- البحث الأوّل الذي نرغب في الحديث عنه؛ أشار الإمام الخامنئي في بيان الخطوة الثانية إلى نهضة الصّحوة الإسلامية وقال سماحته بأنّ هذه النّهضة شكّلت حركةً جديدة قامت على أساس نموذج المقاومة. بداية، استناداً إلى أيّ محور انطلقت موجة الصحوة الإسلامية وماذا كان مصيرها؟ ثانياً، بين شعوب أيّ البلدان الإسلامية يبرز هذا التحرّك الجديد؟

هذا البيان بيانٌ في غاية الأهميّة وهو بيان استراتيجي يحلّل مختلف القضايا المحليّة، والسياسة الخارجيّة والدولّية في المستقبل. طبعاً ترتبط أجزاء منه بالسياسة الخارجيّة والإقليميّة. وفيما يخصّ نهضة الصّحوة الإسلاميّة كما نشاهد على أرض الواقع، هذه الثورات واجهت في بعض الأحيان الهزيمة من الزاوية الخارجيّة أو أنّها لم تبلغ أهدافها السامية في بعض الدول. ولو أنّ قائد الثورة الإسلامية كان قد حذّر في العلن وبشكل خصوصي هذه البلدان لكي لا تواجه الهزيمة. 
لكن هناك عدّة أسباب في هذا الخصوص. على سبيل المثال فيما يخصّ ليبيا انتهت هذه الثورة بأعمال الشغب. وفي مصر تحكّمت الدكتاتورية بمقاليد الأمور، وفي تونس أيضاً لم تحقّق أهدافها مئة بالمئة. هذه الهزيمة تشكّل حقيقة غير قابلة للكتمان. كما كانت لموجة الصحوة الأولى ماهيّة مناهضة للاستبداد ومطالبة بإرساء العدل. أي أنّ غالبية هذه الدول كانت تسعى للتخلّص من الاستبداد الداخلي، ولبلوغ الحريّة وإرساء العدالة. 
تدّعي كافّة المدارس السياسيّة تقريباً أنّها قادرة على توفير كلّ هذه القيم والأهداف. كانت هناك منافسة خطابيّة حول الصّحوة الإسلاميّة. وكان هناك نوع من أنواع الإسلامويّة الملتزمة بالإسلام والتي ترى أنّ القيم يمكن توفيرها ضمن إطار الإسلام وفي المقابل كان خطاب الليبراليّة يحكم العالم. من الطبيعي أنّ الخطاب المنافس للإسلامويّة كان أيضاً الخطاب الليبرالي. وفي الوقت ذاته كان هناك حضور أقلّ انتشاراً للقوميّة والرؤية اليساريّة أيضاً، لكنّ التنافس الأقوى كان بين خطاب الليبراليّة والإسلامويّة المتأثّرة بالإسلام الثوري، السياسي والعاقل. كما تشكّلت داخل الإسلامويّة خطابات متعدّدة أيضاً كانت تشهد حينها تنافساً فيما بينها. وكما سلف أن ذكرت كان هناك الخطاب الإسلامي العاقل، والمطالب بالحريّة والمتأثّر إلى حدّ كبير بالثورة الإسلاميّة في إيران، إضافة للخطاب الإسلامي الليبرالي والعلماني في تركيا والخطاب الإسلامي التكفيري السّلَفي. للأسف تسبّب هذان الخطابان المنافسان بتهميش الخطاب الأصيل. أي أنّ البعض مالوا نحو الخطاب الليبرالي والعلماني، مثل تونس والبعض بتبنّيهم لبعض القوى السياسيّة أصيبوا بالسّلفيّة والتكفير. على أي حال انحرفت هذه النهضة عن مسارها. كما أنّ مصر شهدت أيضاً تشكّل حكومة لكنّها انحرفت للأسف عن مسارها الرئيسي وانتهت أخيراً بنوع من أنواع الانقلاب. 

لكنّ موجة الصّحوة الإسلاميّة الأولى كان مصيرها شبيهاً بمصير الثورة الدّستوريّة في إيران. في تلك المرحلة كانت نفس المواضيع مطروحة أيضاً. الموضوع الهام الاخر كان غياب قيادة قويّة، وشرعيّة وصاحبة كاريزما. القيادة التي أجمعت عليها كافّة القوّات. النقطة الأخرى كانت فقدان مخطّط وبرنامج استراتيجي. كانت المجتمعات التي ثارت تفتقد إلى برنامج مدوّن واستراتيجي بسبب غياب كادر قيادي. 
الموجة الثانية التي تشكّلت ضمن إطار خطاب المقاومة كانت أيضاً بشكل من الأشكال جزءاً من تيّار الإسلامويّة وتمّ تهميشها لأسباب معيّنة. في اليمن وسوريا حيث كانوا يعملون على العمل فيهما ضمن إطار مصالحهم تشكّل نوع من أنواع الصّحوة الإسلامية بمساعدة من إيران، والعراق ولبنان. وكنّا قد شاهدناها سابقاً في لبنان ضمن إطار حركة حزب الله. وفي العراق أُعيد إنتاج ذلك الخطاب في بعض المجالات بعد أن تمّ احتلاله. لكنّ حضور داعش وحماتها في سوريا تسبّب بتقوية هذا الخطاب أكثر فأكثر. لذلك تشكّل خطابٌ في المنطقة وأيضاً أبعد من حدود هذه المنطقة، لأنّ دولاً كروسيا اتّخذت خطوات في اتجاه مقاومة سياسات أمريكا المتغطرسة. الموجة الثانية تتضمّن من وجهة نظري نفس أهداف الموجة الأولى من قبيل المطالبة بالعدل، والحريّة ومناهضة الظّلم. لكنّ ماهيّتها تميل للمطالبة بالاستقلال، وهي حركة مناهضة للاستعمار والاستبداد تشكّل قدوةً شاملةً في المنطقة. رغم أنّه لا يمكن اعتبار دول مثل تركيا ضمن أعضاء محور المقاومة إلّا أنّنا نشاهد منهجيّة مقاومة الضغوط الغربيّة في هذا البلد. في روسيا أيضاً توجد هذه النّهضة من الناحية السياسيّة لا الايديولوجيّة. وهناك دول مثل سوريا، واليمن، ولبنان، والعراق وإيران تسير ضمن مسار هذه النّهضة حيث تقع إيران في مركز هذا المحور. وقد تجلّى هذا الأمر أيضاً في دول مثل السعوديّة والبحرين ضمن إطار المقاومة الشعبيّة. لذلك نرى أنّه تتمّ إعادة إنتاج الصّحوة الإسلامية ضمن إطارٍ مختلف.

كما أنّنا نشهد نوعاً معيّناً من تغيير تغيير المنهجيّة والأسلوب إلى جانب الحفاظ على الأهداف السابقة في هذه النّهضة. على كلّ حال فإنّ النهضة الإسلاميّة تتشكّل أكثر من أيّ مكان آخر ضمن إطار الثورة الإسلاميّة في إيران وتتّبع الهدفين الرّفيعين المتمثّلين في مناهضة الاستبداد والمطالبة بالحريّة وأيضاً المطالبة بالاستقلال ومحاربة الاستعمار. هذه النماذج كانت موجودة أيضاً في منطقتنا حتى قبل انتصار الثورة الإسلامية. بدءاً من الثورة الدّستورية حتى ثورة تأميم النّفط الوطنية التي كانت تنادي بالحريّة ومناهضة الاستبداد والاستعمار وكانت تنضوي تحت لوائها كلّ القوى السياسيّة أيضاً وقد انتهت حينها بنحو من الأنحاء بالاستبداد أو الحكومة البهلويّة التابعة، لكنّ الثورة الإسلامية في إيران شهدت التقاء هدفين. ففي منطقتنا كان كلا الوجهين أي مناهضة الاستبداد ومحاربة الاستعمار موجودين لكن يبرز اليوم الوجه الثاني أكثر من الأوّل. 

 

- في أيّ مرحلة من مراحل العلاقات الخارجيّة وفي أيّ حالات تراجعنا عن قيمنا الثوريّة؟
سأطرح هذا السّؤال بصيغة أخرى. ينبغي لنا أن نرى كيف كان خطاب السياسة الخارجية للثورة الإسلامية ومن أيّ مكوّنات كانت تتألّف وفي أيّ مراحل عانت ضعفاً أو بلغت أوج قوّتها؟ ينبغي لي أن أقول بأنّ هذه المكوّنات كانت موجودة في كافّة المراحل. وفي كلّ مرحلة تتقلّب مجموعة عناصر خطاب الثّورة الإسلامية حول السياسة الخارجيّة بين القوّة والضّعف. ولا يمكن الادّعاء بأنّ أيّ مرحلة شهدت فقدان أيّ من قيم الثورة الإسلاميّة. لكنّ منظومتها لم تكن لتلبّي ما تستوجبه الثّورة الإسلاميّة. وكما سلف أن قلت فإنّ خطاب الجمهورية الإسلامية هو خطاب ينطوي على نظرة واقعيّة. أي أنّ هذه الثورة الإسلاميّة تملك أهدافاً خاصّة بها وفي مكان آخر أيضاً صرّح قائد الثورة الإسلاميّة بأنّ خطاب الثّورة الإسلاميّة هو خطاب ذا نظرة واقعيّة ونحن لدينا قيم وأهداف ينبغي أن نتابعها استناداً إلى الوقائع.

نجاحات سياستنا الخارجيّة في مختلف المراحل والمواضيع كانت مبنيّة على نسبة التعادل والتوازن بين هذين الوجهين. أي أن الأهداف من جهة والوقائع من جهة أخرى لا يُمكن تفكيكها. نحن لدينا أهداف داخل البلد في مجال السياسة الخارجيّة ينبغي أن تتمّ متابعتها بناء على الوقائع، والقدرات، وطاقات الثورة الإسلاميّة بمساعدة من الآخرين. عادة ما كان يتزعزع هذا التوازن في مختلف المراحل من أجل مصلحة أخرى. لعلّ الانحياز للمثاليّات غلب في إحدى المراحل وتمّ الاهتمام بشكل أقل بالوقائع أو العكس. على سبيل المثال شهدنا مثل هذه الأمور خلال فترة الحرب المفروضة أيضاً. حتّى أنّ سائر البلدان الأخرى أذعنت لكون الإمام الخميني (قدّس سرّه) إنساناً طموحاً بشكل كامل وواقعيّاً في الوقت عينه. لذلك فالبحث يكون مختلفاً إذا لم تستطع بعض الحكومات أن تعمل وفق هذا الخطاب. لقد حقّقنا إنجازات عندما سرنا باتجاه الأهداف استناداً إلى الوقائع. قيَم وأهداف الجمهورية الإسلامية في إيران واضحة بشكل كامل استناداً إلى دستور البلاد ووقائق البلاد الإرشاديّة وهي موجّهة للداخل والخارج وعلى رأسها قد يمكن الحديث عن الاستقلال والاكتفاء الذّاتي.

إحدى الأهداف الرّفيعة للجمهورية الإسلامية في مجال السياسة الخارجية هي التخلّص من التبعيّة للقوى العظمى. خاصّة أنّه خلال الفترة التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية كنّا تابعين لأمريكا والقوى الغربيّة. المحلّلون الغربيّون يعتقدون بأنّ إحدى أسباب اندلاع ثورة في إيران كانت تبعيّة الحكومة للقوى الأجنبيّة والدكتاتوريّة إلى جانب الاستبداد. لذلك فإنّ استقلالنا في مجال السياسة الخارجيّة قيّم للغاية. لا شكّ هنا في أنّ المقصود من الاستقلال هو المعنى العامّ. أي أنّ الأمر لا يقتصر على الاستقلال السياسي بل إنّنا نحتاج الاستقلال في كافّة الجوانب. أي الاستقلال السياسي، والعسكري، والاقتصادي و… الذي يكون مبنيّاً على الاعتماد على الذات والطاقة الذاتيّة. برأيي نحن لم نجسّد في السياسة الخارجيّة في بعض المراحل ذلك الاعتماد على النفس والاستقلال بشكل جيّد وبناء على الطاقة الذاتيّة. وكان ظنّنا بأنّه قد يكون هذا الأمر متاحاً من خلال بعض القوى الخارجيّة. كان قادة الثورة الإسلاميّة يؤكّدون منذ البداية على الاستقلال الذاتي.

 

- إحدى أهداف السياسة الخارجيّة هي تصدير الثورة إلى سائر البلدان. بداية، ماذا يعني تصدير الثورة؟ وثانياً، إلى أيّ مدى نجحت الجمهورية الإسلامية منذ البداية وحتّى اليوم في هذا المجال وكيف كان أسلوب إقامتها للتواصل مع سائر البلدان؟
في الحقيقة لا يعني تصدير الثورة التصدير الطبيعي؛ بل هو بمعنى إشاعة خطاب وقيَم الثورة الإسلامية وهو ما تمّ تجاهله بشكل كامل في بعض المراحل في السياسة الخارجيّة للحكومة الحاكمة. على سبيل المثال لم تكن الحكومة المؤقّتة تعير اهتماماً لتصدير الثورة أو أنّنا لم نهتمّ في بعض المراحل لقضيّة تصدير الثورة. تصدير الثورة هو بمعناه المبرمج لا إطلاق ثورة عنيفة في سائر البلدان وهو مرتبط بهدفينا في السياسة الخارجيّة. الدفاع عن المسلمين والشيعة ودعم الحركات الثورية والتحرّرية الذي تمّت الإشارة إليه بشكل صريح في دستور البلاد. في كثير من الأحيان كان تصدير الثورة مطابقاً لدعم الشيعة والمسلمين والحركات الثورية، فقد قمنا نحن بدعم هؤلاء المسلمين بشكل دبلوماسي وفي بعض الأحيان بشكل اقتصادي وطبعاً تراجعنا قليلاً عن هذه المواقف بسبب وجود قلق من تزعزع علاقاتنا بسائر الحكومات. 

الموضوع الآخر الذي يمكن طرحه هنا، هو أنّه ينبغي علينا من خلال ماهيّة الثورة الإسلامية في السياسة الخارجيّة أن نقيم علاقات مع الدول والحكومات وأيضاً مع الشعوب والأفراد. الحفاظ على الاتّزان بين هذين الأمرين صعبٌ للغاية بحيث كيف يمكن أن تقام علاقة متزامنة مع اللاعبين غير الحكوميّين والحكومات. كنا واقعين في أحد هذين الأمرين في مختلف المراحل. في مرحلة ما كانت العلاقة مع الحكومات تشكّل أولويّة، على سبيل المثال في مرحلة البناء والإصلاحات كانت الأولويّة للحكومات حيث أنّنا أقدمنا على بعض الخطوات تحت عنوان خفض مستوى التوتّر وتراجع مستوى علاقتنا مع الشعوب أو في مرحلة رئاسة السيد الدكتور أحمدي نجاد أو المرحلة المعروفة بالأصولية وفترة الحرب المفروضة انعكست هذه المعادلة وكان تركيزنا أكبر على اللاعبين غير الحكوميّين. 
لذلك فإنّ النقطة الهامّة في السياسة الخارجية هي أن كيف يمكننا التقدّم في هذه الأمور مع بعضها. والقيمة الأخرى بالغة الأهميّة هي مناهضة الاستكبار وعدم الرّضوخ للغطرسة. ما هو الاستكبار وما هو تعريفه؟! يمكننا أن نقول بأنّه يشمل حكومات عديدة لكن في نهاية الأمر لا يوجد أدنى شكّ بأنّ أمريكا تقع على رأس الاستكبار. طبعاً أمريكا حكومة تسعى للسيطرة في كلّ أنحاء العالم. العديد من الدول ترفض عقائد الدين الإسلامي وتواجهها. هذا الأمر له سوابق تاريخيّة حيث أنّنا شهدنا تدخّلات الدول الأجنبيّة شؤون إيران في المراحل التي سبقت انتصار الثّورة الإسلاميّة. والبعض كان تعريفهم لثورة إيران بعد انتصارها مجرّد مناهضتها للاستبداد ولم يكن يعترف بمناهضتها للاستعمار والاستكبار. أو أنّ البعض يُذعن أنّ إيران كانت مناهضة للاستعمار وهي لا مسؤوليّة لها أبعد من الهدف الذي يتلخّص بأن لا تتدخّل البلدان الأجنبيّة في شؤون إيران. أي أنّه ليس من الضّروري في الحقيقة أن نتصدّى لنظام السّلطة وأمريكا في سائر الأماكن. وهذا الأمر كان مختلفاً أيضاً خلال مختلف المراحل. فخلال الحكومة المؤقّتة كان هذا التحليل موجوداً بأنّ الثورة الإسلاميّة مناهضة للاستبداد ولم تعد لديها أهداف مناهضة للاستكبار. أو خلال بعض المراحل الأخرى كان ينبغي أن تكون أولى أولوياتنا مركّزة على الداخل وأن نعمل على تقوية أنفسنا ولم تكن هناك مشكلة في أن لا تكون لدينا مواجهة جديّة مع نظام السّلطة. أي أنّ الأولويّات تبدّلت. القيمة الأخرى هي مناهضة الظّلم والمطالبة بالعدل. لذلك فإنّ منظومة قيمنا في السياسة الخارجية مؤلّفة من هذه الأمور. 
كيف استفدنا لحدّ الآن من قدرات الجيران؟ وأيّ فرص فقدناها او لم يتمّ استغلالها لحدّ اليوم؟ ما هو النّمط المطلوب والفعّال في السياسة الخارجيّة فيما يخصّ وضع أولويّات التواصل مع سائر الدّول؟

السياسة الخارجيّة المطلوبة هي سياسة ذات نظرة شموليّة. أي السياسة التي تضع على لائحة أعمالها كافّة الجوانب والمواضيع والعلاقات الشاملة مع كافّة اللاعبين الإقليميّين والدوليّين. لكنّنا نرى أيضاً أنّه خلال هذه الأعوام الأربعين الماضية كانت لدينا اهتزازات في هذا الخصوص. ففي بعض الأحيان كنا نفقد الاتزان والاعتدال وفي أحيان أخرى كان التوسّع العابر للإقليم على لائحة أعمال سياسة العلاقات الخارجية وكانت المنطقة تنضوي ضمن هذه اللائحة، أو أنّنا في بعض الأحيان انشغلنا فقط بالشؤون الإقليميّة أو ركّزنا على منطقة واحدة. السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية ينبغي لها أن تكون شموليّة ومتوازنة.

صرّح الإمام الخامنئي بالقول: ”ينبغي أن نتطلّع إلى توسيع العلاقات الدولية الشاملة على سبيل المثال مع أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا والدول الجارة و… لا يكوننّ الأمر على هذا الشّكل بأن نحصر أنفسنا ضمن حدود منطقة واحدة أو عددٍ معيّن من الدّول.“ لذلك فإنّه من الناحية العمليّة والعقليّة والنظريّة أيضاً وحسب ما ورد في دستور بلادنا، فإنّ الجيران لديهم الأولويّة في سياستنا الخارجيّة. كما أنّه وبحكم المجاورة الجغرافيّة وأيضاً بحكم كونهم من المسلمين، من الضّروري أن تكون لدينا سياسة جيرة فاعلة بعيدة عن أيّ ظروف اضطراريّة. أي أنّ تطوير العلاقات مع الجيران لا يقتصر على الظروف التي تكون فيها العقوبات بل ينبغي أن تتمّ تقوية هذه العلاقات في كلّ الظروف. وأن لا تُبنى السياسة الخارجيّة بشكل يكتسب فيه الجيران قيمة فقط في الأوقات الضروريّة. 

لذلك ينبغي أن يتمّ أخذ العلاقات الإقليميّة بعين الاعتبار بالموازاة مع العلاقات الدوليّة العابرة لحدود المنطقة. على مدى مختلف المراحل، كانت العلاقة مع القوى العظمى خارج المنطقة وكنا نضع سياستنا الإقليميّة كفرع لهذه السياسة. على سبيل المثال اكتسبت منطقة غرب آسيا أهميّتها نظراً لنوعيّة علاقاتنا مع أوروبا، وآسيا، وأمريكا، وروسيا و… إذا ما دقّقنا في آسيا الوسطى والقفقاز فإنّ علاقاتنا مع هذه الدّول متأثّرة بشكل كامل بماهيّة علاقاتنا بالقوى العظمى. ينبغي أن نحدّد مكانة مستقلّة للمناطق في السياسة الخارجيّة. سياسة تحالفات معادية للجيران لم يكن على النحو المطلوب. كانت لدينا طاقات وإمكانيات أكبر في هذا المجال، لكنّ ظروفنا كانت خاصّة أيضاً. كنّا يوماً ما نعيش فترة الحرب واحتلال العراق و… وبعد احتلال العراق اتّجهنا نحو تشكيل محور المقاومة. أي أنّها كانت نقطة قوّة استفدناها من الجيرة وفي سبيل توفير أمننا والأمن الإقليمي وأيضاً تأمين مصالحهم وكان حينها لدينا نوع من أنواع التحالف السياسي المؤقّت. وفي مراحل أخرى كانت لدينا أيضاً إلى حدّ معيّن علاقات امنيّة وعسكريّة مع تركيا وروسيا في سوريا. 
على كلّ حال هذه مواضيع استطعنا أن نستفيد فيها من إمكانيات جيراننا. نقطة ضعفنا الأساسيّة هي أنّنا لم نستفد من قدرات وإمكانيّات جيراننا في المجالين الاقتصادي والتجاري بشكلٍ جيّد. ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الخطوة الثانية للثورة الإسلامية تهتمّ بالتقدّم وخلق مجتمع متطوّر أو حضارة إسلامية على المدى البعيد ينبغي علينا أن نستفيد من آليّات الإعلان والتضافر الاقتصادي وطبعاً هذا لا يعني تجاهل المجالات الأخرى.

 

- الآن حيث وصلنا إلى الحديث حول الدبلوماسيّة الاقتصاديّة لبلادنا، ما هي من وجهة نظركم نقاط ضعفنا وقوّتنا في هذا المجال؟
الدبلوماسيّة الاقتصاديّة تشكّل إحدى أهداف ومُثل الثورة الإسلامية وأيّ حكومة إسلاميّة متقدّمة. هدف الثّورة الإسلامية لا يقتصر على التقدّم الاقتصادي أو الترفيهي بل ينبغي لأيّ حكومة إسلاميّة نموذجيّة أن تتقدّم في مختلف المجالات. من المتوقّع أن نقيم حكومة إسلاميّة ومتقدّمة بناء على التقدّم الإيراني وبالارتكاز على الحضارة الإسلامية وهذا الهدف يحتاج اقتصاداً قويّاً منفتحاً ومتفجّراً من الدّاخل. في مجال السياسة الخارجيّة من الضّروري أن تكون لدينا دبلوماسيّة اقتصاديّة خارجيّة فعّالة.  طبعاً لهذه القضيّة تعاريف متعدّدة. ففي بعض الأحيان يكون محتّماً أن يصبّ الاقتصاد في خدمة السياسة الخارجيّة؛ أي أن نستفيد منه في تصدير الثورة وتحت عنوان صناعة النموذج. على سبيل المثال قمنا بتقديم مساعدات دون مقابل (بلا عوض) للحكومات. 
القضيّة الهامّة التي ينبغي أن تولى أهميّة أكبر اليوم في إيران هي استغلال السياسة الخارجيّة من أجل التطوير الاقتصادي ورفع مستوى القدرات الاقتصادية. مثل تسهيل التصديرات ودعم مصادرنا الاقتصادية خارج البلاد. لكن رغم كلّ هذه المواضيع لدينا أيضاً نقاط قوّة وينبغي أن نطبّق هذه الأمور في الدبلوماسيّة الاقتصاديّة. إيران تشكّل اقتصاداً كبيراً في المعيار العالمي لأنّها تتمتّع بمصادر عديدة كالنفط، والغاز والمعادن. لدينا إمكانيّات ذاتيّة عديدة يمكن أن تساعد دبلوماسيّتنا الاقتصادية الخارجية بالمعنى الأوّل أو تقدّمنا العلمي. التقدّم العلمي يشكّل إحدى ركائز التقدّم الاقتصادي. التقدّم البشري أيضاً يشكّل أحد أسباب التطوّر. لا شكّ في أنّنا نتمتّع اليوم بطاقات بشريّة منتجة، وماهرة ومبدعة في المجال الاقتصادي وهذا الأمر يشكّل أحد عناصر القوّة الاقتصاديّة. 

مكانة إيران الجغرافية الاقتصاديّة هي تشكّل في الحقيقة مزيّة بالنسبة إلينا. لقد وقفنا عند بداية جادّة الطاقة. الشمال والجنوب يصدّرون الطّاقة والشرق والغرب يستهلكونها. تعدّد الجيران وتنوّعهم يشكّل ميزة أشار إليها قائد الثورة الإسلامية أيضاً. إذا ما حسنّا علاقاتنا بالجيران، وأقمنا علاقات اقتصاديّة، وخلقنا جوّاً من تضافر الجهود والتعاون فسوف ينتج عن هذه القضيّة تشكّل منطقة مكتفية ذاتيّاً. 
سياسة التطلّع إلى الشّرق لا تنفي بالضرورة التطلّع إلى الغرب بل ينبغي أن يكون هناك توازن بين هذين الأمرين. سياسة لا شرقيّة ولا غربيّة تشكّل أصلاً أساسيّاً في سياستنا الخارجيّة. سياسة لا شرقيّة ولا غربيّة في الثورة الإسلامية لم تكن تعني عدم إقامة علاقات مع الشّرق والغرب. بل إحدى جوانب هذه السياسة كانت عدم الرّضوخ لسلطة الشّرق والغرب. لكن بإمكاننا أن تكون لدينا علاقات مع كلّ البلدان من منطلق العزّة والقوّة. إقامة توازن بين سياسة التطلّع إلى الغرب والتطلّع إلى الشّرق تشكّل نقطة مفتاحيّة. فممرّي الشّمال والجنوب يحتويان طاقات وإمكانيّات تساعد دبلوماسيّتنا الاقتصاديّة. هناك نقاط ضعف أشار إليها قائد الثورة الإسلاميّة في هذا البيان. الاقتصاد المكوّن من منتجٍ واحد والمرتكز على النّفط هو بطبيعة الحال نقطة ضعف. في العالم المعاصر ينبغي أن تتمّ الاستفادة من كافّة الإمكانيّات الاقتصاديّة وأن لا يكون اقتصادنا معتمداً على النّفط فقط. لو لم يكن اقتصاد إيران مرتكزاً على النّفط لما استطاعت بطبيعة الحال أيّ عقوبات أن تفرض علينا الضغوط ولما كان اقتصادنا مكوّناً من منتج واحد. 

نقطة ضعفنا الأخرى هي في الحقيقة قطاعنا الخاصّ الضّعيف والقطاع الحكومي القويّ والمنحصر إلى حدّ معيّن. على الحكومة أن تخلق أرضيّة لنشاط القطاع الخاصّ لا أن تتصدّى للأمور بنفسها. التمهيد للقطاع الخاصّ أمرٌ ضروريّ. صرّح الإمام الخامنئي مؤخّراً بالقول: لم يتمّ تطبيق البند رقم ٤٤ بشكل جيّد جدّاً ولقد قصّرنا في تطبيق سياسات هذا البند. لو أنّنا كنّا قد عملنا بناء على السياسات العامّة، لكان القطاع الخاصّ قد أمّن اليوم مصالح البلاد في المجال الاقتصادي ولساعد في المجال الدبلوماسي أيضاً. ولكان نموذجنا في التقدّم منذ البداية معتمداً على الإنتاج الداخلي والانفتاح.
أي عدم الاكتفاء بالتصدير وعدم وضع بديل للاستيرادات. لكن كان هناك تقصير في بعض المراحل. أي أنّه ينبغي علينا أن نستفيد من الطاقات المحليّة من أجل التّصدير وبرأيي لم يتحقّق هذا الأمر بشكل كامل. 

النقطة الأخرى في مجال الدبلوماسيّة الاقتصادية هي أنّ الدبلوماسيّة الاقتصادية وبسبب تشغيلها أبعاداً مختلفة من الاقتصاد تحتاج إلى هيكليّة واحدة. الهيكليّة الواحدة تعني أن تكون لكلّ مؤسسة مكانة محدّدة وأن يكون هناك مقرّ تنسيقي واحد يدير كلّ هذه الهيكليّات.
على سبيل المثال وزارة الخارجيّة، ووزارة النّفط، ووزارة الصناعة والمعادن وسائر المؤسسات ينبغي لها أن تدفع بالدبلوماسية الاقتصادية إلى الأمام.  دبلوماسيّة الطاقة أيضاً هي في حدّ ذاتها تشكّل موضوعاً بالغ الأهميّة يمكن له أن يكون مستقلاً أو أن ينضوي تحت لواء الدبلوماسية الاقتصاديّة. ينبغي أن يكون هناك تنسيق في هذه المؤسسات كي تسير دبلوماسيّتنا الاقتصاديّة إلى الأمام بشكل صحيح. با همه‌جانبه‌نگری و همه‌جانبه‌گرایی در دیپلماسی اقتصادی، روابط‌مان به یک منطقه یا کشورهایی خاص معطوف نمی‌شود. إذاً ينبغي أن نستفيد من كافّة الوسائل لكي نتمكّن من إيجاد علاقات مع كافّة المناطق.

- نظراً لإجراء مفاوضات عديدة مع أمريكا لحدّ الآن، هل حُلّت المشاكل برأيكم عبر هذا المسار أو هل يمكن عقد الأمل على حلّها عبر هذا المسار؟
الجمهورية الإسلامية في إيران قادرة على إقامة علاقات مع الدوّل المشروعة بناء على أسس السياسة الخارجيّة التي تترأسها العزّة وأيضاً وفق الاحترام المتبادل واستقلال إيران. عندما نراجع المرحلة منذ انتصار الثورة الإسلاميّة لحدّ اليوم نرى أنّه كانت لدينا مفاوضات سريّة وعلنيّة مع أمريكا في مختلف المراحل. كانت هناك مفاوضات انطلاقاً من بيان الجزائر عبوراً بفترة احتلال العراق بواسطة أمريكا في مرحلة البناء وثمّ في مرحلة أفغانستان ومؤتمر بن. وفي العراق كانت لدينا مفاوضات بشكل موضعي ومحدود. 
أطول المفاوضات وأشهرها هي المفاوضات المرتبطة بالاتفاق النووي التي استمرّت منذ الحكومة السابقة وصولاً إلى الحكومة الحاليّة وانتهت بتوقيع اتفاق. كافّة هذه النماذج توضح أنّ الأمريكيّين كانوا يعملون في هذه المفاوضات على تأمين مصالحهم وعادة ما لم يفوا بالوعود التي أطلقوها. لكنّ [المفاوضات] شهدت قوّة وضعفاً والضمانات التي أخذناها من أمريكا في المقابل كانت مؤثّرة أيضاً في هذه القوّة وهذا الضّعف. في بعض الأوقات مثل بيان الجزائر كانت المفاوضات من أفضل المفاوضات. لكن في بعض المراحل التي لم تكن المفاوضات فيها رسميّة لم يلتزم الأمريكيّون تقريباً بتعهّداتهم. 

في زمن الشيخ هاشمي رفسنجاني أذعن سماحته بصراحة لأنّ بوش الأب وعد لكن بعد أن نفّذنا تعهّداتنا لم يلتزم هو بما تعهّد به. أو في مرحلة أفغانستان حيث كانت لدينا مفاوضات ووساطات عديدة وأيضاً بلغ الأمر حدّ التعاون المباشر. لكنّهم وضعونا فوراً ضمن محور الشّر بعد انتهاء هذه المفاوضات.  أو فيما يخصّ قضيّة الاتفاق النّووي رغم كلّ الانتقادات الموجّهة له تصرّفوا بهذا النّحو. على كلّ حال أمريكا لديها التزامات، ولا يقتصر الأمر على أمريكا فقط بل أنّ الدول الخمسة الأخرى وإضافة لتأييد مجلس الأمن لديها التزامات وتعهّدات. هم لم يكتفوا بعدم الالتزام بتعهّداتهم بل نقضوا هذه القضيّة بشكل كامل، وهم اليوم يعملون بدل محاكمة الناقض على محاكمتنا نحن والآخرون أيضاً ليسوا مستعدّين لدفع ثمن في هذه القضيّة. لذلك فإنّ كلّ هذه الأمور تثبت أنّ الأمريكيّين غير جديرين بالثّقة وطبعاً لا يمكن الوثوق بهم في أيّ مكان في العلاقات الدّولية. الغربيّون أنفسهم جعلوا هذه القضيّة أساساً ومبنى، فما بالك بأمريكا.  

- آخر قسم في هذا الحوار؛ أين تكمن المشكلة الأساسيّة؟ وما هي برأيكم الصّفات التي ينبغي أن  تتحلّى بها المفاوضات الجيّدة؟ وكيف يجدر العمل أثناء التفاوض؟ هل أنّ التفاوض مع أمريكا مفتاح لحلّ المشاكل؟
المشكلة الرئيسيّة تكمن في أنّ أمريكا لم تعترف رسميّاً بالجمهورية الإسلامية في إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية وحتى اليوم. وهم في الحقيقة لا يعترفون بالجمهورية الإسلامية ولا بمصالحنا. عندما يكون الأمر كذلك فإنّ المفاوضات مع حكومة كهذه لن تكون مثمرة. ينبغي لأيّ مفاوضات أن تتّصف بعدّة صفات. والتاريخ أثبت أنّ أمريكا غير جديرة بالثّقة وتنقض كلّ التزاماتها. يجب أن يكون التفاوض من منطلق القوّة، وهادفاً، ومثمراً وحلّالاً للمشاكل. على التفاوض أن يكون موضوعيّاً وينشد تحقيق هدف معيّن. ينبغي أن تكون هناك رؤية للمفاوضات القائمة. فالمفاوضات التي يكون واضحاً بالنسبة إلينا منذ البداية أنّها لن تعود علينا بالنّفع يحكم العقل بأن لا نخوضها. ينبغي لنا في الحدّ الأدنى أن نحقّق مكاسب من هذه المفاوضات وما هو مهمّ أن تشكّل انفراجات وتأتي بالحلول. ينبغي أن نقيّم هدف الطرف المقابل. هل أنّ التفاوض يجري لحلّ مشاكلنا أو جعلها عصيّة على الحلّ؟! برأيي أنّ الأمريكيّين أثبتوا أنّهم لم ولا يسعون لحلّ مشاكلنا وهم يعملون أكثر على التعقيد. إذا كنّا نستطيع سابقاً حلّ العقد بأيدينا فإنّنا اليوم لا نستطيع ذلك أبداً حتّى بأسناننا.  طبعاً يكون التفاوض في بعض الأحيان من أجل اجتناب بروز المشاكل وينبغي أن تُخاض بعقلانيّة ومعرفة دقيقة وعميقة للمشاكل. ينبغي النّظر في مدى كون هذه المشاكل متجذّرة داخليّاً أو خارجيّاً وهل أنّ مفتاح حلّ المشاكل بيد أمريكا لكي نسعى لحلّها عبر هذا المسار؟! الجواب على كلا الأمرين هو لا. 

نحن نوافق على وجود مشاكل وأنّ أمريكا أيضاً تسبّبت لنا بالمشاكل ولا يوجد أدنى شكّ في هذا الشّأن. لكن هل يكون المعرقل حلّالاً للمشاكل؟! لذلك فإنّ التفاوض بشكل مرحلي ومحدود في الأماكن التي كان هدفنا فيها محدّداً حقّق لنا الإنجازات لكنّ التفاوض على المستوى الكبير كان يستلزم أن تعترف أمريكا رسمياً بماهيّة، وهويّة ومصالح الجمهورية الإسلامية، وقد شهدنا فشلاً في هذه الأمور وهذه تجربتنا لكي نعلم أنّ كلّ مشاكلنا لن تُحلّ من خلال هذه الحكومة وقد تزيد مشاكلنا أيضاً في بعض الأحيان. ينبغي أن نتصرّف من منطلق القوّة فيما يخصّ التفاوض مع أمريكا وأيّ بلد آخر. الدبلوماسيّة والتفاوض لن تثمرا دون وجود ركيزة قويّة. خاصّة أمام بلد متغطرس كأمريكا.