، ج 1، ص 89 .
2 - سورة الجمعة، الآیة 2 .
3 - م س.
4 - نهج البلاغة، الخطبة رقم 1 .
5 - سورة الحج، الآیة 40 .
6 - سورة إبراهیم، الآیة 12 .
7 - سورة التوبة، الآیة 33 .