بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الحمد لله رب العالمين، و صلى الله على محمد و آله الطاهرين.
مرحباً بكم كثيراً أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء، إنها جلسة علم و علماء و جامعيين، و هي بالنسبة لي من أفضل الجلسات و أحلاها. و قد استمعت لكلمتي الوزيرين المحترمين بدقة و استفدت منهما. نتمنى أن يوفقكم الله و أيّانا لنستطيع الخروج بفائدة للبلاد من هذه الجلسات و الاجتماعات و الكلمات و الاستماع، و أن لا تكون لمجرد القعود و المشاهدة و الكلام.
لقد تحدثنا كثيراً عن أهمية العلم و الجامعة، تحدثنا نحن و تحدث آخرون، و لحسن الحظ كان هناك في الأعوام الأخيرة الكثير من الكلام عن أهمية العلم، و تبعاً له أهمية الجامعة. و كما أشار الدكتور هاشمي الآن فقد كان طموحنا أن تتحول أهمية العلم و ضرورة طلب العلم في البلاد إلى خطاب، و قد حصل هذا الشيء الآن تقريباً، و ينبغي شكر الله على ذلك.
العلم أهم أداة للتقدم و الاقتدار الوطني، يجب اعتبار هذا الشيء من المسلمات، فهذا هو الواقع حقاً. العلم بالنسبة لشعب من الشعوب أهم أدوات تحقيق السمعة الحسنة و التقدم و الاقتدار. و الجامعة أهم مركز لإعداد مدراء البلاد في المستقبل. طيب، و أيّ شيء أهم من هذا؟ إنكم تعدّون مدراء البلاد المستقبليين. إذا أعددتموهم بشكل جيد - و هذا ما هو الحاصل إن شاء الله - فسيدار مستقبل البلاد بصورة جيدة، و إذا لم نستطع إدارتهم بشكل جيد و قصّرنا في ذلك فسيتأثر مستقبل البلاد طبعاً بهذا التقصير. هذه هي أهمية الجامعات. طبعاً الجامعة بشكلها الحالي ظاهرة غربية - هذا ما نعلمه جميعاً - لكن الجامعة بمعنى مخرّجة النوابغ و النخبة ليست غربية بأيّ حال من الأحوال، و لها في بلادنا سابقة ألف سنة. نعم، لقد وفدت من الغرب بشكلها الحالي هذا، لكن هذا البلد كانت له مدارس خرّجت أمثال ابن سينا، و الفارابي، و محمد بن زكريا الرازي، و الخوارزمي، في نفس هذا البلد. هذه الأسماء التي نذكرها هي الأسماء المشهورة، و هناك الآلآف من الأسماء غير المعروفة من أطباء و مهندسين و مخترعين و أدباء و فلاسفة و عرفاء تربّوا و تخرّجوا كلهم في هذه الأرض.
أروي عبارة عن جورج سارتون، فحينما يقول الآخرون الشيء يكون أقرب للتصديق منه عندما نقوله نحن! لهذا السبب أقول ذلك، و إلا ليس من عادتي أن أروي كلام هذا و ذاك من الأجانب و الغربيين. لكن جورج سارتون هذا - الذي كتب تاريخ العلم، و هو كتاب معروف، و قد ترجم و طبع، و ربما شاهده الجميع - يقول: إن للعلماء الإيرانيين أكبر نصيب و دور في هذه الحضارة، و إذا حذفنا آثار العلماء الإيرانيين من هذه المجموعة، نكون قد حذفنا أجمل جانب منها. إنه مؤرخ علم. و هناك كلمة أخرى - و أروي هذه الكلمة عن ذاكرتي، فقد شاهدتها منذ أمد بعيد، و لا أستطيع التدقيق في كلماتها - لبيير روسو الذي كتب هو الآخر تاريخاً للعلم، و ترجم كتابه هو أيضاً إلى الفارسية منذ سنين طويلة، و هو متوفر لدى الجميع. شاهدتُ هذا الكتاب منذ سنين، و أردتُ أن أراجعه و أطلع على قوله مرة أخرى فلم أجد الفرصة في الحقيقة، لكنني سجلتُ المصدر. أتذكّر أنني سجلتُ المصدر في مكان ما و أين قال كلمته هذه، في كتاب «تاريخ العلوم» هذا. يروي حوار تاجر أوربي - إيطالي أو فرنسي مثلاً - مع شخص ذي خبرة علمية في ذلك الزمن، في زمن القرون الوسطى. يستشيره فيقول له إنني أريد أن أضع إبني في مدرسة ليدرس فيها و يكون عالماً، فأيّ البلاد أختار له و في أيّ الجامعات أضعه؟ فيجيبه ذلك الشخص الخبير بأنك إذا كنت قانعاً بالعمليات الأربع الأصلية في الرياضيات و تريد لإبنك أن يتعلم العمليات الرياضية الأربع الأصلية فلن يختلف الأمر بالنسبة لك و تستطيع أن تضعه في أيّ مدرسة تريدها من هذه المدارس الأوربية، و لكن إذا أردت أكثر من هذا فيجب أن تذهب للأندلس. و قد كانت الأندلس يومذاك بيد المسلمين. هذا هو تاريخ العلم في الإسلام. تلك الشهادة الأولى كانت تتعلق بإيران، و هذه تختصّ بالإسلام. أيْ إن لنا مثل هذا التاريخ و التراث، سواء في البيئة الإسلامية أو في البئية الإيرانية. و أشير طبعاً - و لا يحمل قولي هذا على الروح القومية أو الوطنية - إلى إن إيران هي قمّة إنتاج الفكر و العلم بين البلدان الإسلامية، أي لا يوجد أي مكان آخر فيه العديد من الشخصيات الكبيرة، شخصيات مثل الكندي و هو واحد بين الفلاسفة، أما في إيران فالشخصيات من هذا القبيل متعددة. بمعنى أننا إذا تحدثنا عن تاريخ العلوم الإسلامية فستكون إيران هي القمّة أيضاً. هذا هو تراثنا و ماضينا و تاريخنا.
و العهدان القاجاري و البهلوي لهما تاريخ واضح. و أنا آسف طبعاً لأن المتعلمين و قرّاء الكتب عندنا غير مطلعين إلا قليلاً على تاريخنا القريب و المعاصر - سواء تاريخ العهد القاجاري أو تاريخ العهد البهلوي - و معلوماتهم محدودة جداً و ليست واسعة، فهم لا يعلمون غالباً بالتفاصيل. منذ أواسط العهد القاجاري فصاعداً و إلى فترة العهد البهلوي - و قد كانت نهاية هذه الحقبة - كانت هناك أسباب معينة حالت دون الاستفادة الصحيحة من ذلك التراث المعنوي في زمن الازدهار العلمي في العالم.
طيب، تعلمون أن زماننا، أي هذا القرن الأخير و المائة سنة الأخيرة، هو زمن ازدهار العلم و نموّه في العالم، و كل بلد وصل إلى محطة ملحوظة وصلها خلال هذه الأعوام المائة أو المائة و العشرين. كان بوسعنا في هذه الحقبة - و عمر جامعتنا فيها أكثر من ثمانين سنة - عندما أوردنا الجامعة الغربية و الأوربية إلى البلاد أن نستفيد من ذلك التراث و من تلك الروحية و من تلك المواهب و الأرضيات و الإمكانيات الموجودة في بلادنا، و نبني جامعة إيرانية و نجعلها محلية وطنية، كان بوسعنا أن نفعل ذلك لكننا لم نفعل، لأسباب معينة تتعلق بالحكومتين البهلوية و القاجارية. بمعنى أنه لم تجر الاستفادة من ذلك التراث القيم عند وفود العلم الغربي إلى بلادنا. و اليوم في بلادنا و في مناخ جامعاتنا و في بيئاتنا العلمية تكثر حالات البناء الروحي و الاعتماد على النفس و الثقة بالذات و إطلاق الآراء و الأفكار و إنتاج البحوث المرجعية التي يستشهد بها الآخرون في العالم، هذه الأمور كثيرة في بلادنا اليوم، لكنها لم تكن في ذلك الحين. في ذلك الأوان لم نستطع لا الاستفادة من أخلاقنا العلمية و الأرضية العلمية لتراثنا، و لا من التراث المعنوي و التراث الأخلاقي لبيئتنا العلمية. و لهذه القضية شرح تفصيلي مطول لا أروم الخوض فيه الآن، و كيف كانت أخلاقنا العلمية في بيئاتنا العلمية في الماضي، ثم كيف أصبحت أخلاقنا العلمية عندما وفد الأسلوب الغربي. في تلك العصور الماضية كان التلميذ يجلس أمام أستاذه بكل احترام و لا يهين معلمه. مع أن البيئات العلمية و ما شاكل كانت أجواء حرّة، و الحوزات العلمية الآن أيضاً كذلك، فحين ندرس من حق كل الطلبة الحاضرين في الدرس أن يشكلوا، و هم يسجلون إشكالاتهم، و يصرخون و يتكلمون، لا عيب في ذلك، و لا يعتبره أحد عيباً، و من واجب الأستاذ أن يجيب بأدب. هذا ما كان في الماضي، و لكن التلميذ في الوقت نفسه كان خاشعاً خاضعاً أمام الأستاذ. هذه ملامح من أخلاقنا العلمية و أخلاقنا الجامعية القديمة، و لكن في الحقبة المعاصرة ليست قليلة أعداد الأساتذة الذين نالوا الضرب من تلامذتهم - سواء في المدارس الثانوية أو في الجامعات - أو الأساتذة الذين طعنوا بالسكاكين على يد تلامذتهم، و قتل بعضهم. بمعنى أن الأخلاق العلمية قد تغيّرت بالمرة. لا تراثنا العلمي و قدراتنا العلمية انتقلت، و لا تراث أخلاقنا العلمية و الجامعية انتقل. هكذا تكوّنت الجامعة.
طيّب، الغربيون كانت لهم برامجهم و خططهم لجامعاتنا. و حين أقول هذا أقوله عن اطلاع و حسابات، و هو ليس كلام منابر و خطابات، لا، هذا أمر جرى التحقيق فيه، و قد حقق فيه من هم مختصون في البحث العلمي في شؤون علم الاجتماع و المجتمع و شؤون السياسة الخارجية و ما إلى ذلك. لقد خطط الغربيون لما سمّوه العالم الثالث، و لإعداد الأشخاص الذين يتخرجون في هذه البلدان حسب الأخلاق الغربية و الأساليب الغربية و أسلوب الحياة الغربي، و يتقدمون و يتولون إدارة تلك البلدان، كانت هذه برامج و مخططات صاغها الغربيون. و قد كانت لهم مثل هذه البرامج لجامعاتنا أيضاً، أيْ أرادوا أن تكون جامعاتنا جسوراً لنقل كل ما يرغب الغربيون في حصوله داخل إيران، كان هذا مرامهم لكنه لم يحصل، بمعنى أن جامعتنا لم تنجرف عملياً لخدمة الأهداف الغربية، و هذه من المسائل المهمة جداً و النقاط الكبرى في بلادنا. كانوا يريدون أن تكون الجامعة مكاناً لضخّ الأفكار الغربية و أسلوب الحياة الغربي، و قد نجحوا إلى حدّ ما في بعض المواطن، فهذا مما لا شك فيه - الذين كانوا على رأس الأمور، خصوصاً خلال فترة تأسيس الجامعة في زمن رضا خان، كانوا أناساً مؤمنين بالغرب و الحضارة الغربية من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، و قد سمعتم أقوالهم و آراءهم - لكنهم لم ينجحوا في نهاية المطاف، لأن الهوية الإيرانية فعلت فعلها. الهوية الإيرانية شيء عجيب في التاريخ. كل الذين هاجموا إيران ذابوا في إيران بعد مدة من الزمن بنحو من الأنحاء؛ لغتهم و أعرافهم و ثقافتهم، و الاستثناء الوحيد هو الإسلام، فالإسلام حين جاء إلى إيران لم يغرق في إيران بل بقي و تقبل الإيرانيون الإسلام من صميم قلوبهم، و إلا في البلدان التي هاجمها العرب المسلمون تغيرت اللغات، فمصر تغيرت لغتها، و فلسطين تغيرت لغتها، و الشامات تغيرت لغتها، و صارت اللغة فيها عربية، أما إيران فلم تتغير لغتها و بقيت فارسية، أي إن إيران شيء عجيب، و هذه خصوصية تمتاز بها بلادنا. و هنا أيضاً كانت القضية على نفس المنوال، حيث فعلت الهوية الإيرانية فعلها.
أولاً في داخل الجامعة كان هناك أفراد حافظوا على الظواهر الدينية، مع أن هذه الممارسة كانت مرفوضة بشدة من قبل الطرف الآخر، أي إن رضا خان لم يكن يوافق الظواهر الدينية على الإطلاق. و الذين أسسوا الجامعة في إيران - و لا أريد الآن ذكر أولئك الرجال - هم أيضاً كانوا مثل رضا خان، بل إنهم هم الذين حقنوا هذه الأفكار في رأس رضا خان. لم يكونوا يرغبون أصلاً في أن يصلي أحد في الجامعة، أو أن يذكر أحد اسم الله في الجامعة، لكن هذا حدث. و كما أشاروا فقد تشكلت الاتحادات الإسلامية، و وصل بعض المتدينين إلى مرتبة الأستاذية في الجامعات، و أشاعوا الدين، و وقفوا بوجه الأفكار غير الدينية. أي إن القضية بدأت من هنا. و كلما مضى الوقت و الزمن تعززت هذه الروح الدينية و الإيمانية في داخل الجامعة، إلى أن وصلت الأحداث إلى النهضة الإسلامية في سنة 41 [1962 م]، و هنا قامت الجامعة بحركة عظيمة باتجاه التدين و الإيمان، مع أن الشيوعيين كانوا موجودين يومذاك، فقد كان الشيوعيون و الماركسيون في ذلك الحين ناشطين بشدة في داخل الجامعة. و في مشهد كنتُ على صلة بالأجواء الجامعية و شاهدتها عن كثب، و كنت أرى في الأماكن الأخرى - طهران و بعض الأماكن الأخرى التي كنا نسافر إليها و نتواصل مع طلبتها الجامعيين - وجود الأفكار الماركسية في الجامعات. و العجيب أن الذين حملوا الأفكار الماركسية في الجامعات كانوا يتعاونون مع الأجهزة الحاكمة لمواجهة الفكر الإسلامي المتنامي في داخل الجامعة! كانت كتبهم تطبع و تباع بحرية، بينما كانت كتب الثوريين المتدينين و الشباب المتدينين - سواء الكتب التي ينتجونها هم أنفسهم و قد كانت قليلة طبعاً أو الكتب التي كانوا يريدون قراءتها - تجابه بكل شدة، و لا يمكنهم الحصول عليها إلا بمنتهى الصعوبة. لقد كان اهتمام الجهاز البلهوي خلال فترة النهضة الإسلامية منصباً بالكامل على الحركة الإسلامية حيث كان يعارضها و يحاربها، لكنه كان يداري اليساريين و الماركسيين و ما شابه، و قد استجابوا لتلك المداراة و ذهب كثير منهم ليصيروا أعضاء في مكتب فرح بهلوي! و التحق كثيرون منهم بالإذاعة و التلفزيون، و صاروا عاملين في الإذاعة و التلفزيون، و تعاونوا مع النظام، نفس أولئك اليساريين المتطرفين في عقد الثلاثينيات و الأربعينيات أصبحوا متعاونين مع الجهاز و النظام، لكن حركة الجامعة نحو الأفكار الإسلامية تكرّست و تعززت و تعمقت يوماً بعد يوم.
إلى أن وصلنا للثورة. لقد كانت هذه الحركة بالطبع حركة مقاومة إسلامية متجذرة و لها أفكارها، و قد كانت أفكار المرحوم مطهري نموذجاً من تلك الأفكار التي كانت تروّج بين الطلبة الجامعيين في الجامعات. طيب، عندما انتصرت الثورة الإسلامية في سنة 57 [1979 م] هزت العالم، لقد كان هذا هو واقعها من دون مبالغة، أي إن انتصار الإسلام في إطار ثورة و تأسيس حكومة قائمة على أساس الإسلام، حدث هز العالم - شرقاً و غرباً - بحق. و كان من البديهي أن يترك هذا الحدث تأثيراته على الجامعة، و قد ترك، لقد كانت الكثير من الطاقات داخل الجامعة، سواء من الأساتذة أو من الطلبة الجامعيين، من أصدق أنصار الثورة و أكثرهم تضحية، كان هذا من السوابق التاريخية لجامعاتنا. ينبغي عدم نسيان تلك الفترة. طيب، هذا ما يتعلق بالماضي.
في هذه الفترة الممتدة لـ 37 عاماً التي مضت على تلك الأيام، مررنا بالكثير من المنعطفات، و أنجزت الكثير من الأعمال، و تقدمت الجامعة و تراجعت، و سادت تيارات متنوّعة على الجامعات في فترة من الزمن، مرّت الجامعة بمنعطفات عديدة على كل حال. و هذه حالة طبيعية، أي إنها وفق النظرة الدقيقة ليست حالة غير متوقعة أنْ تظهر عندما يتولى الإسلام زمام الحكم، أفكار و أذواق و تيارات متعددة بين حملة الفكر الإسلامي، و أن يؤدّي هذا إلى تكوّن موجات متنوّعة داخل الجامعة. طبعاً كان المعارضون الفكريون أيضاً ناشطين في الجامعة، حتى الماركسيون منهم! لأنني كثيراً ما أقرأ الكتب - أقرأ الكتب التي تقع في يدي - شاهدتُ عدداً من الكتب تدل على أنهم أرادوا بعث الأفكار الماركسية ثانية من داخل الجامعة، و متى كان ذلك؟ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، و بعد زوال الماركسية و الحكومات الماركسية في العالم! لم تنجح هذه العملية و لم ترحب الجامعة بها. على كل حال قطعت الجامعة مراحل متعددة و أطواراً مختلفة خلال هذه الأعوام السبعة و الثلاثين، و ها نحن اليوم و هذه الجامعة.
ما الذي ينبغي أن نفعله لنستفيد من هذه الجامعة، بهذه السوابق و التاريخ و هذه الخلفيات التاريخية و هذا التراث و هذه التجارب الجيدة و هذه الاختبارات الجيدة التي خرجت منها الجامعة مرفوعة الرأس بعد الثورة، و بتلك المشكلات التي حدثت فيها - إذا وضعنا كل هذا بعضه إلى جانب بعض - لنستفيد من هذه الجامعة في تكوين حضارة إسلامية حديثة؟ فهذا هو الهدف بالتالي، الهدف هو تشكيل سيادة إسلامية تستطيع تبديل المجتمع إلى مجتمع يريده الإسلام و يطمح إليه. هذا ما نرنو إليه و ننشده. نروم أن يصبح بلدنا - بالدرجة الأولى، و لا نتحدث الآن عن البلدان الأخرى و القضايا الدولية و العالمية - بلداً يصل إلى تلك الخطوط المنشودة في الإسلام، و تلك الخطوط المنشودة شيء مطلوب و عذب لأي إنسان مفكر. بمعنى أنّ أي شخص يتريث و يفكر و يطالع سيحلو له هذا الوضع المنشود في المجتمع الإسلامي، المجتمع الذي يتوفر فيه العلم و التقدم و العزة و العدالة و القدرة على مواجهة الأمواج العالمية، و تتوفر فيه الثروة أيضاً، صورة مثل هذه هو ما نسمّيه الحضارة الإسلامية الحديثة، و نروم أن يصل بلدنا إلى هذه المحطة. ما الدور الذي تستطيع الجامعة أن تمارسه في هذا المجال و ما الذي تستطيع فعله؟ أولاً ممارسة الجامعة لدور في هذا المضمار شيء لازم و ضروري، و ثانياً السؤال الآن: ما الذي ينبغي فعله؟ ماذا نفعل لنستطيع الوصول إلى هذه المحطة؟ طبعاً ليس هذا موضوع كلامي اليوم، لأنه ليس موضوع كلمتي و هذه الجلسة، و هذه أمور تحتاج إلى أعمال بحثية مفصلة، إنما أروم فقط التذكير بأن تفكر جامعتنا في هذا الأمر، و فكروا أنتم في هذا الأمر باعتباركم مدراء الجامعات و مسؤولي جهاز التعليم العالي، و اجعلوا مسؤوليات الجامعة على هذا الأساس، و خططوا للبرامج على هذا الأساس، و هو: ما الدور الذي تستطيع الجامعة - بما لها من سوابق، و بهذه الجذور التاريخية العميقة التي مرّ ذكرها، و هذا الاختبار الكبير الذي خرجت منه في الثورة - ممارسته لتكوين حضارة إسلامية حديثة و صناعة مثل هذا المجتمع و البلد؟ يجب التفكير في هذا الأمر، أي ينبغي أرساء جميع الأعمال على هذا الأساس.
أكتفي هاهنا بتقديم عدة تنبيهات. طبعاً التقارير التي رفعها السادة، و خصوصاً تقرير الدكتور السيد فرهادي، يبدو أن المرء يستنتج من مثل هذه التقارير أن كل تلك الأشياء التي نطالب بها و نطمح إليها قد تحققت في الجامعة، طيب، هذا شيء جيد جداً، و يدل على وجود همّة عالية، و لكن ينبغي النظر للنتائج. لقد تحولتُ تدريجياً إلى إنسان صاحب تجربة في قضايا تلقّي التقارير هذه. التقارير ليست مجرد هذه الأشياء التي تذكر لي أو للمدراء الكبار في التقارير، إنما لها هوامش و توابع قد تغيّر أحياناً من مضمون التقرير. إذا أردنا فهم الواقع بصورة صحيحة ينبغي أن نذهب و ننظر ميدانياً. على سبيل، المثال التقرير الذي رفعه الدكتور السيد فرهادي في مجال العلم و البحث العلمي و التحقيق و واحات التقنية و الأعمال الدينية و القيمية و ما إلى ذلك، يجب أن يذهبوا و يشاهدوها ميدانياً، و يروا كم من هذه الطموحات و التقارير لا تزال غير مطبقة و غير متحققة، هذا هو المهم. أحياناً تصل تقارير يشك الإنسان في تحقق بعض هذه المطامح. هذه نقطة مهمة، و تنبيهاتي تختص غالباً بهذه الجوانب، غير أن الأشياء التي ذكرها أو التي عرضها الدكتور السيد هاشمي، هي الأمور اللازمة و التي يجب أن تتحقق، و لكن مجرد أننا نريد القيام بها، أو أمرنا أن تنفذ، أو جاءتنا تقارير بأنها تم تنفيذها، فهذا لا يكفي. إذا منّى الإنسانُ نفسه بمثل هذه التقارير، قد نفتح في وقت لاحق أعيننا فنجد أن المسافة كبيرة بين الواقع و ما أردناه. تنبيهاتي تتعلق بهذه الأمور.
أذكر تنبيهات على قسمين: قسم يتعلق بقضايا العلم، و قسم يختص بالقضايا القيمية و الأخلاقية، و يرتبط في الواقع ببناء الإنسان و الطاقات الإنسانية، فالطاقات الإنسانية على جانب كبير من الأهمية. قال لي بالأمس أحد الأعزاء الحاضرين الآن هنا في هذه الجلسة - و هو من الأفراد المطلعين الخبراء - كان يقول لي بأننا من حيث الطاقات الإنسانية المتأهّبة ضمن البلدان الأربعة أو الخمسة الأولى في العالم، أي إن البلدان التي يعادل عدد سكانها ضعفي عدد سكان بلادنا أو ثلاثة أضعاف عدد بلادنا، ليس لديها هذا العدد من الطاقات الإنسانية المتعلمة المتخرجة الذي لدينا. قال هو ثلاثين مليوناً، و قد يزيد العدد بمقدار معين أو ينقص. هذا شيء مهم، و مهم جداً. كيف نريد أن نوجّه هذه الطاقات الإنسانية؟ التوجيه مهم. إذا كان ثمة علم و كان الاتجاه خاطئاً فسيحصل ما حصل الآن في العالم الذي يمتلك العلم و البحث العلمي و التقدم العلمي، و ما يشاهد فيه بالأمس و الحاضر. لاحظوا أن الاستعمار كان بلاء كبيراً نزل ببلدان منطقة آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية، لقد كان الاستعمار شيئاً عجيباً. ما الذي أوجد هذا الاستعمار؟ العلم هو الذي أوجده. لقد نجحت القوى الأوربية في أن تكتشف الأسلحة النارية مثلاً قبل البلدان الفلانية بفترة معينة، و أدى هذا إلى سيطرة بلد مثل بريطانيا - و هو جزيرة بعيدة - على بلد عظيم مثل الهند. اقرأوا كتاب لمحات من تاريخ العالم - تأليف نهرو (2) - و انظروا ما الذي جرى على الهند، و الأمر طبعاً لا يقتصر على ذلك الكتاب، فهناك كثير من الكتب في هذا المجال.
بلد بورما هذا الذي يسمّى اليوم ميانمار، إنه مركز ثروة. شخص بريطاني واحد يملك بندقية و مسدس أسر عشرات الأشخاص ليعملوا له و لم يكونوا يتجرّأون فتح أفواههم بكلمة. كانت هناك أشجار الكايوشو العملاقة و مختلف أنواع الأخشاب الثمينة التي نهبوها، و هذه ممارسات موجودة في الكتابات و الوثائق التاريخية. قلتُ إن التاريخ المعاصر للأسف قلّ ما حظي باهتمام مجتمعنا المتعلم القارئ للكتب، إقرأوا و أنظروا ما الذي جرى على الهند بسبب الاستعمار، و ما الذي جرى في بورما، و ما الذي جرى في منطقة أفريقيا، و ما الذي جرى في أمريكا اللاتينية، و ما الذي حدث في الجزائر و تونس، و ما شابه ذلك من بلدان، على يد فرنسا هذه المتظاهرة بالصلاح و النظام و الترتيب و الأدب، و ما الذي فعله الاستعمار بالناس. طيب، ما الذي أوجد هذا الاستعمار؟ إنه العلم. عندما لا يكون للعلم اتجاه صحيح فسيتحول إلى استعمار. ساموا ملايين الناس سوء العذاب بواسطة العلم. العلم من دون جهة و العلم بلا منطق أخلاقي و معنوي، ستكون هذه نتيجته. نحن نحتاج إلى إدارة أجهزتنا، و إدارة أنفسنا، و أن نهدي أنفسنا، و نحذر من أن يتوجه علمنا بتلك الاتجاهات. عندما يسير العلم في طريق الخطأ سيتحول إلى قنبلة ذرية. هذه الكرة الأرضية الآن يمكن أن تتدمّر عشرات المرات، أي أن يحدث لها نفس تلك الأشياء التي ذكر الله تعالى في القرآن أنها ستحدث في القيامة، يمكن أن تتحقق بواسطة هذه القنابل الذرية التي تمتلكها أمريكا و روسيا و بعض البلدان الأخرى. هذا خطر كبير على البشرية و على الحضارة و على الإنسان و على المادة و المعنى، و هو بسبب العلم. أحياناً يغدو العلم بهذه الصورة. إذن، علينا أن نراقب أجهزتنا العلمية و نشق طريقاً جديداً للعلم، ما هو ذلك الطريق؟ إنه البناء الأخلاقي و المعنوي إلى جانب العلم، لذا فإن تنبيهاتنا تتعلق بمقدار معيّن بالقضايا العلمية، و بمقدار معين بالمسائل الأخلاقية و البناء الأخلاقي و المعنوي للطاقات الإنسانية.
بخصوص القضايا العلمية سجّلتُ هنا عدة نقاط، و بالطبع سبق أن ذكرنا هذه النقاط، لقد أشرنا في ما سبق مرات عديدة لهذه النقاط، و ربما كانت في ثنايا كلمات السادة، لكنني أؤكد عليها، لأنني أشعر أننا بحاجة لذكرها و لتحقيقها. إحدى هذه القضايا هي العلم النافع. لنطلب العلم اللازم و النافع للبلاد، لا لحاضر البلد فقط بل لما بعد عشرة أعوام و عشرين عاماً أيضاً. قد تكون لدينا حاجة بعد عشرين سنة لا بدّ من البدء بالبحوث العلمية حولها من الآن. إذا لم نبدأ البحوث العلمية اللازمة لها من الآن و لم نستعد لها من الآن فسوف لن تتوفر لنا يوم نحتاج لها. تشخيص الاحتياجات هذا ينبغي أن يحصل و أن تؤخذ احتياجات الحاضر أيضاً بنظر الاعتبار. ليكن طلب العلم و الدراسة الجامعية و الدراسة في المدارس و نشر العلم و تعليمه على أساس منافعه و الحاجة إليه. يرفعون لي الآن تقارير تقول إن الكثير من هذه البحوث التي جرى الحديث عنها - و عدد البحوث كبير بالتالي - لا تنفع البلاد، بمعنى أن الباحث قام بعمل بحثي لكنه غير نافع للبلاد، أو أنه غير مفيد لأيّ بلد من البلدان، أو أنه نافع لتلك الشركة الخارجية التي أوصت بشكل من الأشكال بكتابة هذا البحث، و قد لا يعلم حتى كاتب البحث من هي الجهة التي أوصت بكتابة و إنتاج هذا البحث! لكنه لصالحها. هذا شيء لا فائدة منه. حتى أطروحات الدكتوراه - كما رفعوا لي من تقارير، و لا أروم التشديد و القول إن الأمر هكذا بالضرورة - رفعوا لي تقارير تقول إنه بنظرة متفائلة تعتبر عشرة بالمائة من أطروحات الدكتوراه تنفع شؤون البلاد. طيب، أطروحة الدكتوراه رصيد و ذخر و كنز، و الرسائل الجامعية كنوز و ذخائر للبلاد بحق. ماذا يجب أن تكون مواضيع هذه الرسائل حتى تكون مفيدة للبلد؟ هذه هي المسألة الأولى. و الأحاديث الدينية الواردة أيضاً شددت على العلم النافع. و الأساتذة أنفسهم في جلسات شهر رمضان - و من الدارج أن تقام في شهر رمضان من كل سنة جلسة مع السادة و السيدات أساتذة الجامعات، حيث يأتون و يلقون كلمات هنا - أتخطر أن عدة أشخاص منهم تحدثوا عن قضية عدم فائدة بعض الأعمال البحثية في البلاد و حذروا منها، و أنا بدوري ذكرتُ هذه القضية عدة مرات. إذن، الفكرة الأولى هي أن العلم يجب أن يرفع احتياجات الحاضر و المستقبل. خمّنوا هذا المستقبل و احسبوه و انظروا ما الذي نحتاجه في المستقبل.
حول قضايا الطاقة النووية هذه حيث جرى الحديث قبل سنوات - قبل سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع - و كان البعض يقولون إن لدينا كل هذا النفط، و من باب الاتفاق أن الأمريكان أيضاً قالوا الشيء نفسه! الأمريكان أيضاً قالوا إن لدى إيران كل هذا النفط، فما حاجتها للطاقة النووية؟ و قلتُ إننا إذا لم نباشر اليوم في الحصول على الطاقة النووية، عندما سينتهي نفطنا بعد غد سيكون علينا استجداء الطاقة النووية من هذا و ذاك. نعم، بالتالي عندما يمتلكونها و لا نمتلكها و نحتاج إليها سوف يذيقوننا الأمرّين. هل لاحظتم ما الذي فعلوه بخصوص تخصيب اليورانيوم بنسبة عشرين بالمائة؟ كنا بحاجة لليورانيوم المخصب بنسبة عشرين بالمائة لمفاعل طهران - هذا المفاعل الصغير الموجود في طهران و هو الذي ينتج الأدوية النووية، كنا نحتاجه للأدوية - و لأنه كان على وشك النفاد و قالوا إنه سينفد بعد عدة أشهر، وقف الغربيون موقفاً متكبراً متغطرساً و و وضعوا شروطاً مذلة حقاً. أخال أن الأمر يعود لسنة 89 أو 90 [2010 و 2011 م]. طبعاً انتهى الأمر لصالحنا، أي إن شبابنا عندما شاهدوا أنهم يتدللون بشأن بيع اليورانيوم المخصب بنسبة عشرين بالمائة، عندما شاهدوهم يمارسون الإيذاء بهذا الشكل، عقدوا العزم على إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة عشرين بالمائة بأنفسهم.
بادروا و بذلوا الجهود المضنية و أنتجوا العشرين بالمائة. و المشقة الرئيسية تختص بالتخصيب إلى نسبة عشرين بالمائة، بمعنى أن المرحلة الصعبة في تخصيب اليورانيوم هي من اليورانيوم الخام إلى العشرين بالمائة، أما من العشرين بالمائة إلى التسعة و تسعين بالمائة فالعملية ليست صعبة بل الطريق فيها سهل، أي إن الذي يصل إلى العشرين بالمائة سيكون من السهل عليه الوصول إلى الخمسين بالمائة و الثمانين بالمائة و التسعين بالمائة، لذلك تراهم مضطربين. طيب، رغماً أنوفهم، كان عليهم أن يبيعونا حتى لا نتجه نحو الإنتاج بأنفسنا. لقد قلتُ إن هذا النفط الذي نمتلكه لو لم نكن نمتلكه و كانوا هم يمتلكونه و كنا بحاجة إلى النفط كانوا سيبيعوننا النفط زجاجة زجاجة، و نحن الآن نبيعهم النفط برميلاً برميلاً و بالأطنان، الطن بكذا و الطن بكذا. لو كنا نحن بحاجة لهذا النفط كانوا سيبيعوننا نفس هذا النفط الأسود زجاجة زجاجة، هكذا هم. يوم نحتاج إلى الطاقة النووية بسبب عدم وجود النفط أو لحدوث مشكلة بالنسبة للنفط، افترضوا مثلاً أن تهبط أسعار النفط - و أنتم ترون الآن ما يحدث و كيف أنها هبطت بكل سهولة - إلى درجة لا يعود إنتاجه مجدياً اقتصادياً، طيب، ماذا سيفعل الإنسان عندئذ؟ يغض الطرف عن النفط. طيب، في مثل تلك الظروف نحتاج إلى الطاقة النووية. من أين سنأتي بها؟ من الذي سيعطينا هذه الطاقة؟ هذا ما يمكن أن يحدث بعد عشرة أعوام أو خمسة أعوام أو عشرين عاماً. يجب أن نفكر بهذا الأمر من الآن. يجب أن تفكروا في هذا الأمر باستمرار. أي ينبغي أن تفحصوا الحاجات و تشخّصوها للمستقبل و للحاضر، و حينئذ سيكون العلم نافعاً و مفيداً لرفع الاحتياجات و سدّ الثغرات. هذه نقطة وجدتُ من اللازم الإشارة لها.
و نقطة أخرى تتعلق بسرعة التقدم العلمي. هذه المراكز المرجعية التي ذكرت أن مرتبة إيران في العالم هي التاسعة عشرة أو السابعة عشرة، هذا شيء صحيح بالتالي. هذا ما يقولونه، بأننا نتقدم في مجال العلم، و نحن نفخر بذلك كثيراً، و كل من ينكر ذلك سننزعج لإنكاره - و أقول بين قوسين هنا إن بعضٌ ممن هم جامعيون بدورهم، يتحدثون للطلبة الجامعيين في الجامعات للأسف و يقولون إن هذا التقدم العلمي الذي يتحدثون عنه كاذب! أي شيء كاذب؟ مركز بحثي تابع للكيان الصهيوني يبدي قلقه من التقدم العلمي لإيران - هذا شيء اشتهر في العالم، و ليس الكلام كلامنا، هذا المصدر موثوق من قبلكم، فهو الكيان الصهيوني الذي يقول ذلك - فثقوا بكلامه على الأقل. يذهبون و يقولون «كلا، هذا التقدم العلمي الذي يتحدثون عنه غير صحيح»، لا، التقدم العلمي حقيقة بلا شك، و سرعته جيدة - غير أننا لا نزال متأخّرين على الرغم مما حققناه من تقدم! هذا ما ينبغي أن لا ننساه، فنحن متأخرون جداً! لقد فرضوا علينا التأخّر سنين طويلة. و الآن هذه التقنيات الجديدة في أمريكا انطلقت منذ نحو 130 أو 140 سنة، لكنها كانت بعد الحروب الداخلية في أمريكا سنة 1860 إلى سنة 1864 أو 1865 ، قبل ذلك كان الأمريكان يستوردون من أوربا، و بعد ذلك استطاعوا أن يقفوا على أقدامهم و يعتمدوا على أنفسهم و بدأوا بإنتاج تقنيات جديدة. طيب، إذن هم متقدمون علينا بمائة و خمسين سنة، متقدمون علينا بمائة و ثلاثين أو مائة و أربعين سنة! و هكذا هو العلم، فعندما يتقدم المرء خطوة إلى الأمام ستكتسب خطوته الثانية سرعة مضاعفة.
لقد ضربتُ مراراً مثالاً و قلتُ افترضوا شخصين يسيران إلى جانب بعضهما. و يجد أحدهما صدفة دراجة هوائية، فإنه سيسبقكم بواسطتها طبعاً، و يتقدم عليكم بمسافة معينة، و بواسطة هذه الدراجة الهوائية سيصل قبلكم إلى سيارة حينما تكونوا لتوّكم قد وصلتم إلى دراجة هوائية. عندما تصلون إلى دراجة هوائية يكون هو قد وصل إلى سيارة، و سرعة السيارة أضعاف أضعاف سرعة الدراجة الهوائية. و هكذا يبقى يتقدم و يزيد من سرعته دائماً، و يتضاعف البون و المسافة الفاصلة يوماً بعد يوم. هذه المسافة الفاصلة موجودة. و علينا الاهتمام بدرجة كبيرة بسرعة التقدم العلمي. و ما أذهل العالم هو سرعة تقدمنا حيث قالوا إن سرعة تقدم الجمهورية الإسلامية في العلم - أي تقدمها العلمي - أكثر من المتوسط العالمي بثلاث عشرة مرة، أكثر بثلاث عشرة مرة! و كان هذا صحيحاً، و طبعاً لست أدري الآن كم هي السرعة، فهذا يعود لثلاثة أو أربعة أعوام سابقة. و هذا ما قالته أيضاً تلك المراكز الدولية، و هو ليس كلامنا. يجب علينا الحفاظ على هذه السرعة. إذا تراخى التقدم العلمي و هبطت هذه السرعة، فلن يكون معلوماً ما الذي سيحدث، و سوف نتأخر. إذن، سرعة التقدم مهمة هي الأخرى.
قضية أخرى هي قضية البحث العلمي، فالبحث العلمي و التحقيق على جانب كبير من الأهمية. طبعاً لدينا مراكز بحث جيدة، لكن الجامعات نفسها ينبغي أن تكون بمحورية البحث العلمي. يجب أن يؤسسوا مراكز بحثية و تتحول الجامعات نفسها إلى جامعات بمحورية البحث العلمي. و لا يتعارض هذا مع وجود مراكز بحثية خارج الجامعات، و لكن ينبغي أن يكون المحور و المدار في الجامعات أيضاً هو البحث العلمي. هذه أيضاً نقطة.
قضية أخرى هي قضية الخارطة العلمية الشاملة. الخارطة العلمية الشاملة تمت المصادقة عليها و تبليغها و العمل بها بعد كثير من المنعطفات. و لكن ينبغي تطبيق هذه الخارطة العلمية الشاملة في المرافق و القطاعات المهمة. هذا من الأمور التي ما لم تنزلوا إلى الساحة و تلاحظوا ملاحظات ميدانية فلن تستطيعوا تشخيص كم جرى العمل بالخارطة العلمية الشاملة. و ما هي الفروع و الحقول العلمية ذات الأولوية، و كم هو عدد الطلبة الجامعيين الذين نحتاج لهم للفروع الدراسية ذات الأولوية و للفروع الدراسية التي لا تتمتع بالأولوية. كل هذا يجب أن تحدده لنا الخارطة العلمية الشاملة. ما هي الفروع العلمية التي ينبغي الاهتمام بها و في أي مناطق من البلاد، و حسب الحاجة؟ هذا طبعاً يحتاج إلى مسح أرضي من قبل وزارة العلوم، و على وزارة العلوم أن تقوم بهذا المسح الأرضي لنفسها كي تعلم ما الذي تحتاج له الجامعة و في أيّ الأماكن. الأعزاء السادة الوزراء المحترمون الذين رفعوا تقاريرهم تحدثوا عن جعل المأموريات هي المحور في الجامعات، و هذه فكرة حسنة جداً، و أؤكد هنا على إنجاز هذه العملية، و لكن لهذه العملية مقدمات. كيف يمكن جعل الجامعات بمحورية المأموريات في المدينة الفلانية البعيدة أو القريبة، أو في مركز المحافظة؟ هذه أشياء ينبغي أن نعرف تفاصيلها من الخارطة العلمية.
موضوع آخر نذكره هو كيفية التعليم العالي. لقد سجلنا تقدماً جيداً من الناحية الكمية، و لكن توجد نواقص من الناحية الكيفية. يجب تعيين المعيار للجودة و الكيفية. طبعاً ثمة معايير للجودة في العالم، بيد أن تلك المعايير لا تتطابق بالضرورة مع احتياجاتنا، بعض المعايير جيدة و بعضها لا يتطابق مع احتياجاتنا و مع واقع بلادنا. على مسؤولي وزارة العلوم أن يجتمعوا و يحدّدوا بأنفسهم معايير تطور الجودة.
مسألة أخرى - و أنا مضطر لاختصار الكلام - هي مسألة عمل الخريجين و مشاغلهم. من سبل توفير فرص العمل للخريجين هو التوصل بين الصناعة و الجامعة. يجب أن يكون هناك تواصل و علاقة بين الصناعة و الجامعة. فهذا جيد للصناعة و حسن للجامعة أيضاً. و هو جيد لإدارة الجامعة و للطالب الجامعي، و هذا ما لم يحصل في البلاد بعد. إنني على علم بالأعمال التي تمّ إنجازها و قد ذكر الدكتور السيد فرهادي بعضها. مثلاً في مجال الشؤون الدفاعية التي لي بها علاقة مباشرة أعلم بوجود تعاون جيد جداً مع الجامعات في مجال الشؤون الدفاعية، و هناك أعمال و مشاريع جيدة تحصل، غير أن هذا لا يكفي. و قد سمعتُ و لم أر أنه في البلدان المتقدمة يحضر أصحاب الصناعات في جلسات مناقشة رسائل الطلبة الجامعيين، و يصغون لدفاع الطلبة الجامعيين عن رسائلهم، و يبرمون العقود مع الطلبة الجامعيين منذ ذلك الحين إذ يدافع الطالب الجامعي عن أطروحته. أي إنهم يسرعون للاستفادة من طاقات الطالب الجامعي المتخرج المستعد للعمل بهذه الطريقة. و على صناعتنا أن تهتم لهذا المعنى. و هذه العملية بحاجة لنشاط و متابعة، و هي بحاجة لنشاط السادة الوزراء في الحكومة. ليجتمعوا مع مسؤولي الصناعة و المسؤولي في القطاع الخاص و القطاع الحكومي و يعملوا ما من شأنه أن يكون هناك تعاون حقيقي و واقعي و شامل بين الجامعة و الصناعة في البلاد. و ليس الأمر مقتصراً على الصناعة، فمختلف القطاعات الإدارية الخصوصية و الحكومية بحاجة إلى بحوث الجامعات. يجب حصول هذه العملية في كل مكان. و هذه بدورها مسألة.
و مسألة أخرى تتعلق بممارسة دور في الاقتصاد المقاوم، و أساسه هو الاقتصاد العلمي المحور. بالطبع تحدثنا كثيراً في هذا المجال أيضاً، و قد ذكر الأعزاء بعض النقاط، و تحدث آخرون أيضاً، لكن ما ينبغي أن يحصل على أرض الواقع لم يحصل لحد الآن. و أقولها: إن تقرير المسؤولين الحكوميين حول البرامج التنفيذية للاقتصاد المقاوم وصلني توّاً، وصلني منذ عدة أيام! بمعنى أنه لا تزال هناك مسافة على أرض الواقع تفصلنا عما ينبغي أن يتحقق في الاقتصاد المقاوم. طيب، مارسوا أنتم في الجامعات دوراً في هذا المضمار، بمعنى أن تشخّصوا حقاً نصيبكم و دوركم في هذه العملية و تنهضوا به عملياً بالمعنى الحقيقي للكلمة.
كان هذا ما يتعلق بقضايا العلم. طبعاً توجد قضايا متنوعة أخرى، و قد ذكرتُ هذه الأمور مراراً، و أنتم تعلمونها، لكن في هذا التكرار فائدة.
الجانب الثاني يتعلق بالعمل الثقافي في الجامعات. البعض يخلطون بين العمل الثقافي داخل الجامعات و بين إقامة الكنسرتات الموسيقية و المخيمات المختلطة، يتصورون أن هذه الأعمال هي العمل الثقافي. يقولون إن الطالب الجامعي يجب أن يكون مبتهجاً مرحاً! البهجة و المرح شيء جيد لأية أجواء، و لكن كيف؟ و بأيّ ثمن؟ كم استفاد الغربيون من هذا الاختلاط بين البنات و البنين حتى نستفيد نحن؟ ذات يوم كانوا يقولون لنا إن في أوربا - كانوا يتحدثون يومذاك عن أوربا - لا يوجد حجاب و النساء و الرجال يعيشون هناك حياة مختلطة، و الأهواء و الدوافع الجنسية هناك مسيطر عليها طبعاً. طيب، انظروا الآن و لاحظوا كيف هو الوضع. هل تمت السيطرة على الأهواء أم زيد من إثارة الأهواء و النزوات؟ كل هذه الجرائم ترتكب اليوم في أمريكا و أوربا، و لم يعودوا مكتفين بالجنس الآخر! و سوف يحصل ما هو أسوء. لقد عرف الإسلام الإنسان فقرّر له حكم الحجاب و حكم عدم الاختلاط بين المرأة و الرجل. الإسلام عرفنا أنا و أنتم، فالإنسان ملك الله، و الله هو الذي خلقه. ما معنى المخيّم المختلط؟ و تسلق الجبال المختلط؟ المخيمات المختلطة حتى إلى خارج البلاد أحياناً! لا، العمل الثقافي له ماهية أخرى و مفهوم آخر. ليفهم المسؤولون الجامعيون ما الذي يفعلونه.
ينبغي أن تكون الأعمال الثقافية في الجامعات بحيث تخرّج أفراداً مؤمنين متخلقين بالأخلاق الحسنة و ثوريين. العمل الثقافي هو الشيء الذي يحقق هذه النتائج. العمل الثقافي الصحيح هو ما يجعل شبابنا شباباً ثوريين. لقد قام هذا البلد بثورة و يجب الالتزام بهذه الثورة. ينبغي جعل مبادئ هذه الثورة من أصول حياتنا حتى نستطيع التقدم إلى الأمام، و لكي نكون مؤمنين بالمبادئ و محبّين للبلاد - محبّين للبلاد بشكل حقيقي - و محبّين للنظام و ذوي بصيرة و عمق ديني و سياسي. يجب أن يتحلى هذا الشاب بالعمق في نظرته الدينية و السياسية، حتى لا ينزلق بأقلّ شبهة تطرأ عليه، و لا يخطئ في مضمار القضايا السياسية. الكثيرون زلت أقدامهم في هذه الأحداث التي وقعت في فتنة سنة 88 [2009 م]. لم يكونوا أناساً أشراراً لكنهم انزلقوا بسبب قلة البصيرة. عندما ترى شخصاً يقول: «الانتخابات ذريعة، و المستهدف هو أصل النظام» ما الذي ينبغي أن تفعله؟ أنت المؤمن بالنظام و أنت الذي على استعداد للتضحية بروحك من أجل النظام و لحفظ النظام، بمجرد أن ترى جماعة ترفع مثل هذه الشعارات، ما الذي يجب أن تفعله؟ هذا انعدام في البصيرة، و عدم التفات إلى الواجب في لحظة الضرورة. يجب إعداد و تخريج أفراد ذوي ثقة بالنفس و متحفزين و طافحين بالأمل. صحيح ما قالوه بأن اليأس أكبر الأضرار. يجب أن لا ييأسوا، يجب أن يكونوا متفائلين بمستقبل البلاد، و ثمة مجال و مسوّغ للأمل، و لا مجال لليأس، فهناك كل هذه الإمكانيات! لقد قلتُ يومها في جلستي مع الحكومة (3) - قبل شهر أو شهرين - و وافقني جميع السادة، قلتُ إنه حينما يقولون إن النمو في البلد الأوربي الفلاني واحد و نصف بالمائة أو واحد بالمائة - و هذا ليس بالشيء العجيب - و نحن نتوقع أن يكون نموّنا ثمانية بالمائة أو تسعة بالمائة، فالسبب هو أنهم استخدموا كل إمكانياتهم و لم تعد أمامهم إمكانيات و مناطق فراغ، بينما بقيت إمكانياتنا معطلة، لذلك نستطيع الوصول حتى إلى نمو بنسبة عشرة بالمائة. ينبغي ملء هذه المساحات الفارغة و الاستفادة من هذه الإمكانيات. أفلا يوجد و الحال هذه مجال للتفاؤل و الأمل في بلد أمامه كل هذه الإمكانيات و الفرص؟
ينبغي تخريج أفراد يتميزون بالفهم الصحيح لواقع البلاد، أي أن يدركوا ما هو وضع البلاد الآن. العالم كله - أعداؤنا بشكل و أصدقاؤنا بشكل - يقولون إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بلد مقتدر، و إذا بشخص يحاضر في المكان الفلاني فيقول إننا لسنا بشيء، و لا نملك شيئاً، و نحن في عزلة! شخص لديه عقدة دونية يخال نفسه ليس بشيء، فلماذا يرى الشعب كذلك أيضاً؟ لماذا يرى نظام الجمهورية الإسلامية و البلد ليس على شيء؟ عقدة الدونية هذه و التقليل من شأن الذات حالة خطيرة جداً، الشعور بالدونية و الحقارة، في حين يقول العالم كله إن إيران بلد عزيز قوي مقتدر، و هم منزعجون لأن إيران لها نفوذها الممتد إلى كل مكان، و إذا بهذا السيد يقول هنا في الداخل في صحيفة أو محاضرة أو في الجامعة الفلانية للطلبة الجامعيين بأننا لسنا على شيء و لسنا بشيء!
كما ينبغي إعداد و تخريج أفراد يؤمنون بالاستقلال، الاستقلال الفكري و الاستقلال السياسي و الاستقلال الثقافي و الاستقلال الاقتصادي. الشاب الذي يتم إعداده من خلال العمل الثقافي ينبغي أن يعتقد بالمعنى الحقيقي للكلمة باستقلال بلده، و يؤمن بأسس الثورة و النظام، و يؤمن بالثقافة الإسلامية، و يكون متفائلاً و ذا روحية إيجابية نشطة.
طبعاً، الأخبار التي تصلني من بعض الجامعات لا تدل على هذا. أعملوا ما من شأنه أن تكون الأجواء بيد الشباب المؤمنين الثوريين ذوي الروحية الإيجابية و المتحفزين، ذوي الشعور بعزة النفس، و المتدينين. من أكبر مسؤولياتكم أن تفعلوا ما من شأنه أن تكون الكلمة العليا للمجاميع المؤمنة المتدينة المفعمة بالإيمان بالثورة و الإسلام، لتكن الأجواء الغالبة بأيدي هؤلاء، هذا من واجباتكم.
إخوتي و أخواتي الأعزاء، أيها الجامعيون الأكارم، تنبهوا - على كل حال - إلى أنني أكنّ حباً و احتراماً للجامعة، أنا مؤمن منذ القدم بالجامعة و أحبها، و اعلموا أن الجامعة و الطالب الجامعي اليوم مستهدف بأكبر المؤامرات. الأعداء يخافون من أن يكون لنا جامعة يتحلى طلابها و أساتذتها بالروح الثورية و الهجومية، و ينزلون إلى الساحة بهذه الروحية، و ينسفون الخطوط الحمراء التي رسمها لهم الأعداء، و يتقدمون إلى الأمام و يتقدمون بالبلاد نحو الأفضل، و يرفعون راية العلم، و يكرّسون الشعارات الثورية، و هم يرسمون الخطط و البرامج و ينفقون الأموال من أجل أن يحصل ذلك. الأعداء يخططون لطريق الهيمنة المستقبلية. الشكل القديم من الاستعمار لم يعد اليوم ممكناً عملياً، و الشيء الذي كانوا يسمّونه الاستعمار الحديث أخذ أخذ يصير قديماً بالياً شيئاً فشيئاً. الشيء الذي يحتاجونه و يتابعونه هو أن تكون الأفكار في داخل أدمغة العناصر الفاعلة و الذكية و النخبة في بلد من البلدان بالشكل الذي يحقق لهم أهدافهم. إنهم يستثمرون و ينفقون الأموال لأجل هذا. ينبغي التنبه لهذا الهمّ.
و لدينا أساتذة مبدئيين قيميين جيدين. لحسن الحظ لدينا الآلآف من الأساتذة المؤمنين الثوريين المتحفزين، و قد كانوا موجودين في السابق أيضاً، خلال فترة الدفاع المقدس كانوا موجودين أيضاً، و لكن يوجد اليوم أضعاف ما كان يوجد يومذاك من الأساتذة المؤمنين الثوريين و الحمد لله. ينبغي تكريم هؤلاء. نرجو أن يمن الله تعالى عليكم و علينا بالتوفيق لنستطيع النهوض بهذه الأعمال.
لقد انتهى الوقت، و قد تحدثنا معكم اليوم كثيراً، و استمعتم جيداً. عندما يصغي المستمع بدقة - و نشعر أنكم جميعاً و الحمد لله استمعتم بقلوبكم - سنتحدث بالتالي، لكن ما سجلتُه أكثر مما ذكرته لكم، بيد أنه لم يعد ثمة وقت.
نسأل الله تعالى أن يوفقكم و يؤيدكم جميعاً، و ينزل توفيقاته عليكم، و أن تكون المسؤوليات التي تتولونها اليوم، سواء في الجامعة كرؤساء للجامعات، أو كأساتذة، أو في لجان الوزارات، أو في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، أو في مجلس الشورى الإسلامي، أو في الممثليات - المسؤوليات المتعددة المتنوّعة التي لكلّ واحد منكم - أن تكون مبعث رفعة رأس لكم عند الله.
و السلام عليكم و رحمة الله.
الهوامش:
1 - في بداية هذا اللقاء تحدث وزير الصحة و العلاج و التعليم الطبي السيد حسن قاضي زاده هاشمي، و وزير العلوم و البحث العلمي و التقنية الدكتور السيد محمد فرهادي، رافعين تقريرين عن أعمال وزارتيهما.
2 - جواهر لعل نهرو سياسي هندي و أول رئيس وزراء في الهند المستقلة.
3 - كلمته في لقائه رئيس الجمهورية و أعضاء هيئة الوزراء بتاريخ 26/08/2015 م.