كاتب: حسن محمد زين الديّن

كأنَّ الشّيخ قد أتمّ أربعينيته فاتحاً فخرَّ ساجداً مسبّحاً، كأنّه وقف على انعطافةِ قوس النّزول يتأمّلُ الخلقَ بعين الحقِّ، كأنّه كشفَ ما خلفَ السّتر واتّصل بما بعد المُلك فنطق عن الوحي؛ ثمَّ يمضي ليلَ الفتح محاسباً فيعدُّ خطواته ويتعرّف موضعَ سيرِه؛ فيحمدُ ويستغفر، يشارطُ ويتوكّل، يرتّب الأهدافَ ويشخّص الطّريق، ثمّ يؤذّن لأربعين جديدة.
بعضُ الأحداث الاستثنائية لا يليقُ بها غيرُ خطابٍ استثنائي، يزاحمُ البياناتِ التاريخيةِ في تراث البشرية، ويلامسُ أطراف نداءات الأنبياء "أن آمنوا". 
هكذا أحيا القائدُ السّيد الخامنئي ذكرى أربعينية الثورة الإسلامية هذا العام، إذ أصدر بياناً ضمّنه عصارةَ فكره وتجربته وإيمانه، فخاطب المسلمين والشّباب، ناقداً مسيرَ الأعوامِ السابقة في طريقِ الثّورة، ومستشرفاً الأهداف الشّاخصة في نهايته، فسمّى الإنجازات بفخرٍ وعدَّ الخطوات النّاقصةَ بجرأة، رسّم متفائلاً معالمَ المرحلة القادمة، ووضع شواخصَ السّير الآمن في صحراء العداء للسّائرين الثوّار نحوَ الحضارة الإسلامية .
من الكلمات المفتاحية في خطاب الخطوة الثانية للثّورة، بل في فكر القائد عامّةً، ما سمّاه بالحضارة الإسلامية الحديثة، إذ تُمثّل هذه الحضارةُ في فكره قبلةَ الثّورة الإسلامية والهدفَ المنشود  لمجموع النّشاطات والتّضحيات والجهود المبذولة فيها؛ ما يوجب على المتابع البصير تحرّي ماهيّةَ هذه الحضارة وشواخصَها وموقعَها بين الحضارات، ليسيرَ مع قائدِه بعينٍ بصيرةٍ واعية، وقلبٍ واثقٍ مشتاقٍ، على الصّراط القويم لا على غير الطّريق.

المفهوم:    
الحضارةُ في أصل اللّغة هي المدينة أو ما يقابل البادية، ثمّ إنّه لم تتّفق كلمةُ الباحثين على تعريفٍ اصطلاحيٍ واحدٍ لها؛ فقصرها بعضُهم على المنجزات المادّية المحسّوسة للأمّة كالعمران والصّناعة  فباينت الثقافة، ومال غيرهم في تعريفها إلى الجانب المعنوي الثّقافي متمثّلاً بالعلوم والآداب والفنون، بينما رآها الآخرون مركّباً من الجانبين معاً . 
والحديثُ عن الحضارة في فكر القائد؛ فيمكن أن يُقال إنّها تقارب عنده المعنى الثّالث إذ هي مجموع الجانبين المعنوي والمادي  تربطهما علاقةٌ جدلية من التأثير والتأثّر، فالنّتاج الثقافي والرّوحي عاملٌ رئيسٌ في النّهضة المادية ، وفي المقابل فإنّ للنموّ المادّي دورَه الحيويَ في تعزيز الجانب المعنوي والمحافظة عليه، بل إنّه يعتبر الجانبَّ المادي أداةً للتطوّر المعنوي والثّقافي أمّا الأخير فهو الأصيل في الحضارة . 
وبذلك يمكن تعريفُ الحضارة الإسلامية الحديثة -كما يراها القائد - بأنّها مجموعُ المنجزات المادية والنتاجات الثقافية القائمة على أساس قيمِ ومرتكزاتِ الإسلام الأصيل ، بما يلائمُ ظروف العصرِ الحديث بخصائصه ومتطلّباته . 

الخصائص:
ثمّ إنَّ لهذه الحضارةِ الهدف، مميزاتٍ وخصائص، استُحدثت من الإسلام نفسه، تشكّل هويتها وتمثّل مرجعاً في عملية البناء والتقييم؛ فبعضُ خصائصها الكليّة: 
1.المعنويّة : إذ لا استمراريةَ لحضارةٍ من غير الالتفات إلى البعد المعنويّ للإنسان والعمل على تأمين حاجياته، على أنّ الحضارة الإسلامية تتقوّم بأصل التّوحيد والإيمان والتوكّل على الله سبحانه وتعالى، فلا معنى لإنشاء حضارةٍ إسلامية لا تكون العقيدةُ والأخلاقُ والشّريعةُ قوامَها المتين ، والمسجدُ  والصّلاةُ والجهادُ سلاحَها المنيع. 
2. العالمية : كما أُرسل رسول الله محمد (ص) للعالمين، فكانت رسالتُه عالمية، فإنّ الحضارةَ التي تمثّل الطّرفَ الآخرَ للبعثة النبوية لا بدّ أن تكون عالميةً كذلك، لا تبخل بنور هدايتها ولا تمنعُ فيضَ منجزاتها عن الشّرق والغرب، فمسارُ البشرية ومستقبلُها واحدٌ مشترك، كلُّ هذا الانفتاح على أساس العزّة والمنطق والاحترام والعين البصيرة والقلب الشّفيق. 
3. العدالة : من السّمات الاجتماعية والاقتصادية البارزة في الحضارة الإسلامية، العدالةُ وتقليصُ الفوارق الاجتماعية والقضاءُ على مظاهر الحرمان والحاجة، فللجميع حقُّ الاستفادة من الموارد والإمكانات على أساس العدل والإنصاف .
4. الاستقلال : ليست الحضارةُ الإسلاميةُ تابعاً لحضارةٍ ولا فرعاً من تراث، بل هي حضارةٌ متكاملةٌ مستقّلةٌ عزيزة، قائمةٌ بنفسِها وجهودها وقيمها ومنجزاتها ، واعيةٌ لحدودها ومبانيها وروابطها الخارجية.

5. الأصالة: ثمّ إنّ هذا الاستقلال لا يقتصر على صعيد السّياسة والاقتصاد، بل تدخل الثقافة ونمط العيش  في ميدانه، لذلك يكون الجهاد الكبير كما اصطلح عليه القائد -وهو المواجهة الثقافية والتمسّك بأصالة القيم الإسلامية- ركناً مقوّماً للحضارة الإسلامية.
6. المرونة : إذا كان الاستقلال يساوق القوّة والصّلابة، فإن من مقوّمات الحضارة الإسلامية كذلك المرونة، بمعنى تقبّل النقد والانفتاح على التجارب والآراء والاستعداد للتصحيح والتّقويم، من غير أن يمسّ ذلك بأركانها الثّقافية ومبتنياتها الحضارية.
7. الاقتدار : الحضارة الإسلامية مقتدرةٌ قويةٌ منيعة، لا يحوجُها الضّعف إلى قبول المذلّة والتّبعية بل تبني اقتدارَاها العلميَ والمادّيَ والعسكريَ على أساس القدرات الدّاخلية والموارد المتوفّرة مستعينةً بالله الذي يمثّل الاعتماد عليه ركناً رئيساً في عناصر اقتدارها .

أدوات البناء:
أمّا مسار الوصول إلى الحضارة الإسلامية، فطويلٌ عسيرٌ بما لا يخرجه عن دائرة الإمكان والأمل الواقعي، يمكن أن نعدَّ من الأدوات الرئيسة التي يستند إليها بناء الحضارة الإسلامية الحديثة، مضافاً إلى التمسّك بالشّواخص المذكورة سابقاً، إذ لا يخرجها دخولُها في الغاية عن دور الإعداد والتّأثير في الحضارة المتكاملة:
- العلم: للإنتاج العلمي مكانةٌ خاصّة في خريطة فكر القائد وخطاباته، لا حضارةَ بدون إنتاجٍ علميٍ وثقافيٍ خاصٍّ يمثّل وجهها الفكري ويضمن أصولَها وقيمَها ويؤمِّن فيها الرفاه والعمران المادي.
- الثّورية: لا تاريخ انقضاء للشّعارات الثّورية ، فبناءُ الحضارة وحمايتها وتعزيزُها ثورةٌ مستمرة، والحركة الثّورية في فكر القائد هي الحركةُ الواعيةُ المنضبطة ، ومحلُّها الجامعاتُ والأسواق والإدارات والبيوت، فهي القوّة والنشاطُ الضروريّان بل روحُ الحضارة الإسلامية ونبضُها.
- النّموذج: ممّا يسهّل عملية الصّناعة الحضارية وجودُ نموذجٍ قريبٍ يمكن أن يُقتدى به ويُبنى على منجزاته، كنواةٍ صغيرةٍ للمشروع الكبير الذي يجمع أطرافَ البلادِ الإسلاميةِ والمسلمين، وفي اعتقاد القائد فإن الثّورة الإيرانية تصلح لتكون نموذجاً تُبنى الحضارة الإسلامية على أساسه.
- الاعتبار: معرفةُ الماضي ركنٌ في صناعةِ المستقبل، وللإسلام تجربةٌ حضاريةٌ عملاقة وضع حجرَ أساسها رسول الله (ص) واستمرّت لقرون في صدارة الحضارات العالمية؛ فلا يمكن لبناة الحضارة الإسلامية الحديثة إغفالُ تلك الحضارة القديمة وإهمالُ الاستفادة من مقوّماتها الخاصّة، بل إنّ التجارب التاريخية عموماً تمثّل في الإسلام، وفي فكر القائد، مصدراً معرفياً لا ينبغي تضييعه.
- تربية جيل ثوري: تحتاج الحضارة الإسلامية إلى إنشاء جيلٍ بمواصفاتٍ خاصّةٍ يتحمّل مسؤولية إكمال مسيرة البناء؛ فيجب أن يكون شجاعاً، متعلّماً، متديناً، مبتكراً، واثقاً بنفسه، غيوراً . 
- الأمل: فللأمل والتفاؤل والنظرة الإيجابية إلى المستقبل دورُ المحرّك وقوةِ الدّفع في المسير الحضاري الحي، على أن يكون مبنياً على الحقائق والوقائع والتّحليل الدقيق؛ لذلك فإنَّ القائد ينظر بعين الأمل والواقعية ويستشرفُ المستقبل فيراه-جازماً- للإسلام وحضارته، ويحذّر من اليأس فإنّه من إلقاءات الأعداء يريدون به صدَّ هذا السّيلِ العارم وشلَّ حركته.

الموقع العالمي:
"نهايةُ التاريخ"  و"صراعُ الحضارات"  و"حوارُ الحضارات"  ثلاثُ نظريات رئيسة في الدّراسة الحضارية تمثّل اتجاهات في فهم طبيعة العلاقات القائمة بين الحضارات وتفاعلها فيما بينها. ولا يعنينا تصنيفُ رؤية القائد لمفهوم الحضارة وإلحاقُها بإحدى تلك النظريات المشهورة لما فيه من مجازفةٍ علميةٍ؛ حيث يحتاج ترسيمُ حدودِ كلٍّ من هذه النظريات إلى بحثٍ تفصيلي، قبل نسبة رأيٍ إليها.
على كلِّ حال، يمكن أن تُستفاد خطوطٌ عريضة في رؤية القائد لما ينبغي أن تكونَ عليه العلاقةُ بين الحضارات، فيُقال إنّ الإسلام دينُ الحوار وقبول التّعدّدية واحترام الآخر وهويته ضمن معايير الإنسانية والحقوق والحكمة والموعظة الحسنة،لذلك تفتح الحضارةُ الإسلامية باب الحوار والبحث والنّقاش ، ومرجعُ ذلك إلى الثّقة بالإسلامِ وتعاليمِه وقيمه والإيمانِ بقدرة الحضارة الإسلامية على التّعبير عن نفسها وهويتها وإثبات أحقيتها في إزاء الحضارات الأخرى ؛ وهذا الفهمُ لتفاعل الحضارة الإسلامية مع غيرها لا يلائم نظريةَ صراع الحضارات بما تتضمّنه من عداءٍ وتكريسٍ لمبدأ القوة والهيمنة والعنف والاستكبار.
على أنّ موقفَ الحضارة الإسلامية في الصّراع -لو فُرض عليها - موقفُ القويِّ الواثقِ  المستعدِّ للمواجهة والدّفاع بما يضمن تحقيقَ الانتصارِ الحضاري، من فكرٍ وقوةٍ وطاقاتٍ وثروات ، وليس أدلَّ على ذلك من المنجزات الضخمة التي حققتها الجمهورية الإسلامية، خلال أربعينيتها الأولى ، رغم العداء الغربي والحشد العالمي في سبيل خنقِها وإضعافِها .  
هكذا يرى القائد معيار تفاعل الحضارات فيما بينها، أما الموقع الفعلي لمشروع الحضارة الإسلامية، رغم عدم اكتماله، فإنّ القائدَ يراه قد احتلّ، نتيجةَ الفكر والتضحيات والعمل الدؤوب والتزام قيمِ الإسلام الأصيل، مقعداً في القطبية العالمية ، فصارت أكثرَ ما يرعب الاستكبارَ العالمي ويهدّدُ حضارتَه المنهكة .
المستقبلُ مشخّصٌ واضحُ المعالم، قد بانت بشائرُه وعُلمت خواتيمه؛ إنّما المستقبل للإسلام  وهذه أعلامُ "الحضارة الإسلامية الحديثة" قد لاحت في أفق البشرية  ومن خلفها شمسُ آخرِ الزمان وربيعُ خاتمةِ التّاريخ، صاحبُ حضارة الخلافة الإلهية، الحجةُ بن الحسن (عج). فبأي هدىً نهتدي ولأيِّ حضارةٍ ننتسب؟ 

 

 

إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir