بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الجلسة جلسة جد محببة و طيبة بالنسبة لي. قيل الكثير حول نجاحات الحوزة العلمية - سواء الحوزات العلمية المباركة في قم، أو الحوزات العملية الكبيرة الأخرى مثل حوزات مشهد و إصفهان - و هناك معلومات كثيرة عنها في الأذهان، و ثمة بشائر عديدة، و لكن يبدو لي أن ما شاهدته هذه الليلة في هذه الجلسة أحبّ و أطيب و أقرب للتصديق من كل ما سمعته في هذا المضمار. هذا الجيل الذي يترعرع حالياً في الحوزات العلمية - و نموذجه هؤلاء السادة الذين تحدثوا هنا و السيدة التي تحدثت - سيستطيع دون ريب النهوض بالأعمال الكبرى التي نتوقعها من حوزة العلوم الدينية، شريطة أن لا تنتكس هذه المسيرة، بل تتكامل و تتقدم إلى الأمام يوماً بعد يوم.
من الاقتراحات التي قدمتُها طوال هذه الأعوام بخصوص الحوزة العلمية، سواء في المحافل العامة أمام طلبة العلوم الدينية و الفضلاء و المدرسين في الجلسات التي كانت لنا معهم، و شارك فيها المئات و أحياناً الآلآف من الأفراد، أو في الجلسات المصغرة و الخاصة التي كانت لنا مع بعض المسؤولين و الشخصيات البارزة في الحوزة أو مراجع الدين أو الفضلاء، حيث طرحتُ دوماً اقتراحات معينة، الكثير منها لم يتحقق لحد الآن، أو تحقق بشكل منقوص و لا يزال في منتصف الطريق، لكن كل ما تحقق كان نابعاً من الحركة الملحمية الذاتية الدينية و العلمية الناجمة عن الثورة الإسلامية، و من بركات الثورة الإسلامية، و يعود الفضل و الثواب فيها إلى الروح الطاهرة لإمامنا الخميني الجليل، و نحن نشاهد و نرى أن هناك مكتسبات قد أنجزت. الكثير من تلك النظرات الإصلاحية لم تتحقق لحد الآن، لكن الإنتاج و النوعية و الطاقات الإنسانية النخبوية هي في هذا المستوى الذي نشاهده اليوم. و قد لاحظتُ نموذجاً لذلك الليلة في كلمات السادة و شعرت بالارتياح حقاً. كما لاحظت نماذج أخرى لذلك في بعض اجتماعات الفضلاء الذين كانت لهم لقاءاتهم معي. كان هناك قبل سنة أو سنتين لقاء مع جماعة من الفضلاء الباحثين في العلوم العقلية - الفلسفة و العرفان و المنطق و ما إلى ذلك - و لاحظت هذا الشيء هناك أيضاً. و الفضلاء ذوو التواصل و العلاقات بالجامعات التقت جماعة منهم بي، و هناك أيضاً تكوّن لديّ نفس هذا الانطباع و التصور الذهني. هذه نقطة على جانب كبير من الأهمية. أي إن إمكانيات نمو و تطور الطاقات الإنسانية و العلمائية في الحوزة العلمية يبدو على هذا المستوى. هذا المناخ و الأجواء تقتضي مثل هذا الشيء، و نحن لم نصل بعد إلى ذلك الطور، و مع هذا فالوضع على هذا النحو، فإذا وصلنا فستكون بركات و فوائد ذلك عدة أضعاف و ربما عشرة أضعاف. هذه هي النقطة الأولى التي أردت الإشارة لها.
طبعاً كنتُ قد سجلتُ بعض النقاط لأطرحها عليكم هنا، و لكن لا ضرورة لذلك، و لا يوجد متسع من الوقت، و حتى لو كان ثمة وقت لم تعد ثمة ضرورة لطرحها، لأن الكثير من هذه النقاط التي كانت في ذهني ذُكرت على ألسنتكم. و هذا شيء لافت و جميل جداً بالنسبة لي أن أرى أن هذه النقاط و الأفكار معتمل في أذهان الإخوة أيضاً. أذكر فقط فكرتين أو ثلاثاً باختصار حتى لا يدركنا الوقت كثيراً.
الفكرة الأولى هي أن الحوزة باعتبارها كلاً له أجزاؤه أشبه بالكائن الحي. أي إن له رشده و نموه، و له انتكاساته و تحركه و نشاطه، و له جموده و ركوده و حياته و مماته. إنه كائن حي. و الدليل على ذلك هو تاريخ الحوزات العلمية. حوزة علمية من قبيل الحوزة العلمية في الحلة في القرن السابع للهجرة على سبيل المثل - خلال القرن السابع للهجرة أو أواخر القرن السادس و القرن السابع حتى أوائل القرن الثامن للهجرة - كان فيها على ما يظهر قرابة عشرين أو خمسة و عشرين عالماً كبيراً أحدهم المحقق الحلي، و أحدهم والد العلامة، و منهم ابن سعيد صاحب «جامع الشرايع» - يحيي بن سعيد الحلي - و شخصيات من هذا القبيل. هذه حوزة الحلة. حوزة الحلة غير موجودة في الوقت الراهن. و حوزة النجف كانت ذات يوم و أصابها الركود بعد رونقها الأول. لم يكن في حوزة النجف شخصية بارزة معروفة، ثم جاء تلامذة الوحيد البهبهاني من أمثال بحر العلوم و كاشف الغطاء فازدهرت تلك الحوزة ازدهاراً اعتقد معه أن جهودهم لا تزال على مدى مائتي سنة تغذّي حوزة النجف. فنونهم الفقهية و عمق أعمالهم بثّ النشاط و الحيوية في الحوزة، و بقيت حية متفاعلة إلى الفترة الأخيرة و الحمد لله.
لم تكن حوزة قم، إنما كانت حوزة باهتة ضعيفة بعد ذلك الرونق الذي شهدته في عهد أسبق. و جاء الشيخ الحاج عبد الكريم الحائري (رضوان الله تعالى عليه) فاحتيت الحوزة. هكذا هي الحوزة العلمية. لا تنظروا إلى اليوم فثمة غد. كيف سيكون ذلك الغد؟ هذا ما يجب أن ترسموه أنتم اليوم.
إذا أبدى المدراء و الخبراء و الأساتذة و المبرّزون اليوم، و هم أركان الحوزة، الهمم، و فكروا بطريقة صائبة و برمجوا و خططوا، فستكون الحوزة بعد عشرين سنة أفضل من حاضرها بكثير من حيث المستوى و العمق و العرض و الطول و التنمية و الكمية. و إذا لم نستعد الآن للمستقبل فلن يحصل هذا، و لن يكون من الأكيد أن تكون حوزة قم في المستقبل بنفس هذا العرض و الطول و الأبعاد الحالية. هناك مبرّزون و باحثون و علماء جيدون و فقهاء و فلاسفة يخرجون من الحوزة و يذهبون - ننقصها من أطرافها - و يجب أن ينمو و ينضج أفراد آخرون ليحلوا محلهم و يقوموا بأكثر مما قام به أسلافهم. إذا كان هذا الاستعداد للمستقبل كان الغد طيباً حسناً. و إذا لم يحصل هذا الاستعداد للمستقبل في الحوزة العلمية في قم اليوم و رضينا بالوضع الموجود و بأن ندير الحوزة حالياً كيف ما اتفق، إذا قنعنا بهذا فإما أن لا يكون لنا في المستقبل حوزة أو ستكون لنا حوزة سائرة نحو الأفول و التدهور.
إننا اليوم نفكر بالزمن الذي لن يكون لبلدنا فيه نفط، و تكون الطاقة طاقة غير نفطية. بلد ليس فيه نفط، و ربما لن يعود هناك نفط حتى في المناطق الأخرى من العالم. العالم يفكر اليوم بالطاقة في ذلك اليوم. و نحن أيضاً رغم هذه المشكلات التي تلاحظونها نقف لتأمين الطاقة في ذلك المستقبل. إذا لم نفعل هذا فلن نكون على قيد الحياة يوم ينفد النفط، لكن الآثار و التبعات السيئة لأعمال اليوم ستكون موجودة و مؤثرة في ذلك اليوم. سنكون مسؤولين عن ذلك الوضع. ينبغي تكريس هذه الأفكار في الحوزة. مدراء الحوزة و الشورى العليا في الحوزة و كبراء الحوزة و أصحاب السماحة المراجع يجب أن يعلموا هذا الشيء و يهتموا به، أي يهتموا بما ستكون عليه الحوزة في قم و إصفهان و مشهد و باقي المدن بعد عشرين سنة و ثلاثين سنة. ما معنى بعد ثلاثين عاماً؟ معناه عالم قد لا يكون له أي شبه بعالم اليوم من حيث إمكانيات التأثير و النفوذ إلى القلوب و فتح المساحات و الأقاليم. قبل عشرين سنة لم تكن تقنيات المعلومات التي تحدث عنها هذا السيد العزيز هنا على أحسن نحو؛ كانت شيئاً بسيطاً جداً و لاحظوا ما هي عليه في الوقت الحاضر!
عندما نفكر في ذلك الزمن الماضي بيومنا هذا فلن نعيش الآن في فراغ. لو ذهبنا اليوم إلى أيّ بيت أو مدرسة أو زاوية، أو على حد تعبير أحد السادة أي قرية لوجدنا فيها شيئاً من تقنيات المعلومات، فهل تريد الحوزة العلمية أن تبقى متأخرة؟ و قارنوا هذا بما بعد ثلاثين عاماً، طبعاً بسرعة أكبر. بمعنى أن سرعة العلم خلال هذه الأعوام العشرين التي مضت لا شك أنها أقل بكثير من سرعة العلم و تقدم العلوم و التقانة خلال الأعوام العشرين أو الثلاثين القادمة.
في ذلك اليوم قد يستطيع أصحاب الأفكار المتنوعة و المدارس المختلفة و النحل المنحرفة و ذوو الأغراض الفاسدة أن يسيطروا بسهولة على صفوف جامعاتكم و مدارسكم و أبنائكم في بيوتكم، و لا تستطيعون فعل شيء. على الحوزة العلمية أن تفكر بذلك اليوم. المسؤول هو الحوزة العلمية. رجال الدين هم المسؤولون عن تدين الناس. و رجال الدين نتاج و صنيعة الحوزة العلمية. قدّروا المسؤولية بهذه النظرة. لنضع المسؤولية في مثل هذا الميزان لنفهم ما هي الأعباء الثقيلة الملقاة على عواتقنا. هذه نقطة تتعلق بالنظر للمستقبل و تقديره.
من القضايا التي تطرح هي أن تعملوا على إدارة التحول و التطور. لاحظوا أيها السادة و الأخوات الأعزاء! التحول مما لا يمكن اجتنابه. التحول من الطبيعة و هو سنة الخلقة الإلهية. هذا ما طرحتُه و قلتُه مراراً. التحول سوف يحصل. طيب، لنفترض وحدة أو كائناً لا يرضخ للتحول. إنه لن يخرج عن حالين: إما أن يموت أو يعزل. إما أن لا يجد مجالاً للحياة وسط صخب الأوضاع المتحولة، فينسحق تحت الأرجل و الأيدي و يموت و يتدمر، أو إذا عاش فإنه سوف يعيش في عزلة. كما يعيش ذلك الإنسان الغابي الذي قرأنا عنه في الصحف اليوم أو بالأمس أو قبل أيام قليلة. إنسان غادر قبل أربعين عاماً إلى غابات مازندران و ليس له مع البيئة التي تحيط به سوى علاقات طفيفة جداً. إنه إنسان معزول. يمكن المغادرة و الابتعاد عن التحول و لكن بعزلة. إذا أرادت الحوزة أن تتهرب من التحول فسوف تنعزل، هذا إن بقيت على قيد الحياة و لم تمت. طبعاً الرصيد الديني يمنع موتها لكنها سوف تنعزل، و سوف تزداد عزلة يوماً بعد آخر.
التحول حالة حتمية، بيد أن للتحول طرفين: تحول في الاتجاه الصحيح و الصائب، و تحول في اتجاه الباطل و الخطأ. علينا أن ندير التحول بحيث يتجه في الاتجاه الصحيح. هذا هو واجب المؤثرين في الحوزة العلمية. ينبغي أن تنصبّ همم مدراء الحوزة و فضلاؤها و خبراؤها على هذا. ينبغي عدم التهرب من التحول. و قد ذكرتم الآن أيها السادة أشياء عن منهج التعليم و أسلوب البحث و طرائق قبول الطلبة و الكتب الدراسية، هذه كلها تحتاج إلى تحول. لا تقولوا كانت هناك حاجة قبل عشرة أعوام و خمسة عشر عاماً و وضعنا البرامج. حسناً، تلك البرامج كانت لما قبل عشرة أعوام، و لاحظوا الآن ما هي الأشكال الأكثر تكاملاً لهذه البرامج. هذا هو معنى التحول، معناه العصرية و التقدم إلى الأمام في الوقت المناسب، و عدم التأخر عن الأحداث. طبعاً تأخرت الحوزات العلمية في الزمن المعاصر بعض الشيء عن العصر بصورة طبيعية. بالطبع لا يقع الذنب في ذلك على أحد بعينه، لأن ظهور الثورة و سرعة التطورات الناجمة عن ظهور هذا البرق الهائل في المجتمع، جعل كل شيء يتأخر. الاستنارة في مجتمعنا أيضاً بقيت متأخرة. و جامعاتنا أيضاً متأخرة عما يجب أن تكون عليه. و الحوزات العلمية متأخرة أيضاً. أي إننا متأخرون عمّا يناسب تطورات مجتمعنا و عن هذا التحول العظيم الذي ظهر و ترك تأثيراته في كل الأطراف المحيطة به و على مختلف المستويات و إلى أعماق عميقة. و الحوزة بدورها متأخرة بعض الشيء، لكن بوسعها تعويض هذا التأخر بسيرها بالسرعة اللازمة و بالجد اللازم.
ينبغي تقبل التحول و إدارته. و يجب الحذر بدرجة عالية. لاحظوا أنه طرحت هنا قضية الشهادات الدراسية، و قد كنتُ منذ البداية من المدافعين عن وجود شهادات دراسية حوزوية مستقلة، و الآن أيضاً أصرّ على هذا الشيء. يجب أن يكون للحوزة العلمية شهاداتها الدراسية النابعة من اعتبارها الخاص و ليس من اعتبارات وزارة العلوم و التعليم العالي، لأن اعتبار الحوزة أعمق و أثبت و أهم من اعتبار أية وزارة. لتمنح الحوزة العلمية شهاداتها على أساس اعتبارها. و ليجعلوا أسماء الشهادات ما شاءوا. اعترض بعض الأعزاء و قالوا لماذا تتهربون من أسماء الدكتوراه و الماجستير و تجعلون الأسماء: السطح الثالث و السطح الرابع. أنا لا أناقش في هذه الأمور. اجتمعوا أنتم و ناقشوا هذه الأمور و سيكون الصحيح ما تقررونه و تصلون إليه. لكنني أؤيد أساس وجود شهادات، بيد أن عبادة الشهادات هي آفة الشهادات. إنه لعيب كبير أن يدرس طالب العلوم الدينية من أجل الشهادة الدراسية. هذا هو الخط الوسط للتحول. هذه هي إدارة التحول في مجال الشهادات. امنحوا شهادات و لكن تجنبوا عبادة الشهادات التي اعتبرناها دوماً من عيوب التعليم الحديث. هذا نموذج.
و قضية الكتب الدراسية التي طرحها السادة صحيحة تماماً. لقد طرحتُ في قم - في إحدى زياراتي و لا أتذكر على وجه التحديد متى كان ذلك، و قد قال أحد السادة قبل عشرة أعوام؛ أنا لا أدري، و كنتُ أتصور أن الأمر كان قبل ثلاثة أو أربعة أعوام - في اجتماعي بالفضلاء قضية الكتب الدراسية و تغييرات الكتب الدراسية، و قد تلقيت الانعكاسات و الردود فوراً على شكل معارضات! و طبعاً لم تكن هذه المعارضات غائبة عن بالي، فقد كنت على علم بأن البعض سوف يعارضون هذه القضية. تغيير الكتب الدراسية شيء ضروري و يجب أن تتغير الكتب الدراسية بالتأكيد. هذا مما لا شك فيه. سجلتُ هنا الدليل الذي ساقه أحد إخواننا، و هو دليل جد رصين و ناهض فحواه إننا لو قررنا عدم تغيير الكتب الدراسية لوجب أن ندرس «المعالم»، و ما كانت هناك حاجة إلى كتابة «القوانين» و لا كتابة «الرسائل» و لا كتابة «الفصول» و لا كتابة «الكفاية». هذا صحيح، و كذا هو الوضع حالياً. الآن أيضاً يجب تغيير الكتب الدراسية. ينبغي أن نعمل ما من شأنه أن يكون همّ الطالب و غمّه فهم الفكرة و ليس فهم العبارة. ليس بميزة إطلاقاً أن نتخذ عبارات و جملاً مغلقة و غامضة - و قد لا نتخذها مغلقة غامضة تعمداً بل تأتي غامضة نتيجة عدم اكتراثنا و لامبالاتنا - بحيث ينفق الطالب جزءاً مهماً من وقته لمجرّد فهم العبارة. أية ميزة في هذا الشيء؟ و أية جاذبية و لطافة في هذا الشيء؟ و أيّ خير يكمن في هذا الشيء؟ لا، لنعبّر عن الأفكار بعبارات واضحة بحيث يفهمها القادر على فهم الفكرة بسهولة، و لا يقع الأستاذ في مشكلة عند تفهيم العبارة و إنما يطرح الفكرة فقط.
لنبدل «الكفاية» إلى «الكفاية الجديدة»، ما الإشكال في ذلك؟ ليسهّلوا «المكاسب» التي ينتهج فيها الشيخ الأنصاري أسلوب التردد و الذهاب و الإياب الاجتهادي للتعبير عن الفكرة، فالمكاسب بالتالي دروس البحث الخارج للشيخ الأنصاري و يجب عدم الاستهانة بها، و من الآن مثل الشيخ الأنصاري؟ كتبوا كل هذه المكاسب. هذه الدروس التي ظهرت بشكل مدوّن مكتوب هي جيدة بالنسبة للذين حضروا تلك الدروس التي ألقاها الشيخ الأنصاري، فتتنقل الأفكار دوماً هذا الصوب و ذاك الصوب، و تبتدع الاحتمالات باستمرار، و لكنها ليست كذلك بالنسبة لمن يريد دراسة الفقه الاستدلالي و تعلمه اهتداءً بالنصوص، فهي تعرّض الطالب لمشاكل. ليأخذوا أفكار الشيخ الأنصاري نفسها و يصبّوها في قالب كتاب آخر، و لكن بطريقة بيّنة واضحة. ليبينوا بحوث الشيخ الأنصاري في كل مسألة من المسائل بأسلوب جلي محبّب، و لكن ليتعبدوا و يتقيدوا بما عرضه الشيخ الأنصاري. ليبينوا آراءه في كتاب جديد. و سيكون هذا الكتاب «المكاسب الجديدة» و هو شيء لازم. هذه هي عقيدتي، و قد لا يستسيغها مسؤولو الحوزة و مدراؤها و بعض المبرّزين فيها، و لا يتم إنجاز المشروع، لكن هذا الشيء سيحصل بلا شك في يوم من الأيام. طيب، هذا أحد جوانب القضية.
الجانب الآخر قلنا إن التحول يجب أن يدار و يبرمج. ينبغي التدقيق و الحذر من تخفيف و تقليل الرصيد العلمي، إذ يجب عدم الهبوط بمستوى أفكار الشيخ الأنصاري، و عدم الانحدار بمستوى أفكار الآخوند الخراساني في الأصول. لا يسبح طلبتنا في فراغ معرفي بخصوص هذه المباني التي تعد اليوم عناصر مهمة و مؤثرة في فقهنا و أصولنا. يجب أن لا يجول الطلبة في فراغ. لتكن العبارات عبارات صحيحة و جيدة و عربية. عندما ألاحظ بعض الكتابات الحوزوية أجد أننا نعاني بعض النواقص من هذه الناحية. الكتابة الرصينة المتينة التي تسلك طريقها إلى الأروقة العلمية الإسلامية - لأنها بلغة عربية و اللغة العربية هي لغتنا العلمية و الجميع يمكنهم استخدامها - كعمل مميز و معروف، يجب أن لا تكون فيها أخطاء لفظية و نصوصية و إنشائية. إذن، التحول مما لا مناص منه. و قد كانت هاتان النقطتان أو الثلاث نماذج للتحول، و ثمة الكثير من النماذج و الحالات الأخرى، و قد ذكرتم أيها الأعزاء الكثير منها في كلماتكم، و هي موضع تأييدي. يجب إدارة هذا التحول.
و ثمة نظرات حول التشكيلات و التنظيم و الإدارة. لقد طرح الأعزاء بعض الاقتراحات من قبيل كتابة نظام داخلي أو أفق. هذه اقتراحات تضمنتها كلمات السادة، و كلها جيدة و صحيحة، بيد أن أياً منها غير متاح من دون إدارة جيدة. مفتاح كل الخطوات و المشاريع الإيجابية المنظمة التي يمكن توقع إثمارها و بروز نتائجها و يمكن للمرء أن يتفاءل بقطف ثمارها، هو الإدارة.
علينا استكمال الإدارة في الحوزة العلمية. و لحسن الحظ فإن قضية الشورى العليا للإدارة و قضية مؤسسة إدارة الحوزة أمور جرى الاتفاق عليها في الأعوام الأخيرة، و اتخذت خطوات، و أنتم ترون فوائد هذه الخطوات و خيراتها. و قد اطلعت هذه الليلة من كلمات السادة على أن هناك في الحوزة العلمية إثني عشر اتحاد تخصصي؛ اتحاد علمي تخصصي. و هذا شيء لافت جداً. و لم أكن أعلم به: اتحاد علمي اقتصادي، و اتحاد لعلم النفس، و اتحاد لعلم الرجال، و اتحاد علمي تاريخي. طبعاً كنت على علم ببعض هذه الاتحادات. هذا هو عمل الإدارة. إذا لم تكن هناك إدارة لما حصل مثل هذا. و لكن ينبغي عدم الاكتفاء إطلاقاً بما تمّ لحد الآن من تنظيم و مؤسسات في الحوزة. لدينا نواقص. أولاً الشورى العليا - و لا أدري هل السادة أعضاء الشورى العليا موجودون هنا أم لا - يجب أن تهتم اهتماماً كبيراً بالتخطيط و رسم السياسات. التخطيط هو أهم عمل في المراحل الأولى و الأطوار الأصولية في الحوزات العلمية. و لهذا التخطيط أبعاد متنوعة. أولسنا نقول إننا نروم إنتاج العلم و التقدم إلى الأمام، طيب، أيّ علم؟ و ما معنى تقدم علم الفقه؟ و ما معنى تقدم علم الأصول؟ و ما معنى التقدم البطيئ؟ و ما هي اتجاهات هذا التقدم و نحو أية أهداف؟ هذه كلها أسئلة تحتاج إلى إجابات. السياسات و البرامج التي توضع في الشورى العليا تجيب عن هذه الأسئلة. هذا هو التخطيط. ينبغي رسم آفاق مشرقة لمستقبل الحوزة العلمية. كما تم تدوين أفق عشريني لقضايا البلاد تعالوا و ارسموا أفقاً لعشرين عاماً أو عشرة أعوام للحوزة العلمية. هذه من مهمات الشورى العليا في الحوزة العلمية.
طيب، متى تستطيع الشورى العليا القيام بهذه الأعمال؟ عندما يخصص الأعضاء المحترمون في الشورى العليا الوقت الكافي لهذا العمل، و يتفرغون لهذه المهمات، و لا تكون عضويتهم في الشورى العليا للحوزة العلمية شأناً فرعياً إلى جانب شؤونهم الأصلية. لاحظوا كيف تعمل إدارة جامعة من الجامعات، أو كيف توضع سياسات مؤسسة أو جهاز من الأجهزة؟ حوزة علمية بهذه العظمة - سواء حوزة قم أو حوزة مشهد أو حوزة إصفهان - لا يمكنها أن تدار بطريقة هامشية. يجب أن يخصصوا الوقت الكافي. هذا أولاً.
ثانياً يجب أن تتوفر هيكلية تخصصية جدّ قوية. و لحسن الحظ فإن هذه الهيكلية التخصصية - أنتم أنفسكم، السادة الذين تحدثوا هذا الليلة و الكثيرون غيركم ممن لم يتحدثوا و ربما الكثير من الأشخاص من الفضلاء الشباب ذوي الأفكار الجيدة في الحوزة العلمية - متوفرة لدينا. هؤلاء يشكلون بلا مراء هيكلية خبروية و تخصصية مكتفية ذاتياً. إننا من حيث قضايا الحوزة لا نحتاج إلى أشخاص آخرين على الإطلاق، و يمكن الاستعانة بهؤلاء الفضلاء أنفسهم. طبعاً ينبغي لهذه الهيكلية التخصصية أن تعمل و تجد و تسعى. هذه من الأعمال التي بوسع الشورى العليا أن تقوم بها.
و إلى جانب تشكيلات الحوزة و مؤسساتها و الشورى العليا، هناك قضية مؤسسة إدارة الحوزة، و هي قضية على جانب كبير من الأهمية. ينبغي بالتأكيد وجود شورى تخطيط و برمجة للحوزة. نفس هذا الشيء الذي ورد في كلمات السادة، و قالوا إن البرامج في بعض الأحيان غير متناسقة. أو ما قالته أختنا بخصوص البرامج و الخطط الخاصة بالسيدات من أن البرامج غير مرنة على المستويات المختلفة. هذه إشكالات واردة تماماً. من الذي بمقدوره رفع هذه الإشكالات؟ هيئة برمجة و تخطيط عارفة و مطلعة على تطورات البرمجة و التخطيط الحديثين.
البرمجة و التخطيط اليوم عملية علمية، شأنها شأن سائر الأعمال العلمية. ليست فناً ذاتياً و قريحة فقط. و طبعاً القريحة بدورها ليست عديمة التأثير، لكنها اليوم عملية علمية. ينبغي الانتفاع من الذين يمتلكون هذا التخصص، فيستعان بهم في هذه الهيكلية التخصصية لغرض التخطيط و البرمجة.
من الأعمال اللازمة في تنظيم الحوزة القيام بإحصائيات، و قد أشرتُ لهذا الشيء وسط كلام الأعزاء. ليست لدينا إحصائيات صحيحة عن الحوزة. و من باب أولى ليست هناك إحصائيات صحيحة عن مجموعة رجال الدين في البلاد. عدد رجال الدين في البلاد و حدود مستوياتهم الدراسية و مستويات فضلهم العلمي و قدراتهم التبليغية و تأثيراتهم في بيئاتهم، هذه أمور غير متوفرة أبداً في إحصائياتنا و معلوماتنا، و لم نقم بإحصائيات في هذا الباب. و القيام بإحصائيات بدوره علم من العلوم. القيام بإحصائيات من الأعمال التي يجب إنجازها بكل تأكيد و البدء بها بسرعة و سوف تستغرق عدة أعوام، لكن فيها خيرات و فوائد كثيرة جداً. ينبغي أن نتوفر على إحصائيات لطلبة الحوزات و مستوياتهم و درجات استيعابهم للدروس و تقدمهم الدراسي، و بهذا سنعلم ما هذه المجاميع موضوع عمل إدارة الحوزة، و مع أيّ أفراد و مجاميع تريد التعامل. لدينا أيضاً هذا النقص، و يأتي عقب الإحصائيات نظام التقييم. هذا أيضاً من الأمور التي تطرح في قضية التنظيم و الإدارة.
من الأمور التي من الضروري جداً أن أشير لها قضية التحرر الفكري التي وردت في كلمات بعض السادة. لماذا لا تتشكل كراسي التحرر الفكري في قم؟ ما الإشكال فيها؟ لقد كانت حوزاتنا العلمية دوماً أقطاباً و مهداً للتحرر الفكري العلمي، و لا نزال إلى اليوم نفخر بها و لا نجد لها نظيراً في الأروقة التدريسية الأخرى، أن يُشكِل التلميذ على أستاذه و ترتفع الأصوات، و مع ذلك لا يستشم الأستاذ من تلميذه روح العدوان و الأغراض غير العلمية. يسجل الطالب إشكالاته بحرية و لا تمنعه من ذلك أية اعتبارات بخصوص مكانة الأستاذ. و الأستاذ بدوره لا ينزعج أبداً من هذا الشيء. هذا شيء مهم للغاية. طيب، هذا بالنسبة لحوزاتنا. كان في حوزاتنا العلمية أكابر و شخصيات جليلة ساروا في مناهج و مشارب متعددة في الفقه، و كذلك في ميادين أكثر جذرية، فكان هناك الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء. عاش هؤلاء إلى جانب بعضهم و عملوا مع بعضهم. هذه هي سوابق حوزاتنا العلمية. أحدهم لديهم مبنى علمي و الآخر لا يوافقه عليه. لو اطلعتم على سير العلماء و المبرزين و حيواتهم لشاهدتم هذه الحالات.
كان المرحوم صاحب «الحدائق» في الموقف المقابل للمرحوم الوحيد البهبهاني، و كلاهما عاش في كربلاء، و كانا متعاصرين و يتباحثان مع بعضهما. ذات ليلة انطلقا في نقاش حول مسألة معينة في الحرم الطاهر للإمام الحسين (سلام الله عليه). بقي هذان العالمان واقفين - و قد كان الوحيد البهبهاني شاباً تقريباً بينما صاحب الحدائق شيخ - يتناقشان إلى أذان الصبح! كانا يتباحثان و يتنازعان، لكنهما كانا سوية و لكل منهما دروسه. سمعتُ أن تلامذة الوحيد - و كان الوحيد شديد التعصب ضد الإخباريين - من قبيل صاحب الرياض و آخرين من تلامذة الوحيد كانوا يشاركون في دروس صاحب الحدائق! هكذا كان الحال، علينا رفع مستوى التحمّل و الإطاقة في الحوزة العلمية. على كل حال أحدهم له منحى فلسفي، و الآخر له منحى عرفاني، و الثالث له مشرب فقهي، و قد لا يعترف أحدهم بالآخر و لا يقبله. ذكرتُ قبل أشهر في مدينة مشهد أن المرحوم الشيخ مجتبى القزويني (رضوان الله تعالى عليه) كان ينحو منحى مضاداً لفلسفة الحكمة المتعالية لصدر المتألهين - و كان شديد التعصب ضد هذه الفلسفة - و الإمام الخميني (رضوان الله عليه) كان خلاصة و زبدة هذه المدرسة الصدرائية، و ليس في جانبها الفلسفي بل في جانبها العرفاني أيضاً. طيب، المرحوم الشيخ مجتبى القزويني لم يكن يعترف بالإمام الخميني و حسب، بل و كان يروّج دوماً للإمام الخميني. كان يروّج للإمام الخميني. قام من مشهد و سافر إلى قم للقاء بالإمام الخميني. و كان المرحوم الميرزا جواد الطهراني في مشهد من خيرة أنصار نفس تلك المدرسة، لكنه توجّه لجبهات القتال. كان يعارض تفسير الإمام الخميني لسورة الحمد الذي بثه التلفزيون. و قد قال لي ذلك بنفسه. هو كان يعارض ذلك التفسير و كذلك المرحوم مرواريد، لكنهم في الوقت نفسه دعموا الإمام الخميني. كانوا مختلفين معه من حيث المشرب و المنحى، و لكن من حيث العلاقة السياسية و الاجتماعية و الصداقة كانوا أصدقاء و يتحملون بعضهم بعضاً. هكذا يجب أن يكون الوضع في قم.
ثمة شخص قد يطرح رأياً فقهياً غريباً. لا بأس، لا توافقون هذا الرأي، فليتشكل كرسي تنظير و ليطرح فيه هذا الرأي و يناقش. ليأت خمسة أو ستة أشخاص من الفضلاء و ليرفضوا هذا الرأي بأدلتهم. لا إشكال في ذلك. و كذا الحال لو طرح رأي فلسفي، أو رأي معارفي أو كلامي. ينبغي محو حالات التكفير و الرمي و ما إلى ذلك من الحوزة؛ و في داخل الحوزة و بالنسبة لعلماء مبرزين كبار؛ جانب من آرائهم لا يتفق مع رأيي، و إذا بي أفتح فمي و أرميهم، هذا غير ممكن، يجب أن تبدأوا هذا من الطلبة أنفسهم. هذا شيء غير متاح إلا عن طريق الطلبة أنفسهم و تشكيل كراسي مباحثة و تنظير و إطلاق نهضة تحرر فكري سبق أن تحدثنا عنها. اجعلوا هذا عرفاً في الحوزة العلمية، و اطرحوه في المجلات و الكتابات. يطرح شخص رأياً فقهياً و يكتب شخص آخر رسالة في الردّ عليه. لا يوافقون على رأيه، اكتبوا رسالة في الردّ عليه، لا إشكال في هذا. لتكن لكم نقاشاتكم العلمية. اعتقد أن النقاش العلمي شيء جيد.
و نقطة أخرى هي المنزلة الاجتماعية للفضلاء و الأساتذة، و هي بدورها من المشكلات. و قد قدم بعض الأعزاء اقتراحاً و أطرحه أنا هنا و هو تشكيل هيئة علمية في قم، أي هيئات علمية للمستويات المختلفة و للحقول العلمية المختلفة، بحيث لو وصل الفرد إلى حد معين، و إذا تجاوز اختباراً معيناً بنجاح يصبح من أعضاء الهيئة العلمية في قم. و سيكون هذا عنواناً. و قد ذكرتُ ما يشبه هذا قبل سنين للسادة المحترمين في جماعة المدرسين، و هو أن يوسعوا من الدائرة بمقدار معين، و الظاهر أن الأمر لم يكن متاحاً كما هو المقصود، و لم يتحقق، لكنه يطرح الآن على هذا النحو.
على كل حال كثرت الأعمال في الحوزة. ما ينبغي أن يحصل، أو لم يحصل لحد الآن و يجب أن يحصل، أو حتى لو لم يكن مما يتعلق بالماضي و ينبغي أن يحصل من الآن فصاعداً، أكثر مائة مرة من الأعمال التي قمنا بها لحد الآن في الحوزة، و يمكن النهوض بهذا المائة ضعف شريطة تواجدكم و مشاركتكم و أن تشمروا عن سواعد الهمم و تنزلوا إلى الساحة، و يعمل كل واحد منكم في المجال الذي يريده و يتوفر على التخصص فيه، و سوف تنتفع مجموعة الإدارة إن شاء الله من طاقاتكم.
و قد سجلتُ بعض هذه الاقتراحات لكنها كلها قد تم تسجيلها، و أعتقد أنها جيدة جداً، و ربما كان من اللازم تدوين مجموعة هذه الاقتراحات و الكلمات التي ألقيت هنا و إصدارها في كتاب. اعتقد أن هذا عمل مناسب جداً. و يتمنى المرء أن تبث من التلفاز، و لكن، لأنني غير مطلع كثيراً على الإمكانيات و الضرورات و ما إلى ذلك، لذا لست أدري كم هذا الشيء متاح، و لا أقول ذلك، و لكن إذا حصل فهو حسن و جيد. لا أقل من أن يجتمع أعزاؤنا - سواء في المكتب هنا أو الأعزاء المرتبطون بمكتب قم - و يستخرجوا هذه الآراء و يصححوها و يشذبوها و ينشروها. هذا بحد ذاته له فوائده و بركاته، و هو خطوة جيدة.
من جملة الاقتراحات التي طرحت و راقتني و ارتحت لها أن يقيم مدراء المدارس من كافة أنحاء البلاد - مدارس الحوزات العلمية - مؤتمراً و يجتمعوا و يتبادلوا تجاربهم. هذا شيء حسن جداً.
و من الأعمال التي أعتقد أنها جيدة جداً بعض التوقعات المنتظرة من الحكومة الإسلامية و النظام الإسلامي بأشكال مختلفة. بعض هذه التوقعات ليس ممكنة عملياً على الإطلاق ما لم تتوفر للحوزة تلك المركزية المتناسقة، بمعنى أن يكون تنظيم الحوزة و إدارتها بحيث تكتمل و تتشكل إن شاء الله تلك المركزية المديرة و المفكرة و المتمكنة من الأمور و الموثوق بها من قبل الجميع، و يمكن للمرء بعد ذلك التعامل معها، لأن الكثير من هذه الاقتراحات التي طرحت تحتاج إلى إمكانيات الحوزة. مثلاً الاستفادة من فضلاء الحوزة و من أفكار الحوزة، طيب مع من يجب أن يتعاملوا و متى و كيف؟ ينبغي العمل على هذه الأمور في الحوزة إن شاء الله، و طبعاً ستصل النتائج إلى مواطنها و من واجب النظام الإسلامي أن يستفيد من الحوزة و يتعامل معها، بيد أن جانباً من التعامل المذكور متاح و ممكن الآن أيضاً.
من الاقتراحات التي تقدم بها السادة و استسغتها تأسيس مؤسسة تعليمية للتبليغ العالمي. طبعاً إذا أردت استذكار هذا الموضوع بشكل صحيح لربما كنت قد طرحته قبل نحو أربعة عشر أو خمسة عشر عاماً. في ذلك الوقت أصيب أحد السادة الأجلاء في الحوزة و الذي لا يزال على قيد الحياة و الحمد لله بمرض و توجّه إلى خارج البلاد - إلى أحد البلدان الأوربية - للعلاج. و راجعه الشباب و الطلبة الجامعيون و الإيرانيون المقيمون هناك، و قالوا له تعال و تحدث في الجلسة الفلانية و ألق كلمة في الاجتماع الفلاني. و أبقوا ذلك السيد المحترم الجليل لمدة شهر أو أكثر هناك، و شاهد احتياجاتهم عن كثب. ثم عندما عاد إلى هنا طلب وقت لقاء معي و جاء و عقدنا لقاء و كان منزعجاً يقول: لماذا لا تستجيبون لهذه الاحتياجات؟ هناك الكثير من الحاجة هناك. و قلتُ له إننا قمنا ببعض الأعمال، و لكن إمكانياتنا محدودة، و الآن الساحة مفتوحة أمامكم فاذهبوا إلى قم و خططوا لمدرسة تهتم بإعداد المبلغين الدينيين في خارج إيران، و قلتُ له «و عليّ نفقة عياله».. هكذا قلت له و تبنّيت التكاليف. ابنوا أنتم المدرسة فأنا لا أستطيع المجيئ إلى قم لبناء مدرسة. و ذهب الرجل و حاول لمدة من الزمن و أتخطر أنه نُشرَ في قم بيانٌ و إعلان لاستقطاب من يريد المشاركة، ثم نُسيَ الأمر! و بقي منسياً إلى الآن. قوموا بهذا المشروع. إنه مشروع جيد جداً و ضروري.
و تحدث السادة حول المنبر، و هذا من آرائي الدائمة. إنه من الأمور التي نكرّرها كثيراً و هي قضية تكريم المنبر و الاهتمام به و إعداد المنبريّن و المبلغين. طيب، الساحة مفتوحة أمامكم، فانزلوا إلى الساحة و اعملوا و خططوا و برمجوا و ابدأوا العمل و ضعوا برامج متينة متقنة لهذا المشروع. ابدأوا العمل. طبعاً هو مشروع يواجه الكثير من المشكلات، و حينما تخوضون في العمل ستتعرفون رويداً رويداً على المشكلات. لكنني أعتقد أنكم تستطيعون بطاقاتكم الشبابية و عزيمتكم و إرادتكم و إيمانكم تجاوز كل هذه المشكلات.
اللهم اجعل في جلستنا هذه خيراً و بركة للإسلام و المسلمين و رجال الدين. اجعل ما قلناه و سمعناه لك و في سبيلك. ربنا، وفقنا و مكّنّا مما ستسألنا عنه يوم القيامة «و استعملني بما تسألني غداً عنه». ربنا احشر الأرواح الطاهرة لشهدائنا الأبرار الذين ندين لدماءهم المطهرة و جهادهم الباسل و تضحياتهم بكل هذه التوفيقات و النجاحات الراهنة، و احشر روح إمامنا الخميني الجليل مع أوليائك، و اجعلهم راضين عنا.
و السّلام عليكم و رحمة اللَّه و بركاته. ‌