بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين، سيما بقية الله في الأرضين.
نحمد الله تعالى من أعماق وجودنا على الانتخابات الجيدة التي حظيت في كل أرجاء البلاد بإقبال واسع من قبل شعبنا العزيز (2)، و تشكّل و الحمد لله مجلس رصين محترم. أرحب بكل الإخوة الأعزاء، السادة المحترمين، و العلماء و الفضلاء الأجلاء، و خصوصاً الجدد منهم و الذين يلتحقون بهذا المجلس المحترم لأول مرة، و ثمة بينهم و الحمد لله عدد من الشباب النشطين المجتهدين المتوثبين. نتمنى أن يوفقكم الله جميعاً و أيّانا لنستطيع النهوض بواجباتنا.
نحيّي ذكرى الراحلين في هذا المجلس، الأعزاء الأجلاء الذين شاركوا لسنين في هذا المجلس، و قاموا بأعمال و قدّموا خدمات، فأعلى الله من درجاتهم، و كان آخرهم أخونا العزيز المرحوم الشيخ طبسي (رضوان الله تعالى عليه) و نسأل الله أن يمنّ بالأجر على جهود ذلك الرجل الخدوم الدؤوب الذي عمل في هذه الحقبة الصعبة المحفوفة بالمخاطر، فيكون ذلك قرّة عين له.
تشكيل هذه الجلسة تزامن مع شهر شعبان، و هو شهر الأعياد الكبيرة و شهر التضرع و الخشوع و الاستغفار، فنتفأل خيراً بهذا التزامن. لقد كان شهراً مهماً و هو آيل إلى النهاية. ندعو الله أن لا يكون قد تركنا عديمي الاستفادة من بركات هذا الشهر «اَلَّذي كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ يدأَبُ في صيامِهِ وَ قيامِهِ في لَياليهِ وَ اَيامِه» (3).
الشيء الذي أعددته لأقوله يتألف من ثلاث نقاط رئيسية: نقطة تتعلق بهوية هذا المجلس، و نقطة تختص بمسيرة هذا المجلس و الواجبات الملقاة على عاتقه، أي كيف تبدو مسيرة هذا المجلس و اتجاهه. و نقطة ثالثة سنذكرها في النهاية، إذا بقي لنا متسع من الوقت و لم يطل الكلام كثيراً، حول الواجبات العامة التي تقع على عاتق الجميع في هذه الفترة، و من ذلك ما يقع على عواتقنا نحن و أنتم و هذا المجلس و الآخرين.
حول هوية هذا المجلس أجد ،حينما أفكر، بأن هذه موهبة إلهية منحها الله تعالى لنظام الجمهورية الإسلامية. مجلس خبراء القيادة موهبة من الله، و هي شيء عظيم. مع أن هذا المجلس تشكل لهدف معين مصرّح به في دستور البلاد، و لكن بصرف النظر عن ذلك الهدف، فإن هذا المجلس يعتبر حدثاً مهماً للغاية، فهو ظاهرة.
لماذا؟ لأنه مجموعة من العلماء و الخبراء و المتخصصين الدينيين و العلميين من مختلف أنحاء البلاد، يجتمعون في كل سنة مرتين أو أكثر إذا اقتضت الحاجة، بمناسبة هذه المسؤولية، و يخلقون إمكانية و طاقة هائلة لتبادل وجهات النظر و التفكير و التنسيق.
لا ننسى في بدايات النهضة - في سنوات 41 و 42 - [1962 و 1963 م] حيث كان الإمام الخميني العظيم (رضوان الله عليه) يوصي و يبعث الرسائل و التوصيات إلى علماء المدن بأن اجتمعوا بين الحين و الحين، حتى لو كان ذلك من أجل احتساء الشاي، مجرد أن تجتمعوا و تلتقوا بعضكم، حتى لو لم تكن هناك قضية جدية مهمة. أي إن اجتماع العلماء و الخبراء الدينيين و العلميين في البلاد مهم إلى هذه الدرجة.
انظروا اليوم إلى العالم، و ستجدون أن هناك أفراداً لهم قواسم مشتركة معينة يجتمعون بذرائع شتى و تحت مسميات متنوعة - تحت عنوان اتحاد و جمعية - و تقوم هذه المجاميع بأعمال كبيرة قد لا تتعلق كثيراً بعض الأحيان بمهنها و تخصصها. خذوا على سبيل المثال اتحاد الاقتصاديين، و اتحاد الحقوقيين الدوليين، و اتحاد الفنانيين الدوليين، و ستجدون أنهم يصرّحون و يبدون مواقفهم و آراءهم بخصوص القضية السياسية الفلانية في البلاد أو العالم و على المستوى الدولي. أي إنهم يشكلون الاتحادات و الجمعيات ليستطيع الأفراد الذين لهم قاسم مشترك - بأيّ شكل من الأشكال كان - حتى لو كانت أذواق و مشارب مختلفة، أن يجتمعوا، و نفس هذا الاجتماع يمنحهم فرصة ليستطيعوا القيام بأعمال كبيرة و يؤثروا في مسيرة بلادهم أو المسيرة الدولية. هذا شيء دارج في العالم.
و لدينا مثل هذا الشيء الآن، فلقد أهداه الله تعالى لهذا البلد. يجتمع جماعة من علماء الدين و رجال الدين المبرزين المحترمين الموثوقين من قبل الشعب حول بعضهم، و هذا يخلق إمكانية و طاقة عظيمة، و يمكنه أن ينجز عملاً كبيراً. لا يمكن أن يقعدوا و ينتظروا حتى تحصل تلك المسؤولية المصرح بها في دستور البلاد ليعملوا بها، لا، إنما يستطيعون القيام بالكثير من الأعمال الأخرى.
هذه التجمعات و المجاميع و الاتحادات التي قلنا إنها تتشكل في العالم ليس لها أية أرصدة أو دعامات جماهيرية، فهم اقتصاديون أو حقوقيون، و هناك من يهتم بهم في حدود حقلهم العلمي، و لكن لا توجد لهم دعامات و امتدادات شعبية داخل المجتمعات، بخلاف هذا المجلس. الأشخاص المتواجدون في هذا المجلس كلهم لهم امتدادات شعبية تزيد أو تنقص. و لبعضهم دوائر شعبية واسعة جداً. المبرزون من رجال الدين في محافظة أو مدينة أو حوزة علمية ممن يمكنهم التأثير، يجتمعون حول بعضهم و يستطيعون التفكير و تبادل الأفكار حول مختلف المسائل و الأمور، و يمكنهم التركيز على قضية من قضايا البلاد و متابعتها.
ينبغي عدم القول إن العملية التنفيذية ليست في أيدينا. نعم، التنفيذ ليس في أيدي هذا المجلس، بل هو في أيدي المسؤولين، و لكن ثمة شيء أعلى من التنفيذ في أيديكم، و هو الرأي العام. إنكم إما أئمة جمعة، أو ممثلون للولي الفقيه، أو مدرسون مرموقون في الحوزة، أو رجال دين معرفون و محترمون، و يمكنكم التأثير على الرأي العام. عندما يتكون الرأي العام و يتشكل خطاب في المجتمع حول قضية من القضايا، فإن ذلك سوف يدفع المنفذين و المشرعين و العاملين بنحو طبيعي باتجاه معين. هذه حالة طبيعية. و عليه، أعتقد أن هذا المجلس من هذه الناحية حالة استثنائية، و ظاهرة، و علينا الاهتمام بهذه الظاهرة.
إذن، نستنتج أنه بالنظر لهذه الهوية البارزة و السامية، يستطيع هذا المجلس القيام بأعمال كبيرة باتجاه أهداف الثورة. قبل سنوات من الآن - ربما قبل دورة أو دورتين سابقة - قلتُ في نفس هذا المجلس (4) إنكم تستطيعون إصدار قرار و بيان حول القضايا المختلفة. ركّزوا حول قضية معينة و قولوا إن هذه هي مطاليب مجلس خبراء القيادة بخصوص هذه القضية. مجلس خبراء القيادة منتخب من قبل الشعب، و هم ليسوا أشخاصاً عاديين، بل على اتصال بالناس، و الناس يثقون بهم، و هم من أهل الخبرة و العلم و المعرفة و التشخيص، و يمكنهم أن يكون لهم مطلبهم بخصوص قضية لهم تشخيصهم فيها، يمكن أن يكون لهم مطلبهم إما من القيادة أو من الحكومة أو من السلطة القضائية أو من مجلس الشورى الإسلامي، أو من الأجهزة المختلفة. هذا ما يتعلق بالنقطة الأولى الخاصة بهوية هذا المجلس، و اعتقد أنها نقطة مهمة جداً. علينا جميعاً أن نعرف قدر هذا المجلس، أنتم يجب أن تعرفوا قدره، و نحن أيضاً يجب أن نعرف قدره، و على المسؤولين كذلك أن يعرفوا قدره، فهذا المجلس يمكنه أن يكون مصدر تأثيرات كبيرة.
أما النقطة الثانية فتتعلق بمسار هذا المجلس و اتجاهه. بكلمة واحدة اعتقد أن مسار الثورة و أهداف الثورة هو مسار هذا المجلس، بمعنى أن هذا المجلس يجب أن يتحرك في مسار الثورة و أهدافها.
ما هي أهداف الثورة؟ إنها سيادة الإسلام بالدرجة الأولى. بل إن الثورة قامت من أجل هذا. من أجل سيادة الإسلام، من أجل أن يسود الإسلام بالمعنى الخاص للإسلام. أهداف الثورة هي سيادة دين الله، و الحرية، و العدالة الاجتماعية، و الرفاه العام، و استئصال الفقر و الجهل، و المقاومة حيال السيول المدمرة للفساد الأخلاقي المنحدر من الغرب على العالم برمّته، و أنتم ترون ملامح ذلك اليوم. يشرعنون الشذوذ الجنسي و يجعلونه قانونياً، و لا يجعلونه قانونياً و حسب، بل يحاربون بشدة من يخالف هذه القضية، فهل فساد فوق هذا؟! البعض كان يتصور - في السنين السابقة - أن الأهواء و النزوات تقل في الغرب حيث الاختلاط و الارتباط الحرّ بين المرأة و الرجل، و إذا كانت هناك قيود سيكون الإنسان حريصاً على ما منع! و تبين الآن أن الأمر على العكس من ذلك، فحيث توجد حرية و لا توجد أي حدود أو قيود للارتباط بين المرأة و الرجل، تتزايد الشهوات الجنسية يوماً بعد يوم و تزداد قوة و نشاطاً و عنفاً و هجومية. و سوف لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي المستقبل الذي لا نعلم متى سيكون، سيصل الأمر إلى الزواج من المحارم! و سيؤدي الأمر إلى أوضاع أكثر حسياسية. بمعنى أن عالم الفساد الأخلاقي سائر نحو هذا الاتجاه. هذا عن الجانب الأخلاقي.
و كذا الحال بالنسبة للجانب الاقتصادي. غسيل الأموال.. يذكرون غسيل الأموال و يعتبرونه جريمة، لكن أهم الشركات الكبيرة في العالم مهمّتها عبارة عن هذه الألاعيب المالية و تخزين الثروات التي تمتلكها، و هذا ما يؤدي طبعاً إلى التمييز و إلى الفوارق الطبقية المتفاقمة. هذا سيل مدمر ينحدر نحو كل البلدان و المجتمعات. و من أهداف الثورة المقاومة حيال هذا السيل المدمر.
المقاومة إزاء هيمنة الاستكبار أحد أهداف الثورة. الهيمنة هي من طبيعة الاستكبار، فهو ينشد الهيمنة و يتعطش لها، و يسعى إلى توسيع هيمنته و بسطها، و أي شعب و أي نظام لا يقاوم ذلك سيقع أسيراً في فخهم. هذا من أهداف الثورة. مسار حركة هذا المجلس هو مسار أهداف الثورة.
و هذه عملية صعبة، إنها من أصعب العمليات. لاحظوا أن الشيء الذي يجري التنافس أو التخاصم عليه، من الصعب الحصول عليه، لكن الاحتفاظ به أصعب. لنفترض مثلاً بضاعة ثمينة أو جوهرة ثمينة لها الكثير من الطلاب، و تدخلون في هذا السباق و تحصلون عليها بجهود مضنية، فإن الاحتفاظ بها أصعب من الحصول عليها. و السبب واضح، لأنكم حينما تنزلون إلى ساحة النزاع ستكونون مهاجمين، و تدخلون بروح هجومية، و بمحفزات و دوافع، و تعلمون ما هو هدفكم، و تتحركون صوب هدف معين، و لكن حين تحصلون عليها فإن الطرف المقابل الذي يريد انتزاعها منكم سيكون هو صاحب الروح الهجومية، و هو المهاجم و المتحفز، و لا تعلمون من أي صوب سوف يتحرك، و من أي جهة سيهجم، لكنه يبرمج و يخطط و يهاجمكم. لقد كانت الثورة عملية صعبة، لم يكن خلق الثورة عملاً سهلاً، بل كان يتطلب مبادرات و مساع و مرارات و هموماً، و قد حرك الإمام الخميني الجليل هذا الشعب و هذه المجاميع الناشطة المناضلة بشعاراته و بروحيته و بتقواه و بإيمانه و بصدقه، و قام بهذا العمل الصعب، و صنعت هذه الثورة نظاماً و نجحت و انتصرت، لكن الحفاظ عليها و صيانتها أصعب، الحفاظ عليها أصعب. الأعداء، أولئك الذين كان الكفاح موجهاً ضدهم لخلق هذه الثورة لا يقعدون بلا عمل و لا يكفون، بل يسعون لاختطاف هذه الثورة من أيديكم، كما شاهدتم في بعض البلدان - في هذه الأعوام الأخيرة - قامت الشعوب بتحركات كبيرة، لكن الأعداء جاءوا و انتزعوها من أيديهم و سرقوها، و جلبوا البؤس و التعاسة لتلك الشعوب.
لا شك في أن الإسلام يمحق الظلم و الاستكبار و يقمعهما، «لِيظهِرَهُ على الدّينِ كلِّه» (5). من المتيقن منه أن الإسلام يستطيع دحر الكفر و الجبهة المعادية. و لكن أي إسلام قادر على هذا العمل؟ الإسلام الذي يقدر على محق الكفر و الاستكبار و الظلم، أو تقليصه، أو الحيلولة دون تعديه و تطاوله، هو الإسلام الذي يمتلك نظاماً و يمتلك حكومة و له قواته العسكرية و له إعلامه و له سياسته و له اقتصاده و تتوفر لديه الكثير من الأدوات. الإسلام الذي يستطيع أن يصنع نظاماً و حكومة هو الذي يستطيع المقاومة، و إلّا فالشخص حتى لو كان مسلماً مبرزاً أو التيار الإسلامي من قبيل التيارات الموجودة في العالم، إذا لم تتحرك نحو هدف نظام الحكم، فلن يكون فيه أي خطر على الاستكبار، لأنه لا يستطيع فعل أي شيء، فهو لا يقدر على قمع الكفر و الظلم و الاستكبار. لقد أحرزتم هذا الإسلام القادر على المواجهة و القادر على المقاومة و القادر على الدفاع المستميت مقابل جبهة الكفر، و قد حصلتم عليه بجهد و صعوبة، و لكن كيف تريدون الحفاظ عليه؟ ينبغي المحافظة عليه مقابل الأعداء. ينبغي المحافظة عليه، فهو ليس بالشيء الذي لو تركناه لبقي على حاله، إنما سيهاجمه العدو.
كيف يهجم العدو؟ ثمة هجمات و حروب صلدة. هذا ما جرّبه العدو و انهزم. حرب السنوات الثماني التي شنت علينا كانت من هذا القبيل، لقد كانت حرباً دولية، فأحدهم كان يعطي لصدام المعدات الكيمياوية، و آخر يعطيه طائرات الميغ، و أحدهم يعطيه طائرات الميراج، و آخر يمنحه المضادات الجوية، و آخر يعطيه الخرائط الحربية، فحتى الخرائط و المخططات الحربية و بناء الخنادق كانت بمساعدة الآخرين. هؤلاء كلهم ساعدوه عسى أن ينتصر في هذه الحرب، فلم يستطع.
حرب الأعوام الثمانية نموذج للهجمات الصلدة، و نموذج آخر لها هو حالات التمرد القومية التي أطلقوها في البلاد و في كل المناطق الحدودية للبلاد، و تتذكرون أنهم أطلقوا حرباً و اضطرابات في كل مكان، لكن العدو لم يستطع الانتصار. كانت هذه هي الحروب الصلدة. و قد نشّطوا الأعمال و التيارات الإرهابية أو أوجدوها. هاجمت أمريكا الرصيف النفطي، و أسقطت الطائرة المدنية، فعلوا كل ما استطاعوا. هذه هي الحرب الصلدة. انهزموا في كل هذا. انهزموا أمام شعب إيران و مقابل الإمام الخميني الجليل، و ازداد رعبهم. الإمام الخميني الجليل بتلك القدرة التي حباها الله تعالى له، و بسبب توكله و تقواه، و بسبب بصيرته و بسبب حبّه لهدفه و تفانيه فيه، و هذا ما كان واضحاً بارزاً على ذلك الإنسان الجليل، منحه الله تعالى - لهذه الأسباب - هيبة بحيث كان الآخرون يهابونه، و كان الأعداء مرعوبون منه بالمعنى الحقيقي للكلمة «كاَنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفِرَةٌ فَرَّت مِن قَسوَرَةٍ» (6)، كزئير الأسد الذي يخيف الحيوانات، كان هتاف الإمام الخميني يخيفهم و يرعبهم. طيب، لقد انهزموا في هذه المرحلة.
مرحلة أخرى من مواجهتهم و معارضتهم تمثلت في الهجمات الناعمة. أحد أنواع الهجوم الناعم هو هذه الأمور التي شاهدتموها: الحظر الاقتصادي، و الإعلام المضلل و ما إلى ذلك. هذه أعمال بدأها العدو منذ اليوم الأول و لا يزال يواصلها. تصوروا أنهم فرضوا على الجمهورية الإسلامية حظراً شالاً، فلم يؤثر حتى هذا. كانوا يريدون شلّ الجمهورية الإسلامية بهذا الحظر و بهذه المحاصرة الاقتصادية لكن الجمهورية الإسلامية لم تصب بالشلل. حصلت أعمال و إنجازات كبيرة في نفس فترة الحظر هذه. قرأتُ في أحد التقارير قول أحد الجنرالات التابعين للكيان الصهيوني، نشر في حينها في المجلات الأجنبية، قال إنني عدوّ لإيران، و لا أحبّ إيران، لكنني معجب بها، فقد استطاعوا رغم وجود الحظر صناعة الصاروخ الفلاني، و ذكر أحد الصواريخ كان قد تم اختباره للتوّ في ذلك الحين، و استطاعوا اكتشاف أمره بواسطة الأقمار الصناعية أو ما شابه، قال إنني معجب بهم! رغم الحظر و في فترة الحظر و من دون مساعدة الآخرين و رغم الضغوط الاقتصادية تم إنجاز هذه الأعمال. و من مصاديق الحرب الناعمة التي شنوها ضرب دعامات الجمهورية الإسلامية و حماتها في بعض البلدان الأخرى. دمّروا بعض المجاميع التي تعد من دعامات الجمهورية الإسلامية و عمقها الاستراتيجي، و ضربوهم في كثير من البلدان، إما دمروهم أو وجهوا لهم ضربات، لكن هذا أيضاً لم يؤثر و لم يستطيعوا فعل شيء. لم ينفع أيّ من هذه الأساليب. إذن، فشلت حربهم الصلدة و حربهم الناعمة أيضاً.
و ما يحدث في المرحلة الثالثة - و هي حالة لا تتعلق بالحاضر، بل بدأت منذ سنوات، بدأت منذ سنين، لكنها تطورت يوماً بعد يوم - هو حرب ناعمة من نوع آخر. هذا هو الشيء الخطير، و هذا هو ما أنبّه له المسؤولين مراراً و تكراراً في مناسبات عديدة، و هو النفوذ و التغلغل إلى مراكز صناعة القرار و اتخاذ القرار. إنه النفوذ لتغيير معتقدات الناس، و التغلغل من أجل تغيير الحسابات. نحن باعتبارنا مسؤولين نجلس هنا لدينا حسابات لأمورنا و أعمالنا، لدينا حسابات نجترحها، و نتيجة هذه الحسابات هي أن نتخذ الموقف الفلاني، و إذا استطاعوا تغيير حساباتنا سوف تتغاير مواقفنا. هذا أحد الأعمال الأساسية التي يقومون بها: تغيير حسابات المسؤولين، و تغيير المعتقدات لدى الناس، و التغيير في مراكز صناعة القرار و اتخاذ القرار، المجاميع التي تصنع القرارات و تتخذ القرارات. هذا هو العمل الخطير الذي يجري فيه الهجوم على أسس الثورة، و يجري فيه الهجوم على الركائز الحافظة و المحافظة، فهم يهاجمون الحرس الثوري، يهاجمون إعلامياً، و يهاجمون مجلس صيانة الدستور، و يهاجمون القوى المؤمنة و الشباب المتدين الحزب اللهي. الإذاعات الأجنبية و التلفزة الأجنبية و الإعلامي الأجنبي الآن طافح بهذا الكلام، و لا أدري كم هو متاح لكم الاطلاع على هذا الإعلام أيها السادة المحترمون، و كم ترونه، خصوصاً مع وجود هذه الأدوات التواصلية الحديثة. إنهم يعملون باستمرار على هذه المجالات ليوصلوا متلقيهم إلى هذه النتيجة. يهاجمون رجال الدين الثوريين، و يشوّهون سمعتهم دوماً بكلمات شتى من قبيل: رجل دين الحكومة و ما إلى ذلك. بكلمة واحدة: السعي في هذه الحرب الناعمة منصبّ على تمهيد الأمور لإفراغ النظام من عناصر القوة، يريدون فعل ما يجعل النظام الإسلامي فارغاً من عناصره الداخلية التي تمثل أسباب اقتداره. و عندما يضعف النظام و يخلو من عناصر القوة في داخله و لا يكون مقتدراً عندها لن يكون القضاء عليه أو جرجرته ذات اليمين و ذات الشمال عملية صعبة للقوى الكبرى. يريدون فرض التبعية على النظام الإسلامي.
هنا موضع الجهاد الكبير الذي طرحتُه قبل أيام من الآن (7)، «فَلا تُطِعِ الكٰفِرينَ وَ جٰهِدهُم بِه‌ جِهادًا كبيرًا» (8). قالوا في التفاسير إن المراد من هذا الضمير «به» هو القرآن، مع أن كلمة القرآن لم ترد في العبارة حتى يعود الضمير عليها. هذا ما قاله المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» و المرحوم العلامة الطباطبائي. يقول المرحوم العلامة الطباطبائي إن سياق الكلام يدل على أن المراد من «به» هو «بالقرآن». و قد ذكرتُ هذا في الكلمة هناك، ثم عندما جئتُ خطر ببالي أن هناك وجهاً أوضح يوجد هنا، فـ «فَلا تُطِعِ الكٰفِرينَ وَ جٰهِدهُم بِه» یعني «بعدم الإطاعة». عدم الإطاعة هو ذلك المصدر الذي يشتق منه الفعل، و هو مستتر في ذلك الفعل. «فَلا تُطِعِ الكٰفِرينَ وَ جٰهِدهُم بِه»، أي بعدم الإطاعة هذا، «جِهادًا كبيرًا». إذن، عدم الإطاعة هو الجهاد الكبير. هذا المعنى أقرب إلى الذهن، و أنا طبعاً لم أتفحّص لأرى هل قال بعض المفسرين بهذا الرأي أم لا، و لكن هذا الاحتمال احتمال مهم على كل حال. هذا هو معنى الجهاد الكبير، الجهاد بعدم التبعية و عدم السير على خطى العدو. إذن، هذا هو مسار و اتجاه هذا المجلس، مسار ثوري، و مواصلة لطريق الثورة و تكريس الإسلام و تحكيم دين الله.
إذا لم نسع لإقامة حكم الله و دين الله، فلماذا نحن هنا؟ لماذا أنا هنا؟ نفس أولئك الذين كانوا - إما هم أو أمثالهم - يأتون و يديروا الحكم. نحن هنا لأننا نروم تحكيم دين الله، و يجب تحقق سيادة دين الله. هذا ما نسعى إليه. و هذا ما لو قتل المرء في سبيله كان شهيداً في سبيل الله. و هذا ما قدم شعبنا شبابهم له بكل سخاء، و لا زالوا يقدمون. و إلّا إذا لم يكن هذا لقام آخرون و آخرون بالازدهار الاقتصادي، فلماذا أقوم أنا رجل الدين بهذه الأعمال؟ يمكنني أن أذهب و أتابع دروسي و بحوثي. الآخرون يستطيعون القيام بهذه الأعمال و يقومون بها، و هم يقومون بها في العالم. لو لم تكن هناك قضية دين الله و تحكيم دين الله و الحاكمية الإلهية، لما كان لوجودي أنا و أنتم هنا أية ضرورة. إذن، فهو تحكيم الإسلام.
و كذلك الإبداع. ما أؤكد عليه هو الإبداع، و لكن الإبداع المنضبط، و إبداع الناس المتعلمين العالمين، و ليس الأمّيين أو أنصاف الأمّيين، الإبداع في مسائل الدين. الدين قابل للاتساع، لأنه لكل الأزمنة و لكل الظروف. و بذلك فإن دين الله يمكن أن يتسع في بعض الحالات بواسطة المجتهد صاحب الخبرة في الاستنباط و الاجتهاد. و هذا ما أشار الإمام الخميني الجليل إلى نماذج منه، و تمّ العمل ببعضها، و بعضها الآخر قيلت في زمانه على أقل تقدير.
و من الأعمال الضرورية تطبيب الجراح التي يرتكبها العدو. العدو يجترح جراحاً على جسم هذه الثورة، و علينا تطبيب هذه الجراح و مرهمتها. إحدى القضايا قضية التفرقة المذهبية و الطائفية - الشيعة و السنة - و منها أيضاً قضية الاختلافات الفئوية، و منها حالة الاستقطاب الثنائي الزائف في المجتمع. هذه جراح يعملونها و يجترحونها، و يجب تطبيبها و مداواتها.
على كل حال ما أؤكد عليه هو أن نضع مبدأ التحول و التقدم نصب أعيننا دائماً، فالمراوحة غير جائزة، يجب أن نتقدم إلى الأمام دائماً، و لكن باتجاه أهداف الثورة و أهداف الدين. هذا عن النقطة الثانية المتعلقة بمسار هذا المجلس المحترم و المعظم بالمعنى الحقيقي للكلمة.
و لكن ثمة واجبات عامة أشير لها باختصار حتى لا يطول بنا المقام كثيراً. بكلمة واحدة يجب أن نجعل البلد مقتدراً و نحقق له الاقتدار. البلد يجب أن يكون قوياً. طريق بقاء الثورة و طريق تقدمها و طريق تحقق أهدافها هو بالمعنى الواسع للكلمة أن نجعل البلد مقتدراً قوياً. إذا استطعنا القيام بهذا الواجب - أي إذا استطاعت الحكومة، و استطاع مجلس الشورى الإسلامي، و استطاعت السلطة القضائية، و استطاعت القوات المسلحة، و استطاعت المؤسسات الثورية، و استطاع هذا المجلس، العمل و المساعدة في هذه المجالات - عندئذ سنطمئن من أننا سنستطيع الحفاظ على الثورة و صيانتها بالمعنى الحقيقي للكلمة. إذا كان بلد ما قوياً فيمكن أن يكسب الامتيازات حتى من الاستكبار. هذا ما أقوله لكم. و إذا كان البلد ضعيفاً فليس الاستكبار فقط و ليست القوى الكبرى فقط، بل حتى الحكومات الضعيفة و التافهة ستستأسد عليه. إذا صرنا ضعفاء سيكون هذا هو الحال، و لكن إذا كنا أقوياء فلا.
و القوة أمر نسبي. في كل مرحلة من القوة يمكن للإنسان أن يقوم بنشاط ما. و لنأخذ على سبيل المثال قضية المفاوضات النووية هذه - و لا أروم الآن الدخول في هذا الموضوع - قال أصدقاؤنا الأعزاء بإننا كسبنا امتيازات، و الأعداء الذين لم يكونوا لحد الآن يتقبلون أن تكون لنا صناعة نووية، وقّعوا الآن على الورق بأننا نستطيع أن تكون لنا صناعة نووية. طيب، كيف كسبنا هذا؟ كسبنا هذا بعد أن أثبتنا اقتدارنا و استطعنا القيام بشيء كانوا يتصورون أننا لا نستطيع القيام به، أي التخصيب بنسبة عشرين بالمائة. هم أنفسهم يعلمون، و يعلم أصحاب الفن و الخبرة في هذا المجال أن صعوبة عملية التخصيب حتى الـ 99 بالمائة تكمن في التخصيب حتى العشرين بالمائة. إذا استطاع بلد الوصول إلى العشرين بالمائة فسيكون الطريق حتى التسعين بالمائة أو التسعة و تسعين بالمائة سهلاً. هم يعلمون هذا. سارت الجمهورية الإسلامية هذا الطريق و طوته، أي استطاعت التخصيب بنسبة عشرين بالمائة، و تمكّنت من إنتاج تسعة عشر ألف جهاز طرد مركزي من الجيل الأول. و استطاعت تشغيل نحو عشرة آلاف جهاز طرد مركزي من الجيل الأول، و استطاعت إنتاج أجهزة طرد مركزية من الأجيال الثانية و الثالثة و الرابعة، و استطاعت صناعة جهاز مفاعل الماء الثقيل في أراك، استطاعت بناء معمل إنتاج الماء الثقيل الذي سيشترونه منا في الوقت الحاضر. استطعنا القيام بهذه الأعمال بحيث قبل العدو بذلك الحد الأدنى، أي بأن تكون لنا صناعة نووية. لو لم نكن قد قمنا بهذه الأعمال لما قبلوا. أتذكّر و يتذكّر جميع الأعزاء قبل نحو عشرة أعوام أو إثني عشر عاماً، حيث كانت لنا مفاوضات سابقة، و كنا نقول: ليسمحوا بعمل خمسة أجهزة طرد مركزي، و كانوا يقولون: لا يمكن. في البداية كنا نقول: عشرون جهاز طرد مركزي، فقالوا لا يمكن، و تنازلنا فقلنا خمسة أجهزة طرد مركزي، و قالوا لا يمكن. و قلنا جهاز طرد مركزي واحد فقالوا غير ممكن! حينما لا نستطيع، و حينما لا نمتلك، و حين لا تكون هناك قوة و قدرة، سيتصرف العدو بهذه الطريقة، و لكن حين تصنعون تسعة عشر ألف جهاز طرد مركزي على الرغم من إرادة العدو و تشغلونها، و تنتجون الأجيال الثانية و الثالثة و الرابعة منها، و تنجزون الكثير من الأعمال الجانبية الأخرى، فإن العدو سيضطر للقبول، هذا هو الاقتدار. إذا كان الاقتدار يمكن للإنسان أن يكسب الامتيازات حتى من الاستكبار. لم يكن هذا امتيازاً منحه الأمريكان لنا، بل هو امتياز حصلنا عليه باقتدارنا، لا أنّ أحداً منحنا امتيازاً.
و هكذا هو الحال في جميع المجالات، و هو كذلك في المضمار الاقتصادي أيضاً. هذا هو الاقتصاد المقاوم الذي أتحدث عنه مراراً، و أؤكد عليه، و الحمد لله على أن الأعزاء شكّلوا لجنة عمليات و قيادة للاقتصاد المقاوم، و هناك أعمال تجري و تحصل و نتمنى أن نشاهد نتائجها على الأرض. في المجال الاقتصادي، إذا كنا أقوياء و مقتدرين فلن يعود للحظر من معنى، و سيكون عملاً زائداً. إذا استطعنا في الداخل تحقيق الاقتدار الاقتصادي، فسوف يأتون بأنفسهم و يتوسّلون و يسعون لإقامة علاقات اقتصادية، لا أنهم لن يفرضوا الحظر فقط، بل لو فرضنا نحن الحظر لجاءوا و طلبوا رفع الحظر. هذه هي طبيعة الأمور. و كذا الحال على صعيد السياسة، و على باقي الصعد أيضاً.
على الحكومة و مجلس الشورى و الآخرين أن يتابعوا عناصر الاقتدار، و بوسع هذا المجلس أن يطالب بهذا الشيء. بوسعكم أن تطالبوني، و تطالبوا عزيزنا الدكتور روحاني، و تطالبوا السادة في مجلس الشورى، و تطالبوا السلطة القضائية، تستطيعون المطالبة بهذه العناصر. هذه الجماعة العظيمة الاستثنائية التي قلنا إنها ظاهرة و موهبة إلهية بوسعها القيام بهذه الأعمال. ركّزوا على نقطة معينة و تابعوها و اصحبوا معكم الرأي العام، و سيكون هذا هو الشيء المناسب حقاً.
و الآن، إذا أردنا أن نتجرّأ و نقول ما هو معيار الثورية في هذه المجاميع، فيبدو لي أن معيار الثورية هو التقوى، و الشجاعة، و البصيرة، و الصراحة، و عدم الخوف من «لَومَةَ لآئِم» (9). هذه هي معايير الثورية. إذا تحلينا بالتقوى و الشجاعة اللازمة و الصراحة اللازمة - طبعاً في الموضع الذي يستلزم الصراحة، لا في الموضع الذي يستدعي الكناية، فالصراحة هناك مضرة - إذا استطعنا التوفر على هذه الأمور سنكون ثوريين. لتكن لنا معرفتنا الصحيحة بالعدو. العدو جبهة و ليس فرداً و لا حكومة معينة، بل هو جبهة، و يجب علينا أن نعرف هذه الجبهة و نرى من هو تابع لهذه الجبهة و كيف تتحرك هذه الجبهة بحيث تستطيع أن توقعنا في الخطأ و الاشتباه تجاهها. لنعرف جبهة العدو، و لنعرف أساليب العداء، لنعرف كيف يمارس العدو عداءه. أحياناً يدخل العدو و يقوم بأعمال يقصد منها أهدافاً خبيثة، و نحن لا نعلم بالضبط ما هي تلك الأهداف. ننظر لظاهر الأمر فنجد إنه عمل جيد و نرحّب به، و الحال أنه يتابع بذلك هدفه. لقد مررنا بمثل هذه التجارب في البلاد، و هناك حالات بدأوا فيها بعمل معين بهدف من الأهداف، و نظرنا إلى ظواهر العمل فقلنا يا للعجب! هذا عمل جيد، و لا مشكلة فيه، و الحال أننا إذا كانت لنا بصيرة و عرفنا أهداف العدو لما انخدعنا هكذا.
كما ينبغي عدم الانهزام النفسي أمام العدو. هذا واحد من أسس القضية. الانهزام النفسي مضرّ، و كل من ينهزم في داخل نفسه سوف ينهزم على الساحة قطعاً. أول هزيمة تلحق بأيّ إنسان هي الهزيمة داخل نفسه بأن يشعر أنه غير قادر، و يشعر بأن لا فائدة من العمل، و يشعر بأن الطرف المقابل أقوى منه بكثير، و يشعر بأنه لا يستطيع فعل شيء. هذه هي الهزيمة النفسية. إذا كانت هذه الهزيمة فسوف ننهزم في الساحة قطعاً. هذا ما يجب أن لا يحصل، فلنحذر من حصول هذا.
رحمة الله على إمامنا الخميني الجليل، و على شهدائنا، و الصلوات على محمد و آل محمد.

الهوامش:
1 - في بداية هذا اللقاء - الذي أقيم بمناسبة بدء أعمال الدورة الخامسة من مجلس خبراء القيادة - تحدث آية الله الشيخ أحمد جنتي رئيس مجلس خبراء القيادة.
2 - انتخابات الدورة الخامسة من مجلس خبراء القيادة بتاريخ 26/02/2016 م .
3 - مصباح المتهجّد، ج 2 ، ص 829 .
4 - كلمته في لقائه رئيس و أعضاء مجلس خبراء القيادة بتاريخ 17/03/2005 م .
5 - سورة التوبة، شطر من الآية 33 .
6 - سورة المدثر، الآيتان 49 و 50 .
7 - كلمته في مراسم تخرج طلبة جامعة الإمام الحسين (عليه السلام) للضباط بتاريخ 23/05/2016 م .
8 - سورة الفرقان، الآية 52 .
9 - سورة المائدة، شطر من الآية 54 .