4 ذي الحجة 1428
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله الأطيبين وصحبه المنتجبين.
السلام على زوّار بيت الله، ضيوف الحبيب، وملبّي دعوته، وسلام خاص للقلوب التي ترقّ لذكر الله وتُفتِّح أبوابها لفيضه ورحمته الواسعة.
في هذه الأيام والليالي والساعات الإكسيرية الساحرة، ما أكثرهم أولئك الذين أسلموا أنفسهم لجاذبية النـزعة الروحية عارفين قدرها، ونوّروا قلوبهم وأرواحهم بالإنابة والتوبة، وغسلوا عنهم أدران الذنوب والمعاصي في أمواج الرحمة الإلهية التي راحت تترى في هذا الوادي المقدس. سلام الله على هذه القلوب وعلى أصحابها العشاق الأطهار.
جدير بكل الإخوة والأخوات أن يتفكروا في مثل هذا المكسب، ويغتنموا هذه الفرصة الكبرى، ولا يسمحوا لمشاغل الحياة الدنيوية التي تأسرنا بأغلالها دوماً أن تُلهي قلوبهم هناك أيضاً. فليطلقوا العنان لأجنحة قلوبهم الوالهة كي تحلّق في فضاءات التوحيد والمعنوية الخالصة وتتزود الزاد للثبات على طريق الله وصراطه المستقيم، وما كل ذلك إلا بفضل ذكر الله، والإنابة، والتضرع، والعزم الراسخ على الصدق، والسلامة في السلوك والتفكير، وطلب العون من الله العزيز.
ها هنا قطب التوحيد الحقيقي الخالص. هنا ترك ابراهيم الخليل عليه السلام ذكرى لكل الموحدين على مر التاريخ حين جاء بفلذة كبده إلى مسلخ التضحية رافعاً بذلك مظهراً من مظاهر التوحيد تجسد في الانتصار على النفس والتسليم المحض للأمر الإلهي. وهنا رفع سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وآله راية التوحيد بوجه مستكبري زمانه وأرباب المال والعسف، معلناً البراءة من الطاغوت إلى جانب الإيمان بالله شرطاً للنجاة والفلاح: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ...﴾
الحج إعادة قراءة واستلهام لهذه الدروس الكبرى. البراءة من المشركين والنفور من الأصنام وصنّاعها هو الروح التي تسود حج المؤمنين. كل موضع من مواضع الحج صورة للهيام في الله والسعي والجد في سبيله، والبراءة من الشيطان، ورميه، وطرده، والاصطفاف ضده. وكل بقعة من بقاع الحج مظهر لاتحاد أهل القبلة وانسجامهم واضمحلال تبايناتهم الطبيعية والاعتبارية، وشخوص الوحدة والأخوة الحقيقية والإيمانية بينهم.
هذه دروس علينا أن نتعلمها نحن المسلمين من أي صقع من العالم كنّا، ونرسم خطط حياتنا ومستقبلنا على أساسها.
أعتبر القرآن الكريم الاصطفاف المقتدر حيال الأعداء، والعطف والمودة بين المؤمنين، والعبودية والخشوع لله تعالى ثلاث علامات للمجتمع الإسلامي:
﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ... ﴾ هذه ثلاثة أركان رئيسية لقيام صرح الأمة الإسلامية الشامخ العظيم.
كل واحد من المسلمين يمكنه في ضوء هذه الحقيقة معرفة الآفات الحالية التي يعاني منها العالم الإسلامي معرفة حقيقية.
العدو الغدّار للأمة الإسلامية اليوم هم مدراء المراكز الاستكبارية والقوى الطامعة المعتدية ممن يرون الصحوة الإسلامية تهديداً كبيراً لمصالحهم غير المشروعة وهيمنتهم الظالمة على العالم الإسلامي. على جميع الشعوب المسلمة وفي طليعتها الساسة وعلماء الدين والمستنيرون والقادة الوطنيون تأليف الصف الإسلامي المتحد بمزيد من القوة والمتانة إزاء هذا العدو المتطاول. لابد لهم من تجميع كافة عناصر القوة لديهم وجعل الأمة الإسلامية أمة مقتدرة بحق. العلم والمعرفة، والتدبير واليقظة، والشعور بالمسؤولية والالتزام، والتوكل والأمل بالوعد الإلهي، وغض الطرف عن الرغبات التافهة في مقابل الفوز برضا الله والعمل بالواجب... هذه هي العناصر الرئيسة لاقتدار الأمة الإسلامية والتي يمكن أن تبلغ بها العزة والاستقلال والتقدم المادي والمعنوي، وتفشل الأعداء في توسعهم وتطاولهم على البلدان الإسلامية.
المودة بين المؤمنين هي الركن الثاني والعلامة الأخرى لوضع الأمة الإسلامية المنشود. التفرقة والصراع بين مكونات الأمة الإسلامية مرض خطير ينبغي معالجته بكل ما لنا من قوة. لقد بذل أعداؤنا منذ القدم جهوداً واسعة وغير منقطعة في هذا المضمار، واليوم حيث أفزعتهم الصحوة الإسلامية، ضاعفوا من جهودهم ومساعيهم. وكل ما يقوله المخلصون في هذا الباب هو أن الاختلافات والتباينات يجب أن لا تتحول إلى صدام وتضاد، والتعددية يجب أن لا تفضي إلى الصراع.
سمّى الشعب الإيراني سنته هذه سنة الانسجام الإسلامي. وقد جاءت هذه التسمية نتيجة الوعي بمؤامرات الأعداء المتصاعدة من أجل زرع الخلافات بين الإخوة، وقد فعلت هذه المؤامرات فعلها في لبنان، والعراق، وباكستان، وافغانستان، فثار شطر من الشعب في بلد مسلم لحرب وصراع شطر آخر منه وسفكوا دماء بعضهم. وكانت مؤشرات التآمر واضحة في جميع هذه الأحداث المريرة الكارثية، واستطاعت الأعين الحاذقة مشاهدة أيدي الأعداء فيها.
الأمر القرآني: »رحماء بينهم« يعني استئصال هذه الصراعات والخصومات. إنكم في هذه الأيام العظيمة وفي مناسك الحج المختلفة ترون المسلمين من كل مكان ومن شتى المذاهب يطوفون حول بيت واحد، ويصلّون لكعبة واحدة، ويرجمون نصب الشيطان الرجيم سويةً. وفي رمزية التضحية بالرغبات والأهواء النفسية يتصرفون بطريقة واحدة، وفي ميعاد عرفات والمشعر يتضرعون بجوار بعضهم، فالمذاهب الإسلامية قريبة من بعضها إلى هذه الدرجة في معظم الفرائض والأحكام والعقائد وأكثرها أهمية وأصالة، فلِمَ تشعل العصبياتُ والأحكامُ المسبقة النار بينهم لتأتي أيدي العدو الخائنة فتصب الزيت على هذه النار؟
ثمة اليوم أناس ينعتون بسفههم وقصر نظرهم جماعةً كبرى من المسلمين بأنهم مشركون، بل ويبيحون دماءهم. هؤلاء يعملون لخدمة الشرك والكفر والاستكبار علموا بذلك أم لم يعلموا. فما أكثر الذين وصموا احترام ضريح الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وأولياء الله وأئمة الدين عليهم السلام وهو تكريم للدين والتدين، وصموه بأنه شرك وكفر، لكنهم أنفسهم انخرطوا في خدمة الكفار والظالمين وأعانوهم على أهدافهم الشريرة.
على العلماء الحقيقيين والمثقفين الملتزمين والقادة الصادقين محاربة مثل هذه الظواهر الخطيرة.
الوحدة والانسجام الإسلامي اليوم فريضة حتمية يمكن طيّ سبلها العملية بتعاون العقلاء والمخلصين.
ركنا العزة هذان، وأعني بهما الاصطفاف والمجابهة المقتدرة حيال الاستكبار من جهة، والتراحم والتقارب والأخوة بين المسلمين من جهة ثانية، إذا اجتمعا مع الركن الثالث وهو الخشوع والتعبد للخالق العظيم، فسوف تتقدم الأمة الإسلامية باضطراد في الطريق الذي ارتقى بمسلمي صدر الإسلام إلى ذروة العظمة والعزة، وستنجو الشعوب المسلمة من التخلف والهوان الذي فرض عليها في القرون الأخيرة. طلائع هذه الحركة الكبرى قد انطلقت، وامواج الصحوة قد هدرت في كل أرجاء العالم الإسلامي بنسب متفاوتة. وسائل إعلام العدو وعملاؤه يحاولون أن يعزوا لإيران والتشيع أية حركة تحررية تطالب بالعدالة في أي رقعة من العالم الإسلامي، وأن يعدوا إيران الإسلامية وهي أول من رفع راية انتصار الصحوة الإسلامية مسؤولةً عن الضربات التي يوجهها غيارى البلدان الإسلامية لهم على المستويات السياسية أو الثقافية. إنهم يوجهون لملحمة حزب الله النادرة في حرب الثلاثة وثلاثين يوماً، وللوقفة المدبرة للشعب العراقي التي أدت إلى تشكيل برلمان وحكومة لا يرتضيها المحتلون، وللصبر والصمود المذهل للحكومة القانونية الفلسطينية وشعبها المضحي، وغير ذلك الكثير من آيات تجدد الحياة الإسلامية في البلدان المسلمة، يوجهون لها تهمة الإيرانية أو التشيع كي يمنعوا بذلك الدعم الشامل لها من قبل العالم الإسلامي. بيد أن هذه الحيلة لن تستطيع ملاواة السنة الإلهية المعقودة على انتصار المجاهدين في سبيل الله ومن ينصرون دينه.
المستقبل للأمة الإسلامية، وبوسع كل واحد منا تقريب هذا المستقبل بحسب إسهامه وقدراته وإمكاناته ومسؤوليته.
مراسم الحج فرصة كبرى لكم أيها الحجاج السعداء لتعدوا أنفسكم لأداء هذا الدين أكثر من السابق.
على أمل أن يعينكم التوفيق الإلهي وأدعية الإمام المهدي الموعود عجل الله له الفرج في العمل لهذا الهدف الكبير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السيد علي الحسيني الخامنئي
4 ذي الحجة 1428
24 آذر 1386 هجرية