بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الباري تعالى على هذا التوفيق حيث تمكنت على مدى أيّام من لقاء شرائح مختلفة من أبناء هذه المحافظة الزاخرة بالخير و البركة، و كانت لقاءات يغمرها الإخلاص و مليئة باللطف و الدفء و المحبّة. يحضر في جسلة هذا اليوم مجموعة من المتفانين في خدمة الشعب في هذه المحافظة الكريمة، و كذلك ممثلون عن الشرائح المختلفة التي تمارس عملها في هذه المحافظة. و هذا يعني أنّه جمع حافل و ينبغي اغتنام فرصة وجوده.
القضايا التي طرحها الإخوان هنا، تحتوي على كل واحدة منها على جوانب مثيرة و جديرة بالاهتمام. إنّ ما اُريد قوله يتلخّص في مسألتين أو ثلاث مسائل؛ و نحن إذا التفتنا جميعاً إلى هذه المسائل، سيعمّ الخير في هذه المحافظة في المستقبل إنْ شاء الله.
المسألة الأولى هي أنّ خدمة كلّ واحد من أبناء الشعب تُعدُّ بحدّ ذاتها نعمة إلهيّة، و عطاء ربّاني؛ سواء كانت هذه الخدمة تُقدّم عن طريق هذه المؤسسات الرسمية ـ كما هو الحال في هذه المسؤوليات التي يشغلها الإخوة المدراء و المسؤولين في هذه المحافظة ـ أم بطرق و أساليب أُخرى غير رسمية؛ مثل خدمة الناس دينياً، و ثقافياً، و من حيث التطوّر العلمي، و الخدمة في مجال التوزيع الصحيح للإمكانات بين الناس، و قضاء حوائجهم على اختلاف صورها و أشكالها. و على هذا فإنَّ التوفيق لخدمة الناس بحد ذاته نعمة؛ و هذه النعمة تستوجب الشكر.
إنّني أقولها من صميم قلبي و بضرس قاطع و بكلّ جوارحي إنّ خدمة الناس مفخرة حقاً. و أنا لا أقول هذا من باب إطلاق الشعارات ـ فكبار أهل المعرفة كثيراً ما كانوا يدعون تلاميذهم و من يتربّون على أيديهم إلى أنّ عليهم إلى جانب الذكر و العبادة و الخشوع و التوسّل، أنْ يخدموا خلق الله، بل إنّهم أحياناً كانوا يرجّحون هذا على العبادات الفردية؛ على اعتبار أنّ هذا العمل مُقَرّب إلى الله. أنت إن عملتَ عملاً صالحاً لشخص واحد، ففي ذلك حسنة؛ و هذا العمل يقرّبك إلى الله؛ و لك فيه ثواب و أجر إلهي و أخروي؛ فما بالك لو كان في عملك خدمة لعدد كثير من الناس، و لجماعة من الناس، و لأهالي محافظة بأكملها، أو لأهالي مدينة، أو لأهالي ناحية من النواحي. و على هذا الأساس فإنَّ أصل القضية هو أنّنا إذا وفّقنا لخدمة الناس، فعلينا أن نشكر الباري تعالى على ذلك، و هذا بمثابة نعمة مَنَّ بها الله علينا.
نحن إذا اعتبرنا هذه الخدمة نعمة مِن الله، فنحن لا نمنّ على أحدٍ بها. هذه طبعاً الدرجة الأولى منها. إذا وفّقنا الله إلى مثل هذا العمل فهذا التوفيق، لطف إلهي، يستوجب الشكر. إذاً، نحن إن استطعنا تقديم خدمة، ينبغي أنْ تكون من غير مَنٍّ. هذا جانب من القضية.
و أمّا الجانب الآخر فهو أن هذه الخدمة يجب أن لا يكون فيها أي نوع من التمييز. إنّ التصدّي للمسؤولية في أي قطاع من القطاعات، عبارة عن تقديم خدمة لأفراد هذا الشعب. و ينبغي أن لا يكون للانتماءات و الميول أي تأثير في هذا المجال، و لا يقول أحدٌ إنَّ هذا من أنصارنا، و هذا غريب عنّا، و هذا عدوّ لنا، و هذا ينتمي إلى كذا تيار سياسي، أو أن ميوله الدينية كذا و كذا. فالخدمة يجب أنْ تكون خدمة عامّة، و للجميع؛ و عند ذاك يترك هذا تأثيره في أداء من يقدّمون خدمة في مواقع كبيرة؛ مثل المحافظات، أو المدن. الأقسام و القطاعات المختلفة للمدن تضمّ بين ثناياها أُناساً من شتّى الأنواع و الانتماءات؛ لذلك ینبغي أنْ تكون النظرة إلى الجميع بعين المساواة. فالخدمة للجميع، و لأجل الجميع، و ما علينا إلا الالتزام بمبدأ الأمانة؛ أي أن نقدّم للجميع كلّ ما في أيدينا.
هناك قضية أُخرى أيضاً، و هي قضية علوّ الهمّة في أداء الخدمة. فهذه المحافظة، كما ذكر الإخوة ـ و هو ما فهمته من خلال التقارير أيضاً ـ تقع في عداد المحافظات الأدنى من حيث التطوّر المادي. و تُعزى بعض أسباب ذلك إلى كون هذه المحافظة فتيّة حيث إنّها نشأت حديثاً؛ و ربّما توجد عوامل أُخرى أيضاً. ينبغي على مسؤولي هذه المحافظة تركيز اهتمامهم على الارتقاء بمستوى هذه المحافظة من حيث التطوّر و الوصول إلى مؤشّرات حيوية مهمّة، و ضمن سقف زمني معيّن؛ كأن يرتقوا بمستوى هذه المحافظة إلى مستوى المحافظات العشر الأولى في البلاد. و إذا كانت هذه هي همّتنا ـ و هي همّة مضاعفة ـ فمن الطبيعي أنَّ ذلك يتطلّب عملاً مضاعفاً أيضاً.
إنَّ العمل المضاعف لا يُقصد به حجم العمل فقط، و إنّما يعني كيفية العمل أيضاً، أكثر ممّا يعني كمّية العمل و حجمه؛ أي من حيث دقّة العمل، و أنْ يكون عن خبرة و معرفة، و أن لا يخلو من مشورة، و أنْ يكون عملاً دؤوباً و متواصلاً، و أنْ يكون مدروساً و مبرمجاً؛ لكي لا يتوقّف العمل حتّى و إن تبدّل المسؤولون. كان هذا خبراً ساراً حين قالوا إنّهم قد صاغوا مشروعاً لتنمية هذه المحافظة. فهذا عمل مفيد جداً. فحين تتمّ صياغة المشروع فلن يكون هناك تأثير كبير فيما لو حصلت تغييرات أو جرى تبديل المسؤولين و المدراء، و إنّما يستمر العمل و يتواصل. و المهم في هذا المجال هو أن تكون خارطة الطريق مرسومة.
حين قلنا إنَّ هذه المحافظة ينبغي الارتقاء بها إلى مستوى المحافظات العشرة الأولى في البلد، فهل هذا الهدف ممكن تطبيقه عملياً؟ عندما ينظر الإنسان إلى إمكانات هذه المحافظة، يستطيع الإجابة بنعم، إنّ هذا الهدف يمكن تطبيقه عملياً بكل تأكيد. فهذه المحافظة تتوفر فيها إمكانات هائلة؛ و من هذه الإمكانات، القوى البشرية المتوفّرة فيها؛ و هذا ما لمسته بالحسّ و العيان أثناء لقاءاتي مع الشبّان، و مع الجامعيين، و مع التلاميذ، و مع المعلمين و الأساتذة ـ و في غيرها من اللقاءات الأُخرى ـ و اطلعت عليه من خلال التقارير التي قدّمها إليَّ هؤلاء الإخوة، و كان ماثلاً في مجموع تقاريرنا أيضاً. فهذه المحافظة تتوفر فيها و الحمد لله طاقات بشرية لا يُستهان بها. هذه هي الإمكانيات الأساسية؛ هذا إضافة إلى الإمكانيات الأُخرى الطبيعية المتعلّقة بالأرض و الإقليم و الموقع الجغرافي، و غير ذلك من العناصر التي لها تأثير في تقدّم المحافظة و تطوّرها. و على هذا الأساس فإن الإمكانات متوفّرة؛ و يمكن حقّاً تطوير هذه المحافظة و الارتقاء بمستواها، و إيجاد الازدهار في حياة الناس.
إنَّ هؤلاء الناس جديرون بالخدمة حقّاً؛ بما يتّصفون به من هذا الإيمان، و هذا الإخلاص، و هذا الحضور في المجالات المختلفة، و لوجودهم في هذه المنطقة الحدودية، و في هذه المنطقة الجغرافية الحساسة. إنّه لمن الجدير حقّاً تقديم خدمات باهرة لأهالي هذه المنطقة الأعزاء، و أنْ تتطور هذه المحافظة.
الإخوان الذين تحدّثوا هنا، ركزوا على ثلاثة أمور؛ و قد دوّنتها و وضعتها نصب عيني، و أنا أؤكد عليها هنا. الشرح المستفيض الذي قدّمه السيّد المحافظ المحترم كان شرحاً وافياً، و عرض فيه مجموعة كاملة من النشاطات. و الواقع أنّه لو اُنجز هذا الكمّ الهائل من العمل خلال برهة زمانية معيّنة و محدودة، لتبدّل حقّاً وجه هذه المحافظة و عمقها ـ و هذا ممّا لا شك فيه ـ و المهم هنا هو أن تجري متابعة هذه الأمور إلى أن تتحقّق.
القضية المهمة الأُخرى هي أن تُبوّب هذه المشاريع وفقاً لأولويتها. و ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار إمكانات البلد، و الميزانية و التخصيصات، و الإمكانات التي تستطيع الحكومة تقديمها إلى القطاعات المختلفة. كما يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار أيضاً قضية سرعة مردود المشاريع المختلفة. فبعض المشاريع مفيد و ضروري، و لكنّه بعيد المنال، بينما هناك مشاريع أُخرى في متناول اليد، و قريبة. هذه الأمور كلّها هي التي تحدّد الأولوية.
ينبغي أن نُراعي الأولويات. و أنْ يسير العمل قُدُماً وفقاً للأولويات. و في رأيي أن إحدى الأولويات هي قضية الزراعة، و قد تكرّر هذا المعنى أيضاً في الكلمات التي ألقاها الإخوان. إنَّ مقوّمات الزراعة موجودة هنا، إذ تتوفّر العقول و الطاقات المناسبة لتطوير الزراعة - حيث أُشير هنا إلى البحوث الزراعية؛ و في إحدى الجلسات طُرحت بعض الأمور حول القيام بعمل جديد في مجال الري المفيد في العمل الزراعي ـ إذ تتوفّر في هذا المجال قدرات و استعدادات وفيرة؛ فالأرض موجودة، و الماء متوفر، و الطاقات البشرية موجودة أيضاً، و الجو الملائم موجود؛ و الدخل الأساسي للناس على مدى السنة يأتي من الزراعة و من تربية الحيوانات.
إنَّ سنوات الجفاف المتواصلة المتوالية و المستمرة تركت تأثيرها طبعاً؛ و هذا ممّا لاشك فيه. و كما جاء في التقارير التي رُفعت إليَّ فإنّ من العوامل التي أدّت إلى إلحاق الضرر بالزراعة و بالتقدّم الزراعي في هذه المحافظة، و أدّت إلى خلق بعض المشاكل هو تناقص مصادر عائدات الأرض؛ حيث قُسّمت الأراضي إلى حقول صغيرة ثمّ أصغر فأصغر. من المشاريع المهمّة التي كانت موضع اهتمام من قبل الوزارات السابقة، و كثيراً ما أؤكّد أنا عليها، هو أنْ يتمكّنوا من توحيد هذه المصادر الأرضية الزراعية، لكي يساعدهم ذلك على تحول الزراعة إلى عملٍ صناعي؛ أي تبديلها إلى زراعة حديثة، و زراعة بالآلات المتطوّرة. و هذا واحد من الأشياء المهمّة. هذه هي الأضرار التي لحقت بالزراعة. و كانت هناك بطبيعة الحال عوامل أُخرى أيضاً.
الزراعة يجب أن تحظى بالدرجة الأولى من الاهتمام. و هذا لا يعني تجاهل الصناعة في هذه المحافظة. فهذه المحافظة فيها صناعات أيضاً، و يمكن من خلال الاهتمام بالصناعات توفير فرص عمل و مشاغل، و يمكن أن تكون لها عائدات وفيرة لهذه المحافظة؛ و لكن الزراعة تأتي بالمرتبة الأولى؛ بحيث أنّنا إذا استطعنا إحياء الزراعة بما يكتنفها من ظروف، فإن قضية العمالة ستُحل، و كذلك تتلاشى أو تتقلّص الإفرازات الناتجة عن البطالة ـ كظاهرة الأحياء الهامشية، و الإدمان على المخدّرات و ما شابه ذلك.
بالنسبة إلى قضية الاقتصاد، توجد ثلاثة محاور أساسية: أحدها تحويل الزراعة إلى عمل صناعي؛ و هو أن نُحدّثَ الزراعة و البستنة و نجعل منهما عملاً صناعياً. و الآخر هو الصناعات التحويلية و التكميلية و مخازن التبريد و ما شابه ذلك. فالبستاني إذا كانت إلى جواره أماكن للصناعة التحويلية التي يحتاج إليها، يتبدّل وضعه كلياً. و كذلك الحال فيما لو كانت هناك مخازن للتبريد في متناول يده.
المسؤولون الحكوميون ستكون لهم جلسة معنا يوم غد إن شاء الله، و من المؤكد أنّهم على اطلاع بهذه الأمور ـ و غالباً ما تُطرح في هذه الجلسات الآراء و المقترحات مِن قِبل المسؤولين الحكوميين ـ كما أنّنا سنؤكد على هذا الموضوع أيضاً بإن الله؛ فهذه القضايا يجب أن تُطرح في هذه الجلسات. أودّ أن أقول لكي تتّضح الأمور إنَّ اُفق تقدّم هذه المحافظة اُفُق مشرق. إذاً، فالقضايا المطروحة هي قضية الصناعات التحويلية، و الأُخرى هي إيجاد آلية للتوزيع و التجارة ـ و هي ما جاءت في كلمات أحد السادة المتحدّثين ـ أي كيفية تسويق المحصولات و تبادل البضائع، و تداولها في التجارة الداخلية، ثمّ بعد ذلك تصديرها و تسويقها إلى الخارج. هذه الأمور تحتاج إلى نظم عقلاني و تدبير. و هذا يساعد على تقدّم محافظتكم هذه. و على هذا فإنَّ إحدى الأولويات في هذه المحافظة هي قضية الزراعة و ما يرتبط بها من هذه الأمور و الجوانب.
هناك قضية أُخرى جاءت في التقارير التي وصلتني قبل سفري هذا، و قد بحثتها بدقّة و لفتت نظري، ثمّ لاحظت أن هذه القضية تكرّرت أيضاً في كلمات الإخوة و المسؤولين و الكوادر، و هذه القضية هي قضية السياحة في هذه المحافظة. فهناك مناطق جذب سياحي كثيرة في هذه المحافظة؛ منها ما هي طبيعية، و منها ما هي تاريخية؛ فهذه المنطقة جميلة و ذات طبيعة خلاّبة من جهة، و من جهة أُخرى توجد فيها مظاهر تاريخية. و كما جاء في التقارير التي وصلتني ـ و أنا عادة لا يحالفني الحظّ لرؤية هذه الأشياء ـ إنّه توجد قلعة على مقربة من اسفرايين، شبيهة بالبناء المعروف باسم قلعة بم، و قد كانوا يفدون من بلدان أجنبية لرؤيتها. و لكن لماذا لا يأتي أحدٌ إلى هنا حالياً؟ و لماذا لم يتمّ التعريف بهذا المكان؟ و لماذا لا يعرفونه؟ في حين أنّ هذا المكان قريب، و يمرّ به ملايين الناس سنوياً ـ و الاحصائيات مختلفة في ذلك؛ إذ يقول البعض إنّ عشرين مليون شخص يمرّون من هنا سنوياً؛ و البعض يقول خمسة عشر مليوناً ـ و هم زائرو المشهد المقدّس الذين يمرّون من هذا المكان. و لو توفّرت المستلزمات لكي يأتي قسم من هؤلاء الناس، و ليس كلّهم، إلى هذه المدينة، ستلاحظون عند ذاك مدى تأثير ذلك على وضع هذه المحافظة. فأنتم في هذا الوضع لستم بصدد اجتذاب مسافرين أو سيّاح من مركز المدينة أو من مناطق مختلفة من البلد إلى نقطة نائية. فهذا المكان ليس بعيداً و إنّما هو موضع تردّد قوافل الزائرين، و الناس يغدون و يروحون من هنا. فياحبّذا لو يأتي في اليوم و الليلة قسم من المسافرين الذين يمرّون من هنا، و ليس كلّهم، و يبقون في هذه المدينة ليروا ما فيها من مناطق طبيعية و من مراكز تاريخية، فستجدون أنّ تحوّلاً مشهوداً سيطرأ على العمل و الحياة هنا. و على هذا الأساس فهذه أيضاً أولوية أُخرى.
مجال البحوث الذي أشاروا إليه صحيح أيضاً. و هو يمثّل أولوية حقّاً. إنَّ مردود العمل البحثي و التحقيق لا يترآی للعيان، غير أن مردوده حقيقة هو من قبيل ما اُشير إليه في القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} (1). فأنت حين تزرع حبّة، تعود عليك في المقابل بسبعمائة حبّة. و هكذا الحال بالنسبة إلى عمل البحوث. فعندما يجري التحقيق على البذور السليمة أو الأساليب الأصلح في الزراعة، أو عندما تُجرى بحوث حول عنصر مؤثر في مجال الصناعة أو الزراعة أو الخدمات و ما شابه ذلك، فهو سيؤدّي فجأة إلى إيجاد مردود هائل و عام لكلّ البلد مِن بعد مدة من الصبر و التحمّل. و من المؤكد أن هذا أيضاً من الأولويات. و يتّضح لنا في ضوء ما ذُكر أنّ مجالات العمل كثيرة، هذا فضلاً عن أن هؤلاء الناس صالحون.
البلد اليوم يحتاج إلى جهد و عمل؛ يا أعزائي! يا مسؤولي القطاعات المختلفة! يا خيرة الطبقات الاجتماعية! هذا ما ينبغي أن تنقلوه إلى الجهات التي تسمع منكم، أو تعمل تحت إدارتكم، انقلوه إليهم بالقول و بالفعل. فالبلد بحاجة إلى العمل. و ينبغي أن نعمل و أن نعمل بجدٍّ و مثابرة، و أنْ يكون العمل مدروساً، و منظماً و مرتّباً، و جيّداً.
إنّنا متى ما شعرنا بالضعف فإن عدوّنا اللدود ينتشي و يستقوي. كما أنّنا متى ما شاهدنا عملاً مؤثراً على صعيد البلد على طريق استنهاض أبناء الشعب و حثهم و من أجل زيادة وعيهم، نلاحظ فوراً أنّ العدو يسارع إلى عمل يرمي إلى إفشاله. و الذين يتابعون القضايا الدولية، و القضايا السياسية، و الشؤون الخبرية، و العلاقات الدولية المختلفة، يفهمون هذه الأمور بشكل جيّد. متى ما يحصل في البلد شيء مهم ـ كأن تخرج مسيرات كبرى، أو تجري انتخابات باهرة، أو يتحقّق إنجاز علمي و صناعي، أو تقوم الحكومة بخطوة مهمّة و مؤثّرة ـ يسارعون من ساعتهم إلى التعتيم على هذا العمل من خلال إثارة قضايا أُخرى. و كذلك فيما لو بدا منا ضعف، أو ظهر منّا مَلَل، نلاحظ فوراً أن ردود الفعل في العالم تظهر تحت عناوين بارزة من قبيل: معارضو النظام الإسلامي و معارضوا الإسلام يستعيدون قواهم، و يشعرون بالحماس، كأنّهم يريدون الشروع بهجوم بقوىً و طاقة جديدة. هذه الأمور ينبغي أن تُجعل نصب العين. فهذا يعطينا درساً مفاده إنّنا ينبغي أن لا نترك العمل و السعي أبداً، هذا أوّلاً؛ ثانياً إن الواجب يملي علينا أن نسعى لبث روح العمل، و غرس روح الكدّ، و روح الأمل و نقوّيها في نفوس كلّ مَن يسمع منا في مجالات العمل. و كل كلام ينمّ عن اليأس و التعب و الإحباط و الملل و الاختلاف، يضرّ بمصالح البلد قطعاً، و يعيق تقدّم البلد، و يسيء إلى الكرامة الوطنية.
في مجال مواجهة الأعداء لدينا الكثير، و قدراتنا عالية، و هذا ليس مجرّد ادّعاء ـ فنحن لا نريد التبجّح ـ و إنّما هذا هو الواقع. و أدلّ دليل على هذا الواقع هو أنّهم دأبوا منذ ثلاث و ثلاثين سنة على ضرب شجرة الثورة بالفؤوس، و رميها بالحجارة، و توجيه الضربات لها، و لو أنّنا كنا ضعفاء فلا بدّ أنْ تكون هذه الشجرة قد يبست حتّى الآن، و لكانت قد سقطت؛ فلماذا نمت عشرة أضعاف؟ و لماذا أصبحت {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (2)؟
إنَّ البلد اليوم بالمقارنة مع ما كان عليه قبل عشر سنوات، أو قبل عشرين سنة، غدا أكثر تقدّماً من حيث المكانة العلمية، و المكانة الصناعية، و الموقع الاجتماعي، و من حيث الروح المعنوية، و أصبحت قواعد النظام أكثر رسوخاً. حسناً! إن كان الوضع كذلك، فهذا إلى مَ يشير؟ إنَّ هذا كلّه يشير إلى وجود قوّة ذاتية بنّاءة حقيقية في هذا البلد، و قادرة على التفوّق على جميع الأساليب و المؤامرات و العراقيل التي يصنعها العدو؛ و هذا الأمر واضح. إذاً أيدينا مليئة، إذاً لدينا القدرة. و نحن طبعاً نستطيع تفتيت هذه القوّة بأيدينا. فنحن إذا ثبّطنا العزائم، و إذا ضيّقنا اُفق الآمال، و إذا ضيّعنا الفُرص، و إذا جعلنا الآفاق مظلمة و قاتمة في أعين شبابنا ـ الذين هم أملنا ـ نكون قد فتّتنا قوانا بأيدينا. و علينا أن لا نفعل ذلك. إنّ ذلك كلّه بأيدينا. الكلّ مسؤولون؛ إلا أن المدراء و مسؤولي القطاعات الحكومية المختلفة، أكثر مسؤولية.
ممّا يدعو إلى الارتياح، أن البلد قد قطع أيضاً أشواطاً جيّدة من التقدّم في أدبيات مواجهة العالم المتغطرس المستكبر و الغربي. اليوم، عندما يتحدّث مسؤولو بلدنا عند طاولة المفاوضات التي تجري في شتّى القضايا، و في المنابر المختلفة، يطرحون كلاماً ناضجاً، و جامعاً، و صائباً و يلفت النظر. فأحد مجالات الصراع، و ميادين التناحر هو مجال الخطابات و الكلمات في المنابر الدولية. إنَّ معظم وسائل الإعلام الأوربية هي وسائل إعلام صهيونية. و لعلكم تعرفون هذا، و ينبغي أنْ تعرفوه. معظم وسائل الإعلام التي نسمع أسماءها في العالم، كان أصحاب رؤوس الأموال الصهاينة قد تأهّبوا لها منذ سنوات، و قد استحوذوا على وسائل الإعلام هذه؛ و هم الذين يصوغون الأخبار، و يوجّهونها. وسائل الإعلام هذه، هي التي تلقّن الساسة ما الذي ينبغي أنْ يقولوه. هذه هي المسألة المهمّة، إنّ الساسة الغربيين فيهم خبث و مكر؛ و لكن فضلاً عن ذلك، فإنّ وسائل الإعلام هذه هي التي تلقّنهم ما تشاء. و من الكلمات الشائعة في هذا المجال هي أنّنا سنواصل ممارسة الضغوط على إيران حتّى تعود إلى طاولة المفاوضات. و لكن أيّة طاولة مفاوضات هذه؟ و متى انسحبت إيران من طاولة المفاوضات حول الملفات الدولية المختلفة، و منها الملفّ النووي، حتّى تعود إليها الآن؟! فهذه مغالطة إعلامية و خداع إعلامي. يقولون إنّنا نعمل من أجل أنْ تعود إيران إلى طاولة المفاوضات، و ما برحوا يكرّرون هذا الكلام و يكرّرونه في العالم كلّه، و ما انفكّت هذه العبارات تتكرّر و تتكرّر، حتّى يبدو لي أنَّ الساسة الغربيين أنفسهم باتوا يصدّقون أنّ هذا هو الواقع. في حين أن مَن يصوغ هذه الصياغات، و يُطلق مثل هذه التعبيرات، و يخترع هذه المعادلة، يرمي من ورائها إلى شيء آخر. فهو لا يريد من إيران أنْ تعود إلى طاولة المفاوضات، و إنّما يريد من إيران أنْ تستسلم أثناء المفاوضات أمام الإملاءات الغربية. و جواب إيران في مقابل ذلك هو: كلا؛ فأنتم أصغر من أنْ تستطيعوا إخضاع شعب ثوري و مناضل و واعٍ، لإرادتكم و مطامعكم. إنَّ مشكلة التجبّر السياسي للغرب ليس أنّ إيران لا تفاوض حول الملف النووي أو حول القضايا و الملفّات الأُخرى، و إنّما مشكلتهم هي أنّ إيران لا تنصاع إلى كلامهم. و من الواضح طبعاً أن هذه المشكلة ستبقى قائمة.
من المثير أن الأوربيين يتحدّثون اليوم بأاسلوب القرن التاسع عشر! يوم كانت السفن البريطانية تأتي إلى الخليج الفارسي، و يخرج القائد البريطاني من السفينة و يوجّه رسالة إلى شيوخ الخليج الفارسي أن افعلوا هذا و لا تفعلوا ذاك، و كانوا هم ينحنون أمامه كالعبيد و يقولون: سمعاً و طاعة! الأوربيون يتصوّرون أنّنا نعيش اليوم في القرن التاسع عشر أيضاً. إنّ الحكومات التي كانت على رأس السلطة في بلدنا، لم تكن ذات شجاعة و كرامة بحيث تعكس في علاقاتها و في تعاملها هوية الشعب الإيراني و أصالته؛ و إنّما كانت تخضع للمؤثرات، و كانت حكومات متميّعة. لقد كان بإمكانهم التأثير في سياستهم و في ثقافتهم، و إشعارهم بالغلبة عليهم في قرارة أنفسهم. إنَّ الشخصية، سواء كان فرداً واحداً أو شعباً ـ لا فرق في ذلك ـ يُهزم في الظاهر متى ما كان يشعر بالهزيمة في قرارة نفسه. و بما أن أولئك كانوا غزاة، و كان هؤلاء الذين وقع الغزو عليهم طُلاّب دنيا، و عبيد مادّة، و حريصین على المُلك و الرئاسة، و يحبّون المال و التجارة ـ و لم تكن لديهم تطلّعات سامية و إنّما كانت مُناهم هذه الرغائب البشرية القميئة ـ و لذلك كانت الغلبة لأولئك القوم عليهم. و اليوم يتوهّمون أن الوضع لا زال على ذلك الحال.
إنّ القضية اليوم، هي قضية الخطاب الجديد الذي طرحته الجمهورية الإسلامية على صعيد العالم، و أوقع المستكبرين في حالة من الإرباك. إنَّ مستكبري العالم ليسوا في وضع يؤهلهم للتحدّث مع الثورة الإسلامية من موقع القوّة. لقد استطاعت الثورة الإسلامية اليوم نشر فكرها في العالم. و على الرغم من كلّ أساليب التعتيم التي اتّبعوها، و على الرغم من الضغوط التي مارسوها، فقد أصبح هذا الفكر، هو الفكر الرائج في عالم اليوم. و هو فكر سيادة الشعب [= الديمقراطية] الدينية، فكر سيادة الروح المعنوية و حكم الدين، فكر الحضور الجماهيري في ميادين الحياة، فكر الوقوف بوجه تجبّر القوى العالمية و الكتل القوية في العالم. لقد أضحت هذه الأفكار رائجة اليوم. و أنتم تلاحظون أنّ هذه الأفكار غدت رائجة في العالم. و حتّى إنْ لم يكن رواجها باسم إيران، فلا ضير في ذلك؛ و نحن لا نصرّ على أنْ يكون ذلك باسم إيران؛ و لكن ما مِن أحد في العالم كلّه ينكر تأثير الثورة الإسلامية و صمود الشعب الإيراني في هذه الحوادث. هذه هي القضية اليوم.
و على هذا فانَّ الأمور تسير في مسارها الصحيح. نحن بحاجة إلى أن نكدّ و نسعى، و نعمل، و نفكّر بشكل صحيح، و نعمل بشكل صحيح، و أن نتكاتف مع بعضنا، و أن نجعل الأجواء أجواء كدح و عمل و إخلاص و معنوية و بعيداً عن التظاهر و ما شابه ذلك؛ و هذا هو المجال الموجود اليوم. أنتم أيّها الأعزاء الذين لديكم مسؤوليات في القطاعات المختلفة ـ ابتداءً من المستويات العليا في المحافظة إلى المستويات المتوسطة و مختلف المستويات الأُخرى ـ يستطيع كلّ منكم أنْ ينهض بدورٍ. و قد ذكرت أنّ تلك المسؤوليات، سواءً كانت مسؤوليات رسمية و مقرّرة في القانون، أم كانت مسؤوليات اجتماعية؛ مثلما هو الحال بالنسبة إلى علماء الدين، و المثقّفين، و الأساتذة، و العلماء، و غيرهم من الناشطين في مختلف القطاعات و الميادين الاجتماعية؛ فهؤلاء مؤثّرون، و تقع عليهم مسؤولية، حتّى و إنْ لم تكن مسؤولياتهم ذات طابع اجتماعي. نحن كلّنا مسؤولون. نسأل الله أنْ يعيننا بإذنه تعالى، على النهوض بما علينا من واجبات.
إخوتي و أخواتي الأعزاء استودعكم الله جميعاً. و أساله تعالى أنْ يوفّقكم جميعاً.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - سورة البقرة، الآیة 261 .
2 - سورة إبراهیم، الآیة 25 .