بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين، و صحبه المنتجبين، سيما بقية الله في الأرضين. قال الله الحكيم في كتابه: «بسم الله الرحمن الرحيم.. يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً و سبّحوه بكرة و أصيلاً هو الذي يصلّي عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان بالمؤمنين رحيماً. تحيتهم يوم يلقونه سلام و أعدّ لهم أجراً كريماً».
إنها لفرصة مغتنمة، و جميع الذين يتحمّلون على عواتقهم أعباء ثقيلة في إدارة البلاد على المستويات العليا و الأساسية حاضرون في هذه الجلسة الكبيرة المهمة. الكلام السياسي و تقرير الشؤون المختلفة في البلاد طرحه رئيس الجمهورية المحترم، و ثمة دوماً كلام كثير في هذه الشؤون، و هو كلام ضروري و لازم، لكنني ظننت أن ننتفع من هذه الفرصة قليلاً لشيء متقدم على استنتاجاتنا و شروحنا و قراراتنا السياسية، ألا و هو حديث القلوب و حديث الإيمان الخالص الذي بوسعه أن يمارس دوره في كل مراحل هذه المسيرة و أطوارها، كالروح في البدن و كالنور وسط الظلام، و كالأنفاس التي تنبعث في الأجسام الميتة. لذلك اخترت هذه الآيات الكريمة لنراجعها بعض الشيء. كلما نظرتُ وجدتُ أنني بحاجة لتكرار هذه الآية الشريفة «اذكروا الله ذكراً كثيراً و سبّحوه بكرة و أصيلاً» و التدبّر فيها و العمل بها. و قد قست الأمر على نفسي، و أخال أنكم أيضاً و كلنا بحاجة لهذا. يقول عزّ و جلّ: «يا أيها الذين آمنوا». هذا الشيء يتعلق بما بعد تشكيل المجتمع الإيماني الذي مرّ بكثير من الاختبارات و الامتحانات الكبيرة. هذه آياتٌ من سورة الأحزاب، و قد نزلت بعد السنة السادسة للهجرة، أي بعد معارك بدر و أحد و غيرهما من المعارك بما في ذلك معركة الأحزاب. في مثل هذه الظروف يخاطب القرآن الكريم المسلمين قائلاً: «اذكروا الله ذكراً كثيراً».. و الذكر و التذكر على الضدّ من الغفلة و النسيان. على الضدّ من الغرق في الأعراض و الأحداث و الوقائع و الظروف المختلفة و الغفلة عن القضية الأصلية. هذه الغفلة هي مشكلاتنا الكبرى نحن بني آدم. و الله تعالى لا يريد لنا ذلك. ثمّ إن هذا الذكر ليس مجرد ذكر و تذكر، إنما يطالبنا سبحانه بالذكر الكثير.
أشير هنا إلى رواية: «عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من شيء إلّا و له حدّ ينتهي إليه». كل هذه الفرائض و الأحكام الإلهية لها حدود و مقادير تنتهي عندها إذا وصلت إليها، و ينتهي بذلك التكليف، «إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه». لا حدود لذكر الله و لا مقدار، حتى نقول إننا إذا ذكرنا الله سبحانه بهذا المقدار كفانا و يجب أن نترك الذكر و لم تعد بنا حاجة للذكر. ثمّ يوضح الإمام نفسه قائلاً: «فرض الله عزّ و جلّ الفرائض فمن أداهنّ فهو حدّهنّ». كل من أدّى الفرائض و قام بهنّ يكون قد وصل بهنّ إلى حدودهن. «و شهر رمضان فمن صامه فهو حدّه».. مثلاً إذا انتهى شهر رمضان يكون الإنسان قد وصل بهذه الفريضة إلى حدّها الذي تنتهي عنده و لا يعود هنالك من واجب عليه. «و الحجّ فمن حجّ فهو حدّه».. كل من يؤدّي الحجّ - حين يصل إلى أعمال نهاية الحجّ - يكون قد وصل به إلى حدّه النهائي. هذا في حال نقرأ العبارة في الموضعين «فهو حدَّه». و يمكن طبعاً قراءة العبارة «فهو حدُّه». «إلّا الذكر».. الذكر وحده ليس كباقي الفرائض. و لم يذكر باقي الفرائض. حين تؤدّون الزكاة لا يعود عليكم من واجب تجاهها، فمقدارها معلوم و مقرّر. و كذلك الخمس، و كذلك صلة الرحم. و سائر الفرائض و الواجبات كلها من هذا القبيل، إلّا الذكر «إلّا الذكر فإن الله عزّ و جلّ لن يرض منه بالقليل و لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه». الله سبحانه و تعالى لا يرضى بالذكر القليل، و لم يجعل لذكره من حدود ينتهي عندها. «ثمّ تلا».. بعد ذلك تلا الإمام (عليه السلام) الآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً». هكذا تتجلى أهمية الذكر.
و يقول عزّ من قائل بعد ذلك: «هو الذي يصلّي عليكم و ملائكته». يذكر المرحوم العلامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في «الميزان» إن هذه الآية الشريفة «هو الذي يصلّي» في مقام تعليل الأمر «اذكروا الله ذكراً كثيراً». بمعنى أن هذا الذكر الكثير الذي أمركم الله به و طلبه منكم سببه و مدعاه هو أن تذكروا الله الذي «يصلّي عليكم». الله يصلي عليكم. «هو الذي يصلي عليكم و ملائكته». ليس الله تعالى وحده يصلي عليكم بل ملائكة الله أيضاً يصلون عليكم أيها المؤمنون. و الصلوات من جانب الله هي رحمته، و الصلوات من ملائكته هي الاستغفار للمؤمنين.. «و يستغفرون للذين آمنوا».. الواردة في الآيات القرآنية.
لماذا تبعث الذات الإلهية المقدسة و ملائكة الله هذه الرحمات و الصلوات عليكم من عالم الغيب و من الملأ الأعلى؟ «ليخرجكم من الظلمات إلى النور».. من أجل أن ينتشلكم من الظلمات و يأخذكم إلى النور، و حكاية هذه الظلمات و هذا النور حكاية طويلة مفصلة.. ظلمات أنفسنا و ظلمات قلوبنا و ظلمات أخلاقنا، و النور في مقابل هذه الظلمات و على الضدّ منها.
العمل أيضاً يمكن أن يكون مظلماً حالكاً أسود، و يمكن أن يكون نيّراً مشرقاً. ذهن الإنسان و فكره و عقائده أيضاً يمكن أن تكون منوّرة و قد تكون مظلمة. و أخلاق الإنسان و صفاته قد تكون حالكة سوداء مظلمة و قد تكون مشرقة نورانية. و المسيرة الاجتماعية لشعب من الشعوب يمكن أن تكون نحو الظلام و العتمة و قد تكون نحو النور.
إذا استولت الشهوات و العنف الناجم عن الحيوانية و الحرص و حبّ الدنيا و اللهاث وراءها على شعب من الشعوب أو على بلد أو على هيئة حاكمة، لكانت هذه ظلمات و لكانت المسيرة مظلمة و الاتجاه مظلم و الهدف ديجوراً. و إذا كان العكس، أي إذا غلبت المعنويات و الدين و الإنسانية و الفضائل الأخلاقية و حب الخير و طلبه و الصدق و الأمانة لكان هذا هو النور. و الإسلام و القرآن يدعوانا إلى هذا. الله تعالى و ملائكته يعدّونا و يجهّزونا لإنقاذنا من تلك الظلمات و إدخالنا في هذا الوادي من النور. اذكروا الله.. و هذا هو السبب.
و لهذا الذكر الإلهي مراحله. لسنا نحن البشر جميعنا في حدود و مرحلة واحدة، فمراتبنا مختلفة. البعض في درجات عليا من الناحية الروحية، نظير الأولياء و الأنبياء و الصالحين و أهل المعنى. و البعض من أمثالي و أمثالنا لا سبيل لهم إلى تلك المستويات. و بعضنا لا اطلاع له بما في تلك المستويات. هناك أذكار لنا جميعاً - هناك أذكار لهم و أذكار لنا - و أذكارهم و ذكرهم هو ما قال عنه الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة و السلام): «الذكر مجالسة المحبوب».. هذا هو ذكر الأولياء. لذة الذكر بالنسبة لهم هي لذة مجالسة المحبوب. و قال الإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) في رواية أخرى: «الذكر لذة المحبين».. هذا هو ذكر الله بالنسبة للأولياء.
طوبى لكم إذا كنتم تعيشون في بعض لحظات أيامكم - خصوصاً في هذه الأيام و الليالي - إشراقات و إضاءات من هذه الأحوال، فهي إشراقات قد تحصل أحياناً، و هي طبعاً دائمية بالنسبة للأولياء. حين يقول الشاعر «طوبى لمن هم في الصلاة دوماً» فهذا من شؤون الأولياء و أحوالهم. و لكن حتى الذين هم في مراتب أدنى و أقلّ قد تعنّ لهم بعض هذه الإشراقات و الأحوال أحياناً. و يجب معرفة قدرها. هذه مرحلة من الذكر خاصة بالمحبّين و أهل العشق الإلهي، بيد أن ذكر الله له فوائده العجيبة حتى بالنسبة لنا نحن الذين لسنا في تلك المرحلة، و سوف أذكر في هذا الصدد ما سجّلته هنا: «دفع المحفزات المادية و الأهواء المضلِّة».
ذكرُ الله كالجندي المحامي الذي يدافع عنا و عن قلوبنا حيال هجمات الأهواء المضلّة. القلب حساس و معرّض للآفات بشدة. قلوبنا و أرواحنا معرضة للآفات و الأضرار بشدة. نتأثّر ببعض الأشياء، و تنجذب قلوبنا إلى أمور كثيرة. لو أردنا أن تبقى قلوبنا - و هي بيوت الله و مساكنه، و هي إلى ذلك أرفع مراتب وجود الإنسان، و تمثل باطن الإنسان و حقيقة وجوده - سليمة طاهرة، فلا بدّ لها من مدافع عنها. و هذا المدافع هو ذكر الله. الذكر لا يسمح بتعرّض القلب لهجمات الأهواء المتنوّعة و انسحاقه تحت وطأة هذه الهجمات. ذكر الله يصون القلب من أن يغرق في المفاسد و الانجذابات المضلّة. و قد لاحظت في هذا الصدد رواية ذات معنى عميق. يقول في الحديث: «الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارّين». تجدون في ساحة الحرب مقاتلاً يدافع و يصبر و يقاوم و يستخدم كل إمكانياته لتوجيه الضربات للعدو و صدّ هجماته، و لكن قد يكون هناك جندي آخر يفرّ من ساحة الحرب، و يفقد الطاقة على الثبات فيهرب أمام الأعداء. يقول في الحديث إن الذاكر بين الغافلين كالمقاتل بين الفارّين. لاحظوا أن هذا التشبيه جاء لهذا الغرض و الغاية، فالمقاتل يصدّ هجمات الأعداء بصبره و مقاومته، و ذكر الله بدوره يقوم بمثل هذا الواجب فيقاوم و يدافع عن الحدود.. عن حدود قلوبكم. من هنا تلاحظون في الآية القرآنية الكريمة و هي من آيات الجهاد: «إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيراً». ذكر الله ينفع في تلك المواطن أيضاً. «لعلكم تفلحون».. فهذه وسيلة من أجل أن تفلحوا و تنتصروا. لماذا ذكر الله؟ لأن هذا الذكر يربط على القلب و يقوّيه. و إذا كان القلب قويّاً ثابتاً ثبتت الأقدام أيضاً. هكذا هو الحال في ساحة الحرب. في ساحة الحرب قبل أن تهرب أقدام الضعفاء رديئي المعدن تهرب قلوبهم. إنه قلبنا الذي يفرض على جسمنا الفرار. و إلّا، إذا ثبت القلب ثبت الجسم.
اذكروا الله في كل ميادين الحرب - الحرب العسكرية و الحرب السياسية و الحرب الاقتصادية و الحرب الإعلامية - فذكر الله يستجلب الفلاح و النجاح. ذكر الله دعامة لثبات الأقدام.
و إذن، فذكر الله يساعدنا على السير في ذلك الصراط المستقيم، و التقدم إلى الإمام. نحن بحاجة لذكر الله للسير في الطريق نحو الهدف الذي رسمناه لأنفسنا كمؤمنين و كمسلمين و كأتباع مدرسة تقدمية راقية و كأشخاص لدينا الحوافز و الدوافع لإقامة هذا الصرح الشامخ المبشّر بازدهار الحضارة الإسلامية في المستقبل و القرون المقبلة.
أنا و أنتم نحتاج لذكر الله أكثر من الآخرين. و السبب في قولي إنني اغتنمت هذه الجلسة هو أنكم تختلفون عن الأشخاص العاديين بفارق كبير هو أنكم تتولون في موضع من المواضع زمام الأمور، و أعمالكم مؤثرة طبعاً في صيانة الوضع و الأمور. إذا أمسكتم بزمام الأمور بقوة أو تراخيتم في ذلك أو تركتم الزمام أساساً فإن الوضع سيختلف عن ما لو فعل ذلك أشخاص ليس في أيديهم شيء. إذن، أنتم بحاجة لذكر الله أكثر من الآخرين. و إذا ساد ذكر الله هذا على قلوبنا فسيترك دون ريب آثاره على سلوكنا. إنه يؤثر علينا في أدائنا لواجباتنا و تكاليفنا، و في اجتنابنا و ورعنا عن الحرام و الذنوب و ما يستجلب الوزر و الوبال و الغضب الإلهي. و يساعدنا على الابتعاد عن هذه الأحوال.
طيّب، ما هو الذكر؟ ثمة رواية عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، و هناك رواية أخرى هي التي أقصدها أكثر، لكنني أقرأ الروايتين كلاهما. في الرواية الأولى يقول الإمام أبو جعفر الباقر (سلام الله عليه): «ثلاث من أشدّ ما عمل العباد».. ثلاثة أشياء هن من أعظم التكاليف و الواجبات و أصعبها على المؤمنين.
الشيء الأول هو «إنصاف المؤمن من نفسه».. أن يكون الإنسان منصفاً مع الآخرين. بمعنى حين يدور الأمر بين أن يسحق الإنسان الحق من أجل نفسه، أو يسحق نفسه من أجل الحق، يختار هذه الثانية. حين يكون الحق مع الطرف الآخر و ليس معكم تنصفونه و تعطونه الحق. و تسحقون أنفسكم باعترافكم بالحق مع ما في ذلك من تصغير و سحق لأنفسكم. هذا عمل صعب لكنه مهم. يقول الإمام الباقر (ع) إن هذا من أهم الأعمال، و هو طبعاً عمل صعب. و ما من عمل حسن و كبير من دون صعوبة.
و الشيء الثاني هو «و مواساة المرء أخاه». المواساة تختلف عن المساواة. المواساة ليست التساوي أو المساواة. المواساة تعني المواكبة و المساعدة في كل الأمور. المواساة أن يرى المرء من واجبه مساعدة أخيه فكرياً و مالياً و جسمياً و من حيث صيانة ماء وجهه.
و الشيء الثالث: «و ذكر الله على كل حال».. الذكر هو أن يتذكر المرء الله تعالى في كل الأحوال.
ثمّ إن الإمام الباقر (ع) يشرح في نفس هذه الرواية معنى «ذكر الله على كل حال» فيقول: «و هو أن يذكر الله عزّ و جلّ عند المعصية يهمّ بها». حين يتجّه الإنسان نحو المعصية يذكر الله فيحول ذكر الله دون ارتكابه المعصية. يذكر الله فلا يرتكب المعصية. و المعصية هنا على اختلاف صنوفها: التكلم بخلاف الواقع، و الكذب، و الغيبة، و كتمان الحق، و عدم الإنصاف، و إهانة الآخرين، و الاستيلاء على أموال الناس، و على بيت المال، و على أموال الضعفاء، أو عدم الاهتمام بها. المعاصي و الذنوب متنوعة. يجب أن يتذكر الإنسان الله تعالى في كل هذه الأحوال، فذكر الله يحول دون أن يقترف المرء هذه المعاصي.
«فيحول ذكر الله بينه و بين تلك المعصية و هو قول الله عزّ و جلّ إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا». يقول الإمام بعد ذلك إن هذا هو تفسير قول الله عزّ و جلّ: «إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان».. حين يتحرّش بهم الشيطان و يمسّهم بوساوسه، أي إنه لم يستول عليهم بعدُ.. «تذكروا».. يتذكرون فوراً.. «فإذا هم مبصرون».. هذا الذكر من شأنه أن تتفتّح أعينهم و بصائرهم. هذا هو معنى «ذكر الله على كل حال».
صدر الرواية الثانية التي أروم التركيز عليها يشبه إلى حدّ كبير الرواية الأولى التي قرأتها، فهي تذكر نفس هذه الأشياء الثلاثة. في الرواية الأولى قال: «و ذكر الله على كل حال»، و في هذه الرواية الثانية يقول الإمام أبو عبد الله: «و ذكر الله في كل المواطن».. أن يذكر الإنسان ربّه في كل المواطن. لكن النقطة التي أقصدها هي قوله: «أما إني لا أقول سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر». يقول الإمام إنني حين أقول ذكر الله لا أقصد التفوّه بألفاظ سبحان و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر، فهذا هو الذكر اللفظي.. «و إن كان هذا من ذاك».. مع أن هذا أيضاً من الذكر و هو أمر محبّذ و جيد و شريف و قيم جداً، لكن قصدي ليس هذا فقط، بل «و لكن ذكره في كلّ موطن إذا هجمت على طاعته أو معصيته» - هجمت أو هممت، و في النسخة التي رأيتها هجمت، و أحتمل أنها هممت - حين تقصد طاعة الله أو معصيته تذكر الله. هذا هو المقصود من ذكر الله.. هذا هو ذكر الله. هذه الأذكار الواردة في رواياتنا و أدعيتنا و تسبيحات السيدة الزهراء (ع) و باقي الأذكار هي كلها وسائل الذكر و ألفاظها، و يجب على الإنسان التفوّه بها بتوجّه و التفات لمعانيها و حقائقها. و هي طبعاً ذات قيمة كبيرة جداً.
طبعاً لا يمكن الانتهاء من هذه المواضيع. و الحق أنه لو قضينا ساعات طوالاً في الحديث عن هذه القضايا المعنوية و ما ينفع قلوبنا لما كان ذلك بكثير. هذه هي الحقيقة. و أقولها لكم إننا متأخرون في هذا الجانب. لم نتقدّم في التربية الإسلامية بمقدار ما يقتضيه النظام الإسلامي. قد يقول البعض إننا في مجالات البناء و التقنية و كذا و كذا كان بوسعنا التقدم أكثر مما حصل لكننا لم نتقدم بالمقدار المأمول. لكن المجال الأهم الذي كان يجب أن نتقدم فيه أكثر مما تقدمنا هو مجال المعنويات و بناء الذات و تهذيب القلوب و الأخلاق. للحق إننا متأخّرون في هذا الجانب.
لو أردتم التأشير إلى نموذج لما نحن جديرون به لوجب أن تنظروا لفترة الدفاع المقدس. لاحظوا الشباب الذين كانوا في جبهات القتال، و الآباء و الأمهات الذين بعثوا أبناءهم للجبهات، و العوائل التي ساندت الجبهات بكل هذا الحماس و الشوق و الاندفاع، ما هي أحوالهم و مشاعرهم؟ أولئك نموذج جيد. طبعاً لا نقول إنهم النموذج الأسمى و الأعلى، لكنهم نموذج جيد جداً. و علينا السير على نفس السياق و بنفس الوتيرة، لكننا لم نتقدم. و طبعاً حتى أولئك ننساهم في بعض الأحيان. بعضنا ينساهم، و بعضنا للأسف ينكرهم! و الأسوء من ذلك أن البعض يحكمون على تلك الأحوال بالخطأ! هذا ما ترونه في بعض التصريحات. الأقوال غير الناضجة و اللغو الذي يسمع أحياناً هنا و هناك، و يصل الأمر حتى إلى تخطئة تلك الأحوال الجميلة و المقدسة التي كان عليها مقاتلونا و شبابنا خلال فترة الدفاع المقدس.
و طبعاً لا علم لنا غالباً بتفاصيل تلك الأحوال، حتى أنا الذي أتحدث الآن و حتى الذين شهدوا ساحات الحرب و الوغى - القادة - هم أيضاً لا علم لهم بكل ما حدث. لقد كانت مجالات الصيرورة و التحوّل و التطور نحو الصفات السامية و الفضائل الإنسانية كثيرة هناك - ربما كانت بعدد الأفراد المقاتلين الذين كانوا في الجبهات - إلى درجة لا يمكن معها الحصر و الإحصاء.
في الفترة الأخيرة قرأت كتاباً يروي وقائع عدة أيام عن إحدى الهجمات العسكرية، عن لسان أشخاص بقوا على قيد الحياة من إحدى الفصائل، و ليس من فرقة أو لواء أو فوج أو حتى سريّة. بقي عدد من الأفراد من هذا الفصيل و راحوا يروون الوقائع. و قد عمل الكاتب و الباحث الحاذق - و للحق و الإنصاف أن مثل هذه الأعمال قيمة و ثمينة جداً - على تسجيل كل تفاصيل الوقائع عن ألسنة هؤلاء الأفراد، ليكون كتابه من نحو ستمائة أو سبعمائة صفحة. نحن نسمع فقط بعمليات الفاو. و الكثير من الأعمال المهمة التي وقعت في هذه العمليات نعلمها على الإجمال و بصورة فوقية من قبيل أنهم عبروا أروند و أخذوا الفاو و فتحوا معمل الملح و عملوا كذا و كذا. إننا نعلم الكليات، أما ما الذي حدث خطوة خطوة فهذا ما لا نعلمه.
لوحة فنية ملونة وضعت أمامنا بعد أن رسمت بمنتهى الدقة و الجمال، و نحن نقف من بعيد و ننظر و نقول: ما شاء الله! لا نذهب قريباً لنرى ما يوجد في كل زاوية من زوايا هذه اللوحة من دقائق و فنون رائعة حتى خرجت هذه اللوحة بهذا النحو. و قد فعل البعض هذا و يفعلونه. و هذا نموذج شاهدته بنفسي و هو أحد الأعمال، و نتمنى أن تستمر هذه الأعمال.
إنه تسامي الأخلاق.. هناك يدرك الإنسان كيف تعمل الفضائل الأخلاقية التي يجود بها الإسلام و الله و العقيدة بالغيب على الإنسان، كيف تعمل على التأثير في حياة الإنسان. هذه أحوال يجب أن تنمو و تتطور، لكنها لم تنمُ بالشكل اللازم. يجب أن نهتم بأنفسنا و نبنيها أكثر من هذا بكثير.
و ما أريد أن أقوله لكم بعد هذا هو: أيها المسؤولون الأعزاء.. أيها المسؤولون في مجلس الشورى و الحكومة و السلطة القضائية و القوات المسلحة و سائر الأجهزة، و أخاطب كذلك المسؤولين ممن كانوا قبلكم يتولون الأمور و الأعمال - كلكم مخاطبون بهذا الكلام - لقد قمتم بعمل كبير. أنتم المسؤولين في النظام الإسلامي و مدراء المؤسسات المختلفة في الجمهورية الإسلامية منذ البداية و إلى الآن لقد رسمتم مرحلة عظيمة من التاريخ و صنعتموها. لقد قمتم بعمل كبير.
لو ألقيتم نظرة على تاريخ بلادنا منذ آلاف السنين و إلى اليوم - منذ أن كان لنا تاريخ مدوّن - لوجدتم أنه كانت تحكمنا دوماً حكومة فردية دكتاتورية مطلقة، أو حكومة جماعة قليلة برئاسة فرد واحد على عامة الناس، من دون أن يكون لعموم الناس أية حريات أو اختيار في إدارة هذه البلاد. هذا هو تاريخنا. الحكومات الملكية التي كانت في هذه البلاد كلها من هذا القبيل. و حتى الملوك الذين نحترمهم من قبيل الملوك الغزنويين و السلجوقيين المقتدرين إلى أن نصل للعهود الصفوية و الشاه عباس و الشاه إسماعيل و الشاه طهماسب و أمثالهم، كلهم على هذا النحو. هؤلاء هم ملوكنا الصالحون، و لكن نفس هؤلاء الملوك الصالحين كيف أداروا هذا البلد؟ ماذا تقول ملفات الإدارة الحكومية في هذا البلد؟ تقول: كان هناك شخص واحد على رأس الحكم و الكل يطيعونه. و هذه المجموعة تدير كل مصير البلد، و لا دور و لا تأثير لأبناء الشعب في ذلك، إنما كان البلد ملكاً لأولئك النفر القليل.
الملك كان يقول لوزرائه: خدمي! و قد كانوا خدمه فعلاً. و هذه هي الحقيقة. ناصر الدين شاه، و محمد شاه، و فتح على شاه، و غيرهم كانوا يقولون حتى لوزرائهم و رئيس وزرائهم: إنكم خدم جيدون! هكذا كانت الثقافة السياسية في البلاد. و حين يكون رئيس الوزراء و الوزراء خدماً للملك، يقول رئيس تلك الدائرة الفلانية شعراً:
حين يكون ثمن البعير ببطة واحدة لا يثمّن الحمار ثمنه الحقيقي!
أما عامة الناس فكانوا كالهباء المنبثّ، و كانت البلاد كلها ملكاً لجماعة محدودة و في الحقيقة لفرد واحد. هذا هو تاريخنا.
أنتم المسؤولين في هذا البلد استلمتم من هذا الشعب و من هذه الثورة نظاماً شيدت كل أركانه بأيدي الناس و بانتخاب الجماهير. قيادته منتخبة من قبل الناس، و رئيس جمهوريته منتخب من قبل الشعب، و نواب مجلسه منتخبون من قبل الناس. هذه المؤسسات التي يمكن أن تنتخب من قبل الجماهير بطريقة منطقية و معقولة، هي بأيدي الشعب. و طبعاً القوات المسلحة و الجهاز القضائي ليس من انتخاب الشعب في أي مكان من العالم. فتلك المؤسسات لها وضعها المختلف، و لها معاييرها. لكن بقية الأجهزة و المؤسسات بأيدي من انتخبهم الشعب. لقد أقمتم هنا مثل هذا النظام. و منذ ثمانية و عشرين عاماً و الانتخابات تقام في هذا البلد. و طبعاً ثمة كلام فارغ بخصوص الانتخابات التي تقام في بلادنا. و أية حقائق العالم لا يوجد حولها كلام فارغ؟ ثمة كلام فارغ حتى حول الذات الربوبية المقدسة، و حول أصل الدين. و هل ثمة ديمقراطية يمكن أن تكون أوضح و أنصع من هذه؟ إذن، هذه الفترة و المرحلة مرحلة أساسية بالقياس إلى تاريخنا السالف.
لاحظوا وضع العالم. إنكم تطرحون على العالم حقيقة جديدة. نظام العالم، و خصوصاً بعد ظهور الاستعمار و بعد هذين القرنين الأخيرين، و على الأخص خلال فترة الهيمنة الاستعمارية التي انتهت بالحروب الكبرى في القرن العشرين، كان نظاماً قائماً على أساس الهيمنة و الخضوع للهيمنة. عدة بلدان و عدة حكومات و لأسباب معينة راحت تمارس هيمنتها، و تعتقد أنها يجب أن تمارس هذه الهيمنة! و باقي الحكومات و سائر الشعوب يجب أن تخضع لهذه الهيمنة و ترضى بها و تنسجم معها. و على حد تعبير أحد الكتاب الغربيين المعروفين من علماء الاجتماع، و هو من نقاد السياسات الغربية و الأمريكية، فإن السلطة هي بيد الأثرياء و الأغنياء من البلدان المهيمنة. و أغنياء البلدان الخاضعة للهيمنة أيضاً يجب أن يكونوا في خدمتهم. و هذا صحيح، أي إنه تحليل صائب.
و جئتم أنتم و أنكرتم هذا النظام العالمي الظالم الذي تمّ تكريسه و قبوله، و صمدتم على رفضكم.. هذا هو المهم. «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا». هذا هو المهم. الكلام و الآراء الصالحة و الشعارات الجيدة و ظاهرة الحكومة الشعبية و الثورات الشعبية ظهرت في أماكن شتى من العالم مراراً، أما أن تستطيع هذا الظاهرة أن تحافظ على نفسها و تبقى و تتجذر و تنمو و تكبر و تصمد مقابل هجمات شديدة من قبل أعدائها، و يمضي على عمرها ثمانية و عشرون عاماً و تنجز أعمالاً كبرى و تتحدى أعداءها و معارضيها، و هم أعداء متكبرون لم يكونوا أبداً على استعداد لأن يتحدثوا أصلاً مع بلد من بلدان العالم الثالث كما يصطلحون عليها، فهذا مؤشر و دليل على أنكم بدأتم عهداً جديداً، فاعرفوا قدر ذلك، و كونوا على بينة من أهمية هذه المسؤولية الكبرى.
طيب، ما هي نتيجة هذه المعرفة للمكانة و الموقع و المسؤولية؟ النتيجة هي التيقن من ضرورة مواصلة العمل.. يجب أن تنجزوا الأعمال إلى آخرها. لا يحق لكم أن تتركوا هذا العمل منقوصاً في منتصف الطريق. يجب أن لا تتعبوا، و ينبغي أن لا تسمحوا بتوقف مساعيكم و إجهاضها. يتعين أن تشخّصوا عوامل الهزيمة و الانهيار و تبعدوها عنكم.
ثمة أشياء تهزم الشعوب. و هي أشياء يعلمها الجميع و ليست بالجديدة، و نحن أيضاً نعلمها. منها اختلاف الكلمة، و منها السماح للمندسّين من معسكر الأعداء بالتغلغل إلى صفوف الذات، و منها التقاعس و الخور و الكسل في أداء المهام، و منها القنوط و اليأس في الوصول إلى الأهداف، و منها تجاهل العدو و استصغاره و غض الطرف عنه.. هذه كلها من عوامل الضعف و الانكسار. و هي كلها عوامل سيئة و سلبية. يجب أن تبعدوا عوامل الضعف هذه عن أنفسكم. و من عوامل الانكسار الانشداد إلى المطالب الشخصية التافهة. فالمسؤول أو المدير رفيع المستوى الذي يعمل عملاً كبيراً قد تواجهه في طريقه نزوة أو منفعة شخصية تفيده هو. و المصداق الواضح لذلك هو إعطاء الرشوة و أخذها. و لكن ثمة أمثلة أخرى أدق من هذا، و ليست بهذا الوضوح و الجلاء، لكنها من حيث الباطن على نفس الشاكلة. يصل الإنسان إلى مرحلة من الدرب يجد أنه إذا أراد مواصلة طريقه الأصلي و مهماته الكبرى فسوف يفقد هذه الفائدة الشخصية، لكنه إذا ضعف و توقف و زلت أقدامه فسوف يحصل على مكسب شخصي كبير. هذه من عوامل الضعف و الانحطاط. هنا ينبغي على المرء أن يترك تلك المنافع و المطالب التافهة من أجل عظمة الشيء الذي يسير من أجله و أهمية العمل الذي يقوم به. يمكن الإشارة إلى الكثير من الأمور تعدّ مصاديق في هذا الإطار.
اعلموا أن نظامكم نظام كفوء متميز. يحاول أعداؤكم أن يفهموكم و يقنعوكم بالقوة أن هذا النظام نظام غير كفوء. لا، بل إن هذا النظام نظام كفوء جداً. لقد أثبت هذا النظام كفاءته في مجالات و ميادين شتى. على صعيد الخدمات و تطويرها و نشرها على عامة الناس، لكم أن تقارنوا إيران اليوم بإيران في عهد الطاغوت.. إنها لا تقبل المقارنة أصلاً. هذا أحد مجالات الكفاءة، و الأمثلة و النماذج كثيرة، و أنتم على علم بالإحصائيات و الأرقام. طبعاً من المناسب جداً أن تذكر هذا الأمور و الحقائق للناس و الشعب على ألسنتكم.
و من الصعد الأخرى صعيد الثقة بالنفس الوطنية، و التي عبّرت عن نفسها في الميادين العلمية و السياسية و التقنية، و لا تزال تعبّر عن نفسها باستمرار. في بلدنا هذا لم يكن المهندس ليتجرّأ على ذكر اسم بناء محطة طاقة، و لم يكن يتجرّأ على ذكر اسم بناء سدّ، و لم يكن يتجرّأ على التفوّه باسم بناء مطار. كل هذه الأعمال كان يجب أن يقوم بها الأجانب. أقصى ما كان للمهندس الإيراني هو أن يكون عضواً في جانب من جوانب هذا المشروع الذي عهد به إلى مهندس أجنبي أو شركة خارجية. هذا طبعاً إذا وافق الأجانب، و كانوا في بعض الأحيان لا يوافقون. تحدثتُ عند سدّ كرخة قبل نحو ثلاثة أو أربعة أعوام و شرحتُ بالتفصيل، و قارنت سدّ كارون 3 - و ليس سدّ كرخة - بسدّ دز. شيّد سد دز في زمن الطاغوت، و بُني سدّ كارون 3 في زمن الجمهورية الإسلامية، و هما سدّان متشابهان. سدّان إسمنتيان بسعة متقاربة من حيث المياه و الكهرباء. كم وجّهوا من الإهانات و الإساءات و الفضائح للإيرانيين و المهندسين الإيرانيين و أصحاب الرساميل و المستثمرين الإيرانيين عند بناء سدّ دز. و لكن في بناء هذا السدّ قام الشباب و المهندسون الإيرانيون أنفسهم بهذا العمل المعقد العظيم الذي يعدّ أكثر حساسية و أهمية في كثير من النواحي الفنية و التقنية و من حيث الهياكل الإسمنتية و ربط الإسمنت بالجبال - و قد شرح المتخصصون لنا تفاصيل ذلك - من سدّ دز، و شيّدوا هم بأنفسهم محطة الطاقة الخاصة بالسدّ، و كذلك الطريق تحت الماء الذي كان قد اندثر، و الجسر المعلق الطويل. قاموا بذلك بمنتهى الفخر و بذلوا جهوداً مضنية و تصبّبوا عرقاً لكنهم رفعوا رؤوسهم بكل فخر. هذا ليس بالشيء القليل. و لكم أن تعمّموا هذه الحالة على كل الصعد و المجالات.
المهندس الإيراني و الخرّيج الإيراني و الدكتور الإيراني و المنتسب للجيش الإيراني و المنتسب للحرس الثوري كلهم يرون اليوم أنهم يصنعون و ينتجون و يبدعون و يستخدمون و يشغّلون و يتفوقون على غيرهم، و في ذلك الحين لم يكونوا حتى ليخطر ببالهم القيام بمثل هذه الأمور، و الأمثلة على ذلك لا حصر لها. هذه هي كفاءة هذا النظام، و هذه هي الأعمال التي قام بها.
هذا النظام هو الذي أحيى الزراعة التي جرى القضاء عليها سابقاً. و الصناعة البسيطة البدائية في البلاد قام هذا النظام بتحويلها إلى صناعة معقدة حساسة نووية. في مجالات الصناعات الحديثة - نظير ما أشار له السيد رئيس الجمهورية الآن من النانوتكنولوجيا و صناعات من هذا القبيل، و هي من الصناعات الحديثة في العالم - يسير هذا النظام بسرعة واحدة تقريباً مع الركب الأول في العالم. هذه هي كفاءة النظام.
و ربما أمكن القول إن الأهم و الأعلى من كل هذا هو كفاءة النظام على صعيد تكريس الديمقراطية. على الرغم من تلك السوابق القبيحة و المشؤومة في هذا البلد، استطاع هذا النظام تكريس الديمقراطية. لدينا في الوقت الحاضر انتخابات واحدة في كل عام تقريباً - و بالقرارات التي اتخذوها مؤخراً قد يقل هذا المعدّل قليلاً، لكنه كان على هذا النحو لحد الآن - و أقيمت على مدى ثمانية و عشرين عاماً نحو ثمان و عشرون انتخابات. و كل هذه الانتخابات أقيمت بهدوء و نزاهة و من دون متاعب كبرى. هذا دليل على أن الديمقراطية قد تكرّست و ترسّخت في هذا البلد. فمن الذي قام بهذا؟ النظام الإسلامي هو الذي قام به. هذا جانب من كفاءة النظام مهم للغاية.
و من بوسعه إنكار المكانة السياسية و العزة الدولية التي حظيت بها إيران؟ من بإمكانه إنكار التأثير الذي لحكومة الجمهورية الإسلامية اليوم في سياسات المنطقة، بل في سياسات تتجاوز حدود المنطقة؟ من يستطيع أن ينكر عزة الجمهورية الإسلامية بين الشعوب المسلمة؟ أي بلد من البلدان بوسعه الادعاء أن رئيس ذلك البلد و مسؤوليه رفيعي المستوى حين يزورون بلداً إسلامياً آخر يتجمّع أبناء ذلك البلد المسلم الآخر - حتى لو لم تكن حكومتهم راغبة و راضية - و يرفعون الشعارات لصالحه، سوى الجمهورية الإسلامية؟ الجمهورية الإسلامية الإيرانية فقط لرؤسائها امتداداتهم المعنوية و الحقيقية و السياسية بين الشعوب الأخرى. أليست هذا كفاءة؟ أي مجال من مجالات الكفاءة أهم و أرقى من هذا؟
و هناك إطلاق خطاب جديد على المستوى الدولي الإسلامي. إنه خطاب الهوية الإسلامية و عدم الخضوع للهيمنة و الاستقلال، الذي أوجده و نشره هذا النظام. و كذلك العلاقات مع الجيران و غير ذلك الكثير.
علينا زيادة هذه الكفاءة و مضاعفتها، و ذلك بواسطة العلم و العقل و العزم.. «العينات» الثلاثة. يجب أن تكون أعماله علمية و عقلانية و بعزيمة. يجب أن تكون بعزيمة إذ لا يمكن السير و العمل بهوان و ضعف و خور و ارتخاء. يجب أن يستخدموا العلم و العقل و تكون العزيمة الوطنية كالداينمو المحرّك الذي يدفع بالأمور نحو التقدم. بوسعنا مضاعفة هذه الكفاءة.
طبعاً بلد إيران و شعب إيران و حكومة الجمهورية الإسلامية مظلومون. لقد وقع علينا الظلم و نحن مظلومون لكننا لسنا بضعفاء. مثل الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة و السلام) الذي كان مظلوماً لكنه كان أقوى من كل الرجال في زمانه. و مثل كل أهل الحق الذين وقع عليهم الظلم و أنكرت فضائلهم لكنهم لم يكونوا ضعفاء. إننا لسنا بضعفاء و لكننا مظلومون. و لن نسمح ببقاء و استمرار هذه المظلومية إلى النهاية، فنحن لا نتحمّلها. و عدم تحمّلها يكمن في تعزيز عقولنا و علمنا و عزائمنا، و هذا ما يحصل بالذكر الإلهي الذي سبق أن تحدثت عنه. طبعاً يهددوننا، لكن التهديدات لا أهمية لها. و هذا ما أقوله لكم:
أولاً التهديدات ليست بالجديدة، و لقد كانوا يهددوننا دوماً من بعد الحرب و إلى الآن - أي من بعد سنة 67 [1988 م] إلى اليوم - بالهجمات العسكرية. و إذا راجعتم ذاكرتكم فسوف تتضح الأمور لمن هم على علم و اطلاع بها. و أنا تقريباً على علم أكثر من الجميع بالتهديدات، إذ تنقل لنا أحياناً أمور لا تنقل للآخرين. كانوا يهددوننا دوماً. لا نقول إن هذه التهديدات لن تتحقق على نحو القطع و اليقين، فقد تتحقق، و لتتحقق، فهي تزيدنا جاهزية و قوة.
و ثانياً الذين يهددون ينبغي أن يكونوا قد فهموا، و ليفهموا الآن، أن التهديد العسكري لإيران و التطاول العسكري لإيران لن يكون على شكل ضربات يفرّ الضارب بعدها و ينجو. كل من يتعرّض و يتطاول فسوف تطاله عواقب تطاوله و تبعاتها كأشد ما يكون.
و ثالثاً هؤلاء الذين يهددون يقصدون إرعاب المسؤولين و الشعب. و أقول لهم إن أحداً لا ترعبه هذه التهديدات، لا المسؤولون و لا أبناء الشعب. لكن لها من التأثير ما يدفع المسؤولين لتعزيز الجاهزية، فمن واجب المسؤولين أخذ حتى الاحتمالات الضعيفة بنظر الاعتبار. إنني أنظر للأعوام الماضية - سنة 75 مثلاً [1996 م] كانت من السنوات التي أخذت التهديدات العسكرية في زمن كلينتون طابعاً جدياً كبيراً - و أرى أن التهديدات أدت إلى أن يقوم المسؤولون في المجالات و القطاعات التقنية العسكرية المختلفة بأعمال جديدة و إبداعات مهمة، فتزيد بذلك الجاهزية. في كل مرة يهددون فيها تزداد جاهزيتنا و استعدادنا. و لن يكون لذلك من تأثيرات في إرعاب الشعب أو المسؤولين، و بالتالي فإن هذا الأمر لن ينتهي بضررنا.
رابعاً هذه التهديدات تدلّ على أن الليبرالية الديمقراطية عادت خالية الوفاض تماماً من أي منطق. حينما كانوا قد واجهوا صداماً قالوا إنه شنّ هجوماً عسكرياً، و هذا صحيح، فقد كان هاجم إيران و هاجم الكويت. لكن الجميع يعلمون أن الجمهورية الإسلامية لم تهاجم أحداً، و ليست لديها دوافع لمهاجمة أحد، و ليست من أهل التطاول و العدوان. تواجد الجمهورية الإسلامية و أعمالها أعمال منطقية و فكرية و بدوافع معنوية. أيديهم خالية تماماً في هذا المجال و ليس لديهم ما يقولونه، و ليس بوسعهم المواجهة. هذا الواقع يشير إلى أن الأجهزة الحكومية و السياسية المنبثقة عن أسس الليبرالية الديمقراطية فقيرة و بائسة الطرح إلى درجة تشبه إنساناً أمّياً يناقش إنساناً فاضلاً فترجّح كفة الفاضل العالم، فلا يجد الإنسان الجاهل سوى استخدام عضلاته و يديه و شدّ قبضاته! واضح أنه لا يمتلك شيئاً و لا معلومات. هذا دليل على فقرهم و خوائهم.
و الشعب الإيراني بطبيعة الحال و بفضل من الله ذو جاهزية و استعداد جيد جداً. و عليكم أن تزيدوا هذه الجاهزيات، خصوصاً و أن قضية الانتخابات مطروحة على بساط البحث، فالذي أرجوه أن تجعلوا الانتخابات في كل الدورات و الفترات وسيلة لتعزيز الوضع الوطني و مضاعفة الاقتدار الوطني، و ليس لإضعاف و زحزحة النظام و إهدار سمعة الشعب. الضجيج الذي يثار أحياناً من قبل بعض الأحزاب و الجماعات و التيارات السياسية و الفئات سيئة الأخلاق حول الانتخابات من شأنه إضعاف البلاد و الشعب و النظام. على التيارات المختلفة و الفئات و الجماعات المتنوعة أن تعبّئ كل طاقاتها و إمكانياتها بكل شوق و اندفاع لتخوض ساحة الانتخابات و تعتبرها هدفاً سامياً و حسناً و طيباً، و لا تجرّ الأمور إلى المعارك و النزاعات و الضجيج و الإهانات و الاشتباكات. اجعلوا الانتخابات وسيلة لفرض اليأس على الأعداء، و ستكون هذه الانتخابات أيضاً كباقي الانتخابات سبباً في عزة مطردة للإسلام.. و قد فات الوقت و أعتذر منكم.
اللهم بحقّ محمد و آل محمد اجعل ما قلناه و سمعناه لك و في سبيلك، و تقبّله منا، و اجعلنا من الذاكرين و المتوجّهين لحقيقتك و حقيقة الدين، و اجعلنا أكثر عزيمة و حزماً في سبيل الأهداف السامية.
ربّنا احشر الأرواح الطاهرة لشهدائنا الأبرار و الروح المطهرة لإمامنا الخميني الجليل (رضوان الله عليه) مع أوليائهم، و اجعلنا من السائرين و المتقدمين على طريقهم، و أرض عنا القلب المقدس لإمامنا صاحب العصر و الزمان المهدي المنتظر.
و السّلام عليكم و رحمة اللَّه‌.