بسم الله الرحمن الرحيم

للحوزة إمكانيات و طاقات متعددة و ذات وجوه، و الأمر لا يتعلق بالحاضر فقط، ففي الماضي أيضاً كانت الحوزة على هذا النحو. ليسوا قلائل الفقهاء و العلماء الشيعة الكبار الذين كانوا شعراء و بعضهم كانوا شعراء بارزين، كالمحقق الحلي و كوالد العلامة و آخرين من هذا القبيل، وصولاً إلى أزمنة تالية مثل المرحوم الميرداماد، و المرحوم الفيض، و حزين اللاهيجي و آخرين و آخرين. و كذا الحال في النجف مثل المرحوم بحر العلوم. لنذكر قصة عن بحر العلوم فهي لافتة و تدل على روحية النجف و أجوائها في فترة بحر العلوم، أي قبل مائتي سنة. وصل بحر العلوم إلى المرجعية بعد المرحوم البهبهاني، أي إن المرحوم بحر العلوم مثل كاشف الغطاء حظي بقبول العلماء الكبار و التلامذة الكبار للمرحوم البهبهاني، و سلّم الآخرون حياله و اختاروه بطوع و رغبة كرئيس. في بداية رئاسته سار المرحوم بحر العلوم في زيارة ماشياً من النجف إلى كربلاء. و تعب في إحدى المحطات في بداية الطريق فجلس. قال المرحوم بحر العلوم إنني ضعيف و لا أستطيع التحرك الليلة من هنا. قال البعض لنذهب، و قال هو لا، أنا سأبقى، ثم قرأ هذا البيت:
من ضعفنا أين ما جلسنا صار ذلك المكان وطناً
و من بكائنا أين ما مررنا صار ذلك المكان مرتع أعشاب.
هذا البيت لطالب الآملي. و كان بصحبته شعراء عرب، و اعتقد أن النقطة اللافتة جداً تكمن هنا. ليس من العجيب جداً أن يقرأ بحر العلوم بيتاً من شعر طالب الآملي، أما أن يكون معه في زيارته من النجف إلى كربلاء عدد من الشعراء فهذا برأيي شيء مهم. قال له الشعراء العرب: سيدنا، شنو معنى هذا البيت؟ ما معنى هذا البيت الذي قرأتموه؟ فشرح لهم معنى البيت و قال لهم انسجوا على منواله، و بدأ الشعراء العرب ينظمون هذا المعنى و ما شابهه. أخال أنني رأيت هذه القصة في كتاب المرحوم حرز الدين. يروي هناك أن فلاناً قال هكذا، و فلاناً قال كذا، و بحر العلوم نفسه قال هكذا، أي إن عالماً مثل بحر العلوم الذي يعتبر قمّة من حيث الفقه و من الناحية المعنوية - و تعلمون أن بحر العلوم كان استثنائياً من النواحي المعنوية، و ربما كانت جوانبه المعنوية هي التي جعلت كل تلامذة المرحوم البهبهاني و هم فقهاء كبار يسلّمون حياله - بكل تلك المراتب المعنوية و بتلك الحالة العرفانية و بما ينقل حوله من لقائه بالإمام المهدي و أمثال ذلك، عندما يسير من النجف في زيارة لكربلاء يأخذ معه الشعراء. هذا دليل اهتمام الحوزات بقضية الشعر. على كل حال هكذا كانت الحوزات العلمية. في قم نفسها كان المرحوم السيد الصدر شاعراً مميزاً. هذان البيتان الذان قالهما للمرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم و حُفرا عن شاهدة قبر المرحوم الحاج الشيخ، بيتان بارزان رائعان جداً، و هما بيتان أو ثلاثة أبيات تؤرخ لتاريخ المرحوم الحاج الشيخ.
على كل حال الشعر من الأمور التي خاضت فيها الحوزات العلمية. و هو شيء مناسب، أي إنه لا يتعارض أبداً مع العلمية و الفضل و ما شابه. أن يكون الإنسان شاعراً و أن يكون شاعراً جيداً فهذا لا يتعارض لا مع الفقاهة و لا مع الفلسفة و كون الإنسان فيلسوفاً و لا مع أيّ من هذه الحقول المهمة في الحوزات. المرحوم الحاج الشيخ محمد حسين الإصفهاني كان ينظم الغزليات و القصائد و بالعربية و بالفارسية. و المرحوم السيد محمد سعيد الحبوبي و هو من المراجع العرب في النجف و كان معاصراً للمرحوم الآخوند، له ديوان شعر كبير و عندي ديوان شعره، و فيه أشعار عجيبة، أشعار حب و عشق و غزل عربي، فالعرب ليس لديهم الغزل بنفس شكله الفارسي عندنا، لكن لديهم أنواعاً متنوعة أخرى من الغزل. كان المرحوم السيد محمد سعيد الحبوبي فقهياً و مجاهداً و من الذين قاتلوا الإنجليز، و كان في الوقت نفسه شاعراً. و قد كان إمامنا الخميني الجليل آخر نموذج أمام أعيننا حيث لديه تلك العزليات العاشقة، و لها طبعاً معاني عرفانية، لكن هذا هو ظاهر الغزليات. إذن، الشعر حقل مهم و جيد يُتابَع في الحوزة. إنه حقل ترويحي لتلك الأجواء العلمية المكثفة في الحوزة. فالأجواء العلمية في الحوزة متراكمة و مكثفة جداً و هي مختلفة عن أجواء الجامعات. الأجواء علمية تماماً، و تشبه غرفة مغلقة. و أحياناً يتصاعد أريج الشعر في تلك الأجواء. أعتقد أن هذا شيء محبذ. و الحمد لله على أن هناك مواهب جيدة، و هؤلاء السادة الحاضرون هنا و تلك السيدة التي قرأت شعرها جيدون جداً. و أعرف آخرين في الحوزة يعدون شعراء جيدين، و لأنّ تفكيرهم تفكير إسلامي نابع من مصادر و منابع دينية صحيحة لذلك فإن شعرهم يمكن أن يكون مفيداً جداً. هذه الخطوة خطوة حسنة جداً و لكن لا تقنعوا بالقليل، أي سيروا نحو المستويات الأعلى.
و ليسوا قلائل الشعراء العلماء الذين كانوا في النجف، و أحياناً كانت أشعارهم تبلغ مراتب عالمية. ذلك الشاعر اللبناني المعروف الذي سكن أمريكا، شاعر معروف لا أتذكر اسمه الآن (1) له قصيدة معروفة باسم «الطلاسم» و فيها عبارة تتكرر على شكل ترجيع - و الترجيع هنا ليس بنفس معنى الترجيع بند في الشعر الفارسي عندنا - يقول فيها «لست أدري». رد عليه المرحوم السيد رضا الهندي فقال: أنا أدري، و اشتهرت هذه الأشعار في العالم العربي و عرفها الجميع. أي إنه كان هناك شعراء مبرزون من علماء النجف. المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر نفسه الذي تدرس كتبه العلمية ككتب منهجية دراسية في الحوزة كان شاعراً و شاعراً جيداً حسناً له معاشراته و اتصاله بجماعة الشعراء في النجف. على كل حال الشعر شيء حسن و الحوزة بحمد الله لها هذه الموهبة، فخرّجوا و اعملوا أكثر ما استطعتم، طبعاً بشرط أن لا يؤثر ذلك على أوقات الدراسة و البحوث. بمعنى أن لا يستغرق الشعر جلّ وقت السادة.
نتمنى لكم التوفيق و التأييد إن شاء الله.

الهوامش:
1 - أيليا أبو ماضي (1889 - 1956 م).