بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمد، و آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين. اللهم صلّ على فاطمة و أبيها و بعلها و بنيها، صلواتك و صلوات ملائكتك و أوليائك عليهم.
أبارك يوم العيد المبارك، و أشكر الإخوة الأعزاء الذين قدّموا تواشيحهم و برامجهم، و قد استفدنا منها و استمتعنا بها حقاً. و هذا النشيد الأخير هو حسن الختام في كل سنة لهذه الجلسة، و حضرة السيد سازگار ينشئ هذا النشيد في كل سنة. و قد تمّ إنشاده هذه السنة بشكل جيد جداً. المضامين جيدة، و المفاهيم جيدة، و فيها دروس و تعاليم و تذكرة.
في هذه الجلسة التي تحضرونها أيها الإخوة الأعزاء - و الأخوات المكرّمات موجودات أيضاً - خطابي أكثر شيء موجّه لكم أنتم الذين تحظون بفخر مدح و ذكر سيد الشهداء (سلام الله عليه) و أهل البيت (عليهم السلام). الحمد لله على أن عدد مداحي أهل البيت - و خصوصاً الشباب منهم - عدد كبير و كثير و جيد في هذا المجال، و الكيفيات أيضاً جيدة حقاً في بعض المواطن. قضية مدح أهل البيت (ع) هذه تعدّ في بلادنا ظاهرة، و هي ظاهرة لا نجد نظيراً لها في أيّ مكان آخر. طبعاً مميزات المجتمع الشيعي و الأمور التي تختص بهذا المجتمع و لا توجد في سائر المجتمعات الإسلامية و غير الإسلامية، كثيرة. أصل العزاء مثلاً أو أصل قراءة المصاب لأهل البيت (عليهم السلام) المرفق عادة بالمواعظ و النصائح و بيان المعارف و قضايا الساعة و طرح الآراء المختلفة و كل ما يقتضيه كل زمن، هذه مما يختص به الشيعة، و قد كانت مستمرة منذ زمن الأئمة (عليهم السلام) إلى اليوم. هذا شيء غير موجود في أماكن أخرى، و هم يشعرون بفراغه. يشعرون بفراغه في الأماكن و المناطق الأخرى و يحاولون ملأه بشكل من الأشكال، و لكن دون جدوى. لكن هذه الظاهرة، ظاهرة مدح أهل البيت، و الإنشاد في باب مديحهم و ذكر مصابهم و مراثيهم و ذكر مناقبهم و ما شابه هي أيضاً من المميزات و الأمور الخاصة، فهي غير موجودة في أماكن أخرى بهذا الشكل، و بهذه الحالة العامة و السعة - و العموم هنا سواء من الناحية الكمية أو من حيث المعاني و المفاهيم و ما إلى ذلك - . هذه الظاهرة جديرة بالعمل العلمي، أي من المناسب حقاً أن يبادر طلبة الجامعات و الأساتذة و الباحثون للتفكير في هذه الظاهرة و يعملوا في إطارها، فيفسروها و يحللوها و يدلونا على سبل تنميتها و تطويرها. الواقع أننا نستهين بهذه الظاهرة، و هي ظاهرة على جانب كبير من الأهمية. الحمد لله على أننا توفقنا و أتيحت هذه الفرصة أمامنا طوال هذه الثلاثين و نيف من السنين بأن نقيم هذه الجلسة سنوياً مع الإخوة مداحي أهل البيت (ع). قد لا يكونوا قلائل بين جماعتكم الحاضرة هنا أولئك الذين تقلّ أعمارهم عن عمر هذه الجلسة. تنعقد هذه الجلسة منذ أكثر من ثلاثين سنة. إذن، فهي فرصة جيدة من أجل أن نتحدث بمقدار معين عن هذه الظاهرة.
حول السيدة الزهراء (سلام الله عليها) - و هذا لا نقوله من باب أن المرء يريد أن يتحدث بالكلام الدارج و العادي الذي يتحدثون به - نحن قاصرون حقاً و إنصافاً و نحن أصغر من أن نروم التحدث عن ذلك المقام العظيم. ألسنتنا و بياننا و فهمنا أقصر من أن نستطيع التحدث عن حقيقة أنوار تلك السيدة العظيمة و أمثالها من الأئمة المعصومين. «خَلَقَكمُ اللهُ اَنواراً فَجَعَلَكم بِعَرشِهِ مُحدِقين» (2). هذه هي قضية أنوار الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فما نريد أن نقول الآن؟ و لكن على صعيد سيرة هؤلاء الأجلاء و سلوكهم و كونهم أسوة باعتبارهم بشراً، بلى، الكلام كثير على هذا الصعيد. و قد قالوا الكثير من الكلام، و قد أشار بعض الإخوة لذلك في أشعارهم اليوم. و الساحة واسعة و كبيرة للحديث في هذا الموضوع. نذكر عدة نقاط في هذا الخصوص.
علينا أن ننظر للسيدة الزهراء (سلام الله عليها) من هذه الزاوية الثانية، أي كونها أسوة و مثال يقتدى به. يتحدث الله تعالى في القرآن الكريم عن امرأتين باعتبارهما أسوة للمؤمنين و عن امرأتين باعتبارهما نموذجاً للكافرين «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذينَ ءامَنُوا امرَاَتَ فِرعَون» (3) ثم في الآية «وَ مَريمَ ابنَتَ عِمران» (4). يطرح الله هاتين المرأتين كنموذج للمؤمنين - لا للنساء المؤمنات بل للنساء و الرجال المؤمنين - . يمكن النظر لهؤلاء الأجلاء من هذه الزاوية، أي باعتبارهم نموذجاً و أسوة و استلهام الدروس منهم. طيب، فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) هي الصديقة الكبرى بين الصديقين و الصديقات، و الكبرى تعني أنها كانت أكبر صديقة.
و الآن، نروم أن نستلهم منها الدروس. تستلهم النساء الدروس منها، و الرجال أيضاً يستلهمون الدروس منها، الكل - العلماء والجهلاء - يستقون الدروس منها. لنرى ما الذي ورد في كلمات الأئمة المعصومين من مديح لهذه الإنسانة العظيمة. في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) حين يأتي الدور للسيدة الزهراء للصلاة عليها - و هي الزيارة المليئة بالصلوات - يقول: «اَللّهُمَّ صَلِ‌ على فاطِمَةَ بِنتِ نَبيك» (5)، هذه إحدى الخصوصيات. طيب، هذه خصوصية مهمة جداً، و هي بالطبع خصوصية لا تقبل التأسّي، لا يتاح لكل النساء أن يكنّ بنات للرسول الأكرم (ص)، لكن الانتساب للرسول بأن تكون ابنته مؤشر مقام رفيع. «وَ زَوجَةِ وَلِيك»، و هذه الثانية أيضاً لا تقبل التأسّي، فلا يمكن لكل النساء أن يكنّ زوجة لوليّ الله، لكن هذه السمة تعبّر عن رفعة المقام و سموّ الشأن و الجاه و الجلال الذي تزدان به هذه الإنسانة العظيمة. «وَ اُمَّ السِّبطَينِ الحَسَنِ وَ الحُسَينِ سَيدَي شَبابِ اَهلِ الجَنَّة» الجانب العملي لهذه الخصوصية أكثر من تلكم الصفتين السابقتين. إنه جانب عملي يختص بتربية السبطين، سبطين هما «سيدا شَبابِ اَهلِ الجَنَّة». هذه الإنسانة العظيمة هي أمهما، الحجر الطاهر لهذه الأمّ هو الذي استطاع تربية هؤلاء. هذا هو الشيء الذي يمكنه أن يمثل بالنسبة لنا نموذجاً و أسوة.
ثم يقول: «اَلطُّهرَةِ الطّاهِرَةِ المُطَهَّرَةِ التَّقيةِ النَّقيةِ الرَّضيةِ الزَّكية» (6)، و هذه كلها صفات عملية تطبيقية. الطهارة بثلاثة بيانات، و هذه البيانات الثلاثة «الطهر» و «الطاهر» و «المطهر» مختلفة من حيث المعنى. و كل هذه التعابير فيها إشارة إلى الطهارة و الطهر: طهارة الروح، و طهارة القلب، و طهارة العقل، و طهارة الأذيال و الحجر، و طهارة كل الحياة. هذه أمور تطبيقية، و هي دروس لنا، فيجب أن نحاول تطهير أنفسنا. لا يمكن الارتقاء إلى المراتب العليا من دون طهارة الباطن. و لا يمكن الوصول إلى حريم ولاية هؤلاء العظماء الأجلاء. لا بدّ من طهارة الباطن. طهارة الباطن تحصل بالتقوى و الورع و المراقبة، المراقبة و الملاحظة الدائمية للنفس تحقق الطهارة. طبعاً الإنسان يخطئ، و يمكن أن تطرأ علينا عوارض سوداء، لكن الله عرض علينا و علمنا طريق محو هذه العوارض السوداء. الطريق هو التوبة و الاستغفار. أن نستغفر. الاستغفار معناه طلب المعذرة. «استغفر الله» معناها أعذرني يا إلهي، فأنا أعتذر إليك. أن نعتذر إلى الله تعالى حقاً و قلباً و من أعماق قلوبنا. هذا هو الاستغفار، و هذا ما يمحو و يزيل تلك العوارض و البقع السوداء. طيب، يقول: «اَلطُّهرَةِ الطّاهِرَةِ المُطَهَّرَة، التَّقية» و هذه هي التقوى نفسها. «اَلنَّقية» و يقصد بها النقاء و الطهارة الباطنية و القلبية. هذه خصوصيات فاطمة الزهراء (سلام الله عليها). يجب أن ننظر لهذه الصفات كنموذج و أسوة، و نقرّب أنفسنا منها.
طيّب، إنكم باعتباركم مداحي أهل البيت (ع) عندما تريدون التحدث عن فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) يجب أن تدرجوا هذه الصفات و المثل في بياناتكم و أشعاركم و مدائحكم. نعم، عندما تذكر المراتب و المدارج المعنوية للأئمة (عليهم السلام) و فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) يتنوّر قلب المستمع. و عندما يقرأ الإنسان المراتب المعنوية يتنور قلبه، و يكتسب حالة حضور و خضوع، و هي حالة حسنة جداً. هذا شيء محفوظ و لازم في محله، لكنه غير كاف. الآن و قد حصلت حالة الحضور هذه و تنوّرت قلوبكم يجب أن نستلهم الدروس. و الدروس كامنة في هذه العبارات التطبيقية. بمعنى أن نحاول في كل منبر - سواء في الأيام الفاطمية أو في أيام عاشوراء أو في الأوقات الأخرى - أن نستمد الدروس من الأئمة (عليهم السلام). درس أن يكون الإنسان إنساناً، و درس الكمال، و درس التقرب إلى الله. يجب أن نقتبس الدروس و نتعلم. المحبة وحدها لا تكفي. طبعاً المحبة مجدية و مفيدة لكنها غير كافية، و لا بدّ من الولاية. و الولاية معناها التولي و الاتباع و الإمساك بأذيالهم و عروتهم، و أن يسير المرء في الدرب الذي مشى هؤلاء عليه. هذا هو اللازم.
هذه نقطة اعتقد أنه ينبغي أخذها بنظر الاعتبار في عملية مدح أهل البيت (ع)، و خصوصاً بالنسبة للقرّاء و الشعراء الذين ينظمون الأشعار و يصوغون المعاني. أحياناً يرى المرء أنهم يذكرون فضائل لم ترد في أية رواية و لا في أية عبارة عن المعصوم، و هي في الواقع ليست بفضيلة. يقول الشاعر: «من قاس وجهك بالقمر عن خطأ» إنما انتقص من قدرك (7). تشبيههم بالقمر و تشبيههم بالشمس ليست أشياء تحقق قيمة لهم، خصوصاً بالنسبة لأجلاء و عظماء لهم مراتب معنوية و مدارج إلهية تذهل أعين أهل المعنى، ناهيك عنّا نحن الذين لا نمتلك تلك الأعين حتى نفهم بها. و أحياناً تذكر أمور كلية لا يفهم منها شيء و لا يستفيد المستمع منها شيئاً. إذن، فكرتي الأولى التي أروم قولها لكم أيها الإخوة الأعزاء هي أن تنتفعوا في مدح هؤلاء العظماء - سواء السيدة الزهراء (سلام الله عليها) أو إئمة الهدى (عليهم السلام) - بالتأكيد من الأمور العملية التطبيقية في حيواتهم.
نقطة أخرى شائعة في الوقت الحاضر بين جماعة مداحي أهل البيت (ع) لحسن الحظ هي الاهتمام بشؤون الساعة، و قد سمعتم اليوم هنا أنهم ذكروا في مواضع مختلفة أموراً حول المدافعين عن الحرم و قضايا الساعة الجارية. هذه أمور مهمة جداً، و هي قضايا أساسية. يجب أن لا نتصور أن هذه أمور خارجة عن نطاق تديننا. لاحظوا الرسول الأكرم (ص) و سيد الخلائق في العالم و الذي لم يخلق الله تعالى أي كائن أرقى منه، و هو رسول هذا الدين و هذا الإسلام الذي ننادي به اليوم، لاحظوا كم بذل من الجهود على صعيد قضايا بلاده الجارية - البلاد التي كانت آنذاك و هي بلاد صغيرة - و كم كان يتحمل من المشاق. لم يكن الرسول الأكرم (ص) يجلس فقط و يعلم الناس أحكام الصلاة و الصيام و التوجه إلى الله و العبادة و صلاة الليل، لا، بل كان يجمع الناس في المسجد و يدعوهم إلى الجهاد، و يدعوهم إلى الوحدة، و يدعوهم إلى الوعي مقابل العدو، و هذه هي نفس الأمور و القضايا المطروحة بالنسبة لنا أنا و أنتم اليوم. قضايا الساعة ليست بالأمور التي يمكن للمرء غض الطرف عنها.
لاحظوا، ثمة في العالم نظام هو نظام الاستكبار و العسف و الظلم. طبعاً كانت مثل هذه الأنظمة موجودة في الماضي أيضاً، لكنها أصبحت اليوم حديثة بتجهيزات و معدات و وسائل جديدة. القوى المتفوقة تفرض على الشعوب منطق القوة و العسف، و ليس لأساليبها هذه من حدود. إذا كان لديهم أموال يأخذونها، و إذا كانت لديهم طاقات إنسانية لائقة يسرقونها منهم، و إذا كانت لديهم مواهب تهددهم و تخلق لهم منافسين يخنقون تلك المواهب. منطق القوة و العسف له أشكال و أنواع مختلفة. هذا العسف موجود في العالم اليوم. النظام العالمي الذي يسمونه المجتمع العالمي معناه نظام العسف و منطق القوة، و إلّا ليس المراد من المجتمع العالمي الحكومات و الشعوب في العالم. الحكومات و الشعوب في العالم تكره أشكال هذه القوى المتفوقة في العالم و التي تسمّي نفسها المجتمع العالمي. المجتمع العالمي معناه هؤلاء الأشخاص الذين ينطلقون في أمورهم من منطلق العسف ضد كل العشوب و كل البلدان. و نحن في الجمهورية الإسلامية شاهدنا نماذج هذه الأساليب قبل نظام الجمهورية الإسلامية، أي خلال فترة النظام الطاغوتي بشكل من الأشكال، و بعد تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية بشكل آخر. ثمة اليوم نظام في العالم بهذا الشكل. و هناك الكثير من الساخطين على هذا النظام و غير الراضين عنه. الكثير من الشعوب غير راضية عنه. و لكنها شعوب مغلوبة على أمرها، و لا أحد يسمع صوتها، لا تمنح لها وسائل إعلام مجدية، و لا يؤخذ كلامهم أصلاً بالاعتبار في مكان ما. و لنفترض أن عشرة آلاف شخص يجتمعون في وسائل الإعلام الألكترونية و ما شاكل، داخل واحدة ألكترونية معينة، و يقولون كلاماً معيناً، أو يتجمعون في الشوارع، و ما الفائدة من ذلك؟ في قضية الهجوم الأمريكي على العراق قبل أقل من خسمة عشر أو ستة عشر عاماً خرجت مظاهرات في شوارع باريس و بعض البلدان الأوربية تعارض أمريكا، فما كان تأثيرها؟ الشعوب لوحدها و من تلقاء نفسها لا تستطيع فعل شيء، إنما الحكومات إذا حظيت بدعم شعوبها يمكنها أن تقول شيئاً و يطرح هذا الكلام في العالم، و مثل هذه الحكومة غير موجودة في العالم. هناك حكومات لكنها تخاف، إنها غير راضية لكنها تخاف. أتخطر أنني قلتُ في كلمتي بمناسبة بداية العام (8) بأن رؤساء النظام الطاغوتي أيضاً كانوا غير راضين في أحيان كثيرة عن أعمال أمريكا. حينما ينظر المرء في مذكرات المتبقين منهم يجد أنهم في بعض المواطن كانوا غير راضين أبداً و يتكلمون عنهم كلاماً سيئاً في خلواتهم، لكنهم لا يتجرأون على الاعتراض و المخالفة. لا يتجرأون على ذلك بصفتهم حكومة و كياناً سياسياً و إدارة للمجتمع. هكذا هو الحال في العالم اليوم. الكثيرون غير راضين لكنهم لا يتجرأون على المعارضة.
و في هذه الغمرة، و في هذه الغابة الفوضوية الغارقة في الظلم و الجور، ظهر نظام في العالم له ركائز و أسس تمثل الوضع المعاكس تماماً لذلك الشيء الذي يقوم عليه النظام العالمي اليوم، الحالة المعاكسة للظلم، و الحالة المعاكسة للاستغلال، و الوضع المضاد لإثارة الحروب، و الحالة النقيضة للفساد. ذلك النظام هو نظام الجمهورية الإسلامية. ظهر هذا النظام على أساس الإسلام و على أساس الدين و على أساس الأفكار الإسلامية الخالصة الأصيلة، و تولت جماعة رئاسة هذا النظام منذ البداية و كانت طبيعة هذه الجماعة أنها لا تخاف من القوى الكبرى، و هم رجال الدين. هذا ما يقوله المحللون و علماء الاجتماع الغربيون اليوم أنفسهم. و قد كانوا يقولونه منذ مطلع الثورة الإسلامية، كانوا يقولون إن رجال الدين هؤلاء لا يخافون منا. طبعاً بعضهم قد يكونوا تابعين و هم تابعون، لكن هذه هي طبيعة نظام رجال الدين في المجتمع الشيعي. و قد كان هؤلاء على رأس هذا النظام، و واكبهم الشعب و رافقهم. و الشعب أولاً شعب موهوب و ثانياً الشباب فيه كثيرون - وصل عدد سكاننا من 35 مليوناً في بداية الثورة إلى حوالي 80 مليوناً الآن، بمعنى أن عدد السكان ازداد فجأة، مع أنهم يتآمرون حتى على هذا الجانب - المواهب كثيرة، و هم شجعان و لا يخافون. طيب، عندما يفكر الشعب في بلد من البلدان بهذه الطريقة، و رؤساء الدولة لا يخافون من الهيمنة العالمية سيعتبر هذا خطراً أساسياً على الاستكبار، إنه خطر كبير تماماً. لذلك تتكون ضده جبهة، كما تشكلت الآن جبهة ضد الجمهورية الإسلامية. و ليس الآن، بل تشكلت هذه الجبهة منذ اليوم الأول للثورة، تشكلت جبهة من الأعداء. و قد كان الاتحاد السوفيتي يومذاك و كانت أمريكان على الضدّ منه، و إذا كان هذان الطرفان مختلفين في مائة قضية - تزيد أو تنقص - لكنهما كانا متفقين في معارضة الجمهورية الإسلامية و معاداتها. طبيعة الاستكبار أن يعادي مثل هذا النظام.
إذن، شكّلوا جبهة، و هي جبهة موجودة اليوم أيضاً، و تستخدم شتى الأساليب. كما لم تكن شبكة الإنترنت مثلاً قبل عشرين سنة و هي موجودة اليوم، فالأدوات و الوسائل تتطور يوماً بعد يوم. يستخدمون أكثر الأدوات و أوسعها و أسرعها ضد الجمهورية الإسلامية، و على الجمهورية الإسلامية بدورها أن تعد نفسها للاستفادة من كل هذه الوسائل و الأدوات. يستخدم العدو وسيلة الدبلوماسية. الدبلوماسية و الحوار السياسي و التفاوض السياسي و التعامل السياسي من هذه الأدوات. إنهم يستخدمون هذه الأداة. إنني لا أعارض الحوار السياسي، طبعاً ليس مع الجميع - فهناك استثناءات - إنني أوافق الحوار السياسي حول القضايا العالمية. كان لي رأيي في هذه المجالات منذ زمن رئاسة الجمهورية و كنتُ أتابع الموضوع. لا يتظاهروا و كأننا نعارض الحوار و ما شابه من الأساس، لا، إننا نوافق هذا الشيء أكثر منهم، و في بعض المواطن نجيده أكثر منهم، و نعلم كيف ينبغي العمل. العدو أيضاً يستخدم الحوار السياسي، فيجب الحذر.
إذن، هو يستفيد من المفاوضات، و يستفيد من المبادلات الاقتصادية، و يستخدم الحظر الاقتصادي، و يستخدم التهديد بالحرب و السلاح، و ينبغي التوفر على قوى دفاعية مقابل كل هذه الأساليب.
أنْ يقول البعض «عالم الغد عالم المفاوضات و ليس عالم الصواريخ»، فإذا كان هذا الكلام نابعاً من عدم وعي فهو بالتالي عدم وعي، و لكن إذا كان يقال عن وعي فهو خيانة. كيف يمكن مثل هذا؟ إذا سعى نظام الجمهورية الإسلامية إلى العلم و التقنية و المفاوضات السياسية و مختلف النشاطات التجارية و الاقتصادية - و كل هذه النشاطات لازمة - و لكنه لم يتوفر على قوة دفاعية و لا يقدر على الدفاع، فإن أيّ تافه و أية حكومة مجهرية صغيرة فلانية ستهدده بأنك إذا لم تفعل الشيء الفلاني فسنقصفك بالصواريخ. طيب، إذا لم تتوفر لديكم القدرة على الدفاع ستضطرون للتراجع.
القوى التي تشاهدونها في العالم تتحدث بقوة و صوت قوي و تتعسف و ترتكب الحماقات و تطلق كلاماً سيئاً، تفعل ذلك توكؤاً على تلك الأسلحة التي تمتلكها أكثر من أي شيء آخر، وإذا بنا نخلي أيدينا مقابلهم؟ عندما يستعرض الحرس الثوري تقدمه في الصواريخ لا يبعث ذلك الفخر و الاعتزاز لدى الإيرانيين فقط، إنما حين تختبر صواريخ الحرس بهذه الدقة و بهذه الروعة فستفرح كثير من الشعوب التائقة إلى الحرية حولنا، و التي امتلأت قلوبهم قيحاً من أمريكا و الكيان الصهيوني. عندما يحدث هذا نأتي نحن و ننال منهم و نقول إن الزمن لم يعد اليوم زمن الصواريخ؟! لا، لم يمض زمن الصواريخ، و العدو يحدّث و يطور نفسه دائماً و يزيد من جاهزيته، ثم نتراجع نحن هنا بسذاجة و نقول لا؟! هذا يشبه ما حدث في بداية الثورة حيث كانوا يريدون بيع طائرات الأف 14 الإيرانية و إعادتها، و لم أسمح أنا بذلك. اطلعتُ على أن أحد شخصيات الحكومة المؤقتة في ذلك الحين قال إن طائرات الأف 14 التي اشتراها نظام الطاغوت لا تنفعنا فما نريد أن نفعل بطائرات الأف 14 هذه؟! لنعيدها للأمريكان. هناك وقفنا، و أثرنا ضجة، و أجرينا مقابلات، و واجهنا هذا الإجراء، فلم يتجرأوا على فعل ذلك، و كانوا يريدون إعادتها. و بعد فترة قصيرة وقعت الحرب بين إيران و العراق، و هجموا علينا و تبيّن كم نحن بحاجة لهذه الأدوات التي عندنا، و هذه الطائرات أف 14 و أف 4 و ما شابه. و اليوم أيضاً يعزف البعض نفس اللحن فيقولوا ما الصواريخ و ما نريد من الصواريخ، فالزمن ليس زمن صواريخ؟! زمن ماذا هو إذن؟
الزمن اليوم زمن كل شيء. إنه زمن التفاوض، فيجب أن نكون أقوياء في التفاوض، و ينبغي أن نتفاوض بحيث لا ننخدع بعد ذلك. أنْ نتفاوض و نكتب على الورق بعض الأشياء و نوقع، ثم يقومون هم ببعض الأعمال في الظاهر، لكن الحظر لا يرفع و التجارة لا تجري، فواضح أن هناك مشكلة، و يجب أن لا نسمح بحدوث مثل هذه المشاكل و العقبات، و ينبغي أن نقوّي أنفسنا على ذلك الصعيد أيضاً. و كذا الحال بالنسبة لاقتصاد البلاد في الداخل، و قد قلنا إنه لا بدّ من المبادرة و العمل (9) أي يكفي القول و الكلام، و كما يقول الشاعر «لا يعادل مائتا قول نصف فعل». و عندما نكرر كثيراً و نقول الاقتصاد المقاوم فإن الكلام سيغدو مكروراً و مملاً لا تستسيغه الأفواه. لنعمل، فالقصد هو أن البلد يحتاج إلى العمل.
هذا كله في جانب من القضية و المساعي التي يقوم بها العدو لتغيير معتقدات الناس في الجانب الآخر من القضية. هنا سيكون لكم دور مهم. عندما تدافعون عن المدافعين عن الحرم سيكون عملكم هذا قيماً جداً. هذه الأشعار التي قرئت و أنشدت و هذا الكلام الذي قيل، هذه أشياء لها قيمة كبيرة، و لا شك في هذا، و لكن ثمة إلى جانب هذا عمل إذا لم تكن أهميته أكبر فإنها ليست بأقل، و هو تعزيز معتقدات الشباب. العدو يروم تغيير المعتقدات، الاعتقاد بالإسلام و الاعتقاد بكفاءة النظام الإسلامي، و الاعتقاد بإمكانية استمرار النظام. و العدو يعمل و ينشر إعلامه بخلاف البديهيات. أحياناً يعمل ضد شيء واضح و كأنه يريد إثباته بالخداع و الحيل و التعتيم. منذ اليوم الأول الذي ولد فيه النظام الإسلامي و إلى اليوم كان دائماً عرضة لهجمات عاتية، هجمات كبيرة عسكرية و إعلامية و الحظر و ما شاكل، و مع ذلك فقد تطور النظام الإسلامي في هذه الأعوام السبعة و الثلاثين. أي لم يمر يوم واحد توقف فيه هذا التطور. لقد تطور من كل النواحي و ازداد اقتداره و عظمته من كل النواحي. ينظر العدو اليوم فيرى أن تلك الغرسة الصغيرة الرقيقة التي تكوّنت في بداية الثورة تحوّلت اليوم إلى شجرة ضخمة فارعة «تُؤتي اُكلَها كلَّ حينٍ بِاِذنِ رَبِّها» (10). هذا ما يرونه أمام أعينهم. طيب، هذا النظام القادر على المقاومة و البقاء حياً و الانتشار و ازدياد القوة باستمرار، سوف يزداد قوة بعد الآن أيضاً باستمرار، سوف يزداد قوة يوماً بعد يوم. الشيء الذي رسمناه لآفاق المستقبل ليس بأخيلة، بل هو واقع. قبل ثلاثة أو أربعة أعوام قلتُ للشباب من الطلبة الجامعيين و العلماء اعملوا ما من شأنه أن يضطر الذي يريد الاطلاع على الجديد في العلوم أن يتعلم اللغة الفارسية (11)، و هذا شيء ممكن و متاح، كما أن الحراك العلمي و التقدم العلمي الذي تحدثنا عنه قد تحقق خلال هذه الأعوام العشرة أو الخمسة عشر. عندما يعقد الشباب هممهم و عندما تكون لأصحاب الهمم عزيمتهم و إرادتهم سوف تتسهل كل الأعمال الصعبة. بوسعنا أن نتقدم. و في الوقت ذاته يحاول العدو التأثير على معتقدات شبابنا، فيقول لهم: «و ما الفائدة من ذلك، هذا شيء غير ممكن، و لا فائدة منه». هذه هي الساحات التي تنصب عليها الحرب النفسية للعدو، و أنتم بوصفكم مداحين لأهل البيت (ع) تستطيعون التأثير و يمكنكم أن تقووا هؤلاء الشباب من حيث البنية الفكرية.
حين أعترضُ على بعض مداحي أهل البيت (ع) بأن المرء عندما ينظر لمراسم العزاء في عشرة محرم - و أحياناً يأتون بصور هذه المراسم، و قد كثرت وسائل الاتصال هذه في الوقت الحاضر، و أنا طبعاً لا أمتلك من هذه الوسائل، لكنهم يأتوننا أحياناً ببعض الصور و ما شابه و يعرضونها علينا - يرى الإنسان مثلاً أن الجميع في بعض جلسات هذه المراسم يقفزون إلى الأعلى و يعودون إلى الأرض، طيب، ما فائدة هذه الأعمال؟ و ما تأثير هذه الأفعال؟ أين العزاء في هذه الأعمال؟ حين أعترضُ فإنا لستُ منزعجاً من هياج الشباب، فالشباب من أهل الهياج بطبيعتهم، و الشباب مصدر طاقة و يريدون دوماً تحرير طاقتهم، إنما أقول ذلك من باب أن لا تترك هذه الواجبات الجسام. عندما يجتمع عشرة آلاف شاب أو خمسة آلاف شاب في مجموعة واحدة و يمنحونكم قلوبهم فإنكم تستطيعون بأداء مميز و فني و عميق المعاني أن تحولوهم إلى أناس كفوئين يتوجهون بعزيمة حاسمة نحو العمل، و يمكنكم في الوقت ذاته تبديلهم إلى أناس لاأباليين و عديمي التفكير و يائسين و مفلسين من الناحية المعنوية، يمكن فعل هذا أيضاً. استفيدوا من هذه الفرصة و اختاروا الحالة الأولى. هذا هو ما أقوله.
المدح إضافة إلى كونه مدحاً لأفضل مخلوقات العالم - موضوع المدح هم أفضل مخلوقات العالم، أي أهل بيت النبي (عليهم السلام) لذلك فهو عمل ذو شأن و مرتبة عالية، هكذا هو مدح أهل البيت بشكل طبيعي - و لكن انظروا و لاحظوا أن شاعراً مثل دعبل الخزاعي ماذا يقول في قصيدة «مدارس آيات»، قصيدة «مدارس آيات» تلك القصيدة التي شجعها الإمام الرضا (سلام الله عليه) أعطى شاعرها كسوة و صلة. إنها قصيدة شككت في كل كيان بني العباس و مبرر وجودهم، و أدانتهم، أي إنها قصيدة سياسية محضة، فهي ليست مجرد تعزية أم مرثية محضة، لا، المراثي لازمة، و لكن الأمر الذي كان يحصل إلى جانب المراثي و التعازي كان موضع اهتمام الأئمة (عليهم السلام). قصيدة دعبل، و قصيدة الكميت، و قصائد مختلفة للشعراء آنذاك، و كان الآخرون أيضاً ينشدونها و يقرأونها، أي مثلكم حينما تقرأون للناس، سواء الشاعر نفسه أو آخرون كانوا يقرأون هذه القصائد للناس. و قد كانت هذه هي وسائل الإعلام العامة. و بوسعكم أن تستفيدوا من هذه الوسائل الإعلامية العامة و تعملوا على هداية الناس. هذا برأيي عمل أساسي جداً.
معروف أن شرف أي علم منوط بشرف موضوع ذلك العلم. كلما كان موضوع العلم أشرف كان ذلك العلم أشرف. و إذا عممنا هذا القول من العلوم إلى الأشغال و الأعمال، فإن موضوع عملكم و هممكم هو مدح أهل البيت (عليهم السلام) و رفع مستوى البصيرة و توعية المستمعين، و هذا أرفع الأمور و شيء له قيمة عظيمة جداً، فانتفعوا من هذه القيمة. و الحمد لله على أن عدد مداحي أهل البيت (ع) كبير، و أنتم الجماعة الذين تفضلتم بالمجئ هنا اليوم جماعة جيدة لكن عدد مداحي أهل البيت أكثر من هذا في كل أرجاء البلاد. العدد في كل مكان كبير و الحمد لله، فهناك أفراد راغبون يعملون في هذا المجال. على كل حال هذه رسالة مهمة جداً، و يجب أن تهتموا بهذه الرسالة. طبعاً للشعراء أيضاً دور مهم، فالشعراء الذين ينظمون الشعر لهم دور مهم، لكن الشعر من دون أداء جيد قليل التأثير، و حينما تنشدونه بذلك الأداء الراقي الجيد سيكون مؤثراً.
نتمنى أن يوفقكم الله تعالى و أيانا لنستطيع أولاً تشخيص ما هي وظائفنا و فهمها، ثم نعمل بها إن شاء الله.
و السّلام عليكم و رحمة الله.

الهوامش:
1 - في بداية هذا اللقاء قرأ عدد من مداحي و شعراء أهل البيت (ع) أشعاراً و مدائح تضمنت فضائل و مناقب للسيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).
2 - من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 613 .
3 - سورة التحريم، شطر من الآية 11 .
4 - سورة التحريم، شطر من الآية 12 .
5 - كامل الزيارات، ص 310 .
6 - من لا يحضره الفقيه، ج 2 ، ص 603 .
7 - إشارة إلى بيت وثوق الدولة «من قاس وجهك بالقمر خطأ، قال إنه انتقص منك بمقدار وزنك».
8 - كلمته في حشود الجماهير بالحرم الرضوي الشريف في تاريخ 20/03/2016 م .
9 - إشارة إلى شعار هذه السنة «الاقتصاد المقاوم، المبادرة و العمل».
10 - سورة إبراهيم، شطر من الآية 25 .
11 - من ذلك كلمته في المشاركين في المتلقى الوطني السابع للنخبة الشباب بتاريخ 09/10/2013 م .