بسم الله الرحمن الرحیم
أولاً، أنا مسرور جداً، و أتقدّم بالشکر الجزیل لکل واحد من الحضور، خصوصاً الإخوة و الأخوات الذین بذلوا الجهود، و بحثوا و حققوا و دوّنوا بحوثاً، ثم واصلوا جهودهم فاختصروا بحوثهم - و کان واضحاً أن البحوث مختصرة و ملخّصة - و أتمنّی أن یوفقنا الله لنستطیع مطالعة أصل البحوث التی طبعوها و زوّدونا بها. و لأنی استبعد أن أوفّق لأن أجد الوقت الذی یجعلنی أطالع أصل البحوث، و لکن من المناسب أن یراجع الأعزاء أصل البحوث و یتأمّلوا فیها، لأن هذا الموضوع مهم بالنسبة لنا. کما أشکر العریف المحترم العزیز الدکتور السید واعظ زاده الذی یذکر - کما عوّدنا - الکثیر من الأفکار و النقاط فی کلمات مختصرة، و ینظم و یدیر کمّاً کبیراً من المشاریع و عدداً کبیراً من الشخصیات بقلیل من التظاهر و الادعاء. الحقیقة إنه و زملاؤه یبذلون الکثیر من الجهود، و هذا ما أعلمه.
و من الضروری أن أقدّم شکراً خاصاً لکل العاملین. تلاحظون فی هذه الأیام، أنه تبعاً لاشتباکات الاستکبار العالمی - و هو فی الواقع أول أعداء الحریة - مع بلادنا و الجمهوریة الإسلامیة - بسبب هذه الأمور الاقتصادیة و تأثیراتها علی أداء الحکومة و حیاة الناس - توجد تبعاً لذلک طبعاً بعض الهموم العامة فی المناخ السیاسی للبلاد. لا یوجد بیننا من لا یحمل هذه الأفکار و الهموم، و مع ذلک لم یتوقف هذا المشروع الأصلی الأساسی طویل الأمد. أی إن هذا الملتقی أقیم علی نحو الدقة تقریباً، و طبقاً للبرمجة المسبقة و فی موعده المقرّر. و هذا ما یسرّنی و یجعلنی أقدّم الشکر لکل العاملین فی المشروع.
تتوخّی الجمهوریة الإسلامیة من إقامة ملتقیات الأفکار الاستراتیجیة عدة أهداف أساسیة، و لا نروم نسیان هذه الأهداف و استبعادها عن أنظارنا. من هذه الأهداف أن البلاد بحاجة شدیدة فی بناها التحتیة إلی الفکر و التفکیر. ثمة الکثیر من المقولات و الأفکار الأساسیة، و هذه هی الفکرة الرابعة التی نطرحها، و نری أننا بحاجة إلی التفکیر فیها. أشرت فی أحد لقاءاتی فی شهر رمضان فی هذه الحسینیة مع جماعة من الجامعیین - و لا أتذکر هل کان ذلک فی لقائی بأساتذة الجامعات أم بطلبة الجامعات - أشرت إلی کلام أحد الحضور و المتحدثین فی السنة الماضیة من ذاک اللقاء، حیث خاطبنی و طلب أن أرکّز علی الفکر مثلما رکّزتُ طوال هذه الأعوام علی قضایا العلم و التقدّم و الازدهار العلمی. و قد فکّرت فی الأمر فوجدته کلاماً علی جانب کبیر من الأهمیة. و تقرّر أن یجری أهتمام بالفکر و الأفکار و تفعیل الفکر. و طبعاً لهذه المسألة شروطها و متطلباتها و أرضیاتها و إمکانیاتها. و بعض هذه المتطلبات متوفرة لدینا و بعضها غیر متوفرة، لکن نستطیع اکتسابها. هذه من التحدیات الأساسیة لشعب مثل شعبنا لم یبق فی مکان واحد کالمستنقع، بل تحرک و سار کالنهر الصخّاب. هکذا نحن بالتالی، نجری و نسیر و فی حال تقدّم إلی الأمام. ثمة طبعاً صدامات و احتکاکات بهذا و ذاک، و مواجهة موانع و عقبات فی أثناء المسیرة، لکن التقدم لم یتوقف. نحن شعب من هذا السنخ، لذا نحتاج إلی التفکیر فی هذه المسألة. و علیه، من أهداف هذا الملتقی تلبیة حاجة البلاد الشدیدة للفکر و التفکیر، خصوصاً فی الأفکار و المقولات الأساسیة الجذریة.
هدف آخر یتمثّل فی أهمیة التواصل المباشر بالنخبة. قد أقتنی کتبکم و أقرؤها، لکن هذا یختلف عن سماع کلامکم منکم مباشرة، حتی لو کان ملخّصاً. هذا حکم یصدق علی کل الحضور الموجودین هنا. أن یسمعوا کلام بعضهم من بعضهم مباشرة و بلا واسطة. هذه أیضاً نقطة مهمة.
و النقطة الثالثة - و هی أیضاً علی جانب کبیر من الأهمیة - هی التمهید العلمی للتوفر علی إجابات لأسئلة مهمة فی خصوص الأفکار الأساسیة. کما أشار بعض الأعزاء هنا فإننا نواجه أسئلة، و یجب الإجابة عن هذه الأسئلة. لیست هذه الأسئلة من سنخ اختلاق الشبهات، و لیست مجرد عرض للشبهات و العقد الذهنیة، إنما هی طرح للقضایا الأساسیة فی حیاتنا الاجتماعیة. وفقاً للادعاء الذی نطرحه حیث نقول إننا جمهوریة إسلامیة و نظام إسلامی، فإن هذا طرح للقضایا الأساسیة. یجب أن تُطرح هذه القضایا و یجب أن تُناقش و یُجاب عنها. هل تمّت معالجة هذه القضیة و حلها؟ و هل لها جواب واضح أم لا؟ نحن بحاجة للعمل و الجدّ و الاجتهاد فی هذا المجال. هذا من أهداف الملتقی.
طبعاً لا هذا الملتقی و لا الملتقیات الثلاثة السابقة لم تکن من أجل أن تطرح الکلام الأخیر و فصل الخطاب فی الموضوعات المقرّرة. لا أنتم تقولون فصل الخطاب و لا أنا. إنما هذه الملتقیات مجرد تمهید و توفیر للأرضیة. نرید لهذه الحرکة أن تستمر و تجری و تکون کالنبع المتدفق المستمر. العمل الأصلی ینبغی أن یبدأ بعد هذه الجلسة، و علی ید الباحثین و الأساتذة و المفکرین الجیدین المتحفزین فی الحوزات و الجامعات. و قد شرح السید واعظ زاده الأعمال التی جرت و أنجزت بعد الملتقی الأول الخاص بالنموذج الإیرانی الإسلامی للتقدم. تمّ إنجاز أعمال جیدة و أساسیة. و قد کان الملتقی الثانی عن محور العدالة، و أوکل لنفس المرکز. و کان الملتقی الثالث حول العائلة. و تمّ إنجاز أعمال مهمّة فی هذا الإطار، سواء فی المرکز، أو فی بعض المؤسسات البحثیة التخصصیة. العمل یتقدم إلی الأمام. و عدم وجود عنوان و لوحة إعلانیة واسعة لهذا العمل کان بطلب منی. لم نکن نرغب منذ البدایة برفع لوحة إعلانیة لهذا المشروع. إنما نرید إنجاز العمل، و حینما یتحقق العمل فإن اللوحة الإعلانیة ستتکوّن. و بالطبع فقد قلت مؤخراً للأصدقاء الأعزاء إنه من أجل تحقق هذا التیار و تکوینه فی الخارج و خصوصاً حول فکرة مکتظة بالتحدیات مثل الحریة، طلبنا من السادة متابعة سیاسة إعلامیة منظمة لیستطیع أصحاب الرأی و الاختصاص و الراغبون الذین ربما أصیبوا ببعض الخمول فی هذا المجال، أو یبحثون عن حافز لهم للعمل، لیستطیعوا الاستفادة من جلستنا هذه اللیلة و یخوضوا هم أیضاً فی هذا التیار. لکننا لا نروم الإعلام و الدعایة بالمعنی الدارج للکلمة.
ثمة جملة من النقاط حول موضوع هذه اللیلة، أی قضیة الحریة. الکلمات التی قدّمها الأعزاء کانت جیدة جداً. أی إن المرء حینما یستمع لها - و أنا مستمع جید و أصغی للکلام بدقة - ینتفع منها حقاً. لقد استفدنا من کل الکلمات التی قدّمها الأعزاء، و ربما استفدنا من بعضها أکثر و من بعضها الآخر أقل، و قد کانت فیها نقاط جدیرة بالاهتمام و النظر. و بالطبع أقولها لکم دون مجاملة إننا أدرکنا من مجموع کلمات السادة کم نعانی من النقص و الفراغ فی هذا المجال. کلماتکم و بحوثکم نفسها شدّدت لدیّ هذه القناعة التی کنت أحملها مسبقاً، و أدرکنا کم نعانی من النقص و الفراغ فی هذا المجال. و سوف أشیر إلی حالة الفراغ و النقص هذه.
الحقیقة أن موضوع الحریة شهد ازدهاراً منقطع النظیر عند الغربیین خلال القرون الثلاثة أو الأربعة، منذ عصر النهضة فما بعد. سواء فی العلوم الفلسفیة أو فی میدان العلوم الاجتماعیة أو فی مجالات الفنون و الآداب، قلّ ما طرح موضوع فی الغرب خلال القرون الثلاثة الأخیرة کما حصل بالنسبة لموضوع الحریة. و لهذه الحالة سببها العام و أسبابها الإضافیة المحیطة. السبب العام الرئیسی هو أن هذه القضایا الأساسیة الأصولیة من أجل أن تنطلق تحتاج إلی أحداث محفزة، أی إن طوفاناً یؤدّی فی الغالب إلی انطلاق هذه النقاشات الأساسیة. ففی الحالات العادیة لا تنطلق نقاشات و بحوث عمیقة مهمة حول هذه الأفکار الأساسیة. یجب أن تقع حادثة معینة تمهّد الأرضیة لتلک النقاشات. و ذکرتُ طبعاً أن هذا فی معرض الإشارة للسبب الأصلی الذی سوف أذکره، و هناک عوامل و أسباب جانبیة. لقد کان ذلک الحدث بالدرجة الأولی هو النهضة - النهضة فی مجموعة البلدان الأوربیة من إیطالیا التی انطلقت فیها النهضة إلی بریطانیا و فرنسا و البلدان الأخری - ثم کانت هناک ظاهرة الثورة الصناعیة التی انبثقت فی أواخر القرن السابع عشر و بدایات القرن الثامن عشر فی بریطانیا. الثورة الصناعیة نفسها کانت حدثاً کالانفجار دفعت البشر إلی التفکیر، و حضّت المفکرین علی التعمّق فی تفکیرهم. و بعد ذلک، توفرت فی أواسط القرن الثامن عشر إرهاصات الثورة الفرنسیة الکبری - التی کانت أرضیة اجتماعیة لقیام ثورة عظمی - فی منطقة لم یکن فیها مثل هذه الثورات. و طبعاً کان قد حدث نظیر ذلک بأبعاد أصغر فی بریطانیا قبل نحو مائة أو مائتی عام. لکن ما حدث فی بریطانیا لم یکن یقبل المقارنة بما حدث فی الثورة الفرنسیة.
إرهاصات الثورة الفرنسیة هی الاستعداد و الجاهزیة داخل المنظومة، أی الشیء الذی کان یتفاعل تحت جلد المجتمع و کان المفکرون یرونه و یخمّنونه. و أقول لکم إن المقدار الذی استقاه أمثال مونتسکیو أو روسو من واقع المجتمع الفرنسی لیصوغوه فکراً، لم یستفده واقع المجتمع الفرنسی من أفکارهم. و هذا ما یمکن لأیّ متأمّل و ناظر أن یراه. تعلمون أن مونتسکیو نفسه کان خارج فرنسا. و کان هناک واقع. قبل أن یقع الانفجار الکبیر فی سنة 1789 - و کان بالتالی انفجاراً هائلاً فیه الکثیر من الخسائر و الخراب - کانت تقع تحت جلد المجتمع و المدن و البلاد الکثیر من الأحداث تدلّ علی أن شیئاً یحدث و آخذ بالتکوین و الظهور. و قد طرحوا قضیة العقل فی إطار موضوع الحریة. لا، أقول لکم إنه فی الثورة الفرنسیة الکبری ربما کان عدد من المستنیرین یتحدّثون بطریقة معینة، إلا أن ما لم یکن مطروحاً علی أرض الواقع العملی هو العقل و العقلانیة و النزوع إلی العقل. کلا، لم یکن هناک سوی قضیة الحریة، و فی الغالب الحریة من قیود الملکیة و الحکومة الاستبدادیة المتسلطة منذ قرون، و سلطة البوربون المهیمنین علی کل مفاصل حیاة الناس. و لم یکن الأمر یقتصر علی جهاز البلاط، إنما کان کل واحد من الارستقراطیین فی فرنسان ملکاً بحد ذاته. ما سمعتموه عن الباستیل و سجناء الباستیل لا یرجع لتلک الأیام القلیلة التی سبقت ذلک الحدث. ربما یعود أمر الباستیل إلی قرون من الزمان، حیث استمر الباستیل هو الباستیل. أی إن الوضع کان مضطرباً غیر منظم. و حینما کان المفکرون من أمثال فولتیر و روسو و مونتسکیو یرون هذا الوضع، و لدیهم قدرة علی التأمّل و التفکیر، فقد کانوا یصلون إلی بعض النتائج، و یطلقون بعض الکلام و الآراء، لم تکن لتؤخذ بنظر الاعتبار علی صعید الواقع و الممارسة العملیة فی فرنسا. و انظروا لتروا أن الخطب التی کان یلقیها کبار الخطباء آنذاک - میرابو و غیره - لم تکن لها صلة بکلام مونتسکیو و فولتیر، إنما کانت کلها عن فساد الأجهزة الحاکمة و استبدادها و ما إلی ذلک. هذا هو واقع الثورة الفرنسیة.
کانت الثورة الفرنسیة الکبری بمعنی من المعانی ثورة فاشلة و غیر تامّة. بعد ما لا یزید عن أحد عشر أو اثنی عشر عاماً من الثورة ظهرت امبراطوریة نابلیون القوّیة، و هی ملکیة مطلقة لم تکن حتی للملوک الذین سبقوا لویس السادس عشر المقتول فی الثورة! أراد نابلیون أن یتتوّج فجاءوا بالبابا لیضع تاج الملوکیة علی رأس نابلیون، لکن نابلیون لم یسمح بأن یضع البابا التاج علی رأسه، إنما أخذه منه و وضعه بیدیه علی رأسه! هذه أمور هامشیة نذکرها بین قوسین. و فی معرض المقارنة مع ثورتنا لا بأس من الالتفات إلی نقطة هی أن ما حال دون وقوع مثل تلک الأحداث و الفجائع فی ثورتنا - بشکل من الأشکال علی الأقل أو حتی بدرجة أقلّ - هو وجود الإمام الخمینی. ذلک القائد الذی کان متبعاً و مطاعاً من قبل الجمیع، و هو الذی لم یسمح بذلک، و إلا ثقوا أنه حتی لو لم تکن لتحدث مثل تلک الأحداث لکانت وقعت أحداث شبیهة لها. خلال العشرة أعوام أو الاثنی عشر عاماً ما بین الثورة و ظهور نابلیون و تسلطه، تولّت زمام الأمور ثلاث فئات قتلت کل واحدة منها الفئة التی سبقتها و قضت علیها و أمسکت هی بزمام الأمور، و جاءت الفئة التالیة فقتلت هذه و قضت علیها. و کان الناس یعیشون منتهی الفوضی و البؤس و التعاسة. کانت هذه الثورة الفرنسیة، و قد کانت ثورة اکتوبر السوفیتیة علی بفس هذه الشاکلة من نواح عدیدة - أی کانت شبیهة بالثورة الفرنسیة الکبری - لکن کان هناک وضع خاص و عوامل متنوعة أخری وجّهت الناس و سیطرت علیهم بشکل من الأشکال. لا بأس من التنبّه لهذه الأمور. للأسف لا نری اهتماماً بنقاط هذه الثورات فی المحافل و الأوساط التی أنا علی صلة بها، سواء الأوساط المختصّة بالتاریخ أو الأوساط الجامعیة ذات العلاقة.
و تعلمون طبعاً أن فرنسا شهدت وقوع عدة أحداث. منها الثورة التی وقعت فی نهایة القرن الثامن عشر.. الثورة الفرنسیة الکبری. و بعد قرابة أربعین سنة، وقعت ثورة أخری، و بعد حدود عشرین عاماً حدثت ثورة أخری.. ثورة شیوعیة. وقعت أول ثورة شیوعیة فی العالم فی فرنسا. و شکلوا هناک المجامیع الشیوعیة.
و بالتالی فإن هذه العوامل هی التی أدّت إلی نمو و تصاعد هذه الحرکة الفکریة: النهضة بالدرجة الأولی. و بالطبع فإن النهضة لم تکن حدثاً دفعیاً. لکن أحداثاً کثیرة وقعت طوال المائتی عام الأولی من النهضة، منها الثورة الصناعیة، و منها الثورة الفرنسیة الکبری. و هذه الأمور بحد ذاتها طرحت فکرة الحریة، لذلک عمل الغربیون علیها و عالجوها. کتب الکثیر من الفلاسفة آلاف البحوث و الدراسات و الکتب عنها. ظهرت فی کل البلدان الغربیة مئات الکتب المدوّنة حول الحریة. و بعد ذلک حین انتقلت هذه الفکرة إلی أمریکا عملوا علیها هناک بنفس الطریقة.
إلی ما قبل الثورة الدستوریة لم یکن لنا ظروف من ذلک القبیل، بحیث تخلق تیاراً فکریاً حتی نفکر فی قضیة الحریة. و کانت الثورة الدستوریة فرصة جیدة جداً. کانت الثورة الدستوریة حدثاً کبیراً جداً و علی صلة مباشرة بقضیة الحریة، لذا کان من المناسب أن تثیر بُحیرة تفکیرنا العلمی الهادئة - سواء علی صعید أوساط رجال الدین أو غیرها من الأوساط - و تخلق طوفاناً و تطلق تیاراً، و قد فعلت ذلک، فطرحت الأفکار حول الحریة، و لکن کانت هناک نقیصة کبیرة لم تسمح لنا بالسیر فی الطریق الصحیح. و النقیصة هی أن الأفکار الغربیة بدأت قبل أعوام من الثورة الدستوریة - ربما قبل عقدین أو ثلاثة عقود من الثورة الدستوریة - تتغلغل إلی أذهان مجموعة من المستنیرین الإیرانیین عن طریق الأمراء و رجال البلاط و السلطة و بعض الارستقراطیین. و حین نقول المستنیر فإن المستنیر فی تلک الفترة کان یعادل الارستقراطی. أی لم یکن لنا مستنیر من غیر الطبقة الارستقراطیة. کان المستنیرون بالدرجة الأولی من رجال البلاط و التابعین و المرتبطین بالسلطة. هؤلاء هم أول من تعرّف علی الأفکار الغربیة ذات الصلة بالحریة. لذا حینما تخوضون فی قضیة الحریة فی الثورة الدستوریة بإیران - و هی قضیة معقدة کثیرة الضجیج - تجدون نفس المیول الغربیة المناهضة للکنیسة التی ارتبطت بفکرة الحریة، ظهرت هنا علی شکل مناهضة للمسجد و لرجال الدین و للدین. و المقارنة بین الوضع هنا و الوضع هناک مقارنة مع الفارق. توجّه النهضة الغربیة أساساً کان توجّهاً مناهضاً للدین و الکنیسة، لذلک تأسست علی النزعة البشریة و النزعة الإنسانیة و الأومانیة. و بعد ذلک کانت کل التحرّکات الغربیة علی أساس الأومانیة، و بقیت هکذا إلی الیوم. علی الرغم من کل الفوارق فإن الأساس أساس أومانی، أی إن الأساس هو الکفر و الشرک - و لو اتسع المجال سأتحدث فی ذلک - و نفس هذه المیول وفدت إلی هنا. تلاحظون أن الکاتب المستنیر و السیاسی المستنیر و حتی رجل الدین القریب من المستنیر حینما یکتب عن الثورة الدستوریة یکرّر نفس کلام الغربیین لیس إلا. لذلک لم تحصل ولادة و توالد فکری یذکر.
لاحظوا، هذه هی سمة الفکر التقلیدی المستعار. حینما تأخذون الوصفة من الجانب الآخر لتقرؤها و تعملوا بها فلن یعود معنی للولادة و التوالد. أما إذا أخذتم العلم أو الحوافز أو الأفکار عن الجانب الآخر فنعم، سوف تعملون و یکون هناک توالد و إبداع. و هذا ما لم یحدث، لذلک لم یحدث توالد بعد ذلک، و لم یظهر أی کلام جدید أو أفکار جدیدة أو منظومة فکریة جدیدة - کالمنظومات التی للغربیین - عن الحریة. الکثیر من المفکرين فی الغرب لدیهم منظومات فکریة بخصوص الحریة. النقود التی اجترحت علی اللیبرالیة القدیمة، و کذلک النقود التی وردت بعد ذلک علی الوصفات الجدیدة للیبرالیة، و اللیبرالیة الدیمقراطیة، و الأشیاء التی ظهرت بعد اللیبرالیة فی القرون السابع عشر أو السادس عشر مثلاً، کل واحدة منها منظومة فکریة لها بدایة و لها نهایة و تجیب عن أسئلة عدیدة. و لم تُجترح حتی واحدة منها فی بلادنا. هذا علی الرغم من کثرة مصادرنا. لا نعانی من فقر فی المصادر کما أشار الإخوة الأعزاء. أی بوسعنا حقاً إطلاق منظومة فکریة مدوّنة و کاملة عن الحریة تجیب عن کل سؤالات الحریة الکبیرة و الصغیرة. و بالطبع فإن هذه العملیة تتطلب همّة و لیست بالعمل السهل. إننا لم نفعل ذلک. مع أن لدینا مصادر لکننا أتینا بمنظوماتهم الفکریة، و کل واحد حسب الأماکن التی کان له صلة بها، فالذی کان علی صلة بالنمسا استقی مما قاله المفکرون النمساویون، و الذی کان یجید الفرنسیة استلهم ما قاله الفرنسیون، و البعض کانوا علی صلة ببریطانیا و ألمانیا فقلّدوا ما قیل فی اللغتین الإنجلیزیة و الألمانیة، فکانت الأعمال أعمالاً مستعارة. و الذین کانوا یعتبرون معارضین للحریة لدغوا فی الواقع من نفس هذا الجُحر - أی إن الفریقین لدغوا من جُحر واحد - هم أیضاً واجهوا هذا الکلام لأنهم وجدوه کلاماً مناهضاً للدین و الله.
لدینا نواقصنا الیوم. لدینا فی الوقت الحاضر نواقص عدیدة. و هناك الكثیر من الثغرات. و مع أن لدینا مصادر إلا أنه لا توجد لدینا منظومة فکریة. فی جلستنی هذه الیوم، أعتقد أن الدکتور السید برزگر - إن لم أکن علی خطأ - هو الأخ الوحید الذی قدّم منظومة. و قد تعتبرون تلک المنظومة ناقصة و قد تکون ناقصة، لا بأس. یجب أن نسیر صوب إطلاق منظومات، أی أن نرصف المقطع المختلفة لهذه اللعبة إلی جانب بعضها فی أماکنها المناسبة کی تکتمل الصورة. هذا ما نحتاجه. و هذه لیست عملیة تتمّ ذرة ذرة، و لا تتمّ بجلسة أو جلستین، إنما هی عملیة جماعیة تحتاج إلی تمرّس و خبرة. تمرّس فی المصادر الإسلامیة، و تمرّس فی المصادر الغربیة، و هذا ما سأشیر إلیه لاحقاً.
طیّب، أذکر نقطتین أو ثلاث نقاط منها مسألة تبیین الموضوع. لاحظوا أن الأعزاء أشاروا هنا إلی الحریة المعنویة. الحریة المعنویة بالمعنی الموجود فی بعض روایاتنا، و قد أشار لها بعض مفکرینا کالمرحوم الشهید مطهری، أرقی أنواع الفضائل الإنسانیة - هذا مما لا شک فیه - لکن هذا لیس موضوع بحثنا. لیس موضوعنا الحریة المعنویة بمعنی السلوک إلی الله، و القرب إلی الله، و التقدّم فی وادی التوحید - الذی یخرّج شخصیات مثل الملا حسین قلی الهمدانی، أو المرحوم السید القاضی، أو المرحوم السید الطباطبائی - إنما موضوعنا و نقاشنا حول الحریات الاجتماعیة و السیاسیة، و الحریات الفردیة و الاجتماعیة. هذه هی القضیة الیوم فی العالم. و قد تکون لدینا مائة قضیة أخری لا علم للغرب بها أصلاً، من قبیل هذا السلوک المعنوی، و یمکن مناقشة هذه الأمور و الموضوعات فی مواضعها. ما نقصده هو الحریة بهذا المعنی المتداول الدارج فی الأوساط الجامعیة و السیاسیة و الثقافیة فی العالم المعاصر، حیث یتناقشون و یبحثون حول الحریة. نرید أن نبحث و نتناقش حول هذا الموضوع. الحریة المعنویة بمعنی السلوک إلی الله و القرب إلی الله و النظر إلی الله و حبّ الله و ما إلی ذلک، موضوع آخر له مواضعه الخاصة.
بمعنی من المعانی توجد حریة أخری یمکن تسمیتها حریة معنویة هی الحریة من قبضة العوامل الداخلیة التی تمنع أداءنا و عملنا الحرّ فی المجتمع، أو تصدّ تفکیرنا الحرّ فی المجتمع، مثل الخوف من الموت، و الخوف من الجوع، و الخوف من الفقر. لقد أشیر فی القرآن الکریم إلی هذه الأنواع من الخوف: «فلا تخشوا الناس و اخشون» (1). «فلا تخافوهم و خافون إن کنتم مؤمنین» (2). و یخاطب الرسولَ الأکرم (ص): «و تخشی الناس و الله أحقّ أن تخشاه» (3). أو الخوف من سلب الامتیازات. افترضوا أن لدینا فی الجهاز الفلانی الامتیاز الفلانی، و إذا تکلمنا بکذا و کذا کلام و کنا أحراراً و أمرنا بالمعروف فسوف نسقط. أو الطمع الذی قد یجعلنی لا أذکر عیوبکم و لا أتعامل معکم تعاملاً حراً - أنتم أصحاب السلطة و القوة - لأنی طامع فی ما لدیکم. أو الحسد أو العصبیات غیر المبررة و الخاطئة أو التحجّر. هذه بدورها موانع داخلیة، التحرّر منها یمکن أن نسمّیه أیضاً تحرّراً معنویاً. و علیه، لدینا مصطلحان بخصوص الحریة المعنویة: المصطلح الأول بمعنی العروج إلی الله و القرب إلی الله و حبّ الله و أمثال ذلک. و هذا غیر داخل فی بحثنا و نقاشنا أصلاً، إنما هو قضیة أخری. و الثانی هو الحریة المعنویة بمعنی التحرّر من القیود الداخلیة و الأغلال الداخلیة التی لا تسمح بمسیری إلی الجهاد و الکفاح و التحدّث بلهجة صریحة، و الإعلام عن مواقفی بصراحة، و تبتلینی بالنفاق و الازدواجیة. هذا موضوع ممکن الطرح فی إطار العمل ضد موانع الحرّیّة.
النقطة الأخری هی أننا نروم تشخیص الرؤیة الإسلامیة و طرحها. لیس لدینا مجاملات مع أحد. لو أردنا طرح الآراء غیر الإسلامیة - کل ما تطبخه و تنضّجه أذهاننا - لابتلینا بنفس الاضطرابات التی ابتلی بها المفکرون الغربیون فی المجالات المختلفة. فی الفلسفة و فی الأدب و فی الفنون و فی القضایا الاجتماعیة. آراء متضاربة ضد بعضها لیس لها فی الغالب امتدادات عملیة. لا، إننا نروم و ننشد أن نری ما هو رأی الإسلام.
إذن، لاحظوا أننا فی موضوع الحریة هنا نضع لأنفسنا أول الإلزامات. فما هو هذا الإلزام الأول؟ الإلزام الأول هو أننا نصبو إلی رؤیة الإسلام و ننشدها و نقیّد أنفسنا بنظر الإسلام و بالإطار الإسلامی. هذا هو القید الأول. یجب أن لا نخاف من الإلزامات و القیود فی موضوع الحریة. لإنه حین یقال الحریة، فالحریة بالمعنی الأوّل - الذی یتشخّص بالحمل الأوّلی الذاتی - هی التحرّر. و الذی یرید النقاش حول الحریة کأنما یثقل علیه أی شیء یتعارض و لو قلیلاً مع هذا التحرّر. أی إنه یبحث عن الاستثناءات. القاعدة هی التحرّر المطلق. إنه یبحث عن «إلا ما خرج بالدلیل». فما هو الدلیل، حتی نقول إن الحریة غیر صحیحة فی هذا الموضع و ذاک الموضع، و إذا تجاوزنا هذا الموضع و ذاک الموضع فلا بدّ من الحریة. قد یقع الإنسان فی مثل هذا الخطأ عند مناقشته لموضوع الحریة. و ما أروم قوله هو أن الأمر لیس کذلک. لا توجد منذ البدایة أیة قبلیة أو فرض مسبق یمکنه أن یمنحنا الحریة المطلقة - و سوف أذکر ما هو أساساً مصدر الحریة فی الإسلام - لیس لدینا منذ البدایة مثل هذه القبلیة القائلة إن الحریة المطلقة حق من حقوق الإنسان و هی للإنسان، و قیمة للإنسان، و لنبحث الآن فنری ما هی الاستثناءات، و ما هی الأمور التی «تخرج بالدلیل». لا، لیست القضیة هکذا. إننا لا نخاف القیود و الإلزامات. و کما قلت فإن أول قیودنا حین نتحدث حول الحریة فی الإسلام، هو أن نقول «فی الإسلام» أی إننا نضع إطاراً منذ البدایة، و نضع حدوداً منذ البدایة. ما هو معنی الحریة من وجهة نظر الإسلام؟ هذا بحدّ ذاته قید. و هذا هو نقاشنا أساساً.
يقول الله تعالی فی سورة الأعراف المبارکة: «الذین یتبعون الرسول النبیّ الأمّیّ الذی یجدونه مکتوباً فی التوراة و الإنجیل یأمرهم بالمعروف و ینهاهم عن المنکر و یحلّ لهم الطیّبات و یحرّم علیهم الخبائث و یضع عنهم إصرهم و الأغلال التی کانت علیهم» (4). هذه هی أوضح آیة فی القرآن الکریم عن الحریة، حیث یرفع فیها الأصر. «الإصر» هی الحبال التی تشدّ عند منابت الخیام حتی لا تطیّرها الریاح. أی إنها تشدّ الخیام إلی الأرض. «و لکنه أخلد إلی الأرض» (5). هذا هو الإخلاد إلی الأرض. «الأواصر» هی الأشیاء التی تشدّنا إلی الأرض و تمنع من طیراننا. «الغل» هو القیود و الأغلال و الأصفاد، حیث جاء النبی لیرفع هذه الأغلال و الأصفاد. نفس هذه الآیة و قبل أن تقول: «یضع عنهم إصرهم و الأغلال التی کانت علیهم» تقول: «و یحلّ لهم الطیبات و یحرّم علیهم الخبائث». طیّب، ما هو الحلال و الحرام؟ الحلال و الحرام معناه وضع الحدود و المنع. إنه شیء فیه حدود و منع. ینبغی أن لا نهاب إطلاقاً وجود حدود و منع فی أذهاننا حین نتحدث عن الحریة.
قال بعض السادة إن ثمة اختلافات جوهریة بین نظریة الحریة فی الإسلام و نظریة الحریة فی الغرب. و قد أکدوا علی نظرة اللیبرالیة فی العالم الغربی، و ثمة مدارس غربیة أخری غیر اللیبرالیة. لکنها مشترکة کلها من هذه الناحیة. نعم، هذا صواب. توجد مثل هذه الفوارق التی أشار لها السادة. لکن الفرق الأهم هو أن مصدر الحریة کحق و کقیمة فی اللیبرالیة عبارة عن الفکر الأومانی. فمحور عالم الوجود و محور الاختیار فی هذا الکون هو الإنسان، و هذا ما لا معنی له من دون الاختیار، إذن لا بد من اختیار و حریة. و هذا الاختیار طبعاً غیر الاختیار فی مبحث الجبر و الاختیار. و قد طرح بعض السادة قضیة الجبر و الاختیار. موضوع الاختیار الذی نطرحه فی مبحث الجبر و الاختیار هو أن یکون للإنسان القدرة علی الاختیار - لدیه القدرة الذاتیة و الطبیعیة علی الاختیار - أما هنا فحین نبحث فی الاختیار نقول إن له حق الانتخاب و الاختیار. و لا توجد ملازمة حتمیة بین القدرة علی انتخاب الحق، و حق الانتخاب. و بالطبع قد یمکن افتراض تلازمات بینهما، و لکن لیس من الأکید أنها ستکون مقنعة. إذن، ما یقولونه هو إن الإنسان محور، أی إن الإنسان هو فی الواقع ربّ و إله عالم الوجود، و لا یمکنه أن یکون من دون قدرة علی الانتخاب و الإرادة. أی لا یمکن من دون إعمال الإرادة - و هو المعنی الآخر للحریة - أن نفترض أن الإنسان هو المختار فی عالم الوجود. هذا هو أساس بحث الحریة. و هذه هی قاعدة الفکر الإنسی الأومانی حول الحریة.
و القضية تختلف اختلافاً کلیاً فی الإسلام. فی الإسلام، التوحید هو الأساس الأصلی لحریة الإنسان. و قد ذکر المتحدّثون الأعزاء حالات أخری - و هی صحیحة بدورها - لکن النقطة المرکزیة هی التوحید. و لیس التوحید مجرد الاعتقاد بالله. التوحید هو الاعتقاد بالله و الکفر بالطاغوت و عبودیة الله و عدم عبودیة غیر الله «تعالوا إلی کلمة سواء بیننا و بینکم ألا نعبد إلا الله و لا نشرک به شیئاً» (6). لا یقول «لا نشرک به أحداً» - و طبعاً وردت کلمة أحداً فی بعض المواضع، لکن الحالة هنا أعمّ و أشمل - یقول: «و لا نشرک به شیئاً». لا نجعل لله أی شریک. أی إنکم إذا اتبعتم العادات غیر المبرّرة لکان ذلک خلافاً للتوحید. و إذا اتبعتم الناس کان ذلک بخلاف التوحید. و إذا اتبعتم الأنظمة الاجتماعیة کذلک - حینما لا تؤدّی إلی إرادة الله - کل هذا شرک بالله، و التوحید عبارة عن الإعراض عن هذا الشرک. «فمن یکفر بالطاغوت و یؤمن بالله فقد استمسک بالعروة الوثقی» (7). ثمة کفر بالطاغوت و هناک بعده إیمان بالله. حسناً، هذا هو معنی الحریة. أن یتحرّر الإنسان من کل القیود غیر عبودیة الله.
و قد تحدّثت قبل سنوات فی صلاة الجمعة، لعشرة أو خمس عشرة جلسة، حول الحریة. و أشرت هناک إلی فکرة معینة فقلت إننا فی الإسلام نعتبر أنفسنا عبیداً لله، و لکن فی بعض الأدیان یعتبرون الناس و أنفسهم أبناء لله. و قلت إن هذه مجرد مجاملة، فهم أبناء الله و عبید آلاف البشر و آلاف الأشیاء و الأشخاص! الإسلام لا یقول بذلک، إنما یقول کن ابن من شئت، و لا یمکن أن تکون عبداً إلا لله، فلا تکن عبد غیر الله. معظم المعارف الإسلامیة الموجودة حول الله ترکّز علی هذه النقطة.
و الحدیث المعروف المنقول عن الإمام علی بن أبی طالب (ع)، و المنقول حسب الظاهر عن الإمام السجاد (ع) أیضاً، و فی بالی إنه مرویّ عن الإمام الهادی (ع) أیضاً، یقول: «أ و لا حرّ یدع هذه اللماظة لأهلها؟» - هذه هی الحریة - بمعنی هل هناک من إنسان حرّ یترک هذا المتاع الدنئ - و اللماظة هی ماء أنف أو فم الحیوان القذر - أمام أهله؟ إلی هنا لا یُفهم شیء. و یتبیّن أن الحرّ هو الذی یترک هذا المتاع لأهله و أمام أهله و لا یطلبه و یلهث وراءه. ثم یقول: «فلیس لأنفسکم ثمن إلا الجنة فلا تبیعوها بغیرها» (8). قیمتکم و ثمنکم هو الجنة فقط. و یتجلی أنهم أرادوا دفع ثمن لهذه اللماظة. أی کان هناک من یعطی هذه اللماظة و یأخذ منهم فی مقابلها أنفسهم و وجودهم و هویاتهم و شخصیاتهم. کانت هناک صفقة و معاملة، و الإمام ینهی عن هذه الصفقة. فإذا أردتم التجارة و المعاملة فلماذا تبیعون أنفسکم مقابل هذه اللماظة؟ بیعوها فقط مقابل الجنة و عبودیة الله؟ إذن، هذه هی النقطة المرکزیة. و طبعاً توجد نقطة مرکزیة أخری هی الکرامة الإنسانیة المشار إلیها فی عبارة «فلیس لأنفسکم ثمن إلا الجنة». و لا نخوض الآن فی هذه القضیة.
نقطة أخری هی أننا فی تمسکنا و رجوعنا للمصادر الإسلامیة - و کما أشار بعض السادة هناک مصادر قرآنیة و غیر قرآنیة و حدیثیة کثیرة. و قد کان عندی مجال فی تلک الخطب یومذاک و بحثت و وجدت مقداراً منها طرحتها فی صلوات الجمعة - یجب لا نقتصر علی إثبات فکرة أن الحریة لیست هدیة منحها لنا الغرب و الأوربیون. إذ إننا فی بعض الأحیان نعود للمصادر الإسلامیة لمجرد الردّ علی التغریبیین الذین یقولون إن هذه المفاهیم علمها الغربیون لنا. لا، لقد تحدّث عظماء الإسلام عن هذه الأمور قبل الغربیین بقرون. إثبات أن الإسلام طرح هذه المفاهیم قبل الغربیین واحدة من فوائد مراجعة المصادر الإسلامیة، لکنها لیست الفائدة الوحیدة. ینبغی أن نراجع المصادر لنستطیع استخراج المنظومة الفکریة الخاصة بالحریة منها.
نقطة أخری هی أننا یمکن أن نخوض فی موضوع الحریة من أربع زوایا. أولاً زاویة الحق بالمصطلح القرآنی و لیس بمصطلح الفقه و الحقوق. و سوف أقدّم بعض الإیضاح لذلک. و الزاویة الثانیة هی الحق بمصطلح الفقه و الحقوق. أی الحق و الملک، الحق مقابل الملک. و زاویة أخری هی التکلیف و الواجب. و الزاویة الرابعة هی القیمة و النظام القیمی. و اعتقد أن أهم هذه الزوایا هی الزاویة الأولی، أی أن نعمل بالحریة من زاویة الحق بالمصطلح القرآنی. للحق فی المصطلح القرآنی معنی - و ربما وردت مفردة الحق أکثر من مائتی مرة فی القرآن الکریم، و هذا عجیب جداً - له معنی عمیق واسع. و ما یمکن ذکره باختصار شدید و ربما بمعنی سطحی هو أن معنی الحق الجهاز المنظم الهادف. یقول الله تعالی فی العدید من آیات القرآن الکریم إن العالم کله مخلوق علی أساس الحق. «ما خلقناهما إلا بالحق» (9). «خلق السماوات و الأرض بالحق» (10). أی إن جهاز عالم الوجود و جهاز الخلقة - و من ذلک الوجود الطبیعی للإنسان ما عدا قضیة اختیار الإنسان و إرادته - جهاز مخلوق و منظم و مترابط و متصل الأجزاء و له نظامه و هدفه. ثم یذکر نفس هذه القضیة للتشریع. و قد أشرت لبعض الآیات بخصوص التکوین. و حول التشریع یقول: «نزّل الکتاب بالحق» (11). «أرسلناک بالحق بشیراً و نذیراً» (12). «لقد جاءت رسل ربنا بالحق» (13). و هذا الحق هو نفس ذلک الحق. ذلک فی عالم التکوین و هذا فی عالم التشریع. و معنی ذلک أن عالم التشریع هو حسب الحکمة الإلهیة متطابق مع عالم التکوین مائة بالمائة.
و زاویة أخری هی الحق بالمصطلح الحقوقی، و قلنا إن هذه الزاویة تمنح الإنسان القدرة علی المطالبة - أی إن لها خصوصیة تجعله قادراً علی المطالبة - و هذا یختلف عن موضوع الاختیار فی قضیة الجبر و الاختیار.
و هناک قضیة التکلیف و الواجب، حیث یجب أن ننظر للحریة من زاویة التکلیف. لیست المسألة أن نقول إن الحریة شیء جید و حسن لکننی لا أرید هذا الشیء الجید. لا، لا یمکن، لا بد أن ینشد الإنسان الحریة. حریته هو، و حریة الآخرین. یجب أن لا یسمح أن یبقی أحد فی حالة استضعاف و ذلة. یقول الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام): «لا تکن عبد غیرک و قد جعلک الله حرّاً» (14). و قال القرآن الکریم: «ما لکم لا تقاتلون فی سبیل الله و المستضعفین» (15). أی إن من واجبکم تأمین حریة الآخرین، و لو بالقتال. و هنا ننفتح علی بحوث و مواضیع متنوعة.
و النقطة الرابعة هی القیمة، و هی من عناصر الدرجة الأولی فی النظام القیمی فی الإسلام. و طبعاً نقصد الحریة الموجودة.
طیّب، لأجعل آخر کلامی هو أننا حینما نروم أن نبحث فی قضیة الحریة، فکیف یجب أن تکون علاقتنا مع النظریات و الآراء الغربیة؟ هذه نقطة أساسیة. البحوث و الآراء التی طرحها السادة و السیدات، تدلّ کلها علی وجود هوّة عمیقة بین النظرة الإسلامیة و النظرة الغربیة، و هذا هو الصحیح و الواقع. و المصدر الأساس لذلک - کما أسلفنا - هو أن معیار الحریة و ملاکها هناک هو سیادة الإنسان، و المعیار هنا هو سیادة الله، و العبودیة لله، و التوحید الإلهی. هذه حقیقة محفوظة فی محلها. أحیاناً ننظر للآراء و النظریات الغربیة فنری أنها لم تفض إلی نتائج جیدة. هذا هو واقع القضیة. تحدث کل هؤلاء المفکرین الغربیین الکبار البارزین - کانط و غیر کانط و الآخرین - عن الحریة و طرحوا أفکارهم، فما کانت النتیجة؟ أی مکان من العالم الغربی تتطابق فیه الأعمال و السلوکیات مع ما قالوه و أرادوه؟ لا توجد تلک الحدود و القیود التی قرّروها. إذا افترضنا أن الشیء الموجود فی الواقع الغربی الیوم هو ترجمة عملیة دقیقة لما قالوه، إذن یتحتّم القول إن ما طرحه أولئک أیضاً کان سیئاً جداً، لأن وضع الغرب من حیث الحریة مؤسف و سیئ جداً. أی إنه مما لا یمکن الدفاع عنه و تبریره إطلاقاً.
الحرية الاقتصادیة فی الغرب الیوم هی علی النحو الذی ذکره السادة المتحدّثون الآن. احتکار المواقع و الفرص الاقتصادیة من قبل أشخاص معدودین. إذا استطاع شخص بشطارته أو بالغش أو بأی شکل آخر إیصال نفسه إلی نادی المقتدرین الاقتصادیین فإن کل شیء له. طبعاً فی أمریکا لا ینظرون للسوابق الارستقراطیة للأشخاص خلافاً لأوربا و التقالید الأوربیة حیث یهتمون هناک بهذه المسائل بمقدار معین، و کان اهتمامهم بها فی الماضی أکثر، و هو الآن أقل. لا توجد فی أمریکا مثل هذه السوابق الأشرافیة و العائلیة و الارستقراطیة. هناک، إذا استطاع أی شخص - حتی لو کان حمّالاً - أن یستفید من ظروف معینة، و یوصل نفسه إلی المواقع الرأسمالیة العلیا، کان فی عداد الرأسمالیین و سیتمتع بالامتیازات التی یتمتعون بها. فی المیثاق الذی دوّنه الأمریکان، یقول أحد کبار الشخصیات و الروّاد و المؤسسین لأمریکا المعاصرة - و هو ممن عاشوا قبل مائتی عام، و لا أتذکر الآن أیّهم هو. کان قبل فترة وجیزة من الثورة الفرنسیة الکبری، حیث وقعت تلک الأحداث فی أمریکا و تأسست الدولة الأمریکیة - یقول إن إدارة بلد أمریکا یجب أن تکون علی ید الذین یمتلکون ثروة أمریکا. هذا مبدأ عام و لا یتنکّرون له. ثروة البلاد بید هذه الجماعة و هم الذین یجب أن یدیروا البلاد. و هذا علی الضدّ تماماً من الشیء الذی یرید أخونا العزیز أن یصنعه من خلال التعاونیات، حیث یکون للجمیع حق الإدارة، حتی لو کان لهم سهم واحد. هذا عن حرّیتهم الاقتصادیة.
و فی المجال السیاسی تلاحظون لعبة التزاحمات بین الحزبین، حیث احتکروا الساحة السیاسیة لهم، و لا مراء أن التابعین لهذه الأحزاب أحجامهم و مراتبهم أصغر بکثیر کثیر من واحد بالمائة. لیس لهذه الأحزاب أساساً امتدادات حقیقیة و واقعیة فی صمیم المجتمع. و الواقع أنها نواد یتجمّع فیها عدد من الأشخاص. و الذین یأتون و یُدلون بأصواتهم، إما أنهم ینخدعون بالشعارات، أو یقعون تحت تأثیر هیمنة الإعلام المتقدّم و القویّ جداً فی العالم الغربی، و خصوصاً فی أمریکا حیث الفرق بینه و بیننا کالفرق بین السماء و الأرض. فهم من حیث القدرة الإعلامیة و إمکانیة قلب الحقائق - تصویر الأسود علی أنه أبیض و الأبیض علی أنه أسود - متطوّرون و أقویاء للغایة. و یجرّون الناس بهذه الطرق.
و علی صعید القضایا الأخلاقیة توجد الکثیر من المفاسد من قبیل المثلیة الجنسیة التی أشارت لها أختنا العزیزة. طبعاً لا تزال هناک بعض القیود. و یمکن للمرء أن یخمّن أن ترتفع هذه القیود قریباً. أی إن الزواج من المحارم و الزنا بالمحارم یفترض منطقیاً أن لا یکون هناک أی منع یحول دونه عندهم. إذا افترضنا أن معیار جواز المثلیة الجنسیة و الحیاة المشترکة من دون زواج هو میول الإنسان، فقد تکون میول الإنسان نحو أن یمارس مثل هذا الفجور مع محارمه، فلماذا تکون هناک موانع دون ذلک؟ أی إن الموانع غیر موجودة منطقیاً. و یفترض أن ترتفع هذه الموانع و لا یبقی لها أی وجود.
و علیه فواقع المجتمع الغربی واقع سیئ و مریر و قبیح جداً، و فی بعض الأحیان منفّر و کریه. لا عدالة هناک، و لا أی شیء آخر. و هناک التمییز و التعسف و تأجیج الحروب علی صعید الشؤون العالمیة. من أجل أن تحصل مصانع السلاح علی الأموال و الأرباح یشعلون حرباً بین شعبین، من أجل أن لا یُصاب ذلک المصنع بالإفلاس! یخوّفون بلدان الخلیج الفارسی من الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة من أجل أن یبیعوها طائرات الفانتوم و المیراج! هذه ممارسات تحصل و تجری باستمرار.
یتعاملون تعاملاً انتقائیاً مع أفکار شریفة مثل حقوق الإنسان و الدیمقراطیة. یتعاملون تعاملاً جد سیئ و غیر أخلاقی مع هذه الأفکار و المقولات. و بالتالی فإن الواقع الراهن للحیاة فی الغرب سیئ جداً.. الغرب الذی أکثر فلاسفتُهُ الحدیثَ و الکلامَ عن الحریة.
حين ینظر المرء لهذا الواقع سیرفض تلک النظریات. هذا أسلوب فی النظر للمسألة. لکنی أعتقد أن هذه النظرة یجب أن لا تکون مطلقة. نعم، هذا الواقع یعبّر إلی حد کبیر عن أن أولئک المفکرین الذین ابتعدوا عن الله، و اعتبروا أنفسهم مستغنین عن الهدایة الإلهیة، و اعتمدوا علی أنفسهم فقط، أصیبوا بالضلال، فأضلوا أنفسهم و أضلوا قومهم، و أخذوا قومهم إلی جهنم. هذا مما لا ریب فیه. و لکن أعتقد أن مراجعتنا لنظریات المفکرین الغربیین بما فیها من تضارب فی الآراء، و سوابقهم فی تنظیم الأفکار و صناعة المنظومات الفکریة و رصف الموضوعات إلی جانب بعضها، یمکن أن تکون مفیدة لمفکرینا، بشرط واحد و هو عدم التقلید. لأن التقلید علی الضدّ من الحریة. یجب عدم التقلید، بید أن نوع أعمالهم یمکن أن یساعدکم.
كنت قد دوّنت هنا نقاطاً أخری، لکن الوقت قد تأخّر، خصوصاً بالنسبة لی حیث تعوّدت أن لا أبقی مستیقظاً حتی هذه الساعة. حضور السادة المحترمین و الأخوات و الأصدقاء الأعزاء یمنح الإنسان من الحیویة ما یبعد عنه النوم. یقول الشاعر: «لا تصل للحبیب إلا إذا ترکت نومک و أکلک». بالنسبة للنوم فقد تأخّر هذه اللیلة، أما «الأکل» فسنکون فی خدمة السادة إن شاء الله.
و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.‌

الهوامش:
1 - سورة المائدة، الآیة 44 .
2 - سورة آل عمران، الآیة 175 .
3 - سورة الأحزاب، الآیة 37 .
4 - سورة الأعراف، الآیة 157 .
5 - سورة الأعراف، الآیة 176 .
6 - سورة آل عمران، الآیة 64 .
7 - سورة البقرة، الآیة 256 .
8 - تحف العقول، ص 390 .
9 - سورة الدخان، الآیة 39 .
10 - سورة الجاثیة، الآیة 22 .
11 - سورة البقرة، الآیة 176 .
12 - سورة البقرة، الآیة 119 .
13 - سورة الأعراف، الآیة 43 .
14 - نهج البلاغة، الکتاب رقم 31 .
15 - سورة النساء، الآیة 75 .