بسم الله الرحمن الرحيم

و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيّدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمّد، و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيّما بقية الله في الأرضين. السلام عليك يا أبا عبد الله و على الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت و بقي الليل و النهار، و لا جعله الله آخر العهد من زيارتك، السلام على الحسين، و على علي بن الحسين، و على أولاد الحسين، و على أصحاب الحسين، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام).
هذا التجمّع تجمّع مهم جداً، فالتعبئة مظهر عظمة الشعب و الطاقة الكفوءة الداخلية لبلادنا. و هذا التجمّع هو تجمّع القادة، فقد تجمّع هنا عشرات الألوف من قادة التعبئة، و يمكن تخمين الحجم الفاخر للتعبئة الشعبية من مثل هذا التجمّع. إنكم مبعث ارتياح و أمل و ثقة لأصدقاء النظام و الثورة و البلاد، و مبعث خوف و فزع لسيئي الطويّة و الأعداء و الحقودين.
و اقتران أسبوع التعبئة مع هذه الأيام، و هي أيام ملحمة كبرى في تاريخ الإسلام، يعدّ حدثاً مغتنماً محبّذاً. و نقصد بالملحمة الكبرى التي ذكرناها هي ملحمة زينب الكبرى (سلام الله عليها) و هي تكملة لملحمة عاشوراء. بل بمعنى من المعانى يمكن القول إن الملحمة التي أوجدتها سيدتنا زينب الكبرى (سلام الله عليها) كانت إحياء لملحمة عاشوراء و حارسة لها. لا يمكن مقارنة عظمة ما قامت به زينب الكبرى (عليها السلام) بباقي أحداث التاريخ الكبرى، إنما يجب مقارنتها بنفس حادثة عاشوراء، و للحق أن كل واحدة من هاتين الحادثتين عدل الأخرى. هذه الإنسانة العظيمة و هذه السيدة الكبرى في الإسلام، بل في البشرية كلها، استطاعت أن تقف بشموخ و رفعة أمام جبل المصائب الثقيل، و لم يطرأ أية ارتجاف حتى على صوت هذه السيدة الكبيرة من كل هذه البلايا و الأحداث التي ألمّت بها، سواء في مواجهة الأعداء، أو في مواجهة المصيبة و الأحداث المريرة، وقفت كالقمّة الشمّاء الصامدة، فكانت درساً و نموذجاً و قائدة و رائدة. ألقت في سوق الكوفة و هي في الأسر تلك الخطبة المذهلة: « يا اَهلَ‌الكوفَةِ يا اَهلَ الخَتلِ و الغَدرِ اَ تَبكونَ، اَلا فَلا رَقأَتِ العَبرَةُ وَ لاهَدَأَتِ الزَّفرَةُ اِنَّما مَثَلُكُم كَمَثَلِ التِى نَقَضَت غَزلَها مِن بَعدِ قُوَّةٍ اَنكاثاً ».. إلى آخر الخطبة. (1) الألفاظ قوية كالفولاذ، و المعاني جزلة كالماء الجاري لتستقر في أعماق الأرواح. في مثل تلك الظروف تحدثت زينب الكبرى مثل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب نفسه، فزلزلت القلوب و الأرواح و التاريخ، و بقيت هذه الكلمات في التاريخ. كان هذا مقابل الناس و هي على محمل الأسر. و بعد ذلك أمام ابن زياد في الكوفة، و بعد أسابيع مقابل يزيد في الشام.
تحدثت باقتدار أهانت به الأعداء، و أهانت كذلك الصعاب التي فرضها الأعداء عليها. أتريدون الانتصار في ظنكم الباطل على آل الرسول، و التنكيل بهم و إذلالهم؟ لله العزة و لرسوله و للمؤمنين. (2) السيدة زينب الكبرى مثال العزة، كما كان الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء في يوم عاشوراء مثالاً للعزة. نظرتها للأحداث تختلف عن نظرة الآخرين. رغم كل تلك المصائب حين يريد العدو التشمّت بها تقول: «ما رأيت إلّا جميلاً» (3).. كان ما رأته شهادة و لوعة، لكنه كان في سبيل الله و لأجل حفظ الإسلام، و لأجل تكوين تيار على مدى التاريخ لكي تفهم الأمة الإسلامية ما الذي يجب أن تفعله، و كيف يجب أن تتحرك، و كيف يجب أن تتخذ مواقفها. هذا هو الإنجاز الكبير للملحمة الزينبية. و هذه هي العزة التي تتحلى بها وليّة الله. زينب الكبرى من أولياء الله، و عزتها عزة الإسلام، لقد أعزّت الإسلام، و أعزّت القرآن الكريم. طبعاً نحن لسنا طموحين و ليس لدينا من الهمّة ما نريد به أن نقول إن سلوك تلك السيدة الكبرى نموذجنا.. إننا أصغر من هذه الأمور، و لكن يجب على كل حال أن تكون حركتنا بالاتجاه الزينبي. يجب أن تنصب هممنا على تكريس عزة الإسلام و عزة المجتمع الإسلامي و عزة الإنسان، و ما قرّره الله تعالى للرسول و الأنبياء بالأحكام الدينية و الشرائع.
ما أريد ذكره باختصار لكم أيها التعبويون و الشباب الأعزاء في الجانب الأول من كلمتي هو أن أحد العوامل المنتجة لهذه الروح و هذا الصبر عند زينب الكبرى (سلام الله عليها) و عند سائر الأولياء الإلهيين الذين ساروا على هذا النهج، هو الصدق. التعامل بصدق مع العهد الإلهي، و تسليم القلب بصدق لسبيل الله.. هذا شيء على جانب كبير من الأهمية. القرآن الكريم يعتبر هذا الصدق ضرورياً للأنبياء الإلهيين العظام: «وَ اِذ اَخَذنا مِنَ النَّبِيّينَ ميثاقَهُم وَ مِنكَ وَ مِن نوحٍ وَ اِبراهيمَ وَ موسى‌ وَ عيسى‌ ابنِ مَريَمَ وَ اَخَذنا مِنهُم ميثاقاً غَليظاً، لِيَسَألَ الصَّادِقينَ عَن صِدقِهِم » (4). يا أيها النبي لقد أخذنا منك ميثاقاً و من نوح و من إبراهيم و موسى و عيسى - أخذنا ميثاقاً من كل الرسل و الأنبياء - و هذا الميثاق ميثاق متين و غليظ جداً. في كلمة «ليسأل» اللام هنا بتعبير طلبة العلوم الدينية لام العاقبة.. أي إن نتيجة و عاقبة هذا العهد و الميثاق هو أن يسأل الرسل و الأنبياء العظام عن صدقهم الذي أبدوه حيال هذا الميثاق. بمعنى أن رسولنا الكريم (ص) و الأنبياء الإلهيين العظام يجب أن يعرضوا أمام الله سبحانه و تعالى درجة صدقهم في العمل بهذا الميثاق الإلهي. هذا أمر يتعلق بالأنبياء و الرسل. و يقول عن الناس العاديين و المؤمنين: «مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَّن قَضى‌ نَحبَهُ وَ مِنهُم مَن يَنتَظِر وَ ما بَدَّلُوا تَبديلاً، لِيَجزِىَ اللهُ الصَّادِقينَ بِصِدقِهِم و يُعَذِّبَ المُنافِقينَ اِن شاء» (5). في ما يخصّ الرسل العظام يجعل الله النقطة المقابلة للصدق هي الكفر: «و اَعَدَّ لِلكفِرينَ عذاباً اَليما» (6). و في خصوص المؤمنين جعل مقابل الصادقين المنافقين، و هناك معان و نقاط دقيقة في هذه المفردات. نُسأل أنا و أنتم أيضاً عن وعودنا و عهودنا مع الله، فإن لنا مع الله عهوداً.
في هذه الآية الكريمة «مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عهَدوا الله عَلَيهِ» حيث يقول إن المؤمنين عاهدوا الله عهداً و بعضهم وفوا بهذا العهد و بقوا عند عهودهم.. قبل عدة آيات منها و في نفس السورة المباركة يقول سبحانه و تعالى «و لَقَد كانوا عاهَدُوا اللهَ مِن قَبلُ لا يُوَلّونَ الاَدبار» (7).. كلنا يجب أن ندقق في هذه النقاط. كانوا قد عاهدوا الله سبحانه و تعالى بأن لا يفرّوا مقابل الأعداء و لا يولوه الأدبار. ترك المواضع و التراجع الانهزامي عن مجابهة الأعداء من الأمور التي يشدّد القرآن الكريم على رفضها و على أن لا تكون. يجب الصمود للأعداء في الحرب العسكرية و في الحرب السياسية و في الحرب الاقتصادية و في أية ساحة يحصل فيها نزال و ملاواة. يجب أن تنتصر عزيمتكم على عزيمة العدو، و ينبغي أن تغلب إرادتكم إرادة العدو. و هذا شيء ممكن و متاح. الانهزام و الفرار من العدو في أية ساحة من ساحات الجهاد و النزال ممنوع من وجهة نظر الإسلام و القرآن الكريم.
لقد استخدمنا تعبير «المرونة البطولية»، و فسّره البعض بمعنى التخلي عن مبادئ النظام الإسلامي و أهدافه. و قد وظف بعض الأعداء هذا الشيء ليتهموا النظام الإسلامي بالتراجع عن أصوله و مبادئه. و قد كان هذا شيئاً غير حقيقي و يمثل سوء فهم. المرونة البطولية بمعنى المناورة الفنية للوصول إلى المقصود و الهدف.. بمعنى أن السالك في طريق الله - أي نوع من أنواع السلوك كان - حين يتحرّك نحو المبادئ الإسلامية على تنوّعها، يجب أن يستخدم أساليب متنوّعة بأي شكل و بأي نحو كان، من أجل الوصول للهدف. «وِ مَن يُوَلِّهِم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ اِلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ اَو مُتَحَيِّزاً اِلى‌ فِئَةٍ فَقَد بآءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله» (8). أية حركة - سواء الحركة إلى الأمام أو الحركة إلى الوراء - تشبه الحركة في ساحة الحرب العسكرية، و يجب أن تكون الغاية منها الوصول للأهداف المرسومة مسبقاً. ثمة أهداف، و النظام الإسلامي يسعى في كل مراحلة لتحقيق أحد هذه الأهداف، و يجب عليه من أجل التقدم و الوصول إلى الرفعة و الذروة و لخلق الحضارة الإسلامية العظيمة أن يحقق هذا الهدف في هذه المرحلة. و العمل طبعاً على شكل مراحل و مقاطع. و المرشدون و الهداة و المفكرون و المسؤولون المعنيون يحدّدون هذه المقاطع و المراحل و الأهداف، و تنطلق المسيرة الجمعية. على الجميع أن يجدّوا و يسعوا لوصول الحركة في كل مرحلة من المراحل إلى أهدافها. هذا هو النظام الصحيح للحركة المنطقية. و هذا ما يجب أن يتذكره دوماً كل الناشطين في الميدان السياسي و في إدارة البلاد العامة. و كل أبناء الشعب و أنتم أيها التعبويّون الأعزاء - الناشطون في مجال التعبئة - يجب أن تتذكّروه دوماً.
طيّب، حين نقول إننا نريد أن نتحرّك و نسير و نتقدم إلى الأمام فهل هذا بمعنى أن النظام الإسلامي يريد الحرب؟ و هل هو بمعنى أن النظام الإسلامي يريد أن يتحدى كل الشعوب و كل البلدان في العالم؟ أحياناً يُسمع من أعداء الشعب الإيراني، بما في ذلك الأفواه المشؤومة النجسة للكلب المسعور في المنطقة أي الكيان الصهيوني.. يقلقلون ألسنتهم بالقول إن إيران تهديد للعالم كله.. لا، هذا كلام الأعداء، و هو على الضدّ تماماً من النهج الإسلامي. التهديد الذي يواجه العالم كله هو تلك القوى الشريرة التي لم تبد عن نفسها سوى الشرور، و من جملة ذلك هذا الكيان الإسرائيلي الزائف و بعض حماته. الدرس الذي استلهمه النظام الإسلامي من القرآن الكريم و من الرسول الأكرم (ص) و من الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، درس آخر: «اِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَ الاِحسانِ» (9).. العدالة و الإحسان و المروءة.. قال الإمام علي بن أبي طالب (ع) أحسنوا للجميع.. لأنهم «اِمّا اَخٌ لَكَ فى دينِك اَو شَبيهٌ لَكَ فى خَلقِك» (10).. الناس إما أخوك في الإسلام أو أي إنسان آخر مثلك. هذا هو منطق الإسلام. إننا نروم خدمة كل البشر، و مودّتهم.. نريد أن تكون لنا مع كل الناس و مع كل الشعوب علاقات صداقة و محبّة. و حتى مع الشعب الأمريكي - مع أن الحكومة الأمريكية حكومة مستكبرة و معادية و سيئة الطويّة و حقودة تجاه شعب إيران و نظام الجمهورية الإسلامية - ليست لنا أية عداوة، فهم أيضاً كباقي الشعوب.
النقطة المقابلة و المضادة للنظام الإسلامي هي الاستكبار. النظام الإسلامي يوجّه خصامه للنظام الاستكباري. إننا نعارض الاستكبار و نحاربه. و الاستكبار مفردة قرآنية استخدمت في القرآن الكريم لأمثال فرعون و الجماعات السيئة الطويّة و المعارضة للحق و الحقيقة. لقد كان الاستكبار في الماضي أيضاً، و هو موجود إلى اليوم. بنية الاستكبار في كل العصور واحدة، و قد تتفاوت الأساليب و الخصوصيات و السمات من زمن لآخر. اليوم أيضاً يوجد نظام استكباري، و على رأس الاستكبار في العالم اليوم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. يجب أن نعرف الاستكبار و خصوصياته و أداءه و توجّهاته لنستطيع تنظيم سلوكياتنا حياله بشكل عقلاني. إننا نعارض التصرّفات غير العقلانية في كل المجالات. إننا نعتقد بضرورة العمل بعلم و حكمة في كل الميادين، و في كل التخطيطات و البرامج، و في كل التوجّهات الجمعية و الفردية. إذا لم نتعرّف على الساحة و على الأصدقاء و نميزهم عن الأعداء، و إذا لم نعرف نظام الهيمنة الراهن اليوم و لم نعرف الاستكبار، فكيف نستطيع العمل و السير بحكمة و علم؟ و كيف نستطيع أن نبرمج بصورة صحيحة؟ لذلك يجب أن نعرف هذه الأمور.
ما سوف أذكره حول الاستكبار هو عدة نماذج أو عدة مؤشرات من سلوكيات النظام الاستكباري في العالم اليوم، و التي يشترك في كثير منها مع النظام الاستكباري في القرون و العصور الماضية. من خصوصيات النظام الاستكباري نظرته الاستعلائية و التفوقية لنفسه. حينما ترى الجماعات المستكبرة - الجماعات التي إما أن تكون على رأس بلد معين أو على رأس نظام دولي أو مجموعة بلدان تمسك بزمام الأمور - نفسها أفضل من باقي البشر و المجاميع، و حينما تجعل نفسها محوراً و ترى كل الأشياء الأخرى فروعاً لها، ستظهر معادلة خاطئة و خطيرة في العلاقات العالمية. حينما ترى نفسها أفضل و أنها المحور و الأصل ستكون النتيجة أن ترى لنفسها حق التدخل في شؤون باقي الناس و سائر الشعوب. و ما تعتبره قيماً يجب أن يسلّم له العالم كله و يقبله و يرضخ له. إذا لم يقبل الآخرون الشيء الذي يراه الاستكبار قيمة فسيرى من حقه أن يتدخل في شؤونهم و يفرض عليهم ما يفرضه و يتعسّف معهم و يضغط عليهم. هذه النظرة الاستعلائية تنتهي إلى ادعاء المسؤولية عن شؤون الشعوب و إدارة العالم و أن يعتبروا أنفسهم رؤساء المجموعة العالمية. تسمعون في كلام المسؤولين و الساسة الأمريكان و شخصيات الحكومة الأمريكية أنهم يتحدثون و كأنهم مالكو كل البلدان.. يقولون إننا لا نستطيع السماح بكذا شيء و كذا شيء، و لا نستطيع السماح بأن يبقى فلان و لا يبقى فلان! يتحدّثون عن منطقتنا و كأنهم مالكو هذه المنطقة. يتحدثون عن الكيان الصهيوني و كأن شعوب هذه المنطقة مضطرة لقبول هذا النظام المفروض الزائف. يتعاملون مع الشعوب المستقلة و الحكومات المستقلة و كأنها لا حق لها في الحياة. هذه النظرة الفوقية الاستعلائية و تقرير مكانة خاصة للذات بين أبناء البشر و مجموعة الشعوب و الناس، هي أساس المشكلة الاستكبارية و أكبر مشكلات الاستكبار.
و ستكون النتيجة ظهور خصوصية و مؤشر آخر للاستكبار و هو عدم قبول الحق. إنه لا يقبل كلمة الحق و لا يقبل حقوق الشعوب، فهو متمرّد مطلق على الحق. كثيراً ما يحدث في النقاشات العالمية أن تطرح كلمة حق فلا تتقبلها أمريكا لسبب من الأسباب، و ترفضها بمختلف الأساليب و لا تنصاع للحق. و أحد النماذج على ذلك قضايانا الراهنة المتعلقة بالأنشطة النووية و الصناعات الذرية. هناك كلام حق، و إذا كان الإنسان من أهل الحق و من أهل الدليل و البرهان و المنطق يجب عليه حينما يقف أمام الدليل أن يسلّم له و يقبله، لكن الاستكبار لا يسلّم للحق. يسمع كلام الحق و لا يقبل به و لا يرضخ له. هذه من خصوصيات الاستكبار. كما أنه لا يقبل حقوق الشعوب. إنه لا يعترف للشعوب بحقها في الانتخاب و السير على الطريق الذي تختاره لنفسها و تعمل بالاقتصاد الذي تراه و بالسياسة التي تراها، إنما يؤمن بفرض الأمور على الشعوب.
الخصوصية الأخرى للاستعمار و الاستكبار هي أنه يجيز لنفسه ارتكاب الجرائم ضد الشعوب و ضد أبناء الإنسانية، و لا يكترث لذلك. هذه من البلايا الكبرى التي يتسبب بها الاستكبار في العصر الحديث. العصر الحديث يعني عصر تطوّر العلوم و ظهور الأسلحة الفتاكة التي منذ أن وقعت في أيدي المستكبرين تحولت إلى وبال على شعوب العالم. لا يقيمون أي وزن لأرواح الناس - أي إنسان لا يجاريهم و لا يستسلم لهم و لا يتبعهم - و الأمثلة على ذلك كثيرة جداً إلى ما شاء الله. من الأمثلة على ذلك تعامل المستكبرين مع سكان أمريكا الأصليين، هذا البلد الذي تذهب كل مصادره المالية و موقعه الجغرافي و كل شيء فيه للسكان غير الأصليين فيه. كان في هذه المنطقة سكان أصليّون، و تعامل معهم المستكبرون الوافدون بمنتهى العنف و بطرق مقزّزة تعدّ من الوصمات السوداء في تاريخ أمريكا الحديثة. و قد كتبوا هم أنفسهم عن تلك الحقب و الفترات الكثير و عن المذابح التي ارتكبوها و الضغوط التي مارسوها. و نفس هذه القضية قام بها البريطانيون في أستراليا. كان البريطانيون في أستراليا يصطادون الأهالي المحليّين الأصليين كالحيوانات و كما يصطادون الكنغر لغرض الترويح و الترفيه عن أنفسهم. لا يقيمون أي وزن و اعتبار لأرواح البشر. هذا نموذج، و هناك طبعاً المئات من النماذج الأخرى في كتبهم و تواريخهم.
و النموذج الآخر هو قصف سنة 1945 م - أي سنة 1324 هـ ش - حيث قصف الأمريكان مدينتين يابانيتين بالقنبلة الذرية و قضوا عليهما، فقتلوا مئات الآلآف من البشر، و أعاقوا أضعاف هذا العدد على مرّ الزمان نتيجة الإشعاعات النووية هناك، و جعلوهم مرضى و مشوّهي الخلقة، و هم يعانون هذه المشكلات إلى اليوم. و ليس لديهم أي تبرير قويم لعملهم هذا، و سوف أشير لاحقاً لهذه النقطة. قصفوا بالقنابل النووية بكل سهولة و برود. لم تُستخدم القنبلة النووية في العالم لحد الآن إلّا مرتين، و كان الأمريكان في كلا المرتين هم من استخدمها، و هم من يعتبرون أنفسهم اليوم مسؤولين عن القضايا النووية في العالم! و يتمنون أن تُنسى هذه القضية، و لكنها ليست مما يُنسى. أزهقت أرواح كل هؤلاء الناس، و لم يكن ذلك مهماً بالنسبة لهم. تقل قيمة أرواح البشر و تسهل بالنسبة للأجهزة الاستكبارية عملية ارتكاب الجرائم. ارتكبوا المذابح في فيتنام، و في العراق ارتكبت أجهزتهم الأمنية و شركاتهم الأمنية المرتزقة مثل بلاك ووتر - و قد أشرتُ إلى ذلك في تلك السنة - (11) الجرائم. و في باكستان لا زالوا يرتكبون الجرائم بالطائرات من دون طيار، و في أفغانستان يقصفون و يرتكبون الجرائم. أين ما تمتد له أيديهم و تقتضي مصالحهم لا يتورّعون عن ارتكاب الجرائم.. جرائم القتل و التعذيب. و سجن غوانتانامو الذي يديره الأمريكان لا زال فيه سجناء. منذ عشرة أعوام أو أحد عشر عاماً و في هذا السجن سجناء جلبوهم من مناطق مختلفة من العالم بتهم معينة، و من دون محاكمات و في ظروف سيئة جداً و بممارسة التعذيب ضدهم! و في العراق كان سجن أبي غريب أحد سجون الأمريكان الذي يمارسون فيه التعذيب و يطلقون الكلاب على السجناء.
نهب المصادر الحيوية للشعوب عملية سهلة بالنسبة لهم. اختطاف السود و أسرهم من الأحداث المبكية في التاريخ، و نظام الهيمنة الأمريكي و أشباهه لا يرغبون في إحياء هذه الأحداث و الحقائق.. أحداث اختطاف الناس من أفريقيا و استعبادهم كغلمان و إماء. يأتون بالسفن عبر المحيط الأطلسي فترسوا على سواحل بلدان غرب أفريقيا مثل غامبيا، ثم يذهبون ببنادقهم و باقي الأسلحة التي لم يكن غيرهم من الناس في ذلك الحين يمتلكونها، فيأسرون المئات و الآلآف من الشيب و الشبان و الرجال و النساء، و يأخذوهم إلى أمريكا للاستعباد في هذه السفن و في ظروف نقل عسيرة جداً. الإنسان الحرّ الذي كان يعيش في بيته و في مدينته يأخذونه أسيراً. و السود في أمريكا الآن من نسل أولئك. فرض الأمريكان هذه الضغوط العجيبة لعدة قرون، و قد وضعت الكتب في هذه القضية، و منها كتاب «جذور» (12) و هو كتاب مغتنم لإجلاء جانب من هذه الفجائع. كيف يمكن للإنسان اليوم نسيان ذلك؟ و رغم كل هذا لا يزال هناك تمييز بين السود و البيض في أمريكا.
من الخصوصيات الأخرى للاستكبار المخادعة و السلوكيات المنافقة. دققوا في هذه النقطة. هذه الجرائم التي تحدثنا عنها يحاولون في إعلامهم أن يبرّروها و يظهروا الجرائم في لبوس الخدمة و النوايا الحسنة! نظام الاستكبار هذا الذي يريد الهيمنة على الشعوب، يستخدم هذا الأسلوب بشكل دارج و مألوف في كل مناحي حياته.. أسلوب تبرير الجريمة و إلباسها ثياب الخدمة. في الهجوم على اليابان، أي القنبلتين التين فجروهما في مدينتي هيروشيما و ناكازاكي، حينما يريد الأمريكان أن يعتذروا، يقولون مع أن هاتين القنبلتين التي ألقيناهما على هاتين المدينتين قتلتا عشرات الآلآف في الوهلة الأولى، أو ربما مئات الآلآف، لكن هذا العمل كان ثمن إنهاء الحرب العالمية الثانية. فلو لم نلق نحن الأمريكان هاتين القنبلتين لاستمرت الحرب، و كان سيقتل مليونا إنسان بدل مقتل مائتي ألف إنسان بهاتين القنبلتين. و عليه فقد قدمنا خدمة حين ألقينا هاتين القنبلتين! لاحظوا أن هذا هو الكلام الذي يقوله الأمريكان في إعلامهم الرسمي. مضى على ذلك الزمن ربما 65 عاماً، و هم يكرّرون هذا الكلام دائماً، و هو كلام مخادع و منافق و من الأكاذيب العجيبة و الغريبة التي لا تصدر إلّا عن أجهزة الاستكبار. ألقيت هذه القنابل في صيف عام 1945 للميلاد على هاتين المدينتين و فجّرتهما و وقعت هذه الجريمة، و الحال أنه قبل أربعة أشهر من ذلك الحين - أي في بداية ربيع 1945 - كان هتلر و هو الركن الأساسي في الحرب قد انتحر، و قبل ذلك بمدة كان موسوليني - رئيس جمهورية إيطاليا - و هو بدوره الركن الثاني في الحرب قد ألقي عليه القبض، و كانت الحرب قد انتهت عملياً. و اليابان و هي الركن الثالث في الحرب كانت قد أعلنت قبل شهرين أنها مستعدة للاستسلام. لم تكن هنالك حرب، إلّا أن هذه القنابل قد تفجّرت. لماذا؟ لأن هذه القنابل كانت قد صُنعت لتُختبر في مكان ما.. كانوا قد صنعوا سلاحاً و يجب أن يختبروه. فأين يختبرونه؟ أفضل فرصة هي أن يتذرّعوا بالحرب و يلقوا هذه القنابل على رؤوس الناس الأبرياء في هيروشيما و ناكازاكي ليتضح هل تعمل بصورة صحيحة أم لا! هذا هو الوجه المخادع للاستكبار.
يزعمون أنهم مناصرون للإنسان.. يقصفون طائرة إيران المدنية في السماء و يقتلون قرابة ثلاثمائة من الركاب الأبرياء، و لا يعتذرون، بل و يمنحون مدالية للشخص الذي ارتكب هذه الجريمة! سمعتم في الأسابيع الأخيرة أن الأمريكان - من رئيس جمهورية أمريكا إلى الآخرين - أثاروا الضجيج حول استخدام الأسلحة الكيمياوية في سورية و اتهموا الحكومة السورية بأنها استخدمت السلاح الكيمياوي. لا أريد أن أحكم من الذي استخدم السلاح الكيمياوي، و القرائن تشير طبعاً إلى أن الجماعات الإرهابية هي التي استخدمته. لكنهم قالوا على كل حال إن الحكومة هي التي استخدمته، و أثاروا الضجيج و الصخب و قالوا إن استخدام السلاح الكيمياوي خطنا الأحمر! هذا ما قاله المسؤولون الأمريكان عشر مرات أو أكثر.. صحيح.. لكن هذه الحكومة الأمريكية و نظام الولايات المتحدة لم تعارض أبداً الهجمات الإجرامية التي شنها صدام على إيران و استخدم فيها السلاح الكيمياوي، و ليس هذا و حسب بل و استورد صدام خمسائة طن من المواد الكيمياوية القاتلة الخطيرة الممكنة التبديل إلى غاز الخردل - و التي لا يزال الكثير من شبابنا الأعزاء في ذلك الحين يعانون من تبعاتها إلى الآن و يعيشون حالات المرض لسنوات طويلة - من أمريكا، فهم ساعدوا صداماً، و قد اشترى صدام طبعاً مواداً كيمياوية من أماكن أخرى، لكنه اشترى أيضاً خمسمائة طن من المواد الكيمياوية القاتلة الممكنة التبديل إلى غاز الخردل من أمريكا و استخدمها، و حين أرادوا إصدار قرار ضده في مجلس الأمن الدولي حالت أمريكا دون ذلك. هذا معناه سلوك منافق.. هنا يصبح السلاح الكيمياوي خطاً أحمر، و هناك يكون السلاح الكيمياوي - لأنه استخدم ضد النظام الإسلامي المستقل و لأنه استخدم ضد شعب غير مستعد للخضوع لأمريكا - أمراً مشروعاً يجب تقديم المساعدة له!
هذا جانب من الخصوصيات و المؤشرات. و مميزات الاستكبار طبعاً أكثر من هذا، فهناك إثارة الحروب، و هناك بث الخلافات، و هناك الاشتباكات مع الحكومات المستقلة، و حتى مع شعوبهم يوم تقتضي مصالح جماعات معينة، و في حرب صدام ضد إيران قدّموا لصدام كل أنواع المساعدة التي استطاعوا تقديمها، و قد ضربت هنا مثال المساعدات الكيمياوية، و كانوا يزوّدونه بالمعلومات أيضاً. و قد تحدث رئيس استخبارات صدام يومذاك في فترة لاحقة و قال: كنت أذهب ثلاث مرات في الأسبوع للسفارة الأمريكية في بغداد فكانوا يعطوني مظروفاً مغلقاً يتضمن كل معلومات الأقمار الصناعية حول تحركات و انتقالات القوات المسلحة الإيرانية، و كنا نعلم أين هم. كانوا يمدّونه بمثل هذه المساعدات.
النظام الإسلامي يقف بوجه الاستكبار الذي يحمل هذه الخصوصيات، النظام الإسلامي لا يقف بوجه الشعوب، و لا يعادي الشعوب، و لا يعادي البشر، بل هو يقف بوجه الاستكبار. منذ زمن إبراهيم الخليل و النبي نوح و الرسل الكبار و رسول الإسلام الكريم (ص) و إلى اليوم كان الوضع على هذا المنوال: جبهة الحق تقف مقابل الاستكبار. لماذا؟ لماذا يجابه النظام الإسلامي الاستكبار اليوم؟ لأن الاستكبار بهذه الخصوصيات التي ذكرناها لا يستطيع الصبر على نظام إسلامي مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فنظام الجمهورية الإسلامية ظهر أساساً للاعتراض على الاستكبار، و الثورة الإسلامية انبثقت أساساً للاعتراض على الاستكبار و عملاء الاستكبار في إيران، و تأسّست على هذا الأساس، و نمت و قويت، و راحت تتحدى منطق الاستكبار. لا يستطيع الاستكبار تحمّل ذلك إلّا إذا أصابه اليأس. الشعب الإيراني و الشباب الإيراني و الناشطون الإيرانيون و الذين يؤمنون بوطنهم و ترابهم لأي سبب من الأسباب، حتى لأسباب غير إسلامية، يجب أن يعملوا ما من شأنه فرض اليأس على العدو.. يجب فرض القنوط على العدو.
من الصعب جداً على الأجهزة الاستكبارية و على حكومة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أن ترى بلداً في هذه المنطقة الحساسة من العالم، أي في غرب آسيا - و هي من أكثر مناطق العالم حساسية، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الاقتصادية، و الأحداث هنا تترك تأثيرها على العالم كله - و نظاماً و شعباً ينهض و لا يرى نفسه مرتبطاً و متصلاً و تابعاً لتلك القوة العظمى، و يسير بصورة مستقلة، و تثار ضده كل هذه المعارضات، لكن النظام الإسلامي يجتاز كل هذه المشكلات و الصعاب، و يتحدى حسب اعترافهم النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة، و يمدّد نفوذه و يغدو نموذجاً و قدوة لشعوب المنطقة. من الصعب عليهم جداً أن يطيقوا هذا الشيء. إنهم يريدون القول إن حياة الشعوب منوطة بالاعتماد على أمريكا، و قد ظهر شعب ليس عديم الاعتماد على أمريكا و حسب، بل و لم تستطع كل هذه العداوات الأمريكية أن تؤثر فيه. لقد فعل الأمريكان كل ما استطاعوا منذ اليوم الأول، لكن ما فعلوه لم يؤثر، و تطوّرت إيران و نمت يوماً بعد يوم، و ازدادت قوة باستمرار. العداوات التي مارستها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية و رؤساء جمهوريتها على اختلافهم - و لا يقل قائل إن هذا العمل كان في زمن رئيس جمهورية أمريكا الفلاني، و لم يكن في زمن رئيس جمهورية أمريكا الحالي، لا، كلهم على نفس الشاكلة - ضد النظام الإسلامي منذ اليوم الأول للثورة، كانت في عهود عدة رؤساء أمريكان، لكنهم جميعاً من سنخ واحد و على شكل واحد.
في البداية حرّضوا القوميات داخل البلاد، ثم دبّروا انقلاباً، ثم دفعوا العراق للهجوم، ثم ساعدوا عدونا - و هو نظام صدام - في حربه ضدنا، ثم فرضوا الحظر، ثم حرّضوا و دفعوا كل وسائل الإعلام العامة لمواجهة النظام الإسلامي، و حدث هذا في زمن رؤساء أمريكان متعددين، و لا زال يحدث لحد الآن. في فترة رئيس جمهورية أمريكا الحالي، و في فتنة سنة 88 كانت إحدى الشبكات الاجتماعية - التي كان يمكن أن تستخدم من قبل الفتنة و أصحاب الفتنة - بحاجة إلى تعمير و تصليح، و طلبت الحكومة الأمريكية منها أن تؤجّل تعميراتها، لأنهم كانوا يأملون من خلال هذه الأعمال الإعلامية و شبكات الفيسبوك و توييتر و ما إلى ذلك إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية.. و هذه أخيلة حمقاء ساذجة! لذلك لم يسمحوا بالتعميرات في تلك الفترة، و قالوا لهم: أجّلوا تعميراتكم و اعكفوا الآن على هذا العمل الأوجب. وظفوا كل الوسائل و الأدوات مقابل نظام الجمهورية الإسلامية، و كان الحظر أحد هذه الوسائل. هذه الوسيلة هي من وجهة نظرهم من أجل دحر نظام الجمهورية الإسلامية. و خطؤهم هو أنهم لم يعرفوا شعب إيران، و لم يعرفوا عامل الإيمان و التضامن بين أبناء شعبنا، و خطؤهم أنهم لم يفهموا دروس الماضي، لذلك يأملون أن يستطيعوا بالحظر و الضغوط و ما إلى ذلك أن يخضعوا هذا الشعب، و هم على خطأ طبعاً. الشيء الذي أضحى تجربة دائمية لنظام الجمهورية الإسلامية طوال هذه الأعوام الـ 35 هو أن العامل الوحيد لرفع مضايقات العدو هو اقتدار الشعب و صموده و مقاومته. هذا هو العامل الوحيد الذي يستطيع فرض التراجع على العدو. و العدو عدو بالطبع و يستخدم كل الوسائل و الأدوات، و كما ذكرنا فهو يستخدم أداة الحظر و قد استخدمها. ما يجب علينا هو أن نعلم ما الطريق الذي يوصل إلى المقصود و الهدف.
أريد أن أشير إلى فكرة حول التعبئة، ثم أشير إلى نقطة مختصرة بشأن القضايا الجارية في سياستنا الخارجية. التعبئة كما قلنا مبعث عزة البلاد و النظام. لماذا؟ لأن معنى التعبئة تواجد كتل الشعب في ساحات النشاط الأساسية و المهمة بالنسبة للشعب و البلاد. أية حكومة و أي بلد حينما يمتلك شعباً فأين ما تواجدت كتل الشعب الواسعة و سارت نحو اتجاه معين فإن الانتصار محتّم. هذا شيء أكيد. تتلقى البلدان الضربات و الأضرار و الهزائم حينما لا تكون شعوبها في الساحة أو لا تكون بين كتل الشعب وحدة عمل. أما حين يكون الشعب في الساحة و تكون هناك أواصر و اتحاد بين أبناء الشعب، فإن الانتصار و التقدم أكيد و يقيني. التعبئة نموذج من هذا القبيل.. إنها مظهر لهذا التواجد الشعبي في الساحة و الأواصر الوثيقة بين أبناء الشعب. يجب النظر للتعبئة بهذا المنظار.
لقد خرجت التعبئة مرفوعة الرأس من امتحان الصدق الذي تحدثت عنه في بداية كلمتي. لقد مرّت التعبئة بامتحان في الحرب المفروضة و في الدفاع المقدس و في الفترة العصيبة التي عاشتها بلادنا. و بعد فترة الدفاع المقدس و الأحداث و القضايا التي أعقبت ذلك و إلى اليوم خرجت التعبئة دوماً ناجحة و مرفوعة الرأس من امتحان الصدق. لقد أثبتت منظومة التعبئة أنها صادقة. و طبعاً لا تتلخص التعبئة في هذا العدد الداخل في منظومة التعبئة. هناك الكثيرون قلوبهم معكم و معجبون بكم و يحترمونكم و يعرفون قدركم و هم ليسوا داخلين في منظمة التعبئة، أولئك أيضاً تعبويون. الذين يؤمنون بقيمكم و يحترمونها و يحترمون جهودكم و خدماتكم و جهادكم أولئك أيضاً تعبويون من وجهة نظرنا. التواجد في الساحة من أهم الأعمال و المهام. قدرات التعبئة قدرات كبيرة حلالة للمشاكل و العقد. ثمة في جماعة التعبئة اليوم شخصيات علمية و فنية و اجتماعية و سياسية بارزة و هناك أيضاً ناشطون اجتماعيون في التعبئة، و ليسوا قلائل التعبويون المتنفذون بين الناس. كانت التعبئة لحد اليوم مجموعة بشرية سائرة نحو النمو و الرشد و التسامي، و يجب أن يكون الأمر كذلك بعد الآن أيضاً.
ما أوصي به هو ضرورة رفع قدرات منظومة التعبئة. و ثمة إلزامات لهذا: هناك إلزامات أخلاقية و هناك إلزامات سلوكية و هناك إلزامات عملية. اللوازم الأخلاقية معناها أن ننمّي في أنفسنا الأخلاق الإسلامية الحسنة. و من هذه الأخلاق الحسنة الصبر و منها أيضاً الصفح و التجاوز، و منها كذلك الحلم و سعة الصدر و الاستيعاب، و منها التواضع. يجب أن ننمّي و نعزّز هذه الخصال في أنفسنا. و اللوازم السلوكية هي أن نستخدم هذه الأخلاق الحسنة في التعامل مع الناس و في العمل و في التواصل مع البيئة المحيطة بنا و مع المجتمع و الناس. كان الإمام الصادق (عليه الصلاة و السلام) يقول لأصحابه: تعاملوا مع الناس بحيث يقول كل من يراكم إن هؤلاء هم أصحاب الإمام الصادق (13) فرحمة الله على الإمام الصادق، و تكونوا بذلك مبعث ثناء و حمد. سلوك كل واحد منكم أيها التعبويون الأعزاء و أنتم أيها الشباب الطاهرون و ذوو القلوب النقية النيّرة، سلوك كل واحد منكم مع الناس - و الكثيرون من الناس كما سبق أن قلت هم تعبويون أيضاً بالمعنى الحقيقي للكلمة - يجب أن يكون بحيث يقولون إن هؤلاء هم تربية النظام الإسلامي، فتكونوا سبباً في استجلاب المحبّة و الاحترام للنظام الإسلامي و للجمهورية الإسلامية. هذه الإلزامات العملية و الجهادية و الاجتماعية مهام يجب إنجازها و العمل بها. بمعنى تعزيز و إنماء الخصال الحسنة في الذات و التعامل العطوف و الخدوم و المثير للاستحسان مع البيئة و العمل الجاد في كل الجبهات و الساحات - في جبهة العلم و في جبهة النشاطات و الخدمات الشعبية و في جبهة العمل، و في جبهة السياسة و في جبهة الإنتاج - أين ما كنتم و تواجدتم يجب أن تعملوا و نعمل بشكل جدي و دون شعور بالتعب و بعيداً عن الكسل. هذه المجموعة الهائلة العظيمة - التي يجتمع اليوم هنا عشرات الآلآف من قادتها - تستطيع أن تسير بالبلاد في كل الاتجاهات الإيجابية بالمعنى الحقيقي للكلمة، و تكون من دعائم استقراره، و سبباً في أبّهة النظام، و هي كذلك و الحمد لله. فالتعبئة اليوم مدعاة لأبّهة النظام و مبعث فخر له.
و نذكر نقطة حول القضايا الأخيرة و هذا السجال في ساحة السياسة الخارجية و القضايا النووية و الحوارات و المفاوضات و ما إلى ذلك. أولاً أنا مصرّ على دعم المسؤولين الذين يتولون تنفيذ هذه المهمة. إنني أدعم كل الحكومات و المسؤولين - المسؤولين الداخليين و المسؤولين عن الشؤون الخارجية - و هذا هو واجبنا. لقد كنتُ بنفسي مسؤولاً تنفيذياً و في وسط الساحة و شعرت بكل كياني بثقل و صعوبة العمل، و أعلم أن إدارة البلاد عملية صعبة. لذا فهؤلاء بحاجة للمساعدة، و أنا أساعدهم و أدعمهم. هذا جانب من القضية و هو أكيد و قطعي. و في الجانب الآخر أصرّ على تكريس و تثبيت حقوق الشعب الإيراني، بما في ذلك قضية الحقوق النووية. نصرّ على عدم التراجع حتى خطوة واحدة عن حقوق الشعب الإيراني. نحن طبعاً لا نتدخّل في تفاصيل هذه المفاوضات، هناك خطوط حمراء و حدود، و يجب مراعاة هذه الحدود. و هذا ما قلناه للمسؤولين و هم مكلفون بمراعاة هذه الحدود. و يجب أن لا يهابوا ضجيج العدو و عنتريّات المعارضين.
يجب أن يعلم الجميع أن هذا الحظر الذي يفرض على الشعب الإيراني ناجم في أغلبه عن حقد الاستكبار الأمريكي.. إنه حقد أمريكي متأصّل و متجذّر. يريدون الضغط على شعب إيران على أمل أن يستطيعوا فرض الاستسلام عليه. و هم مخطئون.. الشعب الإيراني لا يستسلم لأي أحد بفعل الضغوط. إنكم لم تعرفوا هذا الشعب. هذا الشعب شعب يستطيع بحول الله و قوّته تحمّل الضغوط و الصبر عليها و تبديل تهديداتكم و ضغوطكم إلى فرص لنفسه. هذا ما سيفعله الشعب الإيراني بتوفيق من الله.
لقد كانت لدينا نقاط ضعف في قراراتنا و برامجنا الاقتصادية. و قد أدّت نقاط الضعف هذه إلى شعور العدو بإمكانية تغلغله عن طريق الحظر و ما شابه. و هذه فرصة بالنسبة لنا كي نعرف نقاط ضعفنا هذه و نرفعها و سوف نرفعها إن شاء الله. و الحظر غير مجد لأمريكا.. ليعلموا هذا و أخال أنهم يعلمونه. السبب في قولي إنهم يعلمون أن الحظر غير مجد هو أنهم يضيفون له التهديدات العسكرية. و لو كان بوسع الحظر أن يحقق لهم أهدافهم فلماذا يهدّدون عسكرياً؟ هذا يدل على أن الحظر لا يحقق لهم أهدافهم و مقاصدهم و هو غير مجد و لا نافع، لذلك يضطرون للتهديدات العسكرية، و تهديداتهم العسكرية هذه بالطبع عمل مقزّز و كريه جداً. يهدّد رؤساء جمهوريتهم تباعاً. بدل التهديدات العسكرية ركّزوا على اقتصادكم المنهار فرمّموه، و افعلوا ما من شأنه أن لا تتعطل حكومتكم خمسة عشر أو ستة عشر يوماً. اذهبوا و أدّوا قروضكم، و فكّروا في تنظيم و تدبير شؤونكم الاقتصادية.
ليعلموا، و كما سبق أن قلنا، أن الشعب الإيراني يحترم كل شعوب العالم «اِمّا اَخٌ لَكَ فى دينِك اَو شَبيهٌ لَكَ فى خَلقِك» (14)، لكن تعامل الشعب الإيراني مع المعتدي و المتطاول تعامل يبعث على ندمه. سيوجّه للمعتدي صفعة لا ينساها أبداً. يرون أنفسهم مضطرين مقابل الكيان الصهيوني و مقابل الشبكة الرأسمالية الصهيونية أن يقولوا بعض الأحيان شيئاً، و هذا مدعاة هوانهم و ذلتهم. الكيان الصهيوني في الواقع كيان أركانه مهزوزة بشدة، و هو كيان محكوم عليه بالزوال، لأنه كيان مفروض بالقوة و العسف، و ما من ظاهرة أو موجود يظهر و ينوجد بالقوة و العسف و يمكن أن يستمر، و هذا الكيان أيضاً لا يمكن أن يستمر. دفاع المدينين بشكل من الأشكال للشبكة الرأسمالية الصهيونية عن هذا الكيان الصهيوني البائس، مدعاة لإراقة ماء وجوههم. و بعض الأوربيين للأسف يتملقون و يذهبون مقابل هذه الكائنات التي يستحيف المرء أن يسمّيهم بشراً - فهؤلاء الساسة و الرؤساء في الكيان الصهيوني يشبهون الوحوش حقاً و لا يمكن تسميتهم بشراً - و يتملقونهم و يهينون أنفسهم و يهينون شعوبهم. اكتسب الشعب الفرنسي ذات يوم اعتباراً سياسياً بسبب أن رئيس جمهورية فرنسا في ذلك الحين لم يسمح لبريطانيا بدخول السوق الأوربية المشتركة لأن بريطانيا تابعة لأمريكا و تدور في فلكها، و هذا ما أكسب فرنسا اعتباراً و مكانة سياسية حيث ارتفع رصيد الحكومة الفرنسية في العالم يومذاك لأنها وقفت بوجه أمريكا و لم تسمح لبريطانيا المرتبطة بأمريكا الدخول في السوق الأوربية المشتركة. هكذا يكتسب الشعب اعتباره. و الآن يذهب ساسة نفس ذلك البلد لا مقابل أمريكا بل في مقابل الصهاينة المشؤومين الأنجاس و يبدون الصغار و التواضع، و يتسببون في مهانة الشعب الفرنسي و ذلّته، و هذا ما يجب أن يعالجونه بأنفسهم طبعاً.
و أقول كلمة لكم أيها الشباب الأعزاء.. اعلموا أيها الشباب أن المستقبل المشرق و المفعم بالأمل لهذا البلد و هذا النظام هو لكم و سوف تستطيعون أن تبلغوا ببلادكم و شعبكم ذروة الفخر. سوف تستطيعون بتوفيق من الله تكوين نموذج كامل للحضارة الإسلامية الجديدة على هذا التراب و الوطن. و من أجل أن تستطيعوا النهوض بهذه الواجبات الكبرى يجب أن تعززوا الدين و التقوى و العفاف و الطهر الروحي في أنفسكم أكثر فأكثر. الشاب اليوم بحاجة إلى الدين و التقوى و العلم و الحيوية في العمل و الأمانة و العفة و أداء الخدمات الاجتماعية، و يحتاج إلى الرياضة.. هذه هي الخصال التي يحتاجها الشاب اليوم، و ستتوفقون أيها التعبويون الأعزاء إن شاء الله للنهوض بهذه المهمة.
اللهم بحق محمد و آل محمد أنزل بركاتك على هذه الجماعة و على كل التعبويين. اللهم ارفع شعب إيران يوماً بعد يوم إلى قمم الشموخ. اللهم بمحمد و آل محمد أرض روح الإمام الخميني الطاهرة عنّا و عن هذه الجماعة، و أرض أرواح الشهداء المطهرة عنا. اللهم بمحمد و آل محمد أرض القلب المقدس لإمامنا المهدي المنتظر عنا، و عجّل في فرجه و اجعلنا من أعوانه و المجاهدين معه، و المستشهدين بين يديه.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

الهوامش:
1 - اللهوف، ص 146 ، الاحتجاج، ج 2 ، ص 303 .
2 - سورة المنافقون، شطر من الآية 8 .
3 - اللهوف، ص 160 .
4 - سورة الأحزاب، الآية 7 ، و شطر من الآية 8 .
5 - سورة الأحزاب، الآية 23 و شطر من الآية 24 .
6 - سورة الأحزاب، شطر من الآية 8 .
7 - سورة الأحزاب، شطر من الآية 15 .
8 - سورة الأنفال، شطر من الآية 16 .
9 - سورة النحل، شطر من الآية 90 .
10 - من الكتاب رقم 53 في نهج البلاغة .
11 - بتاريخ 03/04/1390 هجري شمسي الموافق لـ 24/06/2011 ميلادي.
12 - للكاتب الأمريكي المعاصر أليكس هايلي.
13 - من ذلك: الكافي، ج 2، ص 233 .
14 - من الكتاب رقم 53 في نهج البلاغة .