الحمد لله ربّ العالمین، و الصلاة و السلام علی سیّدنا و نبیّنا أبی القاسم المصطفی محمّد، و علی آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین، سیّما بقیة الله فی الأرضین.
جلستنا لهذا الیوم جلسة جدّ نورانیة و حافلة بالمعنویات. فضلاً عن أن جماعة الأعزاء من عوائل الشهداء و آبائهم و أمهاتهم و زوجاتهم و أبنائهم و غیرهم من أقارب الشهداء یشیعون فی الأجواء أین ما اجتمعوا طراوة الثورة و نشاط الجهاد و الصمود - و هذا ما یرتبط بکل التجمّعات التی کانت لنا بعوائل الشهداء العزیزة - فإن هذه الجلسة إلی هذه اللحظة کانت جلسة زاخرة بالمغزی و المعانی. الکلمات التی ألقیت و الأشعار التی قرئت کانت ذات نقاط عمیقة و قیّمة. لقد استمعت بدقة، و کان ما ذکره الأعزاء آراء جد قیمة بالنظرة الناقدة، و ذهنی و قلبی بدوری مشغولان ببعض هذه الآراء و الأفکار.
نذکر أولاً شیئاً عن الشهداء الأبرار فی هذه المحافظة. کنت علی معرفة قریبة ببعض هؤلاء الشهداء. و عرفت الکثیرین عن طریق قراءة سیرهم و النقول التی ظهرت عن حیواتهم. من هذه الناحیة أیضاً تعتبر محافظتکم محافظة متمیّزة. هذه المحافظة تفصلها مسافة کبیرة عن مناطق الحرب و المعارک، لکن شباب هذه المنطقة خاضوا غمار الجهاد فی سبیل الله منذ الأیام الأولی لانتصار الثورة. و بعد فترة الشهادة لم یتوقف مسلسل الجهاد فی سبیل الله الذی یؤدّی إلی الشهادة فی سبیل الله. الشهید الأخیر العزیز من هذه المنطقة هو الشهید رجب علی محمد زاده تلقّی أجر الجهاد خلال فترة الدفاع المقدس، و الصمود فی تلک السوح العصیبة من الله تعالی فی سنوات لاحقة، و قد أکمل الله تعالی ملفه و سجلّه.. شهید الخدمة.. شهید الوحدة. هذه قیم منطقة یعیش فیها أناس مؤمنون. هذه هی قیم محافظة و مدینة.
ینبغی أداء الاحترام لعوائل المضحّین فی هذه المحافظة، و عوائل الشهداء، و الأعزاء المعوّقین الذین تحمّلوا مشکلات و صعوبات الإعاقة علی مدی سنین طویلة، و لم یفقدوا عزمهم و صمودهم و إیمانهم الراسخ، فثبتوا و لا زالوا ثابتین. أری من الضروری علاوة علی إبداء المحبّة و الإخلاص لآباء و أمهات و زوجات و أبناء الشهداء الأعزاء، أن أبدی مودّتی و احترامی لعوائل المعاقین العزیزة و زوجاتهم اللاتی یتحمّلن الکثیر من الجهود و المشاق. هذه المساعی تعدّ فی دیوان القیم الإلهیة من أثمن القیم. هذه مساع و جهود تحافظ علی المجتمع و الشعب فی أرقی مراتب الحیاة، و تجعله مستعداً لبناء ذاته.
و هناک نقطة حول شهدائنا الأبرار. أیها الإخوة.. أیها الأعزاء، قناعتی القلبیة العمیقة هی أننا کلنا الیوم جالسون علی مائدة الشهداء. بقاء هذه الثورة کان بفضل دماء الشهداء. و هذه من النقاط التی شدّد علیها الأعزاء الذین تحدثوا هنا أو قرأوا شعراً. نعم.. صحیح.. الشهادة هی التی توقّع وثائق البقاء و الصمود و خلود القیم. أعظم أجر یمنح للشهید فی هذه الدنیا هو بقاء و متانة الحقیقة التی ضحّی بنفسه من أجلها. یصون الله تعالی تلک الحقیقة بفضل دماء الشهداء. و الآلیة المنطقیة و العقلائیة لذلک معلومة. حین یضحّی مجتمع بروحه و وجوده و راحته من أجل قیمة و حقیقة فإنه یثبت أحقیّته فی العالم. و الأحقیّة هی التی تبقی. الحق هو الذی یبقی. هذه سنة إلهیة.
شهداؤنا الأعزاء و مضحّونا أشخاص تخلوا عن کل مطالیبهم و إراداتهم الشخصیة. هذا شیء سهل قوله باللسان. لیست القضیة التخلی عن المال و الأرصدة و الممتلکات و حسب، بل هو التخلی عن العواطف. یتخلی الشهید عن عاطفة الأمّ، و عن ظل الأب، و عن ابتسامات الأطفال، و عن حبّ الزوجة، و یسیر لأداء الواجب. هؤلاء المعاقون أیضاً شهداء. المضحّون هم فی الواقع من وضعوا أقدامهم فی أرض الشهادة. لقد اختار الله تعالی عدداً من الناس فذهبوا، و بقی عدد آخر للامتحانات اللاحقة. لکن مرتبة الشهید و الشهادة محفوظة للمضحّین.
و أضیف نقطة أخری لما أدلی به الأعزاء هنا. قالوا: «الذین ساروا فی فترة الجهاد المقدس و الدفاع المقدس إلی جبهات الجنوب و الغرب و خاضوا غمار الساحات و وضعوا أرواحهم علی الأکف، ینقسمون إلی ثلاثة مجامیع: بعضهم یندمون علی ماضیهم، و بعضهم یبقون لاأبالیین غیر مکترثین، و بعضهم یبقون ملتزمین. و الذین یبقون ملتزمین یجب أن یموتوا غصة و کمداً». أنا لا أوافق هذه العبارة الأخیرة. الذین یبقون ملتزمین یشهدون إثمار هذه الغرسة و تنامی هذه الشجرة. إعراض البعض لا یضیر هذه الحرکة العظیمة و هذا البناء الشامخ الفارع. بتراجع البعض عن هذه القافلة العظیمة لا تتوقف هذه القافلة أبداً. «من یرتدّ منکم عن دینه فسوف یأتی الله بقوم یحبّهم و یحبّونه» (1). هذا ما قاله الله تعالی فی القرآن الکریم للمسلمین فی صدر الإسلام، و للذین جاهدوا مع الرسول الأکرم (ص) و قاتلوا و ضحّوا بأنفسهم. القرآن الکریم فی الواقع یبیّن لهم هذه الحقیقة.
ینبغی الربط علی القلوب و شدّها. بعض القلوب تتزلزل و تزلّ و لا تستطیع الاحتفاظ بنفسها علی تلک الحافّة الشاهقة فتواصل السیر و الحرکة، لذلک تسقط. و قد عبّر القرآن الکریم عن هؤلاء بـ «من یرتدّ منکم عن دینه». لا یعنی الارتداد دوماً و علی نحو الإطلاق الارتداد عن الدین و التنکّر له، بل یعنی العودة عن الدرب الذی سار فیه المرء فی وقت سابق. نعم، کان البعض فی هذه الثورة، و کان البعض فی صدر الإسلام، فلم یواصلوا الدرب الذی ساروه إلی جانب الرسول الأعظم (ص). و لکن هل توقف الدرب؟ هل یتوقف هذا الدرب؟ هل تتوقف القافلة و تبقی تراوح فی مکانها؟ القافلة تسیر و تتحرک: «فسوف یأتی الله بقوم یحبّهم و یحبّونه». ستکون هناک حالات نماء. و من حالات النماء هذه هی أنتم أیها الشباب. أنتم الذین لم تشهدوا فترة الحرب و لا الإمام الخمینی، و لا جبهات القتال و ساحاته، لکن بلدنا الإسلامی و الثوری الیوم مفعم کله بروح الصمود و الثبات و الفخر و الشعور بالعزة.
ذات یوم کانت کتائب منطقتکم - خراسان الشمالیة - تقتحم الخطوط الأمامیة للعدو و تحطمها فی جبهات القتال، و أنتم الیوم أیضاً تحطمون الخطوط. صمودکم فی وجه جشع القوی السلطویة فی العالم و طمعها و عدوانها تحطم الخطوط. الشعب الإیرانی الیوم یحطم الخطوط و یجتاحها. قارنوا الثورات فی المنطقة و التی انتصرت منها فی موجة الصحوة الإسلامیة - و نحن طبعاً نحترم کل هذه الثورات و نعرف قدرها - بالجمهوریة الإسلامیة و النظام الإسلامی و الثورة الإسلامیة. لاحظوا أین یمکن أن تجدوا مثل هذا الثبات و هذا الصمود و هذه الثقة بالنفس التی لدی الشعب الإیرانی؟ هذا تحطیم للخطوط.
تعوّد عتاة العالم و المهیمنون فیه علی أن یتحدّثوا بالنیابة عن کل الناس فی العالم لصالح مصالحهم المنحطة و لصالح رأسمالییهم. تعوّدوا علی التدخّل فی شؤون کل البلدان لصالح مطالیبهم الجشعة الاستکباریة. و قد یصدر عن الشعوب أحیاناً بعض الأنین أو الهتافات و الصراخ، و لکن من یستطیع الصمود مقابل لعلعة القوی العاتیة؟ أی شعب أثبت صموده بالمنطق و الأدلة و الرصانة مقابل جشع الاستکبار؟ سوی شعب إیران؟ و الآخرون مهما فعلوا بقوا فی مراتب دون شعب إیران. عسی أن یکتب الله لهم أن یتقدّموا علینا - لا بأس فی ذلک - فما أفضل من أن تتقدم الشعوب المسلمة و الشعوب الأخری إلی الأمام و تسبقنا نحن أیضاً، لکن هذا لیس هو الواقع، فالشعب الإیرانی هو المتقدم الیوم و هو محطم الخطوط.
لم یکن شبابنا یومذاک، لکنهم الیوم موجودون.. هذه بشارة. لیشدّد أهل الفکر و التأمل علی هذه الظاهرة المذهلة، و هی أنه فی نظام الجمهوریة الإسلامیة علی الرغم من کل الملابسات التی تلاحظ هنا و هناک، لا تزال هذه المحفزات و هذا الصمود و الثبات و الوعی و العزم الراسخ بین شبابنا، إن لم نقل أکثر من فترة الدفاع المقدس، فلیس بأقل منه.
کیف تکون حالات النماء لدی شعب أکثر من حالات التساقط؟ نعم، هناک حالات تساقط، و ثمة أشخاص یتراجعون عن الدرب، و أشخاص یشعرون بالتعب، و أشخاص یشککون فی ماضیهم، و أشخاص ینحرفون عن الدرب بابتسامات الأعداء و حیلهم و مخادعات المحتالین، و لکن فی المقابل یوجد فی مجتمعنا رجال و نساء شجعان واعون عارفون بحقائق العصر و متعمّقون فی الکثیر من القضایا السیاسیة - التی لم تکن مطروحة یومذاک - و هؤلاء هم حالات النماء الجدیدة. هکذا هو وضعنا الیوم. البعض ینظرون لظواهر معینة فیصدرون أحکاماً و تقییمات خاطئة، و یتصوّرون إن الشباب عادوا عن الدین. کلا، الشباب محبّون لهذا الدرب، و محبّون للشیء الذی یترسّخ الإیمان به فی قلوبهم. هذا هو حال أکثریة الشباب فی البلاد، و هذا إنما تحقق ببرکة دماء الشهداء و تضحیات أعزائکم و شبابکم.
لقد کبّرتم شبابکم و تحمّلتم الجهود و ربّیتموهم و سلمتموهم للمجتمع کباقات الورود، و ذهبوا و استشهدوا فی سبیل الله. الشعب الإیرانی کله یجب أن یکون شاکراً لکم. الکل یجب أن یحیّی ذکری الشهداء. أبناء الشهداء یجب أن یفخروا بآبائهم. أبناء الشهداء یجب أن یسلموا درب آبائهم و تراثهم للأجیال اللاحقة. الشعب الإیرانی یفخر بشهدائه. إننا نفخر باحترام عوائل الشهداء و الإخلاص لها، و نعتقد أن الشهداء یقفون فی الخط الأمامی للمسیرة، و یأتی بعدهم مباشرة آباؤهم و أمهاتهم و زوجاتهم.. لقد صمدوا و ثبتوا و ضحّوا. و المسیرة الثوریة العظیمة لشعبنا الیوم مستمرة بفضل هذه التضحیات، و سوف تتکرّس و تترسّخ یوماً بعد یوم إن شاء الله.
نسأل الله تعالی أن ینزّل رحمته و برکته و فضله علی شهدائنا الأبرار، و عوائلهم، و علی المعاقین الأعزاء، و علی عوائلهم، و علی الأسری الأحرار، و کل المضحّین، و یرضی القلب المقدس لإمامنا المهدی المنتظر عنکم جمیعاً.
و السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته.‌

الهوامش:
1 - سورة المائدة، الآیة 54 .